دراسات
13/05/2013

الخطوط العامّة في منهج السيّد فضل الله في معرفة الله

الخطوط العامّة في منهج السيّد فضل الله في معرفة الله
يمتاز نهج المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض) في المعرفة الرّوحيّة بالخصائص التالية:
1 ـ الإيمان بأنَّ القرآن هو مصدر المعرفة الأوَّل {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}[البقرة:2]. وفي ذلك يقول السيّد فضل الله: "إنّني أعدّ القرآن كتاب المعرفة، بحسب مدلولاته الثّقافيّة الّتي تتحرّك بها ظواهره الّتي يفهمها الإنسان العاديّ بعقله وقلبه وإحساسه وشعوره، بعيداً عن كلّ التكلّفات الفلسفيّة في هذا المجال".
فالقرآن خاطب النّاس جميعاً، بكلّ شرائحهم الاجتماعيّة والإنسانيّة، حتّى إنّ الإنسان العاديّ البسيط الّذي لا يسبر غور المعاني الكامنة في الآيات، يقرأ القرآن ويفهمه انطلاقاً من العقل والقلب، من دون إلمامه بقضايا الفلسفة ومسائلها الغامضة، مع العلم بأنّ الله قد تحدّى الثّقلين قائلاً: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[الإسراء:88].

يقول الشاعر:

حسبي إذا القرآنُ عاشَ بخاطري   فكرٌ رحيبٌ في المدى جوّالُ
ومواقف للحقِّ تحتضن الهدى    في دربِها، وتحوطُها الآمالُ
الصِّدقُ موعدها إذا اهتزَّ السُّرى   في وحيِه واشتدّتِ الأهوالُ
والخيرُ موردها إذا ما استسلمت   للشرِّ في خطواتِها الأجيالُ
والله مقصدها، ففي آياتِه       تتعانقُ الأقوالُ والأفعالُ

2 ـ المعرفة هي حركةٌ روحيّةٌ عمليّةٌ مع الله: لأنَّ المعرفة، في رأي السيد فضل الله(رض)، ليست بعداً عن الواقع واستغراقاً في التّجريد فحسب، إنما هي ما "يُمثّل العلاقة الشّعوريّة القلبيّة بالله، من خلال انفتاح إحساس الإنسان على الله، بما يعيشه ولا يملك التّعبير عنه، والحركيّة الروحية في عالم الممارسة العملية مع الله". وعلى الشَّاعر الإنسان أن يعيش الواقع ويتحرّك من خلاله، وهو ما حثَّ الله تعالى عليه: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً}[النّساء: 97]، وهذا ما يمثّل عمق العلاقة بين المخلوق وخالقه والكون، فيمارس العمل مع الله سبحانه والنّاس من حوله، وإذا انفتح إحساس الإنسان على الله تعالى، أدرك سرّ وجوده وحياته. يقول الشّاعر:

فكرتي في مدايَ أن يخطو الإسلام في الكون، في الذّرى الشمَّاءِ
في انطلاقِ الوجدانِ، في الفكرِ، في الحسِّ المندَّى بالحبِّ والنَّعماءِ
 
3 ـ الدّعاء وسيلة للتقرّب إلى الله تعالى: فمن خلال واقع العلاقة بين العبد وربّه، يشعر الإنسان بالحاجة إلى التقرّب إلى الله أكثر، وذلك "في ابتهالات الإنسان، في صلاته، ودعائه، وتأمّلاته، واعترافاته، وعيشه الدّائم مع الله، وطاعته له في كلّ أموره".
فالدّعاء صلاةٌ روحيّةٌ بين العبد والمعبود، والعارفون هم الدّاعون والدّعاة إلى الله، يتضرّعون إليه في البأساة والضرّاء: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}[السّجدة: 16]، وهو يمثّل السّلاح بين يدي الدّاعي {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ}[الفرقان: 77]. يقول الشّاعر:

(البحر الخفيف)
أنا ـ يا ربّ ـ غارقٌ في بحارِ الوهمِ أحياهُ في الخيالاتِ شِعْرا
أعطني اللّطفَ والطّمأنينةَ الخضراءَ حتى أحوّلَ الشَّوكَ زهْرَا
أنتَ ربّي، من لي سِوَاك، فهبني نعمةَ الحقّ في نجاواكَ ذِكْرا
4 ـ حقيقة الإنسان العارف: وهو المتميّز في علاقته وفي معرفته بالله، فـ"العارف/ الشّاعر هو الإنسان الّذي يعيش مع الله تعالى حتى وهو يعيش لذّاته وشهواته، حتى وهو يفكّر، وهو يتنفّس وهو يعيش، لأنَّ الله تعالى هو سرُّ وجوده وسعادته". فالله لم يحرّم على النّاس الطيّبات {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}[الأعراف: 32]. لكن علينا أن نعلم أنّ كلّ ما نعيشه ونلتذّ به هو من فيوضات الله علينا{قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ}[الملك: 23]. فالله أقرب إلينا من دمنا السّاري في عروقنا، ولا يغيب عنّا لحظةً واحدةً{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}[ق: 16].(البحر الخفيف)

في صلاتي لمحتُ معناكَ يا ربِّ امتداداً للنّورِ في الآفاقِ
وتأمَّلتُ... نحنُ إبداع ُكفّيْكَ، مدانا مطالِعُ الإشراقِ

5 ـ معرفة الله هي الحضور الدّائم مع الله سبحانه وتعالى: فتذكُّر الله تعالى هو طمأنينةٌ للإنسان، لأنّ التذكّر هو تواصلٌ بين العبد والخالق {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}[الرّعد: 28]. فالمعرفة إذاً، حضور الله في النّفس، وهي "حضورك الدّائم مع الله الّذي ينمّي تجربتك في الحياة، ويجعلك أكثر تحمّلاً لمسؤوليّاتها، لا الّذي يعزلك عن الحياة والإنسان". إنّ هذا الحضور يمنح الإنسان الحركة الحيويّة، ليكون خليفة الله في أرضه، تُلقى على عاتقه المسؤوليّات الجسام، فيعمل ويجدّ ويثابر وهو يذكر الله تعالى.

يقول الشّاعر:
(البحر الخفيف)
إنّنا مسلمونَ... كلُّ تحايانا سلامٌ ودعوةٌ للّقاءِ
لحياةٍ تهفو، لقلبٍ يرفُّ الحبُّ فيه، في أغنياتِ الإخاءِ
وكيانٍ يشدُّهُ الحقُّ بالقوّةِ والعزمِ في طريقِ السّماءِ
إنّنا مسلمونَ، ولتشهد الدُّنيا بأنّا في موكِبِ الأنبيَاءِ
6 ـ معرفة الله هي حضور الواقع في الذّات: وهذا ما تمثّله سيرة الأنبياء والأئمّة، الّذين عاشوا الواقع بكلّ تفاصيله، ولم يبتعدوا عنه قيد أنملة، بل سعوا إلى تغييره. ويضرب القرآن الكريم في ذلك العديد من الأمثلة:{وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ* إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ* قَالُواْ وَجَدْنَآ آباءنَا لَهَا عَابِدِينَ* قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وآبَآؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}[الأنبياء: 51 ـ 54].
إنّ هذا الحوار بين إبراهيم(ع) وأبيه وقومه، دلالة واضحة على أنّ الأنبياء كانوا يعيشون في قلب الواقع، ولهذا "نجد الأنبياء، وهم الّذين يعيشون قمّة المعرفة الإلهيّة، كانوا أكثر ارتباطاً بالحياة وبمسؤوليّاتهم عن الإنسان، لأنّ الحياة هي خلق الله، ولأنّ الإنسان هو عيال الله. ولذلك، لا بدّ لنا عندما نتحرّك مع الله، من أن لا نغيب عن الواقع، بل نكون أكثر استغراقاً فيه". إنَّ الحياة نعمة من الله، والإنسان أفضل خلقه، وأقرب النّاس إلى الله تعالى أنفعهم لمن حوله، ولذلك على الإنسان معايشة واقعه.

يقول السيّد:
(البحر الخفيف)
إنّنا مسلمون، نؤمنُ بالإنسانِ.. نحياهُ فكرةً وشعورَا
نلتقي في مداهُ بالخيرِ يبني لحياةِ الهدَى كياناً كبيرَا
نحملُ الحبَّ، نزرعُ الأرضَ بالألطافِ خيراً ورحمةً وسرورَا
ويعيش السّلامُ أحلامَهُ الخُضْرَ بأعماقِنا حياةً ونورَا
إنّ هذه الخطوط العامّة في منهج السيّد فضل الله في معرفة الله تعالى، جسّدها في شعره، لأنّه يعدّ "الشّعر مرآة الواقع للإنسان في حياته". وبما أنّ معرفة الله عنده تحمل هذه الدّلالات، والّتي تلتقي مع توجّهه الرّوحيّ في سيره وسلوكه وحياته، يقول سماحته: "لقد التقيت بالمعرفة بهذا المعنى الرّوحيّ البسيط منذ طفولتي"، حيث رأى في لحظات المناجاة والتوسّل والدّعاء، قمّة العلاقة الرّوحيّة التي شكّلت رؤى جسّدها شعراً. يقول:

(البحر الخفيف)
تلكَ دنياكَ تمنحُ الفرحَ الرّوحيَّ، تعطيكَ أمنياتِ الفؤادِ
فاحفظِ الخطوَ، لا تخدِّركَ أشواقُ الغدِ الحلوِ عن طريقِ الرّشادِ
لا تدعْ فرحةَ الحياةِ تغشيكَ، فتعمى عن الشُّعاعِ الهادي
إنّها سنّةُ الوجودِ منى تزهو وأخرى تموتُ في الأصفادِ
لا بدّ من أن تكون نظرة الشّاعر إلى الله سبحانه وتعالى نظرةً خاصّةً تحوي عمق ما كان يشعر به ويعيشه ويتحسّسه ويراه في الخالق العظيم؛ فالله ليس إله العباد فحسب، بل إنّه بديع السّماوات والأرض، الخالق على غير مثال، الملك المتفرِّد بالعلوِّ. فإذا بالشَّاعر يعيشُ مع الله تعالى حتَّى والنَّاس من حوله، ليأخذ منه لحظة طمأنينة وسعادة، وإذا به ينظر إليه بعين اليقين على أنّه العلاء العظيم، والمهيمن على كلّ شيء. يقول السيّد الشّاعر:

(البحر الخفيف)
أنا يا ربِّ في طريقٍ أحثُّ الخطوَ نحو العُلا وأنت العلاءُ
فاهدني الدّربَ، إنَّ خطوي حيرانُ ودنيايَ حيرةٌ وشقاءُ
أنا إمَّا جلسْتُ في اللّيلِ ألقاكَ بقلبٍ يموجُ فيه الصّفاءُ
كصباحٍ تنوِّرُ الشّمسُ جفنيْهِ وتزهو بجانحيْهِ السّماءُ
وإذا لفَّني النَّهار مع النَّاس، وحنَّت لرجسِها الأهواءُ
فأنا تائهٌ فقد يجمع الخطو، وقد يحجب الضّياءُ بلاءُ
سرعة في اللّسان، قد يحجب التّفكير فيها مع الضّجيج هراءُ
واضطرابٌ في فكرةٍ لسْت أدري كيف غشّى نجوى هداها الغِشاءُ
وإذا بي وقد حملتُ ذنوبي فوقَ ظهري ... يقودُني الإعياءُ
ويعودُ المساءُ فالقلبُ في نجواكَ حرٌّ وفي الشِّفاهِ نداءُ
وإذا بالحياءِ يلجمُ نجوايَ فهل شافعٌ لديكَ الحياءُ

نلاحظ في تركيب النّصّ الحضور القويّ لذات الشّاعر، وذلك من خلال الضّمير المنفصل "أنا" و"ياء المتكلّم"، في (طريقي، فاهدني، خطوي، لفّني، أنا، أدري، بي، ذنوبي، ظهري، يقودني، نجواي...)، والضّمير المستتر وجوباً في الفعل "أحثّ". هذا الحضور للذّات يسخّره الشّاعر نحو هدفٍ واحدٍ، يسعى إليه بكلّ ما أوتي من قوّة، وهو الوصول إلى العلاء المطلق/الله تعالى. وإن دلّ هذا التّركيب الخبريّ على شيء، فإنّما يدلّ على أنّ العلاقة بين الشّاعر والله سبحانه ليست علاقةً عاديّةً، وأنّ نظرة الشّاعر إلى الله تعالى، هي نظرة من يدرك دونيَّته، مقابل ترفّع الباري في رحاب الملكوت الأعلى، والعلاء الّذي تفرّد به الله وحده: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}[الأعلى: 1]، {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ}[طه: 114].

وبالانتقال إلى التَّراكيب، يطالعنا الضَّمير "أنا"، وهذا الضمير مبتدأ تقابله جملة معترضة ـ "يا ربّ" ـ وهي جملة إنشائيَّة أسلوبها النِّداء. ويحمل هذا الأسلوب هويَّة المناجاة والدّعاء، وكأنَّ الشّاعر بعد ذكره "للأنا" المختصّة حقيقةً بالباري تعالى، كونها من أسمائه الحسنى، {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا}[طه: 14]، ينتبه من غفلته ليعترض "أنا" المعبّرة عن ذاته بأسلوب النّداء الّذي توجّه به إلى الله، ليؤدّي هذا النّداء وظيفةً تعبّر عن تنبّه الشّاعر مما وقع فيه.
ويأتي تركيب الجار والمجرور "في طريقي" ليعطيا بُعداً مكانيّاً لتحرّك الشاعر في سيره وسلوكه؛ هذا السّير الّذي وظّفه الشّاعر ليدلّ من خلاله على أنّه في هذه الحياة وفي طريقها الّذي يسلكه يسعى، وسعيه ليس سعياً وراء الجاه والعظمة والمكانة المرموقة، فإذا ما قال "أحثُّ"، تبادر إلى الأذهان فعل الحركة في هذا الفعل الّذي يدلّ على السّرعة والحيويّة، ليخرجه من دلالته الحقيقيّة، حيث أسنده إلى الخطو، فهو يحاول أن يحثّ الخطو على الإسراع، ليعبّر عن مدى شوقه وتوقه لنيل العلا والسموّ بذاته نحو الله المتفرِّد بالملك والسموّ والعظمة.

فالضّمير "أنت" المنفصل، أورده الشّاعر على سبيل الابتداء، ليستدرك الخبر "العلاء" وجهته ويحدد سيره وسلوكه الّذي بدأ من قبل الشّاعر بفعل عملٍ إراديّ، وانتهى بالله تعالى/ "العلاء"/ والترفّع، تاركاً بين شفتي الشّاعر لهجة النّداء والدّعاء، والاعتراف بالعجز، والسّعي الحثيث للوصول إلى موقع العلاء، حيث رضا الله والانفتاح على رحابه.
والله ليس علاءً فقط، إنّه في نظر الشّاعر حقيقة مطلقة، رآها في كلّ شيء، لأنّه أراد أن يعيش الله في كلّ تحركاته وسكناته. يقول:

(البحر الخفيف)
"ربِّ أنتَ الحقيقةُ الحقُّ، من لي أن أناجيكَ في خشوعِ الحنينِ
كلّما امتدّ بي إليكَ وجودي باحثاً خلفَ سرِّك المكنونِ
وتسلَّقْتُ كلَّ آياتِك الكبرى إلى وحيِك الحبيبِ الحنونِ
كلَّما لاحَ لي الشُّعاعُ وأيقنْتُ بأنّي حطّمْتُ كلَّ سجوني
ردّني عالمي فأوشكْتُ أن أهويَ في التّيهِ في غمارِ الظُّنونِ

نلاحظُ في هذا التّركيب أيضاً حضور أسلوب النّداء. ولعلَّ واقع العلاقة بين المخلوق والخالق، القائم على المناجاة والدّعاء، يستدعي حضور مثل هذا الأسلوب، فهذا الحضور ليس مستغرباً في حالةٍ إنسانيَّةٍ وجدانيَّة تقوم على المناجاة والدّعاء، فقد يعدُّ الشَّاعر أنّ طريقة الحديث مع الله تعالى تقوم على هذا الأساس، فهو يمثّل عمق الصّلة الروحيّة بين العبد وخالقه، الّذي يمثّل في نظر الشّاعر "الحقيقة الحقّ التي يبحث عنها الضالّون والتّائهون، ويتوق إلى معرفة كنهها كلّ الرّاغبين في المعرفة". وقد تم إسناد "الحقيقة" إلى الضَّمير المنفصل "أنت" العائد إلى الله تعالى، وكذلك صفة الحق، وهو اسم من أسماء الله الحسنى، فهو الملك الحقّ والكبير المتعال، وهذا المعنى الّذي يلتقي فيه الشّاعر مع المفهوم القرآنيّ، لم يقدّمه لنا مباشرةً، وإنما من خلال الإسناد الّذي قام بين الضّمير "أنت" المبتدأ، والخبر الحقيقة، والصّفة الحقّ.
ويأتي أسلوب الاستفهام بواسطة "من" ليعبّر الشّاعر عن أنّه لا يأمل استجابة مناجاته إلا من الله، وأن لا وجود خارج الله الّذي وهب الحياة للكون، وهي نعمته الكبرى {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}[الملك: 2].
وإذا ما أسند الشّاعر الحياة إلى الفعل المضارع "تخضرّ"، خرجت هذه الحياة عن نسقها الموضوعيّ ليمنحها الشّاعر هويّةً نباتيّةً، أو يجعلها تصبح ربيعاً أخضر، وكأنّ الشّاعر كان يعيش حالة الموت والتّلاشي في أعماقه، وإذا بالحياة التي خرجت من الله "تخضرّ" "في روحه"، وبذلك اتّخذت هذه الحياة بعداً آخر هو الشّباب الّذي يمثّل العنفوان والزّهو في الذّات؛ فالاخضرار في روح الشّاعر يعني بعث القوّة والنّشاط في كيانه، {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ}[الأنعام: 122]. ولكنّ نبات الشّاعر الّذي نما في روحه وأعماقه، ليس جنّات أو حبّاً فحسب، بل هو الحياة كلّها؛ هذه الحياة التي يمنحها الشّاعر هويّةً جديدةً تضيء الهويّة الأولى، وهي الحال "زهواً"، في ما يمثّله الزّهو من فرحٍ وسعادة؛ فالحياة النباتيّة المخضرّة في روح الشّاعر تزهو وتختال، وكأنّ الماء الّذي نزل على أرضها أنبت الفلّ والياسمين الّذي خرجت الحياة به لتختال مزهوّةً فرحة، وإذا بالفلّ والياسمين يرتبطان ارتباطاً وثيقاً بسياق الحديث عن الحياة الّتي منحها الله للشّاعر حيويّةً ونضارةً وزهواً وإشراقة ورد تعطّر برائحتها الزكيّة أعماقه، وتمنحه الأمل والضّياء.
لقد نظر الشّاعر إلى الله تعالى نظرةً خاصّةً، وكان لهذه النّظرة أبعد الأثر في نفسه، لأنّه شكل حركة الحبّ النابعة من قلبه، والّتي غمرت كلّ كيانه، لذلك اعتبر أن المعرفة هي الحضور الدّائم مع الله، وهي تغني تجربة الإنسان الروحيّة، والله تعالى هو سرّ وجود الإنسان وسعادته، فالحياة "هي خلق الله والإنسان هو عيال الله"، والشّاعر كبقيّة المسلمين، يعتقد بقدرة الله وعظيم ما يمنحه للإنسان.
يقول السيد في قصيدة من الشّعر الحرّ:

( البحر الرّجز)
"فنحنُ مسلمونَ
نؤمن باللهِ...
الّذي فجَّر في الإنسانِ...
طاقاتِ فكرٍ... يصنعُ الحياةَ كالجنانْ
ويلتقي بالأرضِ، والفضاءِ والزّمانْ
ليكشف السرَّ الّذي تحضنُهُ الأكوانْ"

ينطلق الشّاعر في بداية قصيدته من فكرة خبريّة، تفيد الإقرار والخضوع والانتماء إلى الدّين الإسلاميّ الحنيف، الّذي يؤمن به ويعتقده إسلاماً ينطلق من الإيمان بالله، عملاً بقوله تعالى:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}[البقرة: 285]، وهذا ما دفعه إلى الاعتقاد والإيمان بالله إلهاً واحداً لا شريك له، وكلّ ما في الوجود فيضٌ من الباري الذي فجّر في الإنسان طاقات فكرٍ، يصنع الحياة كالجنان، والله هو الّذي "فجّر الأرض عيوناً"، يفجّر في ذات الإنسان كلّ قدرة على الإبداع والعطاء؛ فإذا ما جعل من الماء كلّ شيء حيّ، وخلق من الماء جنّاتٍ من نخيلٍ وأعناب تبهج العين والقلب، كذلك فجَّر طاقات الإنسان لتصبح جنائن غنّاء خضراء مليئة بالحيويّة، فإذا بها تخرج عن وضعها الطّبيعي، فيها الخير والمحبّة وحبّ العطاء، وهذا الفكر الّذي فجّره الله، يلتقي بالأرض الّتي أسال الله الماء عليها، فاستحالت رياضاً جميلة، ولا يكتفي الفكر بلقاء الأرض، بل يمتدّ لقاؤه ليطال الفضاء؛ هذا الفضاء الّذي أنزل الله منه المطر، فسال أوديةً وينابيع في الأرض، تطاول الكائنات في كلّ آنٍ ومكان.
وإذا ما طاول الفكر الفضاء والزّمان، وكما إنّ الماء الّذي يفجر في الأرض يكشف فيها الزّرع والنّبات والعشب والجمال، فإنّ الفكر يكشف السّرّ الّذي تحتضنه الأرض ويضمّه الفضاء ويخفيه الزّمان.
إنّ الله تعالى في نظر الشّاعر واحد أحدٌ تنـزّه عن مجانسة مخلوقاته، فكلّ ما في الدّنيا فيض من رشح عطائه، وكلّ كائنٍ مصيره الفناء، ولا خالد إلا الله. يقول الشّاعر:

(البحر الخفيف)
"أحدٌ أنت يا إلهي من النَّاس، وما الكونُ؟ أنتَ أنتَ الحقيقةْ
كلُّنا في الظّلالِ نخطو وفي الشّمسِ تزولُ الظّلالُ وهي مشوقَةْ
لكَ حبّي في روعةِ اللّيلِ في هدأةِ أحلامِهِ العذابِ الرّقيقةْ
وعلى موعدِ الضّياءِ، تلفَتُّ لأرعَى على هُداكَ شروقَهْ
وأنا ها هُنا تنهّدُ روحٍ، بعثرَتْ فتنةُ الضّلالِ طريقهْ"د

قدّم الشّاعر الخبر "أحد" لإظهار أهميّة الوحدانيّة الّتي تمثل جوهر المعرفة بالله، فالله تعالى إلهٌ واحدٌ لا شريك له، وفكرة الألوهيّة تختلف بمفهومها عند البشر، والله تعالى عبّر عن هذه الفكرة في أكثر من مكانٍ وموضعٍ في القرآن الكريم، حيث ذكر تعالى:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ* اللَّهُ الصَّمَدُ* لمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:1-3]. وفي آيةٍ أخرى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}[الكهف: 110].

هكذا رأى الشّاعر الله، واحداً لا شريك له ولا نظير، ناجاه بواسطة حرف النّداء "يا" متلذّذاً بذكره، وشاعراً بالطّمأنينة بهذا الذّكر، لأنّ به تطمئنّ القلوب وتهدأ النّفوس. ويأتي أسلوب الاستفهام "من النّاس، وما الكون؟"، ليفيد الشّاعر من خلال هذا الاستفهام بأن لا وجود للحقيقة خارج الله سبحانه الّذي خلق الكون على غير مثال، وخلق الإنسان والسّماوات والأرض والجبال والبحار والأنهار واللّيل والنّهار.

فحقيقة النَّاس والكون مستمدَّة من حقيقة الله تعالى الّذي طلب من الإنسان أن يتساءل عن عظمة خلقه وحكمة خالقه:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}[فصّلت:53]. وقد أورد الشّاعر الاستفهام للدلالة على مدى صغر النّاس والكون أمام عمليّة الخلق العظيمة التي تبرهن على عظم الخالق الّذي يعود الشّاعر إلى مناجاته: "أنت أنت الحقيقة"، منتقلاً إلى توكيد الضّمير المبتدأ "أنت" الأوّل، بالضّمير "أنت" الثّاني، لأنه لا حقيقة إلا الله، ولا وجود لكلّ ما خلق تعالى خارج ذاته القدسيّة، فحضور الضّمير (أنت) ثلاث مرَّاتٍ في الشَّطر الأوَّل والثّاني، هو لقاءٌ بين فكرة الوحدانيّة والألوهيّة الّتي تتمثّل بالله تعالى، وفكرة الحقيقة المطلقة التي لا تصوّر لها ولا وجود أو واقع خارج الذّات الإلهيّة، ولا حقيقة غير الله، والتّأكيد أنّ كلّ شيء فانٍ ومصيره الزّوال، وتبقى هذه الحقيقة الخالدة.

وفي هذا، يلتقي الشّاعر مع مفاهيم الآيات التي يتحرّك شعره في أجوائها وعبر رحابها:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ* ويَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}[الّرحمن: 26-27]. و"من" للعاقل، وهي الّتي ذكرها الشّاعر في معرض تساؤله (من النّاس؟؟)، و{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[القصص: 88]. والشّيء هنا لغير العاقل يستدعي وجود "ما" الدالّة على غير العاقل في تساؤل الشّاعر (ما الكون؟؟) خارج الحقيقة الإلهيّة، وبعيداً عن الله الّذي خلق على غير مثال، وهو قادر على أن يخلق مثلهم ساعة يشاء، فإذا ما كان الله تعالى هو الحقيقة الّتي لا وجود لشيء من دونها، كان التحرّك خارجها، تحرّكاً في الظّلال لا في النّور، لأنّ الله نور السّموات والأرض يهدي لنوره من يشاء.
ولذا، نرى الشّاعر ينتقل في التّركيب الثّاني إلى صورة السّعي، والخطو في الظّلال التي تمثّل ظلمات الحياة وما يعترض الإنسان من مشاكل ومخاطر لا يجرؤ على مقاومتها أو صدّها إلا بالتزوّد من شمس الحقيقة ونور اليقين. والمبتدأ "كلّ" المضاف إلى ضمير المتكلّمين "نا"، تأكيد من الشاعر أنّ البشر جميعهم على حدٍّ سواء يخطون في الظّلال. وفي إسناد الفعل "نخطو" إلى الشّاعر وغيره، إسناد حقيقيّ فيه دلالة على السّير والسّعي في هذا الوجود، ولكن السّؤال هو: أين خطو الشّاعر وغيره؟ هل هو في طريق الهدى والنّور؟

و{اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}[البقرة: 257]. إنّ خطو الشّاعر وباقي النّاس هي في الظّلال الّتي لا تتّضح فيها السّبل حقيقةً أمام الشّاعر وغيره. فالظّلال كناية عن الأفياء الّتي تحمل دلالة الظّلام، مقابل نور الهدى والإيمان والرّشاد الّذي اختصّ به الله تعالى، الّذي آمن به الشّاعر أحداً، حقيقةً، لا وجود خارجه، ثم بيّن أنّ السّلوك والسّير خارج هذه الحقيقة هو خروج عن النّهج الواضح المنير، إلى دنيا الجهل والظّلام.
وتأتي "واو" الحال لتسهم في إغناء هذه الصّورة الّتي رسمها الشّاعر؛ فالشّمس إذا ما ظهرت بدّدت ظلمة اللّيل والظّلال وأوضحت معالم الأشياء، كما أوضح الله تعالى سبيل السّالكين في دربه ونهجه، فالشّمس هي نور الله الّذي يزيل ظلام الجهل والانحراف، وينطلق بالإنسان في رحاب السّحر والجمال والرّؤية اليقينيّة التي لا ضباب يحجبها عن عيون المهتدين، وإذا ما خطرت شمس الإيمان وانبلج نور الله زالت هذه الظّلال، و"هي مشوقة"، وواو الحال هنا أيضاً تصويرٌ من قبل الشّاعر للظّلال التي أخرجها عن نسقها الموضوعيّ، ليمنحها هويّةً إنسانيةً جديدةً، من خلال لفظة "مشوقة"، وكأنّ الظّلال التي يخطو فيها الشّاعر مع غيره، تشتاق هي الأخرى إلى نور الحقيقة واليقين ليشرق على الجميع، فيعيش النّاس والكون بأجمعه نور الحقّ اليقين، ومشكاة الأنوار {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ}[النّور: 35].

هكذا نجد نظرة الشّاعر إلى الله تعالى نظرةً مختلفةً عن نظرة النّاس؛ هذه النّظرة عاشها الشّاعر في معظم قصائده الّتي انفتح بها على الله سبحانه، وعاش كلّ مشاعره وأحاسيسه من خلالها مع الله تعالى. ولذلك، نجد أنّ هذا الجوّ فرض على الشّاعر حالةً خاصّةً تحمل الكثير من الشفافيّة والرّوحانيّة، وهذا ما أكّده الشّاعر: "أنا عشت في كلّ تجربتي مع الله، عشت مع الله في آلامي وفي أحلامي وفي علاقتي بالحياة وبالنّاس في كلّ التّفاصيل التي تمرّ بالحياة".
وقد أظهر الشّاعر في شعره مدى هذه التّجربة التي فتح من خلالها كلّ كيانه على الله تعالى، والتي يشكل عمقها خير شاهدٍ على ما ذكره من ارتباط كلّ تفاصيل حياته بالله.

فالتّجربة الشّعريّة الّتي هي أصدق تعبيرٍ عن حياة الإنسان وواقعه، دلالة واضحة على أنّ الشّاعر عاش مع الله في أدقّ تفاصيل حياته، حتى إنّه كان يتهيّأ الفرصة المناسبة لأخذ لحظة عرفانيّة يعيشها مع الله تعالى.

المصدر: كتاب "الاتجاه الرّوحيّ في شعر السيّد محمّد حسين فضل الله".
 
يمتاز نهج المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض) في المعرفة الرّوحيّة بالخصائص التالية:
1 ـ الإيمان بأنَّ القرآن هو مصدر المعرفة الأوَّل {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}[البقرة:2]. وفي ذلك يقول السيّد فضل الله: "إنّني أعدّ القرآن كتاب المعرفة، بحسب مدلولاته الثّقافيّة الّتي تتحرّك بها ظواهره الّتي يفهمها الإنسان العاديّ بعقله وقلبه وإحساسه وشعوره، بعيداً عن كلّ التكلّفات الفلسفيّة في هذا المجال".
فالقرآن خاطب النّاس جميعاً، بكلّ شرائحهم الاجتماعيّة والإنسانيّة، حتّى إنّ الإنسان العاديّ البسيط الّذي لا يسبر غور المعاني الكامنة في الآيات، يقرأ القرآن ويفهمه انطلاقاً من العقل والقلب، من دون إلمامه بقضايا الفلسفة ومسائلها الغامضة، مع العلم بأنّ الله قد تحدّى الثّقلين قائلاً: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[الإسراء:88].

يقول الشاعر:

حسبي إذا القرآنُ عاشَ بخاطري   فكرٌ رحيبٌ في المدى جوّالُ
ومواقف للحقِّ تحتضن الهدى    في دربِها، وتحوطُها الآمالُ
الصِّدقُ موعدها إذا اهتزَّ السُّرى   في وحيِه واشتدّتِ الأهوالُ
والخيرُ موردها إذا ما استسلمت   للشرِّ في خطواتِها الأجيالُ
والله مقصدها، ففي آياتِه       تتعانقُ الأقوالُ والأفعالُ

2 ـ المعرفة هي حركةٌ روحيّةٌ عمليّةٌ مع الله: لأنَّ المعرفة، في رأي السيد فضل الله(رض)، ليست بعداً عن الواقع واستغراقاً في التّجريد فحسب، إنما هي ما "يُمثّل العلاقة الشّعوريّة القلبيّة بالله، من خلال انفتاح إحساس الإنسان على الله، بما يعيشه ولا يملك التّعبير عنه، والحركيّة الروحية في عالم الممارسة العملية مع الله". وعلى الشَّاعر الإنسان أن يعيش الواقع ويتحرّك من خلاله، وهو ما حثَّ الله تعالى عليه: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً}[النّساء: 97]، وهذا ما يمثّل عمق العلاقة بين المخلوق وخالقه والكون، فيمارس العمل مع الله سبحانه والنّاس من حوله، وإذا انفتح إحساس الإنسان على الله تعالى، أدرك سرّ وجوده وحياته. يقول الشّاعر:

فكرتي في مدايَ أن يخطو الإسلام في الكون، في الذّرى الشمَّاءِ
في انطلاقِ الوجدانِ، في الفكرِ، في الحسِّ المندَّى بالحبِّ والنَّعماءِ
 
3 ـ الدّعاء وسيلة للتقرّب إلى الله تعالى: فمن خلال واقع العلاقة بين العبد وربّه، يشعر الإنسان بالحاجة إلى التقرّب إلى الله أكثر، وذلك "في ابتهالات الإنسان، في صلاته، ودعائه، وتأمّلاته، واعترافاته، وعيشه الدّائم مع الله، وطاعته له في كلّ أموره".
فالدّعاء صلاةٌ روحيّةٌ بين العبد والمعبود، والعارفون هم الدّاعون والدّعاة إلى الله، يتضرّعون إليه في البأساة والضرّاء: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}[السّجدة: 16]، وهو يمثّل السّلاح بين يدي الدّاعي {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ}[الفرقان: 77]. يقول الشّاعر:

(البحر الخفيف)
أنا ـ يا ربّ ـ غارقٌ في بحارِ الوهمِ أحياهُ في الخيالاتِ شِعْرا
أعطني اللّطفَ والطّمأنينةَ الخضراءَ حتى أحوّلَ الشَّوكَ زهْرَا
أنتَ ربّي، من لي سِوَاك، فهبني نعمةَ الحقّ في نجاواكَ ذِكْرا
4 ـ حقيقة الإنسان العارف: وهو المتميّز في علاقته وفي معرفته بالله، فـ"العارف/ الشّاعر هو الإنسان الّذي يعيش مع الله تعالى حتى وهو يعيش لذّاته وشهواته، حتى وهو يفكّر، وهو يتنفّس وهو يعيش، لأنَّ الله تعالى هو سرُّ وجوده وسعادته". فالله لم يحرّم على النّاس الطيّبات {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}[الأعراف: 32]. لكن علينا أن نعلم أنّ كلّ ما نعيشه ونلتذّ به هو من فيوضات الله علينا{قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ}[الملك: 23]. فالله أقرب إلينا من دمنا السّاري في عروقنا، ولا يغيب عنّا لحظةً واحدةً{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}[ق: 16].(البحر الخفيف)

في صلاتي لمحتُ معناكَ يا ربِّ امتداداً للنّورِ في الآفاقِ
وتأمَّلتُ... نحنُ إبداع ُكفّيْكَ، مدانا مطالِعُ الإشراقِ

5 ـ معرفة الله هي الحضور الدّائم مع الله سبحانه وتعالى: فتذكُّر الله تعالى هو طمأنينةٌ للإنسان، لأنّ التذكّر هو تواصلٌ بين العبد والخالق {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}[الرّعد: 28]. فالمعرفة إذاً، حضور الله في النّفس، وهي "حضورك الدّائم مع الله الّذي ينمّي تجربتك في الحياة، ويجعلك أكثر تحمّلاً لمسؤوليّاتها، لا الّذي يعزلك عن الحياة والإنسان". إنّ هذا الحضور يمنح الإنسان الحركة الحيويّة، ليكون خليفة الله في أرضه، تُلقى على عاتقه المسؤوليّات الجسام، فيعمل ويجدّ ويثابر وهو يذكر الله تعالى.

يقول الشّاعر:
(البحر الخفيف)
إنّنا مسلمونَ... كلُّ تحايانا سلامٌ ودعوةٌ للّقاءِ
لحياةٍ تهفو، لقلبٍ يرفُّ الحبُّ فيه، في أغنياتِ الإخاءِ
وكيانٍ يشدُّهُ الحقُّ بالقوّةِ والعزمِ في طريقِ السّماءِ
إنّنا مسلمونَ، ولتشهد الدُّنيا بأنّا في موكِبِ الأنبيَاءِ
6 ـ معرفة الله هي حضور الواقع في الذّات: وهذا ما تمثّله سيرة الأنبياء والأئمّة، الّذين عاشوا الواقع بكلّ تفاصيله، ولم يبتعدوا عنه قيد أنملة، بل سعوا إلى تغييره. ويضرب القرآن الكريم في ذلك العديد من الأمثلة:{وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ* إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ* قَالُواْ وَجَدْنَآ آباءنَا لَهَا عَابِدِينَ* قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وآبَآؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}[الأنبياء: 51 ـ 54].
إنّ هذا الحوار بين إبراهيم(ع) وأبيه وقومه، دلالة واضحة على أنّ الأنبياء كانوا يعيشون في قلب الواقع، ولهذا "نجد الأنبياء، وهم الّذين يعيشون قمّة المعرفة الإلهيّة، كانوا أكثر ارتباطاً بالحياة وبمسؤوليّاتهم عن الإنسان، لأنّ الحياة هي خلق الله، ولأنّ الإنسان هو عيال الله. ولذلك، لا بدّ لنا عندما نتحرّك مع الله، من أن لا نغيب عن الواقع، بل نكون أكثر استغراقاً فيه". إنَّ الحياة نعمة من الله، والإنسان أفضل خلقه، وأقرب النّاس إلى الله تعالى أنفعهم لمن حوله، ولذلك على الإنسان معايشة واقعه.

يقول السيّد:
(البحر الخفيف)
إنّنا مسلمون، نؤمنُ بالإنسانِ.. نحياهُ فكرةً وشعورَا
نلتقي في مداهُ بالخيرِ يبني لحياةِ الهدَى كياناً كبيرَا
نحملُ الحبَّ، نزرعُ الأرضَ بالألطافِ خيراً ورحمةً وسرورَا
ويعيش السّلامُ أحلامَهُ الخُضْرَ بأعماقِنا حياةً ونورَا
إنّ هذه الخطوط العامّة في منهج السيّد فضل الله في معرفة الله تعالى، جسّدها في شعره، لأنّه يعدّ "الشّعر مرآة الواقع للإنسان في حياته". وبما أنّ معرفة الله عنده تحمل هذه الدّلالات، والّتي تلتقي مع توجّهه الرّوحيّ في سيره وسلوكه وحياته، يقول سماحته: "لقد التقيت بالمعرفة بهذا المعنى الرّوحيّ البسيط منذ طفولتي"، حيث رأى في لحظات المناجاة والتوسّل والدّعاء، قمّة العلاقة الرّوحيّة التي شكّلت رؤى جسّدها شعراً. يقول:

(البحر الخفيف)
تلكَ دنياكَ تمنحُ الفرحَ الرّوحيَّ، تعطيكَ أمنياتِ الفؤادِ
فاحفظِ الخطوَ، لا تخدِّركَ أشواقُ الغدِ الحلوِ عن طريقِ الرّشادِ
لا تدعْ فرحةَ الحياةِ تغشيكَ، فتعمى عن الشُّعاعِ الهادي
إنّها سنّةُ الوجودِ منى تزهو وأخرى تموتُ في الأصفادِ
لا بدّ من أن تكون نظرة الشّاعر إلى الله سبحانه وتعالى نظرةً خاصّةً تحوي عمق ما كان يشعر به ويعيشه ويتحسّسه ويراه في الخالق العظيم؛ فالله ليس إله العباد فحسب، بل إنّه بديع السّماوات والأرض، الخالق على غير مثال، الملك المتفرِّد بالعلوِّ. فإذا بالشَّاعر يعيشُ مع الله تعالى حتَّى والنَّاس من حوله، ليأخذ منه لحظة طمأنينة وسعادة، وإذا به ينظر إليه بعين اليقين على أنّه العلاء العظيم، والمهيمن على كلّ شيء. يقول السيّد الشّاعر:

(البحر الخفيف)
أنا يا ربِّ في طريقٍ أحثُّ الخطوَ نحو العُلا وأنت العلاءُ
فاهدني الدّربَ، إنَّ خطوي حيرانُ ودنيايَ حيرةٌ وشقاءُ
أنا إمَّا جلسْتُ في اللّيلِ ألقاكَ بقلبٍ يموجُ فيه الصّفاءُ
كصباحٍ تنوِّرُ الشّمسُ جفنيْهِ وتزهو بجانحيْهِ السّماءُ
وإذا لفَّني النَّهار مع النَّاس، وحنَّت لرجسِها الأهواءُ
فأنا تائهٌ فقد يجمع الخطو، وقد يحجب الضّياءُ بلاءُ
سرعة في اللّسان، قد يحجب التّفكير فيها مع الضّجيج هراءُ
واضطرابٌ في فكرةٍ لسْت أدري كيف غشّى نجوى هداها الغِشاءُ
وإذا بي وقد حملتُ ذنوبي فوقَ ظهري ... يقودُني الإعياءُ
ويعودُ المساءُ فالقلبُ في نجواكَ حرٌّ وفي الشِّفاهِ نداءُ
وإذا بالحياءِ يلجمُ نجوايَ فهل شافعٌ لديكَ الحياءُ

نلاحظ في تركيب النّصّ الحضور القويّ لذات الشّاعر، وذلك من خلال الضّمير المنفصل "أنا" و"ياء المتكلّم"، في (طريقي، فاهدني، خطوي، لفّني، أنا، أدري، بي، ذنوبي، ظهري، يقودني، نجواي...)، والضّمير المستتر وجوباً في الفعل "أحثّ". هذا الحضور للذّات يسخّره الشّاعر نحو هدفٍ واحدٍ، يسعى إليه بكلّ ما أوتي من قوّة، وهو الوصول إلى العلاء المطلق/الله تعالى. وإن دلّ هذا التّركيب الخبريّ على شيء، فإنّما يدلّ على أنّ العلاقة بين الشّاعر والله سبحانه ليست علاقةً عاديّةً، وأنّ نظرة الشّاعر إلى الله تعالى، هي نظرة من يدرك دونيَّته، مقابل ترفّع الباري في رحاب الملكوت الأعلى، والعلاء الّذي تفرّد به الله وحده: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}[الأعلى: 1]، {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ}[طه: 114].

وبالانتقال إلى التَّراكيب، يطالعنا الضَّمير "أنا"، وهذا الضمير مبتدأ تقابله جملة معترضة ـ "يا ربّ" ـ وهي جملة إنشائيَّة أسلوبها النِّداء. ويحمل هذا الأسلوب هويَّة المناجاة والدّعاء، وكأنَّ الشّاعر بعد ذكره "للأنا" المختصّة حقيقةً بالباري تعالى، كونها من أسمائه الحسنى، {إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا}[طه: 14]، ينتبه من غفلته ليعترض "أنا" المعبّرة عن ذاته بأسلوب النّداء الّذي توجّه به إلى الله، ليؤدّي هذا النّداء وظيفةً تعبّر عن تنبّه الشّاعر مما وقع فيه.
ويأتي تركيب الجار والمجرور "في طريقي" ليعطيا بُعداً مكانيّاً لتحرّك الشاعر في سيره وسلوكه؛ هذا السّير الّذي وظّفه الشّاعر ليدلّ من خلاله على أنّه في هذه الحياة وفي طريقها الّذي يسلكه يسعى، وسعيه ليس سعياً وراء الجاه والعظمة والمكانة المرموقة، فإذا ما قال "أحثُّ"، تبادر إلى الأذهان فعل الحركة في هذا الفعل الّذي يدلّ على السّرعة والحيويّة، ليخرجه من دلالته الحقيقيّة، حيث أسنده إلى الخطو، فهو يحاول أن يحثّ الخطو على الإسراع، ليعبّر عن مدى شوقه وتوقه لنيل العلا والسموّ بذاته نحو الله المتفرِّد بالملك والسموّ والعظمة.

فالضّمير "أنت" المنفصل، أورده الشّاعر على سبيل الابتداء، ليستدرك الخبر "العلاء" وجهته ويحدد سيره وسلوكه الّذي بدأ من قبل الشّاعر بفعل عملٍ إراديّ، وانتهى بالله تعالى/ "العلاء"/ والترفّع، تاركاً بين شفتي الشّاعر لهجة النّداء والدّعاء، والاعتراف بالعجز، والسّعي الحثيث للوصول إلى موقع العلاء، حيث رضا الله والانفتاح على رحابه.
والله ليس علاءً فقط، إنّه في نظر الشّاعر حقيقة مطلقة، رآها في كلّ شيء، لأنّه أراد أن يعيش الله في كلّ تحركاته وسكناته. يقول:

(البحر الخفيف)
"ربِّ أنتَ الحقيقةُ الحقُّ، من لي أن أناجيكَ في خشوعِ الحنينِ
كلّما امتدّ بي إليكَ وجودي باحثاً خلفَ سرِّك المكنونِ
وتسلَّقْتُ كلَّ آياتِك الكبرى إلى وحيِك الحبيبِ الحنونِ
كلَّما لاحَ لي الشُّعاعُ وأيقنْتُ بأنّي حطّمْتُ كلَّ سجوني
ردّني عالمي فأوشكْتُ أن أهويَ في التّيهِ في غمارِ الظُّنونِ

نلاحظُ في هذا التّركيب أيضاً حضور أسلوب النّداء. ولعلَّ واقع العلاقة بين المخلوق والخالق، القائم على المناجاة والدّعاء، يستدعي حضور مثل هذا الأسلوب، فهذا الحضور ليس مستغرباً في حالةٍ إنسانيَّةٍ وجدانيَّة تقوم على المناجاة والدّعاء، فقد يعدُّ الشَّاعر أنّ طريقة الحديث مع الله تعالى تقوم على هذا الأساس، فهو يمثّل عمق الصّلة الروحيّة بين العبد وخالقه، الّذي يمثّل في نظر الشّاعر "الحقيقة الحقّ التي يبحث عنها الضالّون والتّائهون، ويتوق إلى معرفة كنهها كلّ الرّاغبين في المعرفة". وقد تم إسناد "الحقيقة" إلى الضَّمير المنفصل "أنت" العائد إلى الله تعالى، وكذلك صفة الحق، وهو اسم من أسماء الله الحسنى، فهو الملك الحقّ والكبير المتعال، وهذا المعنى الّذي يلتقي فيه الشّاعر مع المفهوم القرآنيّ، لم يقدّمه لنا مباشرةً، وإنما من خلال الإسناد الّذي قام بين الضّمير "أنت" المبتدأ، والخبر الحقيقة، والصّفة الحقّ.
ويأتي أسلوب الاستفهام بواسطة "من" ليعبّر الشّاعر عن أنّه لا يأمل استجابة مناجاته إلا من الله، وأن لا وجود خارج الله الّذي وهب الحياة للكون، وهي نعمته الكبرى {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}[الملك: 2].
وإذا ما أسند الشّاعر الحياة إلى الفعل المضارع "تخضرّ"، خرجت هذه الحياة عن نسقها الموضوعيّ ليمنحها الشّاعر هويّةً نباتيّةً، أو يجعلها تصبح ربيعاً أخضر، وكأنّ الشّاعر كان يعيش حالة الموت والتّلاشي في أعماقه، وإذا بالحياة التي خرجت من الله "تخضرّ" "في روحه"، وبذلك اتّخذت هذه الحياة بعداً آخر هو الشّباب الّذي يمثّل العنفوان والزّهو في الذّات؛ فالاخضرار في روح الشّاعر يعني بعث القوّة والنّشاط في كيانه، {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ}[الأنعام: 122]. ولكنّ نبات الشّاعر الّذي نما في روحه وأعماقه، ليس جنّات أو حبّاً فحسب، بل هو الحياة كلّها؛ هذه الحياة التي يمنحها الشّاعر هويّةً جديدةً تضيء الهويّة الأولى، وهي الحال "زهواً"، في ما يمثّله الزّهو من فرحٍ وسعادة؛ فالحياة النباتيّة المخضرّة في روح الشّاعر تزهو وتختال، وكأنّ الماء الّذي نزل على أرضها أنبت الفلّ والياسمين الّذي خرجت الحياة به لتختال مزهوّةً فرحة، وإذا بالفلّ والياسمين يرتبطان ارتباطاً وثيقاً بسياق الحديث عن الحياة الّتي منحها الله للشّاعر حيويّةً ونضارةً وزهواً وإشراقة ورد تعطّر برائحتها الزكيّة أعماقه، وتمنحه الأمل والضّياء.
لقد نظر الشّاعر إلى الله تعالى نظرةً خاصّةً، وكان لهذه النّظرة أبعد الأثر في نفسه، لأنّه شكل حركة الحبّ النابعة من قلبه، والّتي غمرت كلّ كيانه، لذلك اعتبر أن المعرفة هي الحضور الدّائم مع الله، وهي تغني تجربة الإنسان الروحيّة، والله تعالى هو سرّ وجود الإنسان وسعادته، فالحياة "هي خلق الله والإنسان هو عيال الله"، والشّاعر كبقيّة المسلمين، يعتقد بقدرة الله وعظيم ما يمنحه للإنسان.
يقول السيد في قصيدة من الشّعر الحرّ:

( البحر الرّجز)
"فنحنُ مسلمونَ
نؤمن باللهِ...
الّذي فجَّر في الإنسانِ...
طاقاتِ فكرٍ... يصنعُ الحياةَ كالجنانْ
ويلتقي بالأرضِ، والفضاءِ والزّمانْ
ليكشف السرَّ الّذي تحضنُهُ الأكوانْ"

ينطلق الشّاعر في بداية قصيدته من فكرة خبريّة، تفيد الإقرار والخضوع والانتماء إلى الدّين الإسلاميّ الحنيف، الّذي يؤمن به ويعتقده إسلاماً ينطلق من الإيمان بالله، عملاً بقوله تعالى:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}[البقرة: 285]، وهذا ما دفعه إلى الاعتقاد والإيمان بالله إلهاً واحداً لا شريك له، وكلّ ما في الوجود فيضٌ من الباري الذي فجّر في الإنسان طاقات فكرٍ، يصنع الحياة كالجنان، والله هو الّذي "فجّر الأرض عيوناً"، يفجّر في ذات الإنسان كلّ قدرة على الإبداع والعطاء؛ فإذا ما جعل من الماء كلّ شيء حيّ، وخلق من الماء جنّاتٍ من نخيلٍ وأعناب تبهج العين والقلب، كذلك فجَّر طاقات الإنسان لتصبح جنائن غنّاء خضراء مليئة بالحيويّة، فإذا بها تخرج عن وضعها الطّبيعي، فيها الخير والمحبّة وحبّ العطاء، وهذا الفكر الّذي فجّره الله، يلتقي بالأرض الّتي أسال الله الماء عليها، فاستحالت رياضاً جميلة، ولا يكتفي الفكر بلقاء الأرض، بل يمتدّ لقاؤه ليطال الفضاء؛ هذا الفضاء الّذي أنزل الله منه المطر، فسال أوديةً وينابيع في الأرض، تطاول الكائنات في كلّ آنٍ ومكان.
وإذا ما طاول الفكر الفضاء والزّمان، وكما إنّ الماء الّذي يفجر في الأرض يكشف فيها الزّرع والنّبات والعشب والجمال، فإنّ الفكر يكشف السّرّ الّذي تحتضنه الأرض ويضمّه الفضاء ويخفيه الزّمان.
إنّ الله تعالى في نظر الشّاعر واحد أحدٌ تنـزّه عن مجانسة مخلوقاته، فكلّ ما في الدّنيا فيض من رشح عطائه، وكلّ كائنٍ مصيره الفناء، ولا خالد إلا الله. يقول الشّاعر:

(البحر الخفيف)
"أحدٌ أنت يا إلهي من النَّاس، وما الكونُ؟ أنتَ أنتَ الحقيقةْ
كلُّنا في الظّلالِ نخطو وفي الشّمسِ تزولُ الظّلالُ وهي مشوقَةْ
لكَ حبّي في روعةِ اللّيلِ في هدأةِ أحلامِهِ العذابِ الرّقيقةْ
وعلى موعدِ الضّياءِ، تلفَتُّ لأرعَى على هُداكَ شروقَهْ
وأنا ها هُنا تنهّدُ روحٍ، بعثرَتْ فتنةُ الضّلالِ طريقهْ"د

قدّم الشّاعر الخبر "أحد" لإظهار أهميّة الوحدانيّة الّتي تمثل جوهر المعرفة بالله، فالله تعالى إلهٌ واحدٌ لا شريك له، وفكرة الألوهيّة تختلف بمفهومها عند البشر، والله تعالى عبّر عن هذه الفكرة في أكثر من مكانٍ وموضعٍ في القرآن الكريم، حيث ذكر تعالى:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ* اللَّهُ الصَّمَدُ* لمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:1-3]. وفي آيةٍ أخرى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}[الكهف: 110].

هكذا رأى الشّاعر الله، واحداً لا شريك له ولا نظير، ناجاه بواسطة حرف النّداء "يا" متلذّذاً بذكره، وشاعراً بالطّمأنينة بهذا الذّكر، لأنّ به تطمئنّ القلوب وتهدأ النّفوس. ويأتي أسلوب الاستفهام "من النّاس، وما الكون؟"، ليفيد الشّاعر من خلال هذا الاستفهام بأن لا وجود للحقيقة خارج الله سبحانه الّذي خلق الكون على غير مثال، وخلق الإنسان والسّماوات والأرض والجبال والبحار والأنهار واللّيل والنّهار.

فحقيقة النَّاس والكون مستمدَّة من حقيقة الله تعالى الّذي طلب من الإنسان أن يتساءل عن عظمة خلقه وحكمة خالقه:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}[فصّلت:53]. وقد أورد الشّاعر الاستفهام للدلالة على مدى صغر النّاس والكون أمام عمليّة الخلق العظيمة التي تبرهن على عظم الخالق الّذي يعود الشّاعر إلى مناجاته: "أنت أنت الحقيقة"، منتقلاً إلى توكيد الضّمير المبتدأ "أنت" الأوّل، بالضّمير "أنت" الثّاني، لأنه لا حقيقة إلا الله، ولا وجود لكلّ ما خلق تعالى خارج ذاته القدسيّة، فحضور الضّمير (أنت) ثلاث مرَّاتٍ في الشَّطر الأوَّل والثّاني، هو لقاءٌ بين فكرة الوحدانيّة والألوهيّة الّتي تتمثّل بالله تعالى، وفكرة الحقيقة المطلقة التي لا تصوّر لها ولا وجود أو واقع خارج الذّات الإلهيّة، ولا حقيقة غير الله، والتّأكيد أنّ كلّ شيء فانٍ ومصيره الزّوال، وتبقى هذه الحقيقة الخالدة.

وفي هذا، يلتقي الشّاعر مع مفاهيم الآيات التي يتحرّك شعره في أجوائها وعبر رحابها:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ* ويَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}[الّرحمن: 26-27]. و"من" للعاقل، وهي الّتي ذكرها الشّاعر في معرض تساؤله (من النّاس؟؟)، و{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[القصص: 88]. والشّيء هنا لغير العاقل يستدعي وجود "ما" الدالّة على غير العاقل في تساؤل الشّاعر (ما الكون؟؟) خارج الحقيقة الإلهيّة، وبعيداً عن الله الّذي خلق على غير مثال، وهو قادر على أن يخلق مثلهم ساعة يشاء، فإذا ما كان الله تعالى هو الحقيقة الّتي لا وجود لشيء من دونها، كان التحرّك خارجها، تحرّكاً في الظّلال لا في النّور، لأنّ الله نور السّموات والأرض يهدي لنوره من يشاء.
ولذا، نرى الشّاعر ينتقل في التّركيب الثّاني إلى صورة السّعي، والخطو في الظّلال التي تمثّل ظلمات الحياة وما يعترض الإنسان من مشاكل ومخاطر لا يجرؤ على مقاومتها أو صدّها إلا بالتزوّد من شمس الحقيقة ونور اليقين. والمبتدأ "كلّ" المضاف إلى ضمير المتكلّمين "نا"، تأكيد من الشاعر أنّ البشر جميعهم على حدٍّ سواء يخطون في الظّلال. وفي إسناد الفعل "نخطو" إلى الشّاعر وغيره، إسناد حقيقيّ فيه دلالة على السّير والسّعي في هذا الوجود، ولكن السّؤال هو: أين خطو الشّاعر وغيره؟ هل هو في طريق الهدى والنّور؟

و{اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}[البقرة: 257]. إنّ خطو الشّاعر وباقي النّاس هي في الظّلال الّتي لا تتّضح فيها السّبل حقيقةً أمام الشّاعر وغيره. فالظّلال كناية عن الأفياء الّتي تحمل دلالة الظّلام، مقابل نور الهدى والإيمان والرّشاد الّذي اختصّ به الله تعالى، الّذي آمن به الشّاعر أحداً، حقيقةً، لا وجود خارجه، ثم بيّن أنّ السّلوك والسّير خارج هذه الحقيقة هو خروج عن النّهج الواضح المنير، إلى دنيا الجهل والظّلام.
وتأتي "واو" الحال لتسهم في إغناء هذه الصّورة الّتي رسمها الشّاعر؛ فالشّمس إذا ما ظهرت بدّدت ظلمة اللّيل والظّلال وأوضحت معالم الأشياء، كما أوضح الله تعالى سبيل السّالكين في دربه ونهجه، فالشّمس هي نور الله الّذي يزيل ظلام الجهل والانحراف، وينطلق بالإنسان في رحاب السّحر والجمال والرّؤية اليقينيّة التي لا ضباب يحجبها عن عيون المهتدين، وإذا ما خطرت شمس الإيمان وانبلج نور الله زالت هذه الظّلال، و"هي مشوقة"، وواو الحال هنا أيضاً تصويرٌ من قبل الشّاعر للظّلال التي أخرجها عن نسقها الموضوعيّ، ليمنحها هويّةً إنسانيةً جديدةً، من خلال لفظة "مشوقة"، وكأنّ الظّلال التي يخطو فيها الشّاعر مع غيره، تشتاق هي الأخرى إلى نور الحقيقة واليقين ليشرق على الجميع، فيعيش النّاس والكون بأجمعه نور الحقّ اليقين، ومشكاة الأنوار {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ}[النّور: 35].

هكذا نجد نظرة الشّاعر إلى الله تعالى نظرةً مختلفةً عن نظرة النّاس؛ هذه النّظرة عاشها الشّاعر في معظم قصائده الّتي انفتح بها على الله سبحانه، وعاش كلّ مشاعره وأحاسيسه من خلالها مع الله تعالى. ولذلك، نجد أنّ هذا الجوّ فرض على الشّاعر حالةً خاصّةً تحمل الكثير من الشفافيّة والرّوحانيّة، وهذا ما أكّده الشّاعر: "أنا عشت في كلّ تجربتي مع الله، عشت مع الله في آلامي وفي أحلامي وفي علاقتي بالحياة وبالنّاس في كلّ التّفاصيل التي تمرّ بالحياة".
وقد أظهر الشّاعر في شعره مدى هذه التّجربة التي فتح من خلالها كلّ كيانه على الله تعالى، والتي يشكل عمقها خير شاهدٍ على ما ذكره من ارتباط كلّ تفاصيل حياته بالله.

فالتّجربة الشّعريّة الّتي هي أصدق تعبيرٍ عن حياة الإنسان وواقعه، دلالة واضحة على أنّ الشّاعر عاش مع الله في أدقّ تفاصيل حياته، حتى إنّه كان يتهيّأ الفرصة المناسبة لأخذ لحظة عرفانيّة يعيشها مع الله تعالى.

المصدر: كتاب "الاتجاه الرّوحيّ في شعر السيّد محمّد حسين فضل الله".
 
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية