اَلْحَمدُ لِلّهِ الَّذي هَدانا لِحَمْدِهِ، وَجَعَلَنا مِنْ أَهْلِهِ، لِنَكُونَ لإحْسانِهِ مِنَ الشّاكِرينَ، وَلِيَجْزِيَنا عَلى ذلِكَ جَزَاءَ الْمُحْسِنينَ، وَالْحَمْدُ لِلّهِ الَّذي حَبانا بِدينِهِ، وَاخْتَصَّنا بِمِلَّتِهِ، وَسَبَّلَنا في سُبُلِ إِحْسانِهِ، لِنَسْلُكَها بِمَنِّهِ إِلى رِضْوانِهِ، حَمْداً يَتَقَبَّلُهُ مِنّا، وَيَرْضى بِهِ عَنّا.
وَالْحَمْدُ لِلّهِ الَّذي جَعَلَ مِنْ تِلْكَ السُّبُلِ شَهْرَهُ، شَهْرَ رَمَضانَ، شَهْرَ الصِّيامِ، وَشَهْرَ الإسْلامِ، وَشَهْرَ الطَّهُورِ، وَشَهْرَ التَّمْحيصِ، وَشَهْرَ الْقِيامِ، الَّذي أُنْزِلَ فيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ وَبَيِّنات مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ.
فَأَبانَ فَضيلَتَهُ عَلى سائِرِ الشُّهُورِ، بِما جَعَلَ لَهُ مِنَ الْحُرُماتِ الْمَوْفُورَةِ، وَالْفَضائِلِ الْمَشْهُورَةِ، فَحَرَّمَ فيهِ ما أَحَلَّ في غَيْرِهِ إِعْظاماً، وَحَجَرَ فيهِ الْمَطاعِمَ وَالْمَشارِبَ إِكْراماً، وَجَعَ لَهُ وَقْتاً بَيِّناً، لايُجيزُ جَلَّ وَ عَزَّ أَنْ يُقَدَّمَ قَبْلَهُ، وَلا يَقْبَلُ أَنْ يُؤَخَّرَ عَنْهُ.
ثُمَّ فَضَّلَ لَيْلَةً وَاحِدَةً مِنْ لَياليهِ عَلى لَيالي أَلْفِ شَهْر، وَسَمّاها لَيْلَةَ الْقَدْرِ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فيها بِإِذْنِ رَبّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْر سَلامٌ دائِمُ الْبَرَكَةِ إِلى طُلُوعِ الْفَجْرِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ بِما أَحْكَمَ مِنْ قَضائِهِ.
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَأَلْهِمْنا مَعْرِفَةَ فَضْلِهِ، وَإِجْلالَ حُرْمَتِهِ، وَالتَّحَفُّظَ مِمّا حَظَرْتَ فيهِ، وَأَعِنّا عَلى صِيامِهِ بِكَفِّ الْجَوارِحِ عَنْ مَعاصيكَ، وَاسْتِعْمالِها فيهِ بِما يُرْضيكَ، حَتّى لا نُصْغِىَ بِأَسْماعِنا إِلى لَغْو، وَلا نُسْرِعَ بِأَبْصارِنا إِلى لَهْو، وَحَتّى لانَبْسُطَ أَيْدِيَنا إِلى مَحْظُور، وَلا نَخْطُوَ بِأَقْدامِنا إِلى مَحْجُور، وَحَتّى لاتَعِىَ بُطُونُنا إلّا ما أَحْلَلْتَ، وَلا تَنْطِقَ أَلْسِنَتُنا إلّا بِما مَثَّلْتَ، وَلا نَتَكَلَّفَ إلّا ما يُدْني مِنْ ثَوابِكَ، وَلا نَتَعاطى إلّا الَّذي يَقي مِنْ عِقابِكَ، ثُمَّ خَلِّصْ ذلِكَ كُلَّهُ مِنْ رِياءِ الْمُرائينَ، وَسُمْعَةِ الْمُسْمِعينَ، لانُشْرِكُ فيهِ أَحَداً دُونَكَ، وَلا نَبْتَغي بِهِ مُراداً سِواكَ...
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَقِفْنا فيهِ عَلى مَواقيتِ الصَّلَواتِ الْخَمْسِ بِحُدُودِهَا الَّتي حَدَّدْتَ، وَفُرُوضِهَا الَّتي فَرَضْتَ، وَوَظائِفِهَا الَّتي وَظَّفْتَ، وَأَوْقاتِهَا الَّتي وَقَّتَّ. وَأَنْزِلْنا فيها مَنْزِلَةَ الْمُصِيبينَ لِمَنازِلِهَا، الْحافِظينَ لاَرْكانِهَا، الْمُؤَدّينَ لَها في أَوْقاتِها عَلى ما سَنَّهُ عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَآلِهِ في رُكُوعِها وَسُجُودِها، وَجَميعِ فَواضِلِها عَلى أَتَمِّ الطَّهُورِ وَأَسْبَغِهِ، وَأَبْيَنِ الْخُشُوعِ وَأَبْلَغِهِ..
حمد دائم على نعم لا تنقطع:
إنها بداية التطلع المنفتح على حمد الله، الذي لم يكتشفه الإنسان إلا من خلال هداية الله الذي كشف له مواقع الحمد في ذاته سبحانه، في مواقع عظمته وآفاق نعمه، بما جهّزه به من وسائل الحمد له في سمعه وبصره وعقله... ووفّقه له ليكون من أهل الحمد الذين يشعرون شعوراً عميقاً بالحاجة إلى معرفة الله في ما توحي به من حركة الجانب الروحي والفكري والعملي في شخصية الإنسان...
وينطلق الحمد الذي يختزن معنى الشكر، من جديد، عندما يتطلع هذا الإنسان إلى الدين الذي يضمن له سعادة الدنيا والآخرة، مما أنزله الله على رسوله من كتابه في ما اشتمل عليه من عقيدةٍ وشريعةٍ ومفاهيم للحياة ومناهج للعمل وللتفكير.. فيحمد الله على ما حباه من ذلك كله، وعلى ما اختصه به من ملّته.. وهذا هو الأسلوب التربوي الذي يوحي للإنسان المؤمن بقيمة الدين في عقيدته وشريعته، ما يجعله منفتحاً على حمد الله من خلاله، ليكون ذلك أساساً للتفكير فيه، وللاهتمام بحركة المسؤولية فيه، وللإيحاء الحركي بعلاقته بقضية المصير الأبدي، خلافاً للمعروف المألوف لدى الناس من تأكيد العناصر المادية في مسألة الحمد والشكر...
* * *
وَالْحَمْدُ لِلّهِ الَّذي جَعَلَ مِنْ تِلْكَ السُّبُلِ شَهْرَهُ، شَهْرَ رَمَضانَ، شَهْرَ الصِّيامِ، وَشَهْرَ الإسْلامِ، وَشَهْرَ الطَّهُورِ، وَشَهْرَ التَّمْحيصِ، وَشَهْرَ الْقِيامِ، الَّذي أُنْزِلَ فيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ وَبَيِّنات مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ.
* * *
شهر رمضان سبيل الله:
وإذا كان الله شقّ للناس سبل الإحسان التي تفتح حياتهم على الخير كله، فإنّ هذه السبل لا تختص بالساحات الممتدة في رحاب المكان، حيث الأرض التي تمتد بالإنسان لتصل به إلى غاياته، في ما يريد أن يصل به إلا مواقع أغراضه وحاجاته، بل تشمل ساحات الزمن ـ إن صحّ أن يكون للزمن ساحات ـ حيث ينفتح الإنسان على ما في آنائه من ساعاته وأيامه ولياليه وشهوره، لتحتضن حركته في أجواء الخير كله، في ما تمتلئ به ساحة الزمن من أفعال الإنسان وأقواله، لتكون حركة الزمن في مسؤوليته طريقة إلى الله، كما تكون حركته في المكان طريقه إلى الله في أجواء المسؤولية الشرعية.
وهكذا، كان شهر رمضان سبيل الله الذي أراد للإنسان أن يبدأ رحلته إليه في ما أثاره فيه من أجواء، أو شرّع فيه من شرائع، أو حرّك فيه من أوضاع، وقد منحه الله شرف الانتماء إليه، ليعيش الناس الشعور بالمضمون الروحي الذي يجعل الزمن إلهياً يحمل في داخله سموّ المعنى الإلهي في ما يختزنه من رحمة وعافية ومغفرة ولطف ورضوان، وفي ما يمكن للعباد أن يحصلوا منه على المزيد من ذلك كله...
وهذا هو ما تعبّر عنه الكلمات المأثورة عن رسول الله محمد(ص) في ما روي عنه من خطبته التي استقبل بها شهر رمضان، في آخر جمعة من شعبان، فقد جاء فيها:
"أيها الناس، قد أقبلَ عليكُم شهرُ الله بالرحمةِ والبركةِ والمغفرةِ، شهرٌ هو عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، قد دُعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجُعِلتُم فيه من أهل كرامةِ الله، أنفاسُكُم فيه تسبيح، ونومُكُم فيه عبادة، وعملُكُم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مُستجاب، فاسألوا الله بنيّاتٍ صادقة وقلوبٍ طاهرة، أن يوفِّقَكُم لصيامه وتلاوة كتابه، فإن الشقيَّ من حُرِمَ غفرانَ الله في هذا الشهر العظيم".
فنحن نلاحظ في هذه الكلمات احتضان الله للإنسان برحمته وبركته ومغفرته في هذا الشهر، فقد حوّل فيه نومه إلى عبادة، وأنفاسه إلى تسبيح، وتقبّل فيه عمله، واستجاب فيه دعاءه بالدرجة التي لم يمنحها له في أي شهر آخر...
شهر الصيام:
والعنوان الثاني لشهر رمضان هو "شهر الصيام"، الذي أراد الله فيه للإنسان أن يقوم بأداء هذه الفريضة، من أجل أن يؤكد له إنسانيته في مواقع السموّ عن الأجواء المادية التي تشده إلى الأسفل، لأن المطلوب فيه أن يرتفع إلى الأعلى...
إن قضية الصيام، هي أن تكون إنسان الله، بدلاً من أن تكون إنسان الشيطان... أن تعرف كيف تعيش سكينة الروح وطمأنينة القلب، بدلاً من أن تحترق بنار الشهوة.. وسعار الأطماع...
شهر الإسلام:
والعنوان الثالث، "شهر الإسلام"؛ وقد فسّر البعض كلمة الإسلام، بمعناها اللغوي، أي الطاعة والانقياد لكثرة الطاعات في هذا الشهر.. ولكن هناك تفسيراً آخر، وهو دين الإسلام، لكون افتراض صومه من خصائص هذه الأمة، فقد ورد في الحديث عن الإمام جعفر الصادق(ع) قال: "إنّ شهر رمضان لم يفرض الله صيامه على أحد من الأمم قبلنا"، وقيل له: فقول الله عزّ وجلّ: {يا أيها الذين آمنوا كُتِبَ عليكم الصيام كما كُتِبَ على الذين من قبلكم}[البقرة:183]، قال: "إنما فرض الله صيام شهر رمضان على الأنبياء دون الأمم، ففضّل به هذه الأمة وجعل صيامه فرضاً على رسول الله(ص) وعلى أمّته". وروي عن النبي محمد(ص) أنه قال: "رمضان شهر أمتي"، وقيل عن التشبيه في الآية إنّه بلحاظ مطلق الصوم...
شهر الطَّهور:
والعنوان الرابع، "شهر الطهور"، وذلك من خلال وسائل التطهّر الروحي الذي يبلغه الإنسان فيه، في نقاء الروح والفكر والقلب والحركة العملية، من خلال الأجواء الطاهرة التي يعيش فيها الإنسان روحية التقوى وحركتها بين يدي الله، فيتخفّف من كل قذارات المعاصي وأرجاس الانحراف، ما يوحي بأن للطهارة موقعاً كبيراً في حسابات الإسلام، بحيث يريد للزمن في حركة الطاعات فيه أن يكون مدخلاً للحصول على مثل هذه الطهارة في حياة الإنسان، ليكون الإنسان الطاهر هو الهدف في التخطيط الإسلامي على مستوى التشريع والتطبيق.
شهر التمحيص:
والعنوان الخامس، "شهر التمحيص"، وهو تخليص الشيء مما فيه من عيب، ومنه قوله تعالى: {وليمحّص ما في قلوبكم}[آل عمران:154]. وربما أُريد منه التطهر والتزكية، وربما أريد منه الابتلاء والاختبار، وقد يكون الثاني مقدمة للأول.. وفي ضوء هذا، يكون الشهر المبارك مدخلاً للنفاذ إلى داخل الإنسان ليقتلع جذور الفساد فيه، ليحصل على خلاصه الروحي من كل ذلك، أو يكون حركةً في الفكر والمراقبة والمحاسبة...
وهكذا، يوحي هذا العنوان للشهر المبارك بأن الله لا يريد للإنسان أن يعيش الغفلة عن نفسه، فيترك للنوازع الخبيثة أن تسيطر عليها، بل لا بدّ له من أن يلاحقها بالمحاسبة والمجاهدة، بكل الوسائل الممكنة التي تصل بالإنسان إلى إخراج كل المشاعر والأفكار الخبيثة منها.
شهر القيام:
والعنوان السادس، هو "شهر القيام"، والمراد به القيام للصلاة في الليل وللتهجّد فيه، في ما سنّه الإسلام في ليالي شهر رمضان من ذلك كله، حتى ورد استحباب صلاة ألف ركعة في لياليه زيادة على النوافل المستحبة، بحيث تتوزع على ليالي الشهر في ترتيب معين.. وهذا هو الذي جعل هذا الشهر مميزاً من هذه الجهة بالطريقة التي يتحوّل فيها القيام إلى عنوان له.. ليكون له الطابع العبادي التهجدي الذي يمنح التخطيط الروحي لبناء الشخصية الإسلامية فيه بعداً واسعاً متنوعاً، في ما تتمازج فيه العناصر العبادية في الليل والنهار، لتحقق النتائج المطلوبة منه في أكثر من موقع...
وإذا كان القرآن قد نزل في هذا الشهر المبارك، فلا بد للناس من أن ينفتحوا عليه من خلال الهدى الذي تتضمنه آياته، ومن خلال البيّنات التي تثبّت للإنسان خطوط الهدى التي تدلّ على مواقع النجاة، وتعرّفه كيف يميّز بين الحق والباطل في ما يتعرّف عليه من الفواصل التي تفصل بينهما، فلا بّ من أن تكون التلاوة في هذا الاتجاه. ولسنا هنا بصدد البحث في طبيعة نزول القرآن في هذا الشهر من حيث نزول بعضه فيه أو نزوله جملةً في ما تحدّث به الباحثون، فلذلك مجال آخر.
* * *
فَأَبانَ فَضيلَتَهُ عَلى سائِرِ الشُّهُورِ، بِما جَعَلَ لَهُ مِنَ الْحُرُماتِ الْمَوْفُورَةِ، وَالْفَضائِلِ الْمَشْهُورَةِ، فَحَرَّمَ فيهِ ما أَحَلَّ في غَيْرِهِ إِعْظاماً، وَحَجَرَ فيهِ الْمَطاعِمَ وَالْمَشارِبَ إِكْراماً، وَجَعَ لَهُ وَقْتاً بَيِّناً، لايُجيزُ جَلَّ وَ عَزَّ أَنْ يُقَدَّمَ قَبْلَهُ، وَلا يَقْبَلُ أَنْ يُؤَخَّرَ عَنْهُ...
* * *
ميزة شهر رمضان:
وهذه ميزة لشهر رمضان على سائر الشهور، فقد جعل الله له من الحرمات الكاملة التي توحي بقداسته في ما يلتزمه الناس من حدود الله فيه، ومن الفضائل المشهورة في ما جعل له من الخصائص الروحية والعملية، ما يوحي فيه بالخير والفضل الكبير على مستوى النتائج الكبيرة التي يبلغها العاملون فيه في علوّ الدرجة عند الله...
* * *
فَضَّلَ لَيْلَةً وَاحِدَةً مِنْ لَياليهِ عَلى لَيالي أَلْفِ شَهْر، وَسَمّاها لَيْلَةَ الْقَدْرِ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فيها بِإِذْنِ رَبّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْر سَلامٌ دائِمُ الْبَرَكَةِ إِلى طُلُوعِ الْفَجْرِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ بِما أَحْكَمَ مِنْ قَضائِهِ.
* * *
فضل ليلة القدر:
وإذا كان قد فضّل شهر رمضان على غيره من الشهور لحكمةٍ يعلمها في تنظيمه لعلاقة الإنسان بالزمن، فقد فضّل الله ليلةً من هذا الشهر على سائر لياليه، فجعل لها ميزةً كبيرةً تتصل بالنظام المنفتح على حياة الناس في التخطيط الإلهي، لما يقضي لهم، أو يقدّر لحركتهم في الحياة في أعمارهم وأرزاقهم وأوضاعهم العامة والخاصة، من حربٍ أو سلمٍ، أو خصبٍ أو جدبٍ، أو موتٍ أو حياةٍ، أو أمنٍ أو خوفٍ، أو فقرٍ أو غنى... وهكذا كانت هذه الليلة موضعاً لحركة التقدير الإلهي، مما يمكن لنا أن نصطلح عليه ببداية السنة الإلهية التي يتحرك فيها البرنامج التنفيذي للنظام التقديري لحركة الحياة والإنسان.
وقد أريد للملائكة وللروح الذي اختلف الرأي في تحديد طبيعته، أن يكون لهم دورٌ في ذلك في ما أوكله الله إليهم من المهمات المتنوعة الخفية التي لم تُكشف لنا تفاصيلها، كما أريد التركيز على السلام الذي يحيط بأجواء هذه الليلة، في ما يلقيه الملائكة والروح من السلام على مَن يشاء الله من عباده، أو في ما يثيره من أجواء السلام الذي يخيّم على القلوب بالطمأنينة والصفاء، ليعيش الناس معها تجربة الروح الخالية من العناصر السلبية التي توحي بالعداوة والبغضاء، عندما يتفرغون لعبادة الله في دعائهم وابتهالهم وصلاتهم، فيتحول الإنسان من شخصٍ يعيش نوازع الأنانية في ذاته، إلى شخصٍ يعيش رحابة الإنسانية في حياته، كما يتطلّع إلى آفاق الروح التي تنفتح به على كل الناس من حوله، عندما يتحسس موقعه منهم في دائرة العبودية لله، ليطلع الفجر عليه، في يومٍ جديد، من أجل البدء بحياةٍ جديدةٍ خاليةٍ من التخطيط السلبي للعلاقات بين الناس، مليئةٍ بالتخطيط الإيجابي في تلك الدائرة، ولينطلق مع الله في قناعةٍ يقينيةٍ بقضاء الله وقدره، وفي رضًى نفسيّ يطمئنه بأن الله لا يريد له إلا الخير في ما قسمه له من الرزق ومن الموقع في الحياة، فلا ينفذ إليه الشك في كل ذلك... وبهذا تتأكد علاقة المخلوق بخالقه في نطاق الإيمان المنفتح على الثقة المطلقة به، الأمر الذي يتحول إلى عنصر من عناصر الثبات الفكري والروحي البعيد عن أية حالة من حالات الاهتزاز.
وهذه هي فائدة الأجواء الروحية التي يستغرق فيها الإنسان المؤمن في ليلة القدر ليستفيد من مضمونها المنفتح على الكون والإنسان.
* * *
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَأَلْهِمْنا مَعْرِفَةَ فَضْلِهِ، وَإِجْلالَ حُرْمَتِهِ، وَالتَّحَفُّظَ مِمّا حَظَرْتَ فيهِ، وَأَعِنّا عَلى صِيامِهِ بِكَفِّ الْجَوارِحِ عَنْ مَعاصيكَ، وَاسْتِعْمالِها فيهِ بِما يُرْضيكَ، حَتّى لا نُصْغِىَ بِأَسْماعِنا إِلى لَغْو، وَلا نُسْرِعَ بِأَبْصارِنا إِلى لَهْو، وَحَتّى لانَبْسُطَ أَيْدِيَنا إِلى مَحْظُور، وَلا نَخْطُوَ بِأَقْدامِنا إِلى مَحْجُور، وَحَتّى لاتَعِىَ بُطُونُنا إلّا ما أَحْلَلْتَ، وَلا تَنْطِقَ أَلْسِنَتُنا إلّا بِما مَثَّلْتَ، وَلا نَتَكَلَّفَ إلّا ما يُدْني مِنْ ثَوابِكَ، وَلا نَتَعاطى إلّا الَّذي يَقي مِنْ عِقابِكَ، ثُمَّ خَلِّصْ ذلِكَ كُلَّهُ مِنْ رِياءِ الْمُرائينَ، وَسُمْعَةِ الْمُسْمِعينَ، لانُشْرِكُ فيهِ أَحَداً دُونَكَ، وَلا نَبْتَغي بِهِ مُراداً سِواكَ...
* * *
بين المعنى المادي للصوم والمعنى الروحي:
وهذا حديثٌ عن عمق الترابط بين الصوم بمعناه المادي الشرعي الذي يتمثل في ترك بعض الأشياء الخاصة من الطعام والشراب والجنس وما أشبه ذلك، وبين الصوم بمعناه الروحي الأخلاقي الذي يمتد ليشمل كل المضمون المنفتح على مفهوم التقوى بكل سعته، ما يجعل الوسيلة في الصوم الفقهي مرتبطة بالهدف في الصوم الإسلامي بكل سعة التشريع في دائرته العملية...
وهكذا نجد في هذا الفصل، أن الصوم ليس مجرد حالة مادية سلبية في ما هي اللذة الغذائية أو الجنسية، بل هو حالة روحية وعملية على مستوى الالتزام الأخلاقي الشرعي الذي يمثّل صوم الجسد عن كل ما حرّمه الله، وقد جاء في الحديث المأثور عن الإمام جعفر الصادق(ع): "إذا صمت فليصُم سمعك وبصرُك وشعرك وجلدك"، (وعدد أشياء غير هذا) وقال: "لا يكون يوم صومك كيوم فطرك". وفي كلمة أخرى له: "إذا صمت فليصم سمعك وبصرك من الحرام والقبيح، ودع المراء وأذى الخادم، وليكن عليك وقار الصائم، ولا تجعل يوم صومك كيوم فطرك".
* * *
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَقِفْنا فيهِ عَلى مَواقيتِ الصَّلَواتِ الْخَمْسِ بِحُدُودِهَا الَّتي حَدَّدْتَ، وَفُرُوضِهَا الَّتي فَرَضْتَ، وَوَظائِفِهَا الَّتي وَظَّفْتَ، وَأَوْقاتِهَا الَّتي وَقَّتَّ. وَأَنْزِلْنا فيها مَنْزِلَةَ الْمُصِيبينَ لِمَنازِلِهَا، الْحافِظينَ لاَرْكانِهَا، الْمُؤَدّينَ لَها في أَوْقاتِها عَلى ما سَنَّهُ عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَآلِهِ في رُكُوعِها وَسُجُودِها، وَجَميعِ فَواضِلِها عَلى أَتَمِّ الطَّهُورِ وَأَسْبَغِهِ، وَأَبْيَنِ الْخُشُوعِ وَأَبْلَغِهِ..
* * *
أداء الواجبات بشروطها:
وهذه جولةٌ ابتهاليةٌ في آفاق الصلوات المفروضة في كل يوم التي تمثل القاعدة التي يرتكز عليها التطلع الروحي إلى آفاق الله، والعروج الفكري إلى مواقع رحمته، والانفتاح القلبي على كل ساحات قدسه.. حيث يتحدّث الإنسان من خلالها إلى ربه في مناجاته وتسبيحه وتكبيره وحمده وتهليله، ويقف بين يديه خاشعاً في قيامه وركوعه وسجوده.. وليعيش في نهاياتها السلام على النبي وعلى جميع عباد الله الصالحين.. لتكون برنامجاً روحياً عملياً متحركاً مع آناء الليل وأطراف النهار، فتتحول إلى حزامٍ روحي يحيط بالإنسان في جميع أوضاعه ليقيه من الانحراف عن الخطّ المستقيم.
إنه الابتهال الخاشع إلى الله أن يوفّق الإنسان للإخلاص للصلاة بجميع حدودها الزمنية والعملية، حتى ترتفع بروحه إلى الله من خلال كل منازلها ومواقعها وفواضلها وطهورها الذي يجمع إلى طهارة الروح طهارة الجسد، لتنفتح الصلاة المفروضة على الصوم المفروض، فتزيده روحانيةً وعبوديةً لله، فتقربه إلى خط التقوى الذي هو الهدف الكبير للصوم، كما هو الهدف الكبير لجميع العبادات.
*من كتاب آفاق الروح، ج 2 ص 264-277.