الإمام عليّ (ع) يوصينا بالقرآن

الإمام عليّ (ع) يوصينا بالقرآن

"الله الله في القرآن، لا يسبقكم بالعمل به غيركم".

هذه الصّرخة من عليّ (ع) الّتي يصرخ بها في وجدان الأجيال المسلمة، من أجل أن يخطّط لها الطّريق المستقيم الّذي يؤدّي بها إلى الله سبحانه وتعالى، لتحصل على رضوانه، ولتقرب إليه في ساحات جنانه.

إنّ الله سبحانه وتعالى أراد لنا من خلال هذا القرآن أن نركِّز كلّ حياتنا الخاصَّة والعامَّة على خطّ منهاجه، فقد قال الله لنا: {قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ}[المائدة: 15]، وقد قال لنا وهو يحدِّثنا عن رسالة النبيّ: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}[الجمعة: 2].

وهكذا يقول الله: {إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}، للّتي هي أكثر استقامةً وانسجاماً مع خطِّ الله ومصلحة الرّسالة.

العمل بالقرآن

ولذلك، فإنّ الله سبحانه وتعالى أراد منَّا أن نعمل بالقرآن، أن يكون القرآن إمامنا الّذي نأتمّ به، وهدانا الّذي نهتدي به، والنّور الذي نستضيء به، لنخرج به من الظّلمات إلى النّور. وقد كان القرآن بالنّسبة إلى النّبيّ (ص) يمثّل الحياة التي صاغ النبيّ بها (ص) شخصيّته بها. فقد قالت بعض زوجاته: "كان خلقه القرآن"، بحيث إنّك إذا أردت أن تتعرّف ما هي أخلاق القرآن، فتطلَّع إلى رسول الله (ص) كيف يتكلّم، كيف يدعو، كيف يتعامل مع الناس، كيف يعيش علاقته مع زوجته، مع الأقربين، مع الأبعدين، كيف كانت طريقته في شرابه، في طعامه، في عبادته لربِّه، فإنِّك تستطيع أن تقرأ في سيرة النبيّ كلّ ما جاء في القرآن من أخلاق.

وهكذا، ننطلق من خلال سيرة النبيّ (ص) إلى سيرة الأئمَّة (ع) الذين كانوا من خلال عصمتهم يجسّدون القرآن في حياتهم، ولذلك، كان النبيّ (ص) والأئمّة من أهل بيته، كتابَ الله الناطق الّذي يعبّر عن كتاب الله الصّامت.

كيف نتعاطى مع النّاس؟!

ومن خلال ذلك، لا بدَّ لنا، أيُّها الأحبَّة، من أن نتدبَّر القرآن وأن نتعقَّله، وأن نفكِّر فيه، وأن نصوغ شخصيّاتنا على أساس منهاجه الأخلاقيّ والعباديّ والعمليّ والاجتماعيّ في كلّ مناحي حياتنا. مثلاً، كيف نتكلّم مع الناس؟ الله سبحانه وتعالى يقول: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً}[البقرة: 83]، {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[الإسراء: 53]. فلا بدَّ لك عندما تتكلّم مع النَّاس، أن تتكلّم معهم بالطيّب من القول، والحسن من الأسلوب، وأن تختار الكلمات التي تعبّر عمّا تريد الحديث عنه، أن تختار الكلمة الأفضل والأحسن الّتي تفتح قلب هذا الإنسان عليك وعلى ما تريد أن يتحرّك به.

فمن يتكلّم الكلمة الأسوأ، فهو ليس قرآنيّاً، ومن لا يتكلَّم الكلام الطيّب الحسن، فهو ليس قرآنيّاً...

كيف تتكلّم مع عائلتك، وكيف تتكلّم مع جيرانك، مع النّاس الّذين تلتقيهم ويلتقونك، تتعامل معهم ويتعاملون معك؟!

الأصل في الإنسان المسلم أن يكون ليّن القول، طيّب الكلمة، حسن الأسلوب، ولذلك، فلا مجال للإنسان إذا أراد أن يكون منسجماً مع خطّ الإسلام أن يكون الفظّ الغليظ في كلامه.

إذا أردت أن تنسجم مع خطّ القرآن، فعليك أن لا تكون الإنسان السبّاب الذي يسبّ النّاس، فقد نهانا الله سبحانه وتعالى في كتابه عن أن نسبّ النّاس الذين يدعون من دون الله بغير علم وهم ممن يستحقّون السبّ واللّعن وكلّ ذلك، ولكنّ الله أراد أن يعلّمنا أنّ على الإنسان عندما يريد أن يتكلّم بشيء، أن يدرس ردّ الفعل. لا بدّ لك من أن تدرس هذه الكلمة اذا انطلقت في مواجهة أناس آخرين، فما هو ردّ الفعل؟ هل إنّ ردّ الفعل يمثّل شيئاً جيّداً بالنّسبة إليّ وإلى مبادئي ومقدَّساتي أم لا؟

الإنسان المسلم عندما يريد أن يطلق كلمته، لا بدّ له من أن يعرف أين تتحرّك الكلمة، وما هي نتائجها. {وَلاَ تَسُبُّواْ}. مجتمعنا مجتمع سبّ وشتم، حتى البعض يتقن السّباب باللّغات الأخرى، مثل الإنكليزيّة والفرنسيّة حتى يسبّ بشكلٍ حضاريّ {الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ} من هم؟ المشركون الكافرون {فَيَسُبُّواْ اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ}. إذا سببتم الآخرين وسببتم مقدَّساتهم، فسوف يسبّون مقدَّساتنا... الله يعلّلها بشكل نفسيّ، شيء داخل في تكوين الإنسان {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ}[الأنعام: 108]، كلّ واحد يدّعي أنه على حقّ، فالحالة النفسية واحدة، أنت أناسك مقدّسون، وهم أناسهم مقدّسون. أما أن تكون أنت على حقّ والآخر على باطل، فهذا شيء آخر، لكنّ الحالة النفسيّة في انفتاحك على من تقدِّس وما تقدّس، هي نفسها الحالة النفسيّة في انفتاح الآخر على ما يقدِّس ومن يقدِّس. إذاً أنت تجتذب سبّ الله بشكلٍ غير مباشر.

قال ابن عباس (رض)، وقد سمع شخصًا يسبّ أب شخصٍ: أيّكم السّابّ أباه؟، لأنّك إذا سببت أب الإنسان الآخر، فهو سيسبّ أباك.

السابُّ بعيدٌ من القرآن

على هذا الأساس، القرآن يؤدّبنا بهذا الأدب؛ أن لا نسبّ حتى من يستحقّ السبّ، في الحالات التي يجتذب السبّ ردّ فعل لسبّ آخر لا نرتضيه.

ثمّ، السبّ ما هو؟ هو حالة تفجير غيظ؛ إذا سببت ديني أو مذهبي أو من أقدّس، فسوف تقنعني وأقنعك؟! لا بالعكس، ستجعلني أتعقّد وأجعلك تتعقّد.

ما هي حصيلتنا من أن يعقّد بعضنا بعضاً أكثر مما يكون التّعقيد؟! نحن دورنا حلّ العقد عند الاختلاف مع الناس الآخرين، أيّاً كان النّاس الآخرون، ونحن في خطّ هداية، وفي خطّ وعظ وحوار، وعلينا، مهما أمكننا، أن نخفّف من تعقيدات النّاس.

فالسبّ يعقِّد الأمور، وهو ليس الوسيلة لتفتح عقول النّاس على ما أنت عليه. ولذلك، لم ينقل أنّ النبيّ (ص) تحدَّث بهذا الأسلوب.

هذا من أدب القرآن. ومن أدب القرآن أنّك إذا أردت أن تدخل في جدل - ونحن أمّة جدليّة؛ يتجادل الشّخص مع أبيه وأخيه وجاره وزوجته، هذا الشّخص عنده رأي، وذاك عنده رأي، هذا عنده خطّ سياسيّ، وذاك عنده خطّ آخر – فليكن كما رسم الله لنا خطَّ الجدل مع الآخر في القرآن الكريم، قال سبحانه: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النّحل: 125].

عندما تدعو الآخر إلى ما عندك من مبدأ، وإلى ما عندك من عقيدة ومن رأي، كن حكيماً. والحكمة هي وضع الشّيء في موضعه؛ أن تختار الكلمات التي تتناسب مع ذهنيّة الإنسان، والكلمات التي لا تثير هذا الإنسان، والأسلوب الّذي يمكن أن يفتح لك الطّريق إلى قلبه وإلى عقله، والجوّ الّذي يمكن أن يجعل هذا الإنسان قريباً إليك، فعندما تتحاور مع الإنسان الآخر، حاور وأنت مبتسم، ولا تحاور وأنت مقطّب. كان من أخلاق رسول الله (ص) - وهو قدوتنا في كلّ شيء - كان من أخلاقه التبسّم، وهذا ما درج عليه أهل البيت (سلام الله عليهم)، فنحن نقرأ في قصيدة الفرزدق في مدح الإمام زين العابدين (ع):

يغضي حياءً ويغضَى من مهابته فما يكلَّم إلّا حين يبتسمُ

كانت بسمته تسبق كلمته.. البسمة إشراق ونور، فالمبتسم يدخل قلبك من دون أن تشعر. فلا يكن الواحد منّا في الحوار عبوساً قمطريراً، بل في حالة ابتسام. يُقال إنّ عضلات الوجه تهرم في حالة العبوس، أمّا عندما يبتسم الإنسان فتكون في حالة استرخاء. حتى صحّيّاً، الابتسام يريح عضلات الوجه، أمّا العبوس فيتعبها.

يصف الشّاعر المشهد فيقول:

قالَ السّماءُ كَئيبَةٌ وَتَجَهَّما قُلتُ اِبتَسِم يَكفي التَجَهّمُ في السّم

قال: الصّبا ولّى! فقلت له: ابتــسم لن يرجع الأسف الصّبا المتصرّم

فَلَعَلَّ غَيرَكَ إِن رَآكَ مُرَنّماً طَرَحَ الكَآبَةَ جانِباً وَتَرَنَّم

هناك مثل يقول: اضحك تضحك لك الدّنيا، وابك تبك وحدك.

الشّمس ابتسامة، الرّبيع ابتسامة، الله جعل الكون يبتسم، حتّى النبيّ (ص) كان ضحكه التبسّم الهادئ الوديع... إنّ الجوّ الحميم الّذي نصنعه من خلال ابتسامة، من خلال وداعة، يحلّ ألف مشكلة. ولذا، يقول الله سبحانه: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، لا تجادلهم بالقسوة، بالغلظة، بالطّريقة السلبيّة، جادلهم بالكلمة الأحسن، بالأسلوب الأحسن.

أنت لست مكلّفاً أن تجعلهم مهتدين، بل أنت مكلّف بأن تهيّئ لهم وسائل الهدى، أن تدلّهم على طريق الهدى، فالله يقول للنبيّ (ص): {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ}[البقرة: 272]، {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}[الغاشية: 21 ـ 22].

لذلك، واجبنا أن نهيّئ الأجواء الملائمة لأن يأتي هذا الإنسان إلى ما نفكّر فيه ونتحرّك فيه.. أما أن يهتدي أو لا، فهذا ليس من شأننا، بل هو شأن الله. الكلام ليس وحده سبيل الهداية، أنت هيّئ كلّ الظّروف الملائمة التي تجذب هذا الإنسان إليك، فإذا استكملت ذلك من كلّ جهة، فقد أدَّيت واجبك {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}[النّحل: 125].

احترام الرّأي مطلوب

وهكذا، حتّى في أجوائنا في البيت، عندما يختلف الزَّوج مع زوجته، يختلف مع أولاده، أيضاً علينا أن يكون النّزاع بالتي هي أحسن، ليس لمجرّد أنه رجل يعتبر أنه لا يناقَش، والحديث الذي يقول بأنّ المرأة بربع عقل، فهذا غير منطقيّ أبداً، بل هناك نساء لديهنّ عقول أزيد من عقول الرّجال.

الله عندما حدّثنا عن ملكة سبأ "بلقيس"، عندما جاءها كتاب سليمان وفيه تهديد {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}[النّمل: 31]، وهي ملكة، ماذا تفعل؟

جمعتهم: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ}[النّمل: 32]. صحيح أنّها ملكة، لكن لم تستبدّ برأيها، بل جمعت كلّ شيوخ قومها والوجهاء، وطلبت منهم أن يعطوها رأياً {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}[النّمل: 29 ـ 31]. أمّا الرجال فعرضوا عضلاتهم {قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ}[النّمل: 33].

هي تريد رأيهم وفكرهم، لا تريد عضلاتهم، لأنّ هذا موقف جديد لم تعهده من قبل، ولا بدّ أن تعطي قراراً، والقرار يتّصل بكلّ الناس الّذين هم تحت سلطتها، والقرار فيه حياة أو موت... فربما إذا كان سليمان ملكاً من الملوك، يفرض السّيطرة والقوّة والضّغط، فإنّه يقضي عليهم تماماً ويسترقّهم. هي طلبت رأياً، وهم عرضوا عضلاتهم. من الأعقل في رأيكم؟

الله يعطينا النموذج: {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}[النّمل: 34 ـ 35].

فإذا كان ملك له قوّة وسلطة، والملوك مفسدون مسيطرون، فعلينا أن نتصرّف تصرّفاً آخر. أمّا إذا كان نبيّاً، فهناك ردّ آخر سوف أتعامل به معه، ولذا سوف أرسل هدية وأنتظر ردّ الفعل على الهديّة.

ورفض سليمان الهديّة وهدّد، وجاءت إليه، ونقل عرشها بالطّريقة الإعجازيّة الغيبيّة، ودرست فكر سليمان وروحيّته، وعندما تحدّث معها بالإيمان والإسلام، اقتنعت، وبعد ذلك رفعت يديها إلى الله {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[النّمل: 44]، ليس خضوعاً له، أسلمت معه لأنّه أقنعنها واستطاعت أن تجد الضّوء وتجد الهدى والانفتاح من خلاله، وأسلمت مع سليمان وبقيت على موقعها كملكة، ودخلت في الإسلام مع سليمان لا وراءه.

هذا النّموذج نموذج امرأة بربع عقل؟ هذه منشورات لا أصل لها في المقام.

وهكذا امرأة فرعون، امرأة إله يقول {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}[النّازعات: 24]، بحسب الصّفة الرسمية تكون زوجة الإله، هل هناك مركز أكبر من هذا؟! النّاس، الخدم، الذّهب... ولكنّها كانت الإنسانة التي عرفت الله بعقلها، وعرفت من خلال عقلها أنّ هذا الّذي هي فيه زائل مزيَّف، ومنطلق من خلال ظلم النّاس: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[التّحريم: 11].

أيّها الرّجال، أيّتها النّساء، لتكن امرأة فرعون القدوة لكم في رفض زخارف الحياة الدّنيا إذا تعارضت مع المصير في الآخرة... امرأة فرعون الّتي رفضت فرعون، وكانت تعيش معه نتيجة الضّغوط الصّعبة القاسية التي تحيط بها، وطلبت من الله أن ينجّبها من فرعون في ادّعائه الربوبيّة، ومن ظلمه للنّاس، ومن كلّ هؤلاء الذين يقدّسونها ويعظّمونها ويخرّون ساجدين أمامها.. فأيّ عقل أرفع من هذا العقل؟!

لذلك، لنتعوّد أن يحترم بعضنا بعضاً. فكما من حقّك أن يكون لك رأي، من حقّ الإنسان الآخر أن يكون له رأي.

الآن، زوجتك متعلّمة وأنت متعلّم، فلماذا رأيك هو الّذي يسبق رأيها مثلاً؟!

الرّأي هو إنّما مسألة فكر؛ أنا أفكّر وأنت تفكّر، الرجل يفكّر والمرأة تفكّر، قد تخطئ المرأة وقد يخطئ الرّجل، قد يصيب الرّجل وقد تصيب المرأة...

الله يقول للنبيّ (ص): {وشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ}[آل عمران: 159].

شاور واسمع الرأي الآخر، رغم أنّ النبيّ (ص) لا يحتاج إلى المشورة، وهو الّذي {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}[النّجم: 3 ـ 4]. لكن حتى يعلم كلّ قياديّ وكلّ مسؤول أن لا يتّخذ قراراً إلّا بعد أن يثير الرّأي فيمن حوله، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[الأحزاب: 21]. فالرسول مؤيَّد بعصمته وبالوحي وبألطاف لا يحتاج معها إلى أحدٍ، ولكنّ الإنسان لا يقوم بأيّ أمر من الأمور إلّا بعد أن يستشير من حوله.. حتّى في المهمات الصّعبة، شاور وناقش، وليكن الرأي في النّهاية لك.

الرّجل لا يكون مستبدّاً، وهذا لا ينقض من عرش الرّجولة، بل أن يكون إنساناً. هناك فرق بين أن تكون جبّاراً وبين أن تكون إنساناً.

الشَّخص الذي يستبدّ بزوجته، بأولاده، ببناته، بإخوانه، بموظّفيه... هذا جبّار. الله يريد أن تكون إنساناً تتحسّس من حولك في كلّ نقاط ضعفهم وقوّتهم، وفي كلّ ما لديهم من آلام وأحلام، وكلّ ما عندهم.

البعض يتصوّر أنّه إذا كان الرّجل لطيفاً مع بناته وزوجته يكون ضعيفاً. بالعكس، عليك أن تربح محبّتهم لا أن تخيفهم. هناك فرق بين أن تعيش مع إنسان يخاف منك، وبين أن تعيش مع إنسان يحبّك.

عندما تعيش مع إنسان يخاف منك، لا تشعر بأنّ هناك حياة طبيعيّة، يقول لك سمعاً وطاعة وهو يبكي، ويقول اللّهمّ خلّصني من هذه الحياة، ويشكو هنا وهناك، لكن عندما يحبّك لأنّك احترمت انسانيّته ونقاط ضعفه، يفديك.

يقولون "الطّبخ نَفَس". قد يكون من أفضل الطبّاخين، لكن ليس عنده نَفَس، وقد يكون طبّاخًا عاديًّا وعنده نَفَس.

الأخلاق القرآنيّة

علينا أن نعيش سويّاً، أيّها الأحبّة، بالطريقة التي تجعلهم ينفتحون علينا كما ننفتح عليهم، أن نحاول أن نوسّع صدرنا، أن نحترم النّاس الآخرين.

أيّها الأحبّة، إنّ حسابات الله أكبر من حساباتنا. ورد عن النبيّ (ص): "خيركم خيركم لأهله"، أفضل الناس من كان يرعى أهله الرّعاية الأفضل "وأنا خيركم لأهلي" .

جميل أن يشعر من حوله بالطّمأنينة والرّاحة معه. هذه الحياة جميلة، وإذا كانت بالضّغط والسبّ، فلن يعرف هو كيف يعيش، ولن يريح عيره. فالإنسان الذي لا يألف ولا يؤلف هذا من شرار الخلق.

هذا هو القرآن، أيّها الأحبّة، وعلينا أن نكون القرآنيّين في أخلاقنا، حتى ننطلق إلى الله، لنقف بين يديه، ولنقول له لقد عشنا حياتنا من خلال كتابك، فأعطنا جزاءنا من خلال ثوابك.

والحمد لله ربّ العالمين.

* موعظة رمضانيّة لسماحته، بعنوان: وصيّة الإمام عليّ (ع) في القرآن، بتاريخ: 1 آذار 1995م.

"الله الله في القرآن، لا يسبقكم بالعمل به غيركم".

هذه الصّرخة من عليّ (ع) الّتي يصرخ بها في وجدان الأجيال المسلمة، من أجل أن يخطّط لها الطّريق المستقيم الّذي يؤدّي بها إلى الله سبحانه وتعالى، لتحصل على رضوانه، ولتقرب إليه في ساحات جنانه.

إنّ الله سبحانه وتعالى أراد لنا من خلال هذا القرآن أن نركِّز كلّ حياتنا الخاصَّة والعامَّة على خطّ منهاجه، فقد قال الله لنا: {قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ}[المائدة: 15]، وقد قال لنا وهو يحدِّثنا عن رسالة النبيّ: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}[الجمعة: 2].

وهكذا يقول الله: {إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}، للّتي هي أكثر استقامةً وانسجاماً مع خطِّ الله ومصلحة الرّسالة.

العمل بالقرآن

ولذلك، فإنّ الله سبحانه وتعالى أراد منَّا أن نعمل بالقرآن، أن يكون القرآن إمامنا الّذي نأتمّ به، وهدانا الّذي نهتدي به، والنّور الذي نستضيء به، لنخرج به من الظّلمات إلى النّور. وقد كان القرآن بالنّسبة إلى النّبيّ (ص) يمثّل الحياة التي صاغ النبيّ بها (ص) شخصيّته بها. فقد قالت بعض زوجاته: "كان خلقه القرآن"، بحيث إنّك إذا أردت أن تتعرّف ما هي أخلاق القرآن، فتطلَّع إلى رسول الله (ص) كيف يتكلّم، كيف يدعو، كيف يتعامل مع الناس، كيف يعيش علاقته مع زوجته، مع الأقربين، مع الأبعدين، كيف كانت طريقته في شرابه، في طعامه، في عبادته لربِّه، فإنِّك تستطيع أن تقرأ في سيرة النبيّ كلّ ما جاء في القرآن من أخلاق.

وهكذا، ننطلق من خلال سيرة النبيّ (ص) إلى سيرة الأئمَّة (ع) الذين كانوا من خلال عصمتهم يجسّدون القرآن في حياتهم، ولذلك، كان النبيّ (ص) والأئمّة من أهل بيته، كتابَ الله الناطق الّذي يعبّر عن كتاب الله الصّامت.

كيف نتعاطى مع النّاس؟!

ومن خلال ذلك، لا بدَّ لنا، أيُّها الأحبَّة، من أن نتدبَّر القرآن وأن نتعقَّله، وأن نفكِّر فيه، وأن نصوغ شخصيّاتنا على أساس منهاجه الأخلاقيّ والعباديّ والعمليّ والاجتماعيّ في كلّ مناحي حياتنا. مثلاً، كيف نتكلّم مع الناس؟ الله سبحانه وتعالى يقول: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً}[البقرة: 83]، {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[الإسراء: 53]. فلا بدَّ لك عندما تتكلّم مع النَّاس، أن تتكلّم معهم بالطيّب من القول، والحسن من الأسلوب، وأن تختار الكلمات التي تعبّر عمّا تريد الحديث عنه، أن تختار الكلمة الأفضل والأحسن الّتي تفتح قلب هذا الإنسان عليك وعلى ما تريد أن يتحرّك به.

فمن يتكلّم الكلمة الأسوأ، فهو ليس قرآنيّاً، ومن لا يتكلَّم الكلام الطيّب الحسن، فهو ليس قرآنيّاً...

كيف تتكلّم مع عائلتك، وكيف تتكلّم مع جيرانك، مع النّاس الّذين تلتقيهم ويلتقونك، تتعامل معهم ويتعاملون معك؟!

الأصل في الإنسان المسلم أن يكون ليّن القول، طيّب الكلمة، حسن الأسلوب، ولذلك، فلا مجال للإنسان إذا أراد أن يكون منسجماً مع خطّ الإسلام أن يكون الفظّ الغليظ في كلامه.

إذا أردت أن تنسجم مع خطّ القرآن، فعليك أن لا تكون الإنسان السبّاب الذي يسبّ النّاس، فقد نهانا الله سبحانه وتعالى في كتابه عن أن نسبّ النّاس الذين يدعون من دون الله بغير علم وهم ممن يستحقّون السبّ واللّعن وكلّ ذلك، ولكنّ الله أراد أن يعلّمنا أنّ على الإنسان عندما يريد أن يتكلّم بشيء، أن يدرس ردّ الفعل. لا بدّ لك من أن تدرس هذه الكلمة اذا انطلقت في مواجهة أناس آخرين، فما هو ردّ الفعل؟ هل إنّ ردّ الفعل يمثّل شيئاً جيّداً بالنّسبة إليّ وإلى مبادئي ومقدَّساتي أم لا؟

الإنسان المسلم عندما يريد أن يطلق كلمته، لا بدّ له من أن يعرف أين تتحرّك الكلمة، وما هي نتائجها. {وَلاَ تَسُبُّواْ}. مجتمعنا مجتمع سبّ وشتم، حتى البعض يتقن السّباب باللّغات الأخرى، مثل الإنكليزيّة والفرنسيّة حتى يسبّ بشكلٍ حضاريّ {الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ} من هم؟ المشركون الكافرون {فَيَسُبُّواْ اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ}. إذا سببتم الآخرين وسببتم مقدَّساتهم، فسوف يسبّون مقدَّساتنا... الله يعلّلها بشكل نفسيّ، شيء داخل في تكوين الإنسان {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ}[الأنعام: 108]، كلّ واحد يدّعي أنه على حقّ، فالحالة النفسية واحدة، أنت أناسك مقدّسون، وهم أناسهم مقدّسون. أما أن تكون أنت على حقّ والآخر على باطل، فهذا شيء آخر، لكنّ الحالة النفسيّة في انفتاحك على من تقدِّس وما تقدّس، هي نفسها الحالة النفسيّة في انفتاح الآخر على ما يقدِّس ومن يقدِّس. إذاً أنت تجتذب سبّ الله بشكلٍ غير مباشر.

قال ابن عباس (رض)، وقد سمع شخصًا يسبّ أب شخصٍ: أيّكم السّابّ أباه؟، لأنّك إذا سببت أب الإنسان الآخر، فهو سيسبّ أباك.

السابُّ بعيدٌ من القرآن

على هذا الأساس، القرآن يؤدّبنا بهذا الأدب؛ أن لا نسبّ حتى من يستحقّ السبّ، في الحالات التي يجتذب السبّ ردّ فعل لسبّ آخر لا نرتضيه.

ثمّ، السبّ ما هو؟ هو حالة تفجير غيظ؛ إذا سببت ديني أو مذهبي أو من أقدّس، فسوف تقنعني وأقنعك؟! لا بالعكس، ستجعلني أتعقّد وأجعلك تتعقّد.

ما هي حصيلتنا من أن يعقّد بعضنا بعضاً أكثر مما يكون التّعقيد؟! نحن دورنا حلّ العقد عند الاختلاف مع الناس الآخرين، أيّاً كان النّاس الآخرون، ونحن في خطّ هداية، وفي خطّ وعظ وحوار، وعلينا، مهما أمكننا، أن نخفّف من تعقيدات النّاس.

فالسبّ يعقِّد الأمور، وهو ليس الوسيلة لتفتح عقول النّاس على ما أنت عليه. ولذلك، لم ينقل أنّ النبيّ (ص) تحدَّث بهذا الأسلوب.

هذا من أدب القرآن. ومن أدب القرآن أنّك إذا أردت أن تدخل في جدل - ونحن أمّة جدليّة؛ يتجادل الشّخص مع أبيه وأخيه وجاره وزوجته، هذا الشّخص عنده رأي، وذاك عنده رأي، هذا عنده خطّ سياسيّ، وذاك عنده خطّ آخر – فليكن كما رسم الله لنا خطَّ الجدل مع الآخر في القرآن الكريم، قال سبحانه: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النّحل: 125].

عندما تدعو الآخر إلى ما عندك من مبدأ، وإلى ما عندك من عقيدة ومن رأي، كن حكيماً. والحكمة هي وضع الشّيء في موضعه؛ أن تختار الكلمات التي تتناسب مع ذهنيّة الإنسان، والكلمات التي لا تثير هذا الإنسان، والأسلوب الّذي يمكن أن يفتح لك الطّريق إلى قلبه وإلى عقله، والجوّ الّذي يمكن أن يجعل هذا الإنسان قريباً إليك، فعندما تتحاور مع الإنسان الآخر، حاور وأنت مبتسم، ولا تحاور وأنت مقطّب. كان من أخلاق رسول الله (ص) - وهو قدوتنا في كلّ شيء - كان من أخلاقه التبسّم، وهذا ما درج عليه أهل البيت (سلام الله عليهم)، فنحن نقرأ في قصيدة الفرزدق في مدح الإمام زين العابدين (ع):

يغضي حياءً ويغضَى من مهابته فما يكلَّم إلّا حين يبتسمُ

كانت بسمته تسبق كلمته.. البسمة إشراق ونور، فالمبتسم يدخل قلبك من دون أن تشعر. فلا يكن الواحد منّا في الحوار عبوساً قمطريراً، بل في حالة ابتسام. يُقال إنّ عضلات الوجه تهرم في حالة العبوس، أمّا عندما يبتسم الإنسان فتكون في حالة استرخاء. حتى صحّيّاً، الابتسام يريح عضلات الوجه، أمّا العبوس فيتعبها.

يصف الشّاعر المشهد فيقول:

قالَ السّماءُ كَئيبَةٌ وَتَجَهَّما قُلتُ اِبتَسِم يَكفي التَجَهّمُ في السّم

قال: الصّبا ولّى! فقلت له: ابتــسم لن يرجع الأسف الصّبا المتصرّم

فَلَعَلَّ غَيرَكَ إِن رَآكَ مُرَنّماً طَرَحَ الكَآبَةَ جانِباً وَتَرَنَّم

هناك مثل يقول: اضحك تضحك لك الدّنيا، وابك تبك وحدك.

الشّمس ابتسامة، الرّبيع ابتسامة، الله جعل الكون يبتسم، حتّى النبيّ (ص) كان ضحكه التبسّم الهادئ الوديع... إنّ الجوّ الحميم الّذي نصنعه من خلال ابتسامة، من خلال وداعة، يحلّ ألف مشكلة. ولذا، يقول الله سبحانه: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، لا تجادلهم بالقسوة، بالغلظة، بالطّريقة السلبيّة، جادلهم بالكلمة الأحسن، بالأسلوب الأحسن.

أنت لست مكلّفاً أن تجعلهم مهتدين، بل أنت مكلّف بأن تهيّئ لهم وسائل الهدى، أن تدلّهم على طريق الهدى، فالله يقول للنبيّ (ص): {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ}[البقرة: 272]، {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}[الغاشية: 21 ـ 22].

لذلك، واجبنا أن نهيّئ الأجواء الملائمة لأن يأتي هذا الإنسان إلى ما نفكّر فيه ونتحرّك فيه.. أما أن يهتدي أو لا، فهذا ليس من شأننا، بل هو شأن الله. الكلام ليس وحده سبيل الهداية، أنت هيّئ كلّ الظّروف الملائمة التي تجذب هذا الإنسان إليك، فإذا استكملت ذلك من كلّ جهة، فقد أدَّيت واجبك {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}[النّحل: 125].

احترام الرّأي مطلوب

وهكذا، حتّى في أجوائنا في البيت، عندما يختلف الزَّوج مع زوجته، يختلف مع أولاده، أيضاً علينا أن يكون النّزاع بالتي هي أحسن، ليس لمجرّد أنه رجل يعتبر أنه لا يناقَش، والحديث الذي يقول بأنّ المرأة بربع عقل، فهذا غير منطقيّ أبداً، بل هناك نساء لديهنّ عقول أزيد من عقول الرّجال.

الله عندما حدّثنا عن ملكة سبأ "بلقيس"، عندما جاءها كتاب سليمان وفيه تهديد {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}[النّمل: 31]، وهي ملكة، ماذا تفعل؟

جمعتهم: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ}[النّمل: 32]. صحيح أنّها ملكة، لكن لم تستبدّ برأيها، بل جمعت كلّ شيوخ قومها والوجهاء، وطلبت منهم أن يعطوها رأياً {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}[النّمل: 29 ـ 31]. أمّا الرجال فعرضوا عضلاتهم {قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ}[النّمل: 33].

هي تريد رأيهم وفكرهم، لا تريد عضلاتهم، لأنّ هذا موقف جديد لم تعهده من قبل، ولا بدّ أن تعطي قراراً، والقرار يتّصل بكلّ الناس الّذين هم تحت سلطتها، والقرار فيه حياة أو موت... فربما إذا كان سليمان ملكاً من الملوك، يفرض السّيطرة والقوّة والضّغط، فإنّه يقضي عليهم تماماً ويسترقّهم. هي طلبت رأياً، وهم عرضوا عضلاتهم. من الأعقل في رأيكم؟

الله يعطينا النموذج: {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}[النّمل: 34 ـ 35].

فإذا كان ملك له قوّة وسلطة، والملوك مفسدون مسيطرون، فعلينا أن نتصرّف تصرّفاً آخر. أمّا إذا كان نبيّاً، فهناك ردّ آخر سوف أتعامل به معه، ولذا سوف أرسل هدية وأنتظر ردّ الفعل على الهديّة.

ورفض سليمان الهديّة وهدّد، وجاءت إليه، ونقل عرشها بالطّريقة الإعجازيّة الغيبيّة، ودرست فكر سليمان وروحيّته، وعندما تحدّث معها بالإيمان والإسلام، اقتنعت، وبعد ذلك رفعت يديها إلى الله {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[النّمل: 44]، ليس خضوعاً له، أسلمت معه لأنّه أقنعنها واستطاعت أن تجد الضّوء وتجد الهدى والانفتاح من خلاله، وأسلمت مع سليمان وبقيت على موقعها كملكة، ودخلت في الإسلام مع سليمان لا وراءه.

هذا النّموذج نموذج امرأة بربع عقل؟ هذه منشورات لا أصل لها في المقام.

وهكذا امرأة فرعون، امرأة إله يقول {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}[النّازعات: 24]، بحسب الصّفة الرسمية تكون زوجة الإله، هل هناك مركز أكبر من هذا؟! النّاس، الخدم، الذّهب... ولكنّها كانت الإنسانة التي عرفت الله بعقلها، وعرفت من خلال عقلها أنّ هذا الّذي هي فيه زائل مزيَّف، ومنطلق من خلال ظلم النّاس: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[التّحريم: 11].

أيّها الرّجال، أيّتها النّساء، لتكن امرأة فرعون القدوة لكم في رفض زخارف الحياة الدّنيا إذا تعارضت مع المصير في الآخرة... امرأة فرعون الّتي رفضت فرعون، وكانت تعيش معه نتيجة الضّغوط الصّعبة القاسية التي تحيط بها، وطلبت من الله أن ينجّبها من فرعون في ادّعائه الربوبيّة، ومن ظلمه للنّاس، ومن كلّ هؤلاء الذين يقدّسونها ويعظّمونها ويخرّون ساجدين أمامها.. فأيّ عقل أرفع من هذا العقل؟!

لذلك، لنتعوّد أن يحترم بعضنا بعضاً. فكما من حقّك أن يكون لك رأي، من حقّ الإنسان الآخر أن يكون له رأي.

الآن، زوجتك متعلّمة وأنت متعلّم، فلماذا رأيك هو الّذي يسبق رأيها مثلاً؟!

الرّأي هو إنّما مسألة فكر؛ أنا أفكّر وأنت تفكّر، الرجل يفكّر والمرأة تفكّر، قد تخطئ المرأة وقد يخطئ الرّجل، قد يصيب الرّجل وقد تصيب المرأة...

الله يقول للنبيّ (ص): {وشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ}[آل عمران: 159].

شاور واسمع الرأي الآخر، رغم أنّ النبيّ (ص) لا يحتاج إلى المشورة، وهو الّذي {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}[النّجم: 3 ـ 4]. لكن حتى يعلم كلّ قياديّ وكلّ مسؤول أن لا يتّخذ قراراً إلّا بعد أن يثير الرّأي فيمن حوله، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[الأحزاب: 21]. فالرسول مؤيَّد بعصمته وبالوحي وبألطاف لا يحتاج معها إلى أحدٍ، ولكنّ الإنسان لا يقوم بأيّ أمر من الأمور إلّا بعد أن يستشير من حوله.. حتّى في المهمات الصّعبة، شاور وناقش، وليكن الرأي في النّهاية لك.

الرّجل لا يكون مستبدّاً، وهذا لا ينقض من عرش الرّجولة، بل أن يكون إنساناً. هناك فرق بين أن تكون جبّاراً وبين أن تكون إنساناً.

الشَّخص الذي يستبدّ بزوجته، بأولاده، ببناته، بإخوانه، بموظّفيه... هذا جبّار. الله يريد أن تكون إنساناً تتحسّس من حولك في كلّ نقاط ضعفهم وقوّتهم، وفي كلّ ما لديهم من آلام وأحلام، وكلّ ما عندهم.

البعض يتصوّر أنّه إذا كان الرّجل لطيفاً مع بناته وزوجته يكون ضعيفاً. بالعكس، عليك أن تربح محبّتهم لا أن تخيفهم. هناك فرق بين أن تعيش مع إنسان يخاف منك، وبين أن تعيش مع إنسان يحبّك.

عندما تعيش مع إنسان يخاف منك، لا تشعر بأنّ هناك حياة طبيعيّة، يقول لك سمعاً وطاعة وهو يبكي، ويقول اللّهمّ خلّصني من هذه الحياة، ويشكو هنا وهناك، لكن عندما يحبّك لأنّك احترمت انسانيّته ونقاط ضعفه، يفديك.

يقولون "الطّبخ نَفَس". قد يكون من أفضل الطبّاخين، لكن ليس عنده نَفَس، وقد يكون طبّاخًا عاديًّا وعنده نَفَس.

الأخلاق القرآنيّة

علينا أن نعيش سويّاً، أيّها الأحبّة، بالطريقة التي تجعلهم ينفتحون علينا كما ننفتح عليهم، أن نحاول أن نوسّع صدرنا، أن نحترم النّاس الآخرين.

أيّها الأحبّة، إنّ حسابات الله أكبر من حساباتنا. ورد عن النبيّ (ص): "خيركم خيركم لأهله"، أفضل الناس من كان يرعى أهله الرّعاية الأفضل "وأنا خيركم لأهلي" .

جميل أن يشعر من حوله بالطّمأنينة والرّاحة معه. هذه الحياة جميلة، وإذا كانت بالضّغط والسبّ، فلن يعرف هو كيف يعيش، ولن يريح عيره. فالإنسان الذي لا يألف ولا يؤلف هذا من شرار الخلق.

هذا هو القرآن، أيّها الأحبّة، وعلينا أن نكون القرآنيّين في أخلاقنا، حتى ننطلق إلى الله، لنقف بين يديه، ولنقول له لقد عشنا حياتنا من خلال كتابك، فأعطنا جزاءنا من خلال ثوابك.

والحمد لله ربّ العالمين.

* موعظة رمضانيّة لسماحته، بعنوان: وصيّة الإمام عليّ (ع) في القرآن، بتاريخ: 1 آذار 1995م.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية