[وكان من دعاء الإمام زين العابدين (ع) إذا دخل شهر رمضان]:
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَأَلْهِمْنا مَعْرِفَةَ فَضْلِهِ، وَإِجْلالَ حُرْمَتِهِ، وَالتَّحَفُّظَ مِمّا حَظَرْتَ فيهِ، وَأَعِنّا عَلى صِيامِهِ بِكَفِّ الْجَوارِحِ عَنْ مَعاصيكَ، وَاسْتِعْمالِها فيهِ بِما يُرْضيكَ، حَتّى لا نُصْغِىَ بِأَسْماعِنا إِلى لَغْو، وَلا نُسْرِعَ بِأَبْصارِنا إِلى لَهْو، وَحَتّى لا نَبْسُطَ أَيْدِيَنا إِلى مَحْظُور، وَلا نَخْطُوَ بِأَقْدامِنا إِلى مَحْجُور، وَحَتّى لا تَعِي بُطُونُنا إِلا ما أَحْلَلْتَ، وَلا تَنْطِقَ أَلْسِنَتُنا إِلا بِما مَثَّلْتَ، وَلا نَتَكَلَّفَ إِلا ما يُدْني مِنْ ثَوابِكَ، وَلا نَتَعاطى إِلا الَّذي يَقي مِنْ عِقابِكَ، ثُمَّ خَلِّصْ ذلِكَ كُلَّهُ مِنْ رِياءِ الْمُرائينَ، وَسُمْعَةِ الْمُسْمِعينَ، لا نُشْرِكُ فيهِ أَحَداً دُونَكَ، وَلا نَبْتَغي بِهِ مُراداً سِواكَ...
* * *
وهذا حديثٌ عن عمق التَّرابط بين الصَّوم بمعناه الماديّ الشّرعيّ الذي يتمثَّل في ترك بعض الأشياء الخاصَّة من الطعام والشراب والجنس وما أشبه ذلك، وبين الصّوم بمعناه الروحي الأخلاقي الذي يمتدّ ليشمل كلّ المضمون المنفتح على مفهوم التقوى بكلّ سعته، ما يجعل الوسيلة في الصّوم الفقهيّ مرتبطة بالهدف في الصّوم الإسلاميّ بكلّ سعة التّشريع في دائرته العمليّة.
فالمطلوب أوّلاً - من وحي هذه الفقرات - أن يلهمنا الله معرفة فضله وإجلال حرمته. ولكن هل هي المعرفة الفكريّة والإجلال الاحتفالي، أم هي المعرفة بالخطّ العملي الذي يتحوّل إلى حركةٍ في بناء الشخصيّة؟ لأنّ الزمن ليس شيئاً حيّاً ينفذ الإنسان إلى داخله ليتعرّف خصائصه الذاتيّة، بل هو شيءٌ في حركة الوجود التي يمنحها الإنسان معنًى في الشّكل والمضمون، ليعطيه بعض الملامح الجميلة أو الخبيثة من نشاطه السّلبي أو الإيجابي، في ما يأخذ به من وحي الرّسالات، أو في ما ينطلق به في وعي الفكرة في الذّات. ولذلك، فلا معنى للمعرفة إلا من خلال المضمون الإنساني الحركي في الزّمن الذي لا بدّ أن يتعرّفه الإنسان في مسؤوليّة الزّمن في ضرورة تجسيده في شيءٍ من ذلك. وعلى ضوء ذلك، نفهم أنّ الإجلال ليس شيئاً يتحرّك في الطّقس التقليديّ، بل هو شيءٌ يتحرّك في عظمة الدّور في داخل حركته.
وهكذا ينبغي للإنسان أن يعيش شهر رمضان في الدّور، وفي المسؤوليّة، وفي فترة العمر المسؤول في رحلته إلى الله في داخل هذا الشّهر، ليكون دخوله إليه عن وعي يلهمه معناه، ليعرف كيف يحتويه في الدّائرة الإسلاميّة الحيّة المتحرّكة في كلّ اتجاه للحياة من حوله.
والمطلوب ثانياً - من وحي هذا الدعاء - التحرّز عن التعدّي على حدود الله، في ما حرّم الله على عباده تجاوزه، من الأمور التي لا مصلحة فيها للحياة وللإنسان، مما أنذر الله عباده بالعقوبة على ممارستها، وهذا هو الّذي يلخِّص كلّ الخطوط التي يتحرّك فيها الإنسان في هذا الشَّهر؛ في جانبها السلبي الذي يتمثّل في المحرَّمات، وفي جانبها الإيجابي الذي يتمثّل في الواجبات.. وهذا هو الذي نتابع عناوينه في الفقرات الآتية، التي يرتفع فيها النّداء من أعماق القلب المؤمن الخاشع الذي يخشى من السقوط في التجربة تحت تأثير ضغط المادّة أو الغريزة أو البيئة، أو نحو ذلك مما قد ينحرف بالإنسان عن الخطّ المستقيم، فيبادر إلى طلب المعونة من الله، ليتوازن الإنسان في حركته، لتنطلق الإرادة من جانب، وتنزل عليه الألطاف الإلهيّة من جانب آخر.
وهذا ما تمثّله هذه الفقرة: "وأعنَّا على صيامه بكفّ الجوارح عن معاصيك، واستعمالها بما يرضيك"، فإنَّها توحي بأنَّ الصّوم يأخذ مضمونه الحقيقيّ في حياة النّاس الإيمانيّة العباديّة المنفتحة على الله، بالالتزام الحقيقيّ الّذي لا يهتزّ في مواقع الاهتزاز الفكريّ والعملي، فلا تنفذ معصية الله إلى أعضاء الإنسان في قوله وفعله، بل تقف مع طاعة الله التي يتحرّك فيها الجسد بكلّ حركاته، ليكون الإنسان في ذلك إنسان الله، الذي ينتمي إليه ولا ينتمي إلى الشّيطان، وليكون عبد الله الخاضع له في كلّ أموره.
وهذا ما تعبّر عنه الفقرات التالية: "حتى لا نصغي بأسماعنا إلى لغو"، وهو الكلام الذي لا يعتدّ به، والّذي لا يرد عن رويّة وفكر، وقد يشتمل على ما لا يرضي الله وما لا ينفع النّاس، أو على ما يفسد حياتهم، أو ما يبتعد بهم عن الخطّ المستقيم في الفكر والمنهج والعمل.. وهذا ما يريد الإسلام للإنسان أن يبتعد عنه ويرتفع بشخصيّته عن الأخذ به.. وقد يكون الإصغاء إليه وسيلةً من وسائل الأنس به والانجذاب إليه، ما قد يترك تأثيراً عميقاً في شخصيّة الإنسان، حيث يتحوّل إلى شخص يمارس اللّغو وينطبع به.
"ولا نسرع بأبصارنا إلى لهو" يجتذب العين فيسحرها، ويأخذ القلب فيملكه، ويطبع حياة الإنسان بطابعه، ليكون الإنسان اللاهي البعيد من الله، الّذي يستغرق في الصّورة الحلوة هنا، واللّمسة المغرية هناك، والأوضاع المثيرة في موقع آخر، فيخلد إلى الأرض في زخارفها ومغرياتها وشهواتها، فلا يرتفع إلى آفاق السموّ الروحي الباحثة عن الله، ولا ينطلق إلى مواقع المسؤوليّة المنفتحة على مواقع رضاه، وبذلك يفقد توازنه، ويبتعد عن إنسانيّته، ويتحوّل إلى شخص عبثي في ما هو العبث اللاهي في الحياة.
"وحتى لا نبسط أيدينا إلى محظور"، لأنّ الله جعل لليدين دوراً في تحريك حياة الإنسان نحو القضايا التي تمثّل حاجاته في بناء جسده، في ما يحتاجه من الغذاء والكساء ونحو ذلك، أو التي تمثّل حاجاته في بناء روحه، أو في رعاية حياة النّاس من حوله في ما أحلّه الله له من ذلك كلّه، ولم يرخّص له أن يستعملها في تناول الحرام، أو في إفساد حياة النّاس أو حياته، وتهديدها أو إرباكها في ما لا يرضى له به. وفي ضوء ذلك، لا بدَّ للإنسان من أن يفكّر في أن لا يحرّك يديه في الأمور المحظورة، على جميع المستويات، حتى لا تكونا أداتين لمعصية الله، وبالتّالي لهلاك الإنسان في مصيره المحتوم في عذاب جهنّم من خلال غضب الله.
"ولا نخطو بأقدامنا إلى محجور"، فقد حجر الله علينا، من الوجهة الشرعيّة، أن نتحرّك في السّاحات التي تتجمع فيها الأوضاع المنفتحة على الفساد والإجرام والخيانة وغيرها من المعاصي، أو أن نأخذ بالوسائل التي تقودنا إلى ذلك، أو ننطلق إلى الأهداف التي لا يحبّها الله لعباده، ولذلك ينبغي للإنسان أن يستغرق في التأمّل في خطواته في حركة رجليه، ليحدِّد الطرق المحلّلة أو المحرّمة، وليعرف الغايات التي يبلغها في ما يبني له حياته ومصيره، أو في ما يهدم وجوده ونجاته.
"وحتى لا تعي بطوننا إلا ما أحللت" من الطّعام والشّراب، فقد أحلّ الله للإنسان بعض الطّعام والشّراب وحرّم بعضاً آخر، وأراد له أن لا يجعل بطنه وعاءً إلا للحلال منها، مما يصلح أمر جسده أو توازن عقله أو صفاء روحه، في ما يؤثّر فيه من ذلك كلّه.
"ولا تنطق ألسنتنا إلا بما مثَّلت"، أي بما حدّثت، أو بما أكَّدت من الحُجّة مما ينسجم مع الحقّ، ويبتعد من الباطل، ويلتقي بالصّدق، وينفصل عن الكذب، وينفع الناس ولا يضرّهم، ويرفع مستواهم، ويقوّي وجودهم، ويفتح لهم أبواب الخير ويغلق عنهم أبواب الشرّ، ويدفع بهم إلى ساحة الحريّة ويبعدهم عن ساحة العبوديّة، ويمنحهم العزّة والكرامة، فقد أراد الله للإنسان أن يحرّك لسانه بالكلمات الطيِّبة المنفتحة على مواقع رضى الله في ما فيه مصلحة الإنسان الحقيقيَّة في العمق، وأن يمسكه عن الكلمات الخبيثة المغلقة عن مواقع رضاه. ولذلك، كان لا بدَّ له أن يفكِّر بالمستوى العالي من الانضباط الدّقيق في الخطّ الفاصل بين الحرام والحلال، في ما يربّي نفسه عليه، أو في ما يسأل الله العون عليه.
"ولا نتكلَّف إلا ما يدني من ثوابك، ولا نتعاطى إلا الّذي يقي من عقابك"، لأنَّ الله قد جعل للإنسان أن يبذل جهده في ما يملكه من الطاقة الحركيَّة التي تمثّل المعاناة والمشقّة في الأعمال التي يقوم بها في المجالات التي تؤدّي به إلى السّعادة التي ينال بها ثواب الله، وتبتعد به عن الشّقاء الذي ينال به عقابه، لأنَّ المفترض في الجهد الإنساني أن يتحرَّك في النجاة من الهلاك، وفي الوصول إلى مواقع السَّلامة.
"ثم خلّصْ ذلك كلَّه من رياء المرائين وسمعة المسمعين، لا نشرك فيه أحداً دونك، ولا نبتغي به مراداً سواك"، فقد أراد الله للإنسان أن يعيش في نطاق التّوحيد الخالص الذي يوحي بصفاء العمل في عمق النيَّة الدافعة له، فلا يكون مشوباً بالرّياء الذي يمثل الاستغراق الذاتي في الحصول على مدح النّاس له، وثقتهم به، ورضاهم عنه، ولا يكون مشدوداً إلى الحصول على السّمعة الطيّبة لديهم، لأنّ معنى ذلك هو انفتاح العبادة على النّاس لا على الله، ما يعني الشِّرك الخفيّ في ما يراقب به الإنسان النّاس إلى جانب الله، في مضمون العبادة الخاضعة لحركة القلب التي تحدِّد مسار حركة الجسد.
وهكذا نجد في هذا الفصل، أنَّ الصَّوم ليس مجرَّد حالة مادية سلبيّة في ما هي اللّذّة الغذائية أو الجنسية، بل هو حالة روحيّة وعمليّة على مستوى الالتزام الأخلاقي الشّرعيّ الذي يمثّل صوم الجسد عن كلّ ما حرَّمه الله...
* من كتاب "شهر رمضان رحلة الإنسان إلى الله".