"اللَّهُمَّ إِنِّي أَفْتَتِحُ الثَّنَاءَ بِحَمْدِك".
الافتتاح بالحمد
يستلهم الإنسان في هذا المقطع من الدعاء الفكرة التالية، وهي أن يستهلّ أقواله
وأعماله بالثناء على الله. وأوّل ثناء على الله تعالى، هو "الحمد لله"، باعتبار أنّ
كلمة "الحمد لله" تختزن كلّ عناصر العظمة والنعمة في الله. فنحن عندما نحمد الله في
مواقع عظمته، ومواقع نعمته، نكون قد أخذنا بالثناء عليه من جميع أطرافه. ولذلك، كان
الافتتاح وحمد الله تعالى، حتى نختزن في النفوس أن لا حمد لأحد إلّا من خلال حمده
تعالى، فنحن نحمد الناس في ما أعطاهم الله سبحانه وتعالى وفي ما هداهم ورزقهم،
ولذلك، لا بدَّ لنا من أن نردّد كلمة الحمد، لأنّنا كلّما رددناها أكثر، تعمَّقنا
في تصوُّر علاقتنا بالله في عظمته وفي نعمه، أكثر.
بين التّسديد والرّحمة
"وأنتَ مُسَدِّدٌ لِلصَّوابِ بِمَنِّك".
يا ربِّ، إنّي أُريدُ أنْ أتكلَّم، وربّما يقع الزلل في كلامي، لذلك إنّي ـــ يا
ربِّ ــــ أبدأ دعائي طالباً منك أنْ تسدِّدني لكي لا أقول إلّا صواباً، ولا أتكلّم
إلاّ صدقاً.
اِجعل كلماتي ـــ يا ربِّ ــ تعبر في عمقها عن الحقّ، وعن الصدق، وعن الصواب، لأنّي
أتكلّم معك، وليس طبيعياً أن يتحرّك الخطأ في كلامي وأنا أنفتح عليك، وأنتَ
مُسَدِّدٌ فسدِّدني للصواب، فإذا أراد فكري أن ينحرف قوِّمه، وإذا أراد كلامي أن
يزلَّ ثبّته، يا ربّ، على الصَّواب.
"وأيْقَنْتُ أنَّكَ أنتَ أرحَمُ الرَّاحِمينَ في مَوْضِعِ العَفْوِ والرَّحْمَة".
وأنا، يا ربِّ، عندما أدعوك وأتحدّث إليك، أعيش اليقين، والطمأنينة، والسكينة،
والعقيدة، في نفسي، بصفاتك المتّصلة بحياتي. فليس هناك أحد أرحم منك في موضع العفو
والرّحمة. أنتَ ترحم من يكون أهلاً للرّحمة، وترحم عندما تكون المصلحة في الرحمة.
وأنتَ تعفو من موقع رحمتك لمن كان أهلاً للعفو، ولمن كانت هناك مصلحة وحكمة في
العفو عنه، أنتَ يا ربّ لا ترحم كيفما كان، لأنّك الحكيم الذي يضع الشيء في موضعه.
المعاقب الجبّار
"وأَشَدُّ المُعاقِبِينَ في مَوْضِعِ النَّكالِ والنَّقِمَة".
وأنت عندما تعاقب، وعندما تعذِّب، فأنتَ لا تعاقب من موقع انفعال.. تعاليتَ يا ربِّ
عن صفات المخلوقين. وأنت لا تعذّب على أساس التنفيس عن عقدةٍ.. تعاليت يا ربِّ عن
ذلك علوّاً كبيراً. ولكنّك تعرف مصالح عبادك.. فأنت تعاقب من كان أهلاً للعقاب،
ومَنْ كانت الحكمة في عقابه، لأنّك الحكيم الذي يضع الشيء في مواضعه.
"وأَعْظَمُ المُتَجَبِّرينَ في مَوْضِعِ الكِبْرِياءِ والعَظَمَة".
أنتَ الجبّار المتجبِّر، الكبير المتكبّر، كلّ الذين يتجبّرون ويتكبّرون لا حقَّ
لهم في ذلك، لأنّهم الأذلّون الأحقرون الذين إذا ملكوا شيئاً من عناصر العظمة،
فأنتَ الذي أعطيتهم ذلك. أمّا أنتَ يا ربّ، فأنت المتكبّر من خلال موقع الكِبَر في
ذاتك، لأنّك الكبير، وأنت المتجبّر من خلال أنّ الجبروت لك، لأنّك المهيمن على
الأمر كلّه.
ومن هنا، كانت صفة المتكبّر ذمّاً للمخلوق، ولكنّها مدحٌ للخالق، وصفة الجبّار
المتجبِّر لعنةً للمخلوق، ولكنّها تكريمٌ للخالق، لأنَّ الله وَحْدَهُ هو مالك
الجبروت، وهو الذي له الكبرياء، ولا كبرياء ولا جبروت لأحد سواه. ولذلك، فهو أعظم
المتجبِّرين الذين يتجبَّرون في غير موضع الجبروت، ويتكبَّرون في غير موقع
الكبرياء. وحدَكَ، يا ربّي، تتجبّر وتتكبّر في موضع الكبرياء والعظمة، التي هي سرّ
ذاتك، والتي هي سرّ عظمتك.
مجيب الدّعاء
"اللَّهُمَّ أَذِنْتَ لي في دُعَائِكَ ومَسْأَلَتِكَ، فَاسْمَعْ يا سَميعُ
مِدْحَتي، وأَجِبْ يا رَحيمُ دَعْوَتي، وأَقِلْ يَا غَفورُ عَثْرَتي".
يريد الإنسان أن يأخذ إذناً عندما يريد أن يتكلّم مع الله، سبحانه وتعالى، والله قد
أعطاه الإذن: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ
الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ
يَرْشُدُونَ}. "أللَّهُمَّ أَذِنْتَ لي في دُعَائِكَ ومَسْأَلَتِكَ"، فأنا عندما
أدعوك يا ربّ؛ أدعوك من موقع أنّك أعطيتني الإذن بأنْ أدعوك.
يا ربّ، إنّني أدعوك، وربّما يطوف الشيطان فيحجب عنك دعائي، لأنّ دعائي قد تحيط به
الكثير من التهاويل، والأفكار، والهواجس. لذلك، أريد أن لا يكون بيني وبينك حائل،
حتى يخرج دعائي من القلب ليصلَ إليك.
أنتَ الذي يسمع من فوق عرشه ما تحت سبع أرضين، ويسمع وساوس الصدور، ولا يصمّ سمعه
الصوت، فاسمع مِدْحتي وأنا أتحدّث عن كلّ صفاتك الحسنى التي تمثّل مدحك والثناء
عليك.
"وأَجِبْ يا رَحيمُ دَعْوَتي". إنّني أدعوك ولي طلبات، ولي حاجات، ولي آلام
وتطلُّعات. أجب؛ فقد وعدتني، يا ربّ، عندما قلت: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}.
مقيل العثرات
"وأَقِلْ يَا غَفورُ عَثْرَتي". إنَّ طريقي، يا ربّ، مليئة بالحفر، ومليئة بالحواجز
وقد أعثر بهذه الحفرة فأقع، أو أعثر بهذا الحاجز فأقع. إنّني أريدك، يا ربّ، أن
تقيلني عثرتي.. أنْ تنتشلني من عثرتي إذا سقطت.. ألا تبقيني ساقطاً في الحفرات، بل
تنتشلني منها. والعثرة، هنا، كناية عن الذنب، عن الخطيئة، عن السيّئة، بمعنى اغفر
لي ذنوبي وسيّئاتي.
وأنا، يا ربِّ، عندما أدعوك، فإنّما أدعوك على أساس التجارب، وأنّ لي في المستقبل
هموماً أحتاج أن تفرّجها عني، وكربات أحتاج أن تكشفها عنّي، ومشاكل أُريد أن
تحلَّها. وأنا، عندما أدعوك، لا أفكّر بأنّك ستستجيب لي من موقع الإيمان فقط. وأنا
ـــ الآن ـــ أدعوك للحاضر، والمستقبل، وأنا أتطلّع للماضي كيف كان صنيعك بي.
"فَكَمْ يا إلهي مِنْ كُرْبَةٍ قد فرَّجْتَها، وهُمومٍ قدْ كَشَفْتَها، وعَثْرَةٍ
قدْ أقَلْتَها، ورحمةٍ قدْ نَشَرْتَها، وحَلْقَةِ بلاءٍ قدْ فَكَكْتَه".
مرَّت عليَّ في حياتي الطويلة أو القصيرة كُربات وهُموم، وكُنتُ أعيش ضغطها في
نفسي، وإذا بك، يا ربِّ، تفتح لي باب الفرج، فأتنفّس من خلاله، وإذا بك تبدِّد
الغيوم المكفهرة الملبّدة في سماء حياتي، وإذا بك تمدّ يدك العطوفة من وراء الغيب
لتنتشلني من حفرات الذنوب والعثرات والأخطاء. وكلّ ذلك، يا ربّ، بفضل رحمتك التي
نشرتها لي، وأحطتني بها في كلّ ما وضعته لي من رزق وعافية، كانت بمثابة تحطيم لحلقة
البلاء المضروبة حول عُنُق حياتي.
عندما يطبق البلاء على أحدٍ منّا، فليكن لسان حاله، كلسان حال الإمام (عجَّل الله
فرجه الشريف)، ولنردّد مخاطبين المولى العزيز القدير قائلين له: يا ربّ، قد لاحظنا
في حياتنا السابقة أنّك عمدت إلى حلقة البلاء التي أطبقت علينا، ولم تدع لنا مجالاً
للفكاك منها، فككتها وأصبحنا بذلك أحراراً.
لذلك، نحن عندما ندعوك، يا ربّ، فإنّما ندعوك على أساس الإيمان بك كربٍّ رحيم، على
أساس التجربة، لأنّ الماضي الذي عشناه في رعايتك، كان ماضياً يغرينا بأنْ يكون
الحاضر والمستقبل من سنخه وامتداداً له، على طريقة قول الشّاعر:
اللهُ عوَّدَكَ الجميـــ ـــلَ فَقِسْ على ما قد مضى
لا نقل كفى! انتهت حياتنا.. هذه القضية أقولها لكلّ الشباب، من الذكور ومن الإناث،
الذين تُطبِق عليهم ضغوط الحياة، وتثقل عليهم أثقال الحياة، ولا تجربة لهم تغريهم
بالشعور بالأمل الكبير في المستقبل، فيسقطون تحت تأثير اليأس، مردّدين كفى، لقد
أقفلَ الباب من جميع الجهات!!
ألا يوجد بعض الناس يقولون ذلك؟ هذا الذي يلجأ للانتحار، وللضياع، ولليأس وما إلى
ذلك، نتيجة قلّة التّجربة.
عظمة الإيمان هي أنّ الإنسان لا يمكن أن ييأس وهو مؤمن أبداً.
{يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ
مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ
الْكَافِرُونَ}.
معنى أن يكون الإنسان مؤمناً، أن يكون الأمل كبيراً في قلبه وفي حياته، فلا ييأس،
ولا يعيش لحظة كفر في حالة اليأس. هذه طبيعة الإيمان.
إنّ استخدام الداعي صيغة الماضي في دعائه كما في قوله: "قد فرَّجتها.. كشفتها..
أقَلْتَها.. نشَرْتَها.. فَكَكْتَها..."، تستبطن استحضاراً لِنِعَمِ الله تعالى
السّابقة، في محاولة للاتّكاء عليها من أجل مواجهة الحاضر والمستقبل. بكلام آخر،
إنّ لسان حالة الداعي يحاول أن يقول لنا، إنّ الله سبحانه وتعالى الذي لم يتخلَّ
عنّا في السابق، لن يتخلّى عنّا، بالتأكيد، اليوم، ولا في الغد، فإنَّ رحمة الله
تسع كلّ الأزمان والأوقات. وهذه الفكرة من شأنها أن تحافظ على شعلة الأمل متّقدة في
قلب الإنسان، بحيث لا يهزمه اليأس أو القنوط، ولا تهزمه العقبات والصعوبات مهما
بلغت، ولا تقوى عليه الشّدائد ولا المِحَن مهما كان حجمها أو نوعها. فهو سيبقى
مسلّحاً بالأمل الإلهي، الذي يحثّه على إيجاد المخارج والمنافذ مستعيناً بالله
الرّحمن الرّحيم.
الواحد الأحد
"الحَمْدُ للهِ الذي لمْ يَتَّخِذْ صاحِبَةً ولا وَلَداً، ولم يَكُنْ لهُ شريكٌ في
المُلْكِ، ولمْ يكُنْ لهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تكبيراً".
في هذه الفقرة، يُراد أن يعيش الإنسان التصوّر المتحرّك لمسألة توحيد الله سبحانه
وتعالى، أمام ما كان يعيشه الناس في زمان الدّعوة من بعض الأفكار، فالقرآن حدّثنا
أنَّ هناك مَن كان يجعل لله البنين، أو يجعل لله البنات، وهناك مَن كان يرى أنّ
المسيح ابن الله، بالمعنى الماديّ للولدية، وأنّ عُزَيْراً ابن الله، بالمعنى
الماديّ للولدية، وكان المشركون الجاهليون من العرب يقولون: إنّ الملائكة بنات
الله، وكان التصوُّر الغالب في هذه المسألة هو تصوُّر الولدية، بالمعنى الذي يفهمه
الناس لعلاقة الولد بوالده، في ما يوحي به من وجود زوجة، ليكون الولد نتيجة طبيعية
للعلاقة الزوجية.
من هنا، تحدَّثَ هذا الدعاء انطلاقاً من الحديث القرآني، أنّه لم يتّخذ صاحبةً،
باعتبار أنّ الولدية بالمفهوم الماديّ الذي كانوا يتصوّرونه، تفرض أن يكون هناك
صاحبة، بمعنى زوجة، وإلّا ليس هناك ما يوحي بأنّهم كانوا يتحدّثون عن زوجة لله.
نلاحظ مثلاً في الطقس المسيحي، في ما نستمع إليه من طقوسهم، عندما يتحدّثون عن مريم
(عليها السلام)، يقولون: يا والدة الله، أو يا والدة الإله، باعتبار أنّهم يعتبرون
عيسى ابناً لله. ومفكّرو المسيحية ـــ في هذه الأيام ـــ يقولون إنّنا لا نؤمن
بالولدية بمعنى التجسيد، أي بالشكل العضوي، كما هي الولدية الطبيعية، ويحاولون أن
يفلسفوها بطريقة تجعل منها حالة فكرية، فهم يقولون: أن يكون عيسى ابناً لله، بمعنى
أن يكون تجلّياً لله، مثل الفكرة بالنسبة إلى الفكر، ومثل القرآن بالنسبة إلى الله،
ومثل الكلام بالنسبة إلى المتكلّم، في تأويلات معيّنة.
وفي الحوار الذي دار بيني وبين أحد العلماء المسيحيّين، وهو المطران جورج خضر في
جريدة النهار، كان يقول: نحن لا نقول بالتثليث المادي، ولا نقول بالابنيّة المادية
لعيسى. هذه فكرة كانت موجودة عند بعض المسيحيين في أيّام القرآن، ونحن نلتقي مع
القرآن في رفض الابنيّة بالمعنى الجسدي والمعنى العضوي، كما هو انتماء الابن إلى
الأب.
ولكنّنا نلاحظ بالمفهوم الطقسي عندهم، أنّهم يعبِّرون عن السيّدة مريم (عليها
السلام) بأنّها والدة الإله، ويقول بعض مفكّري المسيحيين: إنّ هذه الأمور لا بدّ من
أن نؤمن بها، وإنْ لم نتعقّلها، لأنّ الإيمان فوق العقل.
ونحن لا نريد أن ندخل في هذا النقاش، ولكنّنا أحْببنا أن نضعكم في الجوّ، فالإيمان
الإسلامي يرتكز على هذه النقطة، وهي أنَّ الله، سبحانه وتعالى، لا تربطه بعباده
أيّة رابطة إلّا رابطة الخالق بالمخلوق. كلّ العباد مخلوقون لله، وليس هناك أحد
أقرب إليه من أحد، إلّا من خلال التقوى، ومن خلال الإيمان، ومن خلال القرب الروحيّ.
ولهذا، قرّب الأنبياء والأولياء، قرّبهم إليه من خلال معرفتهم، ومن خلال إيمانهم،
ومن خلال جهادهم، ومن خلال طاعتهم، وحتّى الملائكة، فإنّ الصفة التي تربطهم بالله
وتجعلهم قريبين إليه، هي أنّهم {لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ
مَا يُؤْمَرُونَ}.
ونحن إذا استطعنا أن نعيش هذه الصفة، وهي أن لا نعصيَ الله في ما يأمرنا به، ونفعل
ما يأمرنا به، فإنّنا نكون كالملائكة، فهذه صفة الملائكة.
ثمّ، لماذا يحتاج الله إلى الولد؟! {مَا كَانَ للهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ
سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ}. كلّ
واحدٍ منّا يحتاج إلى الولد، رجلاً كان أو امرأة، حتّى يملأ هذا الفراغ، وحتى يشعر
باستمرار وجوده، من خلال استمرار أولاده، فالشخص الذي ليس له ولد يقال عنه شخص
أبتر، كما ورد في القرآن الكريم: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}، ردّاً على
مَن كان يقول: إنَّ محمّداً(ص) لا عقب له، إذ ليس عنده ولد، فإذا انقطع نسله، فلن
يكون له امتداد، لأنَّ الولد يمثّل امتداداً للوجود وللإنسان، كأنّ الإنسان يستمرّ
بولده.
والله هو الخالد الأبديّ، هو الأزليّ، السرمديّ الذي لا أوَّل له، ولا آخر، ومن
ثمّ، فهو لا يحتاج ولداً حتى يستمرّ وجوده باستمراره، الله يقول: {مَا كَانَ للهِ
أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ
كُن فَيَكُونُ}، ويقول أيضاً: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ*
وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}. فلماذا الولد؟
وعندما تقرأ: "لم يتّخذ صاحبةً ولا ولداً" في دعاء الافتتاح، فإنّك تحمد الله بأن
تنزّهه عن أن يكون كالمخلوقين، له زوجة وله ولد، وكأنّك تتحدّى كلّ الفكر الذي يطرح
مثل هذه الأمور، لتقول: إنّ الله "ليس كمثله شيء"، وليس كالمخلوقين.
ثمّ الفقرة الثانية "ولم يكن له شريك في الملك". عندما تتطلّع إلى كلّ ما تراه من
هذه الأكوان، وعندما يطوف خيالك في ما لا تراه من الأكوان الأخرى، فإنّك ـــ كإنسان
مؤمن ـــ تعيش الإحساس بأنَّ الله وحده هو المالك لكلّ هذه الأكوان، ولكلّ الوجود.
لماذا كان الله هو المالك لهذا الوجود؟ هل اشتراه من غيره؟ هل استوهبه من غيره؟
إنّه المالك للوجود، لأنّه هو الذي خلقه، ولأنّه هو الموجِد له، وهو المدبّر له،
وهو الذي بيده كلّ أمره. "ولم يكن له شريك في الملك"، لأنّ أيّ موجود سواه هو
مخلوقٌ له، فكيف يكون المخلوق شريكاً للخالق؟!
الخالق غنيّ في استمرار وجوده، والمخلوق محتاج إلى الخالق في وجوده، ومحتاج إليه في
استمرار وجوده.
لذلك، لا يمكن أن يكون هناك شريك لله سبحانه وتعالى.
وعندما ننطلق بالتعاليم الإسلامية، ونتعمَّق في مسألة الشرك، نجد أنَّ الشرك يحتوي
معاني كثيرة؛ هناك شرك العقيدة حينما يعتقد الشخص أنَّ هناك إلهين. لا تقولوا
إلَهين.. لا تقولوا ثلاثة.. انتهوا!
وهناك شرك في العبادة، بمعنى أن يعبد الله ويعبد غيره، أن يسجد لله ويسجد لغيره، أن
يركع لله ويركع لغيره، أن يدعو الله ويدعو غيره، معتقداً أنَّ غير الله مساوٍ لله.
"ولم يكن له شريك في الملك"، فهو المالك ولا مالك غيره، وكلّ الناس مملوكون له،
وكلّ الوجود مملوك له.
"ولم يكن له وليٌّ من الذلّ". الوليّ هو الذي يلي أمر مَن ولّي عليه، الوليّ قد
يكون الناصر، الوليّ المشرف على الأمر، الوليّ: المدبّر للأمور. قل مثلاً: وليّ
الطفل، وليّ القاصرين، أو وليّ الأُمّة. وهكذا، فالولاية نوع من أنواع العلوّ،
والإشراف، والهيمنة، فأن يكون للإنسان وليّ، يعني أن يكون موقعه موقع ضعف وذلّ.
الله سبحانه وتعالى ليس له وليّ، أي ليس هناك أعلى منه، فهو الوليّ ولا وليّ غيره
{اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُو}، الله وليّ الكون كلّه، وليس هناك وليّ لله
إلّا بمعنى آخر، قد يقول المؤمنون أولياء الله، عليّ وليّ الله، يعني أنّه وليٌّ
لله، ينصر الله في دينه، ويحبّ الله ويطيعه.
*من كتاب "في رحاب دعاء الافتتاح"، ص 67-79.