من كتاب لعليّ (ع) إلى عمَّاله على الخراج. والخراج هو عنوان للضّرائب الإسلاميّة التي كانت تُفرَض على النّاس من خلال ما تملكه الدّولة من الأراضي التي يأخذها النّاس منها ليزرعوها ويستثمروها. ومن الطبيعيّ، فإنَّ موظّفي الضرائب غالباً ما يتميَّزون بالقسوة وبعدم مراعاة ظروف النّاس، ما يجعل هؤلاء ينظرون إليهم بطريقة سلبيّة. لذلك، فإنَّ عليّاً (ع) يحاول في هذا الكتاب أن يستثير إنسانيّتهم في التعامل مع المكلَّفين بدفع الضّرائب بأسلوب إنساني.
"مِنْ عَبْدِ اللهِ عَلِيٍّ أَميرِ الْمُؤمِنِينَ". يبدأ كتابه بصفة العبوديّة لله، لأنّه ـ كما كان رسول الله (ص) ـ يعيش العزّة والكرامة في معنى عبوديّته لله، فالإنسان كلَّما كان عبداً لله أكثر، كان حرّاً أكثر، ذلك لأنَّك كلّما انفتحت على عبوديّة الله في معنى الوحدانيّة، فإنَّك بذلك تكون حرّاً أمام العالَم كلّه والناس كلّهم، ولذلك روي عنه (ع) في دعائه لله: "كفَى بي عِزّاً أن أكونَ لكَ عبداً، وكفى بي فخراً أن تكون لي ربّاً، أنتَ كما أحبّ، فاجعلني كما تحبّ".
وعظمة عليّ (ع) أنّه اعتبر عبوديّته لله سبحانه وتعالى مسؤوليّة، ما جعله يتحرّك ويفكِّر دائماً أنَّ عليه أن يتعامل مع الله تعامل العبد مع سيّده، فالله عزَّ وجلّ أراد له أن يجاهد، فَخَضَعَ وسار في خطّ الجهاد، وأراد له أن يقوم بمهمّة الدّعوة، فدعا إلى الله في خطّ هداية النّاس إلى الحقّ، وأراد له أن يصبر على ما واجهه من تحدّيات أبعدته عن حقّه، وعقَّدت له موقعه، وواجهت مخطَّطاته، "فَصَبَرْتُ وَفِي الْعَيْنِ قَذىً، وَفِي الْحَلْقِ شَجاً، أَرَى تُرَاثِي نَهْباً"، وعاش عبوديّته لله الذي أراد له أن يحرِّك فكره من خلال ما أعطاه من عقل، فأعطى للإنسانيّة كلّها العقل الذي لا يزال الإنسان يتعلَّم منه، وفرَّغ قلبه من كلّ حقد، فأحبَّ الناس، وقال لكلّ إنسان يستمع إليه: "احْصُدِ الْشّرَّ مِنْ صَدْرِ غَيْرِكَ بِقَلْعِهِ مِنْ صَدْرِكَ". ليكن صدرك عامراً بالخير كلّه، مملوءًا بالحبّ للنّاس كلّهم، لتجتذب قلوبهم إلى مواقع الإسلام كلّها.
ونعود إلى كتابه إلى عمَّاله: "مِنْ عَبْدِ اللهِ عَلِيٍّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنينَ"، فهو يقول لهم إنّني في موقع الخلافة والإمارة، ولكنّني وأنا أُمارس دوري فيها، فما أنا إلّا عبد من عبيد الله، أطيعه فيكم وفي مسؤوليّتي كلّها.
"إِلَى أَصْحَابِ الْخَرَاجِ. أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَحْذَرْ مَا هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ، لَمْ يُقَدِّم لِنَفْسِهِ مَا يُحْرِزُهَا".
ويبدأ كتابه بالموعظة، فيقول لعمَّاله إنَّ عليكم أن تفكِّروا في مصيركم بعد مسيرتكم هذه التي مهما امتدّت، فإنَّها لا بدّ أن تبلغ شاطئ الآخرة {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ}. وعليكم أن تحذروا ما تصيرون إليه، لأنَّ هناك سؤالاً وثواباً وعقاباً. ولذا، فمن لم يدرس أموره كلّها وأقواله وأفعاله، وعلاقاته التي يفترض به أن يجعلها في الموقع الذي يرضي الله، فإنَّه لن يقدّم لنفسه ما يربح به نفسه، بل ما سيخسرها {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}.
"وَاعْلَمُوا أَنَّ مَا كُلِّفْتُمْ بِهِ يَسِيرٌ، وَأَنَّ ثَوَابَهُ كَثيرٌ"، ممّا أمركم الله به ونهاكم عنه، مقارناً بما رخَّصه لكم من المباحات، فإنَّكم ستجدون أنَّ ما كلَّفكم به يسير، وأنّ ثوابه كبير، فلماذا تخسرون الكثير بعدم إتيان اليسير؟
"وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيمَا نَهَى اللهُ عَنْهُ مِنَ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ عِقَابٌ يُخَافُ، لَكَانَ فِي ثَوَابِ اجْتِنَابِهِ مَا لاَ عُذْرَ فِي تَرْكِ طَلَبِهِ"، فهو يحاول بأسلوبه الإقناعيّ أن يفتح قلوب الناس على الطاعة، فهو يقول لهم، لو افترضنا أنَّ الله لم يعاقبكم على فعل ما نهاكم عنه، لكنَّه حدَّثكم عن الثواب في اجتناب وترك ما نهاكم عنه، فلماذا تتركون هذا الرّبح في ثوابه الّذي يمنحكم إيّاه على ترك ما نهاكم عنه، مع أنّ فِعْلَ ما نهاكم عنه فيه عقاب؟ فلماذا تُنزل بنفسك العقاب وتخسر الثّواب على ما اجتنبته من منهيات ومحرَّمات؟! فبعض الناس يترك ذلك لأنَّ فيه عقاباً، على طريقة ذلك الشّاعر:
والعَبْدُ يُقْرَعُ بالعَصَا والْحُرُّ تَكْفِيهِ الإشارَةْ
فذهنيّة بعضنا هي ذهنيّة العبد الذي لا يتحرَّك إلاَّ والعصا فوق رأسه، فلو لم يكن هناك عقاب على فعل ما نُهيت عنه، لكان هناك ثواب في ترك ما نُهيت عنه، وهذا بحدّ ذاته مدعاة لاجتناب المعاصي. وقد ذكر عليّ (ع) في عالم الطاعة لله قوله: "لَوْ لَمْ يَتَوَعَّدِ اللهُ عَلَى مَعْصِيَة"، أي لو ترك الله الحبل للإنسان على غاربه، لكان حَقّاً عليه أن يشكره، "لَكَانَ يَجِبُ أَلاَّ يُعْصَى شُكْراً لِنِعَمِهِ". فالإنسان الّذي يعيش إنسانيّته بشكلٍ سليم هو الّذي يشكر المنعم، فلو خدمك شخص، فهل يمكن أن تؤذيه؟ فكيف تفعل ذلك مع الله الذي لا تعدّ نعمه ولا تحصى؟! {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ}.
وقد قيل لرسول الله (ص): لِمَ ترهق نفسك بالعبادة والصّلاة وقد غفر الله من ذنبك ما تقدَّم وما تأخَّر؟ فقال: "أفلا أكون عبداً شكوراً؟!". فالصلاة هي الشّكر لله. ولذا، فإنَّ مَن لا يصلّي لا يعيش معنى إنسانيَّته، لأنّه لا يشكر المنعم عليه، وأيّ منعم أعظم من الله الذي أعطاك وجودك وكلّ ما تستمرّ به في هذا الوجود؟!
*من كتاب "علي ميزان الحقّ".