نشأ الإمام أمير المؤمنين (ع) في عهد طفولته في كنف أبيه أبي طالب مؤمن قريش
وشيخ البطحاء، الذي كان مثالاً لكلّ فضيلة، وعنواناً لكلّ كرامة، فربّى ولده الإمام
علي الشّهامة والنبل، وغذّاه بالإيمان بالله، كما قامت بتربيته أمّه الزكية السيّدة
فاطمة، سيّدة نساء عصرها في عفّتها وطهارتها، فغذّته بالأخلاق الكريمة والعادات
الحسنة، وغرست في نفسه النزعات الشريفة.
احتضان النبيّ للإمام
وحينما كان الإمام في فجر الصّبا، أصابت قريشاً أزمة مادية وضائقة اقتصاديّة تأثّر
منها أبو طالب، فانبرى رسول الله (ص) إلى عمّيه حمزة والعباس، وطلب منهما أن
يتحمّلا ثقل عمّه، فاتّجهوا صوبه وعرضوا عليه الأمر، فقال لهم: دعوا لي عقيلاً
وخذوا من شئتم. وكان شديد الحبّ لابنه عقيل، فأخذ العباس طالباً، وأخذ حمزة جعفراً،
وأخذ الرسول عليّاً، وقال لهما: اخترت من اختاره الله عليكما ـ يعني عليّاً ـ، فكان
الإمام في حجر رسول الله (ص) وفي ذرى مودّته وعطفه.
ومن المؤكّد أنّ النبيّ إنّما أخذ الإمام من عمّه ليربّيه ويغذّيه بطباعه وهديه،
وقد وجد في كنفه من الحبّ والمودّة والعطف والإيثار ما لم يجده في بيت أبيه، وقد
غرس النبيّ في دخائل نفس الإمام وأعماق ذاته، جميع مقوّمات الإسلام ومبادئه وقيمه،
فكان في المرحلة الأولى من حياته قد وعى الإسلام وآمن به وفهم جوهره.
إنّ الإمام (ع) كان من ألصق الناس برسول الله (ص)، ومن أكثرهم تطبّعاً بأخلاقه
وفهماً لرسالته، ولمّا أعلن النبيّ (ص) وآله ثورته الكبرى على الأفكار الجاهلية
وعاداتها، كان الإمام في فجر الصّبا يذبّ عنه، ويحميه من صبيان قريش الذين كانوا
يحاربونه بالحجارة ويقذفونه بالتّراب، ويصيحون وراءه "ساحر ومجنون"، وكان الإمام
(ع) يوقع بهم الضّرب واللّكم، فينهزمون إلى أمّهاتهم وآبائهم، وكان ذلك أوّل جهاد
له في سبيل الإسلام.
وقد تحدّث الإمام (ع) عن تلك الفترة الذهبية التي عاشها في رعاية النبيّ، وما لاقاه
من صنوف الحفاوة والتكريم، فقال:
"وقد علمتم موضعي من رسول الله (ص) بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة. وضعني في
حجره وأنا وليد، يضمّني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسّني جسده، ويشمّني عرفه.
وكان يمضغ الشَّيء ثمّ يلقمنيه، وما وجد لي كذبةً في قول، ولا خطلةً في فعل. وكنت
أتبعه اتّباع الفصيل أثر أمّه، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني
بالاقتداء به".
أرأيتم كيف أخلص له النبيّ في الحبّ والمودّة والرعاية؟ فقد أغدق عليه بعطفه وحنانه،
وغذّاه بسموّ أخلاقه وآدابه، ليكون صورة عنه وممثّلاً له في حياته وبعد وفاته.
التّربية النبويَّة للإمام
عني النبيّ (ص) عناية بالغة بتربية أخيه وابن عمّه الإمام (ع)، فغرس في أعماق ذاته
صفاته الكريمة ونزعاته الشريفة، حتى يحكي طباعه واتّجاهاته، ويقيمه من بعده علماً
لأمّته، ورائداً لتبليغ رسالته.
لقد حفلت تربية النبيّ (ص) بجميع مقوِّمات الارتقاء وسموّ الذّات، وكان من برامجها
هذه الصّور الرائعة:
١ ـ نكران الذات:
ربّى النبيّ (ص) أخاه على الواقعيّة ونبذ الأنانية ونكران الذات، وكان من بين ذلك،
أنّ الإمام (ع) طرق باب النبيّ، فقال الرسول: "من هذا"، "أنا يا رسول الله".
وكره النبيّ (ص) كلمة «أنا» من الإمام، والتي تخلو من التعظيم لقائلها، فجعل يقول
له: «أنا، أنا»، وفهم الإمام كراهة النبيّ لهذه الكلمة، فلم يفه بها بعد ذلك.
وتكشف هذه البادرة عن سموّ التربية الإسلامية التي أمدّت الحياة بالاشراق والنهوض.
وظلّ الإمام متأثّراً بهذه التربية الرفيعة طيلة حياته، ففي أيّام حكومته وقيادته
للأمّة، نبذ نبذاً تامّاً جميع مظاهر الحكم والسلطان التي تلازمها الأبّهة
والاستعلاء على الناس، وعامل نفسه كبقيّة أفراد الشعب لا ميزة له عليهم، وقد روى
المؤرّخون أنّه اجتاز على أهل المدائن، فأقاموا له مهرجاناً شعبياً، وذبحوا له
الذبائح، فنفر من ذلك وخاطبهم أنّه كأحدهم، ومنع جيشه من أكل لحوم الذّبائح حتى
يعطي أهلها ثمنها. وهكذا كان عليّ صورة لا ثاني لها في تاريخ البشريّة على الإطلاق،
سوى الرسول (ص).
٢ ـ التحلّي بالصفات الكريمة:
من ألوان التربية الإسلامية المشرقة التي غذّى بها النبيّ (ص) الإمام أمير المؤمنين
(ع)، هذه الكوكبة من الأحاديث التربوية، وهي:
أ ـ قال رسول الله (ص): "يا عليّ، ثلاث من مكارم الأخلاق: تصل من قطعك، وتعطي من
حرمك، وتعفو عمَّن ظلمك".
إنّ هذه الخصال الكريمة تسمو بالإنسان وترفع مستواه إلى أرقى ما يصل إليه من كمال
النفس.
ب ـ قال رسول الله (ص):
"يا عليّ، سيّد الأعمال ثلاث خصال: إنصافك النّاس من نفسك، ومساواة الأخ في الله عزَّ
وجلَّ، وذكر الله تبارك وتعالى على كلّ حال".
إنّ هذه الصفات الرّفيعة هي أسس الفضائل التي ينبغي للمسلم أن يتحلّى بها.
ج ـ قال رسول الله (ص): "يا عليّ، ثلاث خصال من حقائق الإيمان: الإنفاق في الإقتار،
وإنصاف النّاس من نفسك، وبذل العلم للمتعلّم".
بهذه الصفات الكريمة، ربّى النبيّ (ص) أخاه وابن عمّه وباب مدينة علمه، ليكون
أنموذجاً للإسلام.
د ـ قال رسول الله (ص): "يا عليّ، أوصيك بوصيّة فاحفظها، فلاتزال بخير ما حفظت
وصيّتي. يا عليّ، من كظم غيظاً وهو يقدر على إمضائه، أعقبه الله يوم القيامة أمناً
وإيماناً يجد طعمه".
أرأيتم هذه التّعاليم التربويّة التي تجعل الإنسان في إطار من الفضيلة والسلامة من
كثير من الأزمات والمصاعب؟
هـ ـ قال (ص): "يا عليّ، ثلاث من لقي الله عزّ وجلّ فهو من أفضل النّاس: من أتى
الله بما افترض عليه فهو من أعبد النّاس، ومن ورع عن محارم الله فهو من أورع النّاس،
ومن قنع بما رزقه الله فهو من أغنى النّاس".
إنّ من يطبّق على حياته هذه الخصال الكريمة، فهو من أفضل الناس، ومن أكثرهم طاعة
لله تعالى وقرباً منه.
و ـ قال (ص): "يا عليّ، إنَّ الله تبارك وتعالى قد أذهب بالإسلام نخوة الجاهليَّة
وتفاخرهم بآبائهم، ألا وإنَّ النّاس من آدم، وآدم من تراب، وأكرمهم عند الله أتقاهم".
إنّ هذه الوصيّة من أرقى تعاليم الإسلام، فقد هدمت الحواجز بين النّاس، وألغت
الفوارق والتفاضل بالأنساب، وجعلت التفاوت بينهم بالتقوى والعمل الصالح الذي هو
أعظم رصيد للإنسان يميّزه عن غيره ويشرّفه عليه.
ز ـ من الوصايا الرّفيعة التي عهد به النبيّ (ص) قوله:
"يا عليّ، ثلاثة تحت ظلّ العرش يوم القيامة: رجل أحبّ لأخيه ما أحبّ لنفسه، ورجل
بلغه أمر،فلم يتقدّم فيه ولم يتأخّر حتّى يعلم أنّ ذلك الأمر لله رضى أو سخط، ورجل
لم يعب أخاه بعيب حتّى يصلح ذلك العيب من نفسه، فإنّه كلّما أصلح من نفسه عيباً،
بدا له منها آخر؛ وكفى بالمرء في نفسه شغلاً".
ما أروع هذه الصفات التي يسمو بها الإنسان إلى أرقى مستويات الرّشد والكمال! وقد
تغذّى بها الإمام (ع)، فكانت من برامج حياته.
هذه بعض الخصال الكريمة التي أوصى بها النبيّ (ص) أخاه وابن عمّه، لتكون له منهجاً
في سلوكه مع غيره، وهي أحد برامج التربيّة النبويّة للإمام، وقد ذكرنا الكثير منها
في مسند الإمام...
سبقه للإسلام
والشّيء الذي اتّفق عليه المؤرّخون والرواة، أنّ الإمام (ع) أوّل من آمن بالنبيّ
(ص) واستجاب لدعوته عن وعي وإيمان، وقد قال (ع): "لقد عبدت الله تعالى قبل أن يعبده
أحد من هذه الأمّة".
وقال (ع): "كنت أسمع الصّوت، وأبصر الضّوء سنين سبعاً، ورسول الله (ص) صامت ما أذن
له في الإنذار والتّبليغ".
ومعنى هذا الحديث، أنّه ـ سلام الله عليه ـ في سنّه المبكّر، كان يسمع صوت جبرئيل،
ويبصر ضوءه قبل أن يبلّغ النبيّ رسالته ويشيعها بين الناس.
وقد أجمع الرواة أنّ الإمام (ع) لم تدنّسه الجاهليّة بأوثانها، ولم تلبسه من
مدلهمّات ثيابها، فلم يسجد لصنم قطّ كما سجد غيره. يقول المقريزي: أمّا عليّ بن أبي
طالب الهاشميّ، فلم يشرك بالله قطّ، وذلك أنَّ الله تعالى أراد به الخير، فجعله في
كفالة ابن عمّه سيّد المرسلين.
وقد أسلم الإمام وأسلمت معه أمّ المؤمنين الصدّيقة الطاهرة خديجة، فقد احتضنت
الإسلام وآمنت بقيمه وأهدافه، وقدَّمت في سبيله جميع ما تملكه من الثّراء العريض.
وقد تحدَّث الإمام (ع) عن إيمانه وإيمان خديجة بالإسلام بقوله:
"ولم يجمع بيت يومئذٍ واحد في الإسلام غير رسول الله (ص) وخديجة وأنا ثالثهما".
وقال ابن عباس: "كان عليّ أوّل من آمن من الناس بعد خديجة". وقال ابن إسحاق: "كان
عليّ أوّل من آمن بالله وبمحمّد رسول الله (ص)".
إنّ سبق الإمام إلى اعتناق الإسلام، ممّا اتّفق عليه الرواة والمؤرّخون، وقد كان
عمره الشّريف حينما أسلم سبع سنين، وقيل: تسع سنين، إلاّ أنّ التأمّل في تربية
النبيّ (ص) له، يقضي بأنّه أسلم في وقت مبكّر من حياته.
*من "موسوعة الإمام أمير المؤمنين عليّ (ع)"، ج 1.