محمد طي
ظهرت معرفة عليّ (ع) بالله في العديد من خطبه وكلماته، وقد ادَّعى الأخذ عنه علماء الكلام والمتصوّفة وغيرهم.
يرى عليّ (ع) أنَّ الله يستدلّ عليه من خلقه، والنظام المحكم الذي يسير عليه الكون: من تسديده المخلوقات لما خلقت له، ومن أفضاله على الإنسان، وعطاياه في كلّ المجالات. فلا معطي حقيقيّاً إلا الله تعالى، وكلّ معطٍ ظاهريّ، فمن نعم الله يعطي. فإذا أردت أن تشكر على العطاء، فاشكر الله دائماً.
ويستشهد السيّد فضل الله (رض) على ذلك بدعاء لعليّ، يقول: "وإن ترجَ (يا ربّ)، فخير مرجوّ (لأنّك أهل الرّجاء). اللّهمّ وقد بسطت لي ـ من الكلام ـ فيما لا أمدح به غيرك ـ لأنّ بعض الكلمات لا تليق إلا بك، ولأن كلّ مدح يشير إلى مدحك، لأننا عندما نمدح خلقك، فإنّنا نمدحهم فيما أعطيتهم من عندك. فما عندهم هو من عندك ـ ولا أثني به على أحد سواك ـ أوحّدك في المدح وفي الثناء، فلا يمكن أن نثني على أحد بما نثني به على الله، ولا نمدح أحداً بما نمدح به الله، ﴿فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا﴾ (الجنّ/ 18) ـ ولا أوجّهه ـ المدح ـ إلى معادن الخيبة ـ أي من تخيب الآمال عندهم ـ ومواضع الريبة ـ أي من تحيط الشكوك بكلّ ما هم فيه ـ وعدلت بلساني عن مدائح الآدميّين، والثّناء على المربوبين المخلوقين ـ فإذا مدحت غيرك أشعر بالذّنب، وإذا مدحت من كان قريباً إليك، فاني أمدحك من خلاله، لأنّه لا أحد إلا وأنت الخالق له والربّ، وأنت الذي أعطيته كلّ شيء. ومن جملة عطايا الله الرحّمة والمغفرة.
ـ اللّهمّ ولكلّ مثنٍ على من أثنى عليه مثوبة من جزاء ـ فالمادح له مثوبة ـ أو عارفة من عطاء ـ وعندما أمدحك فبما أنت أهله، وأثني عليك فيما فيك من مجالات العظمة ـ وقد رجوتك دليلاً على ذخائر الرَّحمة، وكنوز المغفرة ـ فأعطني من ذخائر رحمتك وكنوز مغفرتك، هذه هي جائزتي التي أرجوها عندك.
ـ اللّهمّ وهذا مقام من أفردك بالتَّوحيد الذي هو لك ـ فأنت الواحد، والوحدانيّة صفتك، ولا وحدانيّة لغيرك، وأنا أقف من أجل أن يكون عقلي وقلبي وشعوري وإحساسي وكياني كلّه صرخةً تنفتح على وحدانيّتك.
ـ ولم يرَ مستحقاً لهذه المحامد والممادح غيرك، وبي فاقة إليك ـ أنا الفقير المحتاج إليك ـ لا يجبر مسكنتها ـ فاقتي وفقري ـ إلا فضلك، ولا ينعش خَلَّتها ـ حاجتها ـ إلا منّك وجودك. فهب لنا في هذا المقام رضاك ـ رضاك هو مطلوبنا، فهو كلّ السعادة ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ﴾ [التوبة: 72]، لأنّه الجنّة ونعيمها ـ وأغننا عن مدّ الأيدي إلى سواك".
ويربط السيّد بكلام الإمام عليّ (ع) هذا، كلام الإمام زين العابدين (ع) الذي يقول: "وقلت سبحان ربي! كيف يسأل محتاج محتاجاً، وأنّى يرغب معدم إلى معدم؟! فقصدتك يا الهي بالرّغبة، وأوفدت عليك رجائي بالثقة بك."
والله يعطي، ولكنه يأخذ أيضاً، وعليّ (ع) يمدحه على كلّ حال، ويعترف بالقصور البشري تجاهه، فيتابع في الجوّ الروحي نفسه، على ما يستشهد به السيّد، فيقول: "اللّهمّ لك الحمد على ما تأخذ وتعطي ـ فإنّ عطاءك هو عطاء الكريم الذي يفيض كرمه على عباده، وإن أخذك أخذ الحكيم الذي لا يأخذ إلا عن حكمة، وحكمته لا تبتعد عن رحمته، وإن لم يدرك النّاس ذلك ـ وعلى ما تعافي وتبتلي ـ فمنك العافية، ومنك البلاء. ونحن نحمدك في الحالين ـ حمداً يكون أرضى الحمد لك ـ يمتدُّ ليكون مبلغ رضاك ـ وأحبّ الحمد إليك، وأفضل الحمد عندك، حمداً يملأ ما خلقت، ويبلغ ما أردت، حمداً لا يحجب عنك، ولا يقصر دونك".
وكأنه يقول، كما يعلّق السيّد (رض)، أنا لا أملك الكلمات الدّقيقة التي يمكن أن تجمع كلّ ما تستحقّه من حمد. لذلك، فعندما أتحدّث عن حمد هو أرضى من ذلك، وعن حمدٍ يبلغ ما عندك، فأنت تعرف يا ربّ آفاق ذلك الحمد ـ حمداً لا ينقطع عدده، ولا يفنى مدده ـ يمتد في الوقت كلّه، في الصباح والمساء، في الانشغال وفي الفراغ.
ـ فلسنا نعلم كنه عظمتك ـ وإذا عرفنا بعض أسرار عظمتك، فلا نعرف حقيقتها ـ إلا أنّنا نعلم أنّك حيّ قيّوم ـ قائم على الكون والوجود ـ لا تأخذك سنة ولا نوم، لم ينتهِ إليك نظر، ولم يدركك بصر ـ وهذا قوله تعالى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ﴾(الأنعام: 103) ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾(الشّورى: 11) ـ أدركت الأبصار، وأحصيت الأعمال، وأخذت بالنَّواصي والأقدام ـ سيطرت على الإنسان في كلّ شيء ـ وما الّذي نرى من خلقك ـ من أسرار عظمتك ـ ونعجب له من قدرتك، ونصفه من عظيم سلطانك، وما تغيَّب عنّا منه ـ ما لم ندرك سرّه ـ وقصرت أبصارنا عنه، وانتهت عقولنا دونه، وحالت ستور الغيوب بيننا وبينه، أعظم. فمن فرغ قلبه، وأعمل فكره، ليعلم كيف أقمت عرشك، وكيف ذرأت خلقك، وكيف علَّقت في الهواء سماواتك ـ التي لا ترتكز على أي شيء في الأرض ـ وكيف مددت على مور الماء أرضك، رجع طرفه حسيراً ـ إشارة إلى قوله تعالى: ﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ﴾(الملك/3-4) ـ وعقله مبهوراً، وسمعه والهاً، وفكره حائراً".
والله المعطي يملأ حضور المتوكّلين عليه، ويكفيهم ويعرف ظاهرهم وباطنهم، كما يعرف ظاهر كلّ مخلوق وباطنه. وهو رفيقهم في الغربة، وهو المستجيب لطلباتهم حتى ولو عجزوا عن التَّعبير عنها.
ويستشهد السيّد بأدعيةٍ لعليّ (ع)، يتبيّن منها أنّه كان مثال الشوق إلى الله، ومنها هذا الدعاء: "اللّهمّ إنّك آنس الآنسين لأوليائك ـ فعندما يستوحشون في غربتهم الروحيّة، كما يفسّر السّيد، وعندما يعيشون في ظلمات الواقع، فإنهم يتطلَّعون إليك ويأنسون بك، وربما يأنسون بمن يملك القربى إليك، لكن لا أنس كالأنس بك ـ وأحضرهم بالكفاية للمتوكّلين عليك ـ فهم يحسّون كفايتك في كلّ أمورهم، وكلّ حاجاتهم في الدنيا والآخرة، كما يؤكّد الإمام زين العابدين (ع) بقوله: "يا من يكفي من كلّ شيء، ولا يكفي منه شيء".
ويضيف الإمام عليّ (ع): تشاهدهم ـ أولياءك ـ في سرائرهم ـ والسرائر مكنونة في الصدور، ولكنهم يشعرون بأنك تراقب سرائرهم ـ وتطّلع عليهم في ضمائرهم ـ فيما يضمرونه، لا بمعنى الضمير بالمصطلح العصري المعبِّر عن الوعي في علم النفس أو الوازع في علم الأخلاق، كما فهمه بعضهم، وراح يشكّك في نسبة الكلام إلى عليّ (ع) على أساس أنَّ هذه المصطلحات لم تكن معروفةً في أيّامه ـ وتعلم مبلغ بصائرهم ـ فيما يملكونه من فكر يحذرون أن ينحرف ـ فأسرارهم لك مكشوفة، وقلوبهم إليك ملهوفة ـ لأنّ قلوبهم تعيش الحبّ، ويملأها الشّوق إليك ـ إن أوحشتهم الغربة ـ غربة الرّوح أو الغربة عن الوطن أو الأهل ـ آنسهم ذكرك، وإن صبّت عليهم المصائب ـ وكاد اليأس يزحف إليهم والسقوط يطبق عليهم ـ لجأوا إلى الاستجارة بك، علماً بأن أزمّة الأمور بيدك ـ فأنت الذي تديرها كما تشاء ـ ومصادرها عن قضائك ـ وقضاؤك يجري بالخير لأوليائك.
ـ اللّهمّ إن فههتُ عن مسألتي ـ عييت عن التّعبير عنها ـ أو عميت عن طلبتي ـ فعشت الحيرة، فلم أعد أعي جيداً، ولا أبصر ما أطلبه منك ـ فدلّني على مصالحي ـ لأدرك ما يفيدني ويصلحني، فلا أطلب ما يفسدني في ديني ودنياي ـ وخذ بقلبي إلى مراشدي، فليس ذلك بنكر من هداياتك، ولا ببدع من كفاياتك ـ احملني إلى ما يرشدني ولا يضلّني، فأنت وليّ كلّ ذلك بهدايتك ـ اللّهمَّ احملني على عفوك ـ فاغفر لي ما قصَّرت في حقّك ـ ولا تحملني على عدلك"، بحيث تحاسبني على كلّ ما ارتكبت.
وينتقل عليّ (ع) إلى تعليم آخر، فيرشد النّاس إلى محلّ النصيحة، فإذا هو الله تعالى، الذي نقتربُ منه بالعمل، فنأمن العذاب.
يبدأ عليّ (ع) بتقديم النصيحة، كما يرى السيّد، بقوله: "أيُّها الناس ـ جميع الناس في جميع العصور، وعقل عليّ يستوعب كل العصور ـ إنه من استنصح الله وفّق ـ وأي ناصح أعظم من الله، فغيره قد يغشّ أو يضلّ بجهله، لكنَّ الله هو الحق، وهو الرَّحمن الرَّحيم، وقد قدّم إلينا نصائحه في القرآن، ومن أمثلته قول شعيب: ﴿وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ﴾(القصص: 20) ـ ومن اتخذ قوله دليلاً، هدي للتي هي أقوم ـ فإذا كنت في الظلمات والمتاهات، فقول الله ينقذك ـ فإن جار الله آمن ـ ومجاورته ليست مكانيةً، لأنَّ الله في كلِّ مكان، لكنَّها مجاورة بالعمل ـ وعدُّوه خائف"، لأنّه ينتظر نار جهنّم. وهذا ما لا تقوم له السماوات والأرض.
ولتقرأ في دعاء كميل: "فكيف بي وأنا عبدك الضّعيف الذَّليل الحقير المسكين المستكين". هذا العبد يصبر عن مقاساة لظى جهنّم، ولا يصبر عن مفارقة الله، فيقول: "هبني صبرت على حرّ نارك، فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك".
* المصدر: موسوعة الفكر الإسلامي – المجلّد الرابع.
محمد طي
ظهرت معرفة عليّ (ع) بالله في العديد من خطبه وكلماته، وقد ادَّعى الأخذ عنه علماء الكلام والمتصوّفة وغيرهم.
يرى عليّ (ع) أنَّ الله يستدلّ عليه من خلقه، والنظام المحكم الذي يسير عليه الكون: من تسديده المخلوقات لما خلقت له، ومن أفضاله على الإنسان، وعطاياه في كلّ المجالات. فلا معطي حقيقيّاً إلا الله تعالى، وكلّ معطٍ ظاهريّ، فمن نعم الله يعطي. فإذا أردت أن تشكر على العطاء، فاشكر الله دائماً.
ويستشهد السيّد فضل الله (رض) على ذلك بدعاء لعليّ، يقول: "وإن ترجَ (يا ربّ)، فخير مرجوّ (لأنّك أهل الرّجاء). اللّهمّ وقد بسطت لي ـ من الكلام ـ فيما لا أمدح به غيرك ـ لأنّ بعض الكلمات لا تليق إلا بك، ولأن كلّ مدح يشير إلى مدحك، لأننا عندما نمدح خلقك، فإنّنا نمدحهم فيما أعطيتهم من عندك. فما عندهم هو من عندك ـ ولا أثني به على أحد سواك ـ أوحّدك في المدح وفي الثناء، فلا يمكن أن نثني على أحد بما نثني به على الله، ولا نمدح أحداً بما نمدح به الله، ﴿فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا﴾ (الجنّ/ 18) ـ ولا أوجّهه ـ المدح ـ إلى معادن الخيبة ـ أي من تخيب الآمال عندهم ـ ومواضع الريبة ـ أي من تحيط الشكوك بكلّ ما هم فيه ـ وعدلت بلساني عن مدائح الآدميّين، والثّناء على المربوبين المخلوقين ـ فإذا مدحت غيرك أشعر بالذّنب، وإذا مدحت من كان قريباً إليك، فاني أمدحك من خلاله، لأنّه لا أحد إلا وأنت الخالق له والربّ، وأنت الذي أعطيته كلّ شيء. ومن جملة عطايا الله الرحّمة والمغفرة.
ـ اللّهمّ ولكلّ مثنٍ على من أثنى عليه مثوبة من جزاء ـ فالمادح له مثوبة ـ أو عارفة من عطاء ـ وعندما أمدحك فبما أنت أهله، وأثني عليك فيما فيك من مجالات العظمة ـ وقد رجوتك دليلاً على ذخائر الرَّحمة، وكنوز المغفرة ـ فأعطني من ذخائر رحمتك وكنوز مغفرتك، هذه هي جائزتي التي أرجوها عندك.
ـ اللّهمّ وهذا مقام من أفردك بالتَّوحيد الذي هو لك ـ فأنت الواحد، والوحدانيّة صفتك، ولا وحدانيّة لغيرك، وأنا أقف من أجل أن يكون عقلي وقلبي وشعوري وإحساسي وكياني كلّه صرخةً تنفتح على وحدانيّتك.
ـ ولم يرَ مستحقاً لهذه المحامد والممادح غيرك، وبي فاقة إليك ـ أنا الفقير المحتاج إليك ـ لا يجبر مسكنتها ـ فاقتي وفقري ـ إلا فضلك، ولا ينعش خَلَّتها ـ حاجتها ـ إلا منّك وجودك. فهب لنا في هذا المقام رضاك ـ رضاك هو مطلوبنا، فهو كلّ السعادة ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ﴾ [التوبة: 72]، لأنّه الجنّة ونعيمها ـ وأغننا عن مدّ الأيدي إلى سواك".
ويربط السيّد بكلام الإمام عليّ (ع) هذا، كلام الإمام زين العابدين (ع) الذي يقول: "وقلت سبحان ربي! كيف يسأل محتاج محتاجاً، وأنّى يرغب معدم إلى معدم؟! فقصدتك يا الهي بالرّغبة، وأوفدت عليك رجائي بالثقة بك."
والله يعطي، ولكنه يأخذ أيضاً، وعليّ (ع) يمدحه على كلّ حال، ويعترف بالقصور البشري تجاهه، فيتابع في الجوّ الروحي نفسه، على ما يستشهد به السيّد، فيقول: "اللّهمّ لك الحمد على ما تأخذ وتعطي ـ فإنّ عطاءك هو عطاء الكريم الذي يفيض كرمه على عباده، وإن أخذك أخذ الحكيم الذي لا يأخذ إلا عن حكمة، وحكمته لا تبتعد عن رحمته، وإن لم يدرك النّاس ذلك ـ وعلى ما تعافي وتبتلي ـ فمنك العافية، ومنك البلاء. ونحن نحمدك في الحالين ـ حمداً يكون أرضى الحمد لك ـ يمتدُّ ليكون مبلغ رضاك ـ وأحبّ الحمد إليك، وأفضل الحمد عندك، حمداً يملأ ما خلقت، ويبلغ ما أردت، حمداً لا يحجب عنك، ولا يقصر دونك".
وكأنه يقول، كما يعلّق السيّد (رض)، أنا لا أملك الكلمات الدّقيقة التي يمكن أن تجمع كلّ ما تستحقّه من حمد. لذلك، فعندما أتحدّث عن حمد هو أرضى من ذلك، وعن حمدٍ يبلغ ما عندك، فأنت تعرف يا ربّ آفاق ذلك الحمد ـ حمداً لا ينقطع عدده، ولا يفنى مدده ـ يمتد في الوقت كلّه، في الصباح والمساء، في الانشغال وفي الفراغ.
ـ فلسنا نعلم كنه عظمتك ـ وإذا عرفنا بعض أسرار عظمتك، فلا نعرف حقيقتها ـ إلا أنّنا نعلم أنّك حيّ قيّوم ـ قائم على الكون والوجود ـ لا تأخذك سنة ولا نوم، لم ينتهِ إليك نظر، ولم يدركك بصر ـ وهذا قوله تعالى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ﴾(الأنعام: 103) ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾(الشّورى: 11) ـ أدركت الأبصار، وأحصيت الأعمال، وأخذت بالنَّواصي والأقدام ـ سيطرت على الإنسان في كلّ شيء ـ وما الّذي نرى من خلقك ـ من أسرار عظمتك ـ ونعجب له من قدرتك، ونصفه من عظيم سلطانك، وما تغيَّب عنّا منه ـ ما لم ندرك سرّه ـ وقصرت أبصارنا عنه، وانتهت عقولنا دونه، وحالت ستور الغيوب بيننا وبينه، أعظم. فمن فرغ قلبه، وأعمل فكره، ليعلم كيف أقمت عرشك، وكيف ذرأت خلقك، وكيف علَّقت في الهواء سماواتك ـ التي لا ترتكز على أي شيء في الأرض ـ وكيف مددت على مور الماء أرضك، رجع طرفه حسيراً ـ إشارة إلى قوله تعالى: ﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ﴾(الملك/3-4) ـ وعقله مبهوراً، وسمعه والهاً، وفكره حائراً".
والله المعطي يملأ حضور المتوكّلين عليه، ويكفيهم ويعرف ظاهرهم وباطنهم، كما يعرف ظاهر كلّ مخلوق وباطنه. وهو رفيقهم في الغربة، وهو المستجيب لطلباتهم حتى ولو عجزوا عن التَّعبير عنها.
ويستشهد السيّد بأدعيةٍ لعليّ (ع)، يتبيّن منها أنّه كان مثال الشوق إلى الله، ومنها هذا الدعاء: "اللّهمّ إنّك آنس الآنسين لأوليائك ـ فعندما يستوحشون في غربتهم الروحيّة، كما يفسّر السّيد، وعندما يعيشون في ظلمات الواقع، فإنهم يتطلَّعون إليك ويأنسون بك، وربما يأنسون بمن يملك القربى إليك، لكن لا أنس كالأنس بك ـ وأحضرهم بالكفاية للمتوكّلين عليك ـ فهم يحسّون كفايتك في كلّ أمورهم، وكلّ حاجاتهم في الدنيا والآخرة، كما يؤكّد الإمام زين العابدين (ع) بقوله: "يا من يكفي من كلّ شيء، ولا يكفي منه شيء".
ويضيف الإمام عليّ (ع): تشاهدهم ـ أولياءك ـ في سرائرهم ـ والسرائر مكنونة في الصدور، ولكنهم يشعرون بأنك تراقب سرائرهم ـ وتطّلع عليهم في ضمائرهم ـ فيما يضمرونه، لا بمعنى الضمير بالمصطلح العصري المعبِّر عن الوعي في علم النفس أو الوازع في علم الأخلاق، كما فهمه بعضهم، وراح يشكّك في نسبة الكلام إلى عليّ (ع) على أساس أنَّ هذه المصطلحات لم تكن معروفةً في أيّامه ـ وتعلم مبلغ بصائرهم ـ فيما يملكونه من فكر يحذرون أن ينحرف ـ فأسرارهم لك مكشوفة، وقلوبهم إليك ملهوفة ـ لأنّ قلوبهم تعيش الحبّ، ويملأها الشّوق إليك ـ إن أوحشتهم الغربة ـ غربة الرّوح أو الغربة عن الوطن أو الأهل ـ آنسهم ذكرك، وإن صبّت عليهم المصائب ـ وكاد اليأس يزحف إليهم والسقوط يطبق عليهم ـ لجأوا إلى الاستجارة بك، علماً بأن أزمّة الأمور بيدك ـ فأنت الذي تديرها كما تشاء ـ ومصادرها عن قضائك ـ وقضاؤك يجري بالخير لأوليائك.
ـ اللّهمّ إن فههتُ عن مسألتي ـ عييت عن التّعبير عنها ـ أو عميت عن طلبتي ـ فعشت الحيرة، فلم أعد أعي جيداً، ولا أبصر ما أطلبه منك ـ فدلّني على مصالحي ـ لأدرك ما يفيدني ويصلحني، فلا أطلب ما يفسدني في ديني ودنياي ـ وخذ بقلبي إلى مراشدي، فليس ذلك بنكر من هداياتك، ولا ببدع من كفاياتك ـ احملني إلى ما يرشدني ولا يضلّني، فأنت وليّ كلّ ذلك بهدايتك ـ اللّهمَّ احملني على عفوك ـ فاغفر لي ما قصَّرت في حقّك ـ ولا تحملني على عدلك"، بحيث تحاسبني على كلّ ما ارتكبت.
وينتقل عليّ (ع) إلى تعليم آخر، فيرشد النّاس إلى محلّ النصيحة، فإذا هو الله تعالى، الذي نقتربُ منه بالعمل، فنأمن العذاب.
يبدأ عليّ (ع) بتقديم النصيحة، كما يرى السيّد، بقوله: "أيُّها الناس ـ جميع الناس في جميع العصور، وعقل عليّ يستوعب كل العصور ـ إنه من استنصح الله وفّق ـ وأي ناصح أعظم من الله، فغيره قد يغشّ أو يضلّ بجهله، لكنَّ الله هو الحق، وهو الرَّحمن الرَّحيم، وقد قدّم إلينا نصائحه في القرآن، ومن أمثلته قول شعيب: ﴿وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ﴾(القصص: 20) ـ ومن اتخذ قوله دليلاً، هدي للتي هي أقوم ـ فإذا كنت في الظلمات والمتاهات، فقول الله ينقذك ـ فإن جار الله آمن ـ ومجاورته ليست مكانيةً، لأنَّ الله في كلِّ مكان، لكنَّها مجاورة بالعمل ـ وعدُّوه خائف"، لأنّه ينتظر نار جهنّم. وهذا ما لا تقوم له السماوات والأرض.
ولتقرأ في دعاء كميل: "فكيف بي وأنا عبدك الضّعيف الذَّليل الحقير المسكين المستكين". هذا العبد يصبر عن مقاساة لظى جهنّم، ولا يصبر عن مفارقة الله، فيقول: "هبني صبرت على حرّ نارك، فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك".
* المصدر: موسوعة الفكر الإسلامي – المجلّد الرابع.