"ولم يكن له وليٌّ من الذلّ". يعني أنّ الله ليس هناك أحد فوقه، لأنّه فوق
كلّ أحد. ثم بعد أن يحمد الله من خلال هذه الصفات التي تعبِّر عن معنى
التوحيد، يلتفت إلى نفسه؛ "وكبِّرْهُ تكبيراً"، كأنّه يقول لنفسه: يا فلان،
عندما تذكر الله اذكره في مواقِع الكبر، في مواقع العظمة، في مواقع التكبير..
كَبِّره.. أعلن ذلك، قل "الله أكبر"، وعِش معنى هذه الكلمة في وعيك، لأنّ
عليك أن تشعر بأنّ الكبرياء لله، وأنّ الكِبَر والعظمة لله، ليصغر عندك كلّ
مَن في الوجود. وعندما تقولون: "الله أكبر" ، يوجد أمامها كلمة ثانية، الله
أكبر وما عداه الأصغر، لكن مشكلتنا دائماً أنّنا نقول "الله أكبر" وننسى "أصغر"،
ولذا تأخذنا الحالة النفسية والوجدانية فنعطي لغير الله صفة الله. وفي
تصوّري، حتى لو جاز لنا من خلال المعنى اللّغوي أن نطلق بعض الكلمات على
غير الله، لكن ينبغي أن لا نطلقها تأدُّباً لله.
إذا أصبحنا نستعمل الكلمات لله سبحانه وتعالى في صلاتنا ونستعملها لغير
الله؛ فإنّ الكلمات ستهون في نفوسنا.
علينا أن نحبّ الناس الذين يملكون علماً وجهاداً وتقوى، ولكن أن لا تأخذنا
الحالة النفسية بحيث نبحث، لمن نحبّهم، عن ألقاب غاية في التقديس. وهناك
حادثة طريفة حدثت في زمن السيد أبي الحسن الأصفهاني، وهو مرجع الشيعة العام،
وكان كبيراً من مراجع الشيعة قبل السيّد محسن الحكيم الذي توفي سنة 1365
هجرية. وكان الناس يكتبون له بلقب آية الله العظمى أو حجّة الإسلام
والمسلمين، وما إلى ذلك من الكلمات التي تقال عادة.
وكان يوجد إنسان يحبّ المرجع الكبير كثيراً، ورأى أنّه مهما كتب له من
ألقاب هي دون قدره، فماذا يبعث له، ولم يجد سوى: حضرة الله العلماء ـــ
والعياذ بالله ـــ يعني أنت إله العلماء!
وهكذا، عندما نتعوَّد على تكثير الألقاب وعلى استهلاكها كيفما كان، نصل إلى
هذه الدرجة في كثيرٍ من الحالات. لذلك، لنتعوّد على أن نكون متوازنين في
مشاعرنا تجاه الناس، فنعطي كلّ إنسانٍ حجمه وقدره، ولا ندخل عواطفنا في ذلك،
وأن نحتفظ للكلمات بمعانيها.
لفظ (الإمام) لغير المعصوم:
من جملة الأشياء التي كان لي رأي فيها، ولم يوافقني أحد عليها، هي إطلاق
لقب الإمام على بعض العلماء في لبنان وإيران والعراق. فقد كانت وجهة نظري
أنّ الشيعي ليس من الضروري أن يسمّي أحداً "إمام"، لأنّ الإمامة عند الشيعة
تختلف عن الإمامة عند غير الشيعة من المسلمين، فهي عند غير الشيعة من
المسلمين، تعني معناها اللغوي المتقدّم في العلم؛ إمام في الفقه، إمام في
النحو، إمام في التفسير، ولكنّها عند الشيعة تعني معنًى يتّصل بالمضمون
الثقافي لعقيدة الإمامة عند الشيعة. فإذا نحن استعملنا كلمة الإمام عليّ،
ثم نستعمل كلمة الإمام لأيّ عالِمٍ، فلن يكون هناك فرق بين الكلمتين في
المفهوم التربوي، وخصوصاً ما نعلِّمه للأطفال وللشباب.
نحن لا نقول إنّ الناس يقصدون هذا المعنى، ولكن قد تكون الكلمة تحمل معاني
في موقع، فإذا أبعدناها خارج معناها، فإنّها تترك تأثيرات سلبية على المعنى
الحقيقي.
خلاصة كلّ الفكرة التي انطلقنا فيها، هي أن نحاول أن نبقيَ الكلمات التي
تطلق على الله معناها العميق الدقيق، لأنّنا إذا وصفنا الله بالعظيم وغيره
بالعظيم، ووصفنا الله بالأكبر وغيره بالأكبر، ووصفنا الله بالأعلى وغيره
بالأعلى، فمعنى ذلك أنّ هذه الكلمات لن يبقى لها بعد ذلك دور كبير في
نفوسنا. وإذا قدرنا على هذه الأمور، فربّما تتغيّر كثير من المشاعر
والأحاسيس في ما نقدّمه إلى الله من كلمات.
كلّ الحمد لله:
"الحمدُ لله بجميعِ محامِدِهِ كُلِّها على جميعِ نِعَمِهِ كلِّها" .
في هذه الفقرة، ينفتح الإنسان على آفاق حمد الله، لأنّ الحمد يعني الثناء،
ويعني في داخله بعض معاني الشكر. فإذا أردنا أن نحمد الله، سبحانه وتعالى،
فعلينا أن نحمده من خلال صفةٍ من صفات العظمة في ذاته.
وهنا يتصوّر الإنسان نِعَم الله عليه، وعلى الناس من حوله، وعلى الكون كلّه،
فيرى أنّ نِعَم الله لا تُحصى، وعند ذلك، يلتفت إلى محامِد الله، فيتوجّه
إلى أن يَحمد الله بكلّ محامده، أي بكلّ وسائل الحمد، وبكلّ صفات الحمد،
وبكلّ مواقع الحمد، حتى ينطلق الإنسان في شُكر النعمة، وفي الاعتراف
بإحساسه بالنعمة، وفي الشعور بعظمة النّعمة، بحيث يُقدّم لله الثناء بكلّ
ما يُثنى عليه، في مقابل النِّعم التي أنعمَ الله بها عليه، ليتوازن لدى
الإنسان إحساسه بعظمةِ النّعمة، مع إحساسه بعظمة مواقع الحمد عند الله
سبحانه وتعالى. ولذا، لا يقتصر الإنسان على صفةٍ دون صفةٍ في حمد الله،
باعتبار أنّه يريد أن يتطلّع إلى كلّ نِعَمِ الله عليه، ليكون حمد الله
مقابل نعمةِ الله.
وهناك في بعض الأذكار التي يُستحبُّ للإنسان أن يعقِّب بها بعد صلاة الصبح،
ممّا يتضمّن هذا المعنى: "سبحانَ الله كلّما سبّح الله شيء، وكما يُحبُّ
الله أن يُسبّح، وكما هو أهله، وكما ينبغي له، والحمد لله كلّما حَمِد الله
شيء، وكما يحبُّ الله أن يُحمد، وكما هو أهله، وكما ينبغي له، ولا إله إلاّ
الله كلّما هلَّل الله شيء، وكما يحبُّ الله أن يُهلِّل، وكما هو أهله،
وكما ينبغي لكرَمِ وجههِ وعزِّ جلالهِ، والله أكبر كلّما كبّر الله شيء،
وكما يُحبّ الله أن يكبّر، وكما هو أهله، وكما ينبغي لكرم وجهه وعزِّ جلاله".
فالإنسان يحمد الله كما هو أهل للحمد، وكما ينبغي الحمد لله، وكما يحبّ
الله أن يحمد، والله يحبّ لنا أن نحمدَهُ بكلِّ محامدِهِ، جملةً وتفصيلاً،
لأنّنا إذا ذكرنا كلّ محامِده من خلال كلّ مواقع عظمتِه، فإنّنا نملك عند
ذلك صورةً شاملةً للخطوط العامّةِ لعظمةِ الله ممّا يُمكن للإنسان أن
يتصوّره.
"الحمد لله بجميع محامِدِه كلّها"، بجميع مواقع الحمد في ذاته، التي تدفعنا
إلى أن نعلن الحمد له ونحمده، "على جميع نعمِهِ كلّها"، سواء كانت هذه
النِّعم نعمة الوجود، أو كلّ القضايا التي تتّصل بالوجود، أو تتّصل بما بعد
الدنيا في أجواء الآخرة.
"الحمدُ لله الذي لا مضادَّ لهُ في مُلْكِه، ولا مُنازِع لهُ في أمْرِه".
"الحمد لله الذي لا مضادّ له في ملكه". هنا ننتقل إلى أن نتصوّر الله
سبحانه وتعالى من خلال مقارنته بكلّ الموجودات الأخرى، ولا سيّما الموجودات
الإنسانية الحيّة الفاعلة، التي تتميّز ببعض مواقع القدرة، وببعض مواقع
الإرادة، وببعض مواقع الحركة، ممّن قد يستغرق الناس في صفاتهم وفي قدرتهم
وفي عظمتهم، فيغفلون عن الله عندما يذكرونهم، وربّما يرفعونهم إلى صفة
الآلهة أو أنصاف الآلهة. فما قيمة هؤلاء؟ وما قدرتهم مقارنةً بقدرة الله
سبحانه وتعالى؟
هل يملكون أن يقفوا الموقف المضادّ لله في ملكه؟
فإذا أراد الله أن يُنزِلَ المطر من السماء، هل يملكون أن يمنعوا المطر من
النزول؟
وإذا أراد الله أن يبعث الجدبَ في الأرض، هل يملكون أن يُعطوا الأرض خصبها؟
وإذا أراد الله أن يمنع الينابيع من أن تتفجّر، هل يملكون تفجيرها؟
وعندما يريد الله للّيل أن يقف عند حدّ، وللنّهار أن يقف عند حدّ، فهل
يملكون أن يتجاوزوا باللّيل عن حدِّه، وبالنهار عن حدِّه؟
هل يملكون أن يُعطوا الحياة لمن أراد الله له الموت؟ أو يفرضوا الموت على
مَنْ أراد الله له الحياة، ماذا يملكون في مواجهة الله؟ إنّ الإيمان بالله
الواحد يجعلنا نحمد الله على أساس أن نتصوّر كلّ خلقه، فنجد أنّه لا مضادَّ
له في كلّ ملكه، أي ليس هناك من يملك أن يقفَ الموقف المضادّ لإرادة الله،
فإذا أراد الله شيئاً، كان، حتى لو لم يُرِدْهُ كلُّ الناس، وإذا لم يُرِد
الله شيئاً لم يكن، حتى لو أرادهُ كلّ الناس، وهذا معنى الذكر المعروف: "ما
شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله". فالله هو
الذي يعطي الأشياء وجودها، ولا يملك أحدٌ أن يُعطيها ذلك، إلّا من خلال
الوسائل التي أعطاها الله.
"الحمد لله الذي لا مضادّ له في ملكه، ولا مُنازِع له في أمره". لا يملك
أحدٌ أن ينازع الله في أمره، بمعنى أن يقف موقفاً فعليّاً ينازع الله ويثير
النّزاع مع الله في بعض الأمور، فيعطِّل مشيئة الله.
طبعاً، هناك أشخاص كثيرون في الدنيا يدخلون في عالم النزاع مع الله، فكثير
منهم يدَّعون الربوبية، وكثير منهم يتمرّدون على الله، ويسعونَ في الأرض
فساداً، ويحاربون الله ورسوله في دينه وأُمّته.. هذا كلُّه موجود، ولكنّ
المقصود من كلمة "لا منازِع له في أمره"، أنّه ليس هناك من يستطيع أن ينازع
الله، بمعنى أن يواجه الله سبحانه وتعالى بإرادة أخرى، بحيث يُعطِّل أمر
الله سبحانه وتعالى.
ينازعه في أمره، يعني يُعطِّل أمره، يُربك واقع الإرادة الإلهيّة، أو يُربك
واقع الأمر الإلهي، وهذا لا يمكن في الكون كلِّه، فالله سبحانه وتعالى يقول:
{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}
أمره هو هذا، بمعنى أنّ أمر الله سبحانه وتعالى نافذٌ من خلال إرادته، ولا
قيمة لنزاع الآخرين، ولكلّ الوسائل التي يتحرّك بها الآخرون في مقابل الله
سبحانه وتعالى.
وعندما نشعر ونتحسَّس هاتين الكلمتين: "الحمد لله الذي لا مضادّ له في ملكه،
ولا مُنازِع له في أمره"، فإنّنا ننفتح على الحياة كلّها، عندما ننفتح على
الله، فنشعر بأنّ كلّ القوى الموجودة في الكون، لا تستطيع أن تُعطِّل أيَّ
إرادةٍ من إرادات الله، ولا تستطيع أن تُربكَ أيَّ أمرٍ من الله.
ولذلك، فإنّنا عندما نثق بالله في كلّ أمورنا، ونتحرّك من موقع الثقة بالله،
فإنّنا لا نخشى من الآخرين أن يعطّلوا أيَّ شيءٍ ممّا يريدُ الله له أن
يكون، أو يوجدوا أيَّ شيء ممّا لا يريد الله له أن يكون. وهذا يعطينا الثقة
بالله، من خلال الشعور بأنّ كلّ من عادى الله لا يملك أمام الله شيئاً.
وهذا ما نستوحيه من بعض الأدعية: "يا مَن يكفي مِن كلّ شيء ولا يكفي منه
شيء"، فهو يكفي من كلّ أحد، ويحمي من كلّ أحد، ولكن ليس هناك أحدٌ يحمي
أحداً منه، إذا لم يُرد الله لأحدٍ شيئاً، فلا يملك أحدٌ أن يعطيه ذلك
الشيء.
عظمة الله مطلقة:
"الحمد لله الذي لا شريكَ لهُ في خَلْقِه، ولا شبيهَ لهُ في عَظَمَتِه".
وهذه، أيضاً، نقطة تتّصل بجانب التوحيد؛ فنحن عندما نتصوّر الله، فإنّنا
نتصوَّره في وحدانيّته، في ألوهيّته، وفي خلقه، لأنّه هو الذي خلق الخلق
ولم يخلقهم أحدٌ آخر، هو الخالق وحده، وإذا كان هو الخالق وحده، فليس له
شريك، لأنَّ الشريك لا بدّ من أن يكون خالقاً حتى يكون في موقع الربوبية،
وفي موقع الألوهيّة، وإذا كان كلّ الموجودين مخلوقين لله، فكيف يمكن لهم أن
يكونوا شركاء لله؟
وإذا أردنا أن نتصوَّر عظمة الله مقابل عظمة غيره من المخلوقات، فإنّنا لا
يمكن أن نرى أنّ غير الله شبيه لله في عظمته، باعتبار أنّ بعض الناس قد
يستغرقون في الناس فيشبّهونهم به! في هذا المجال، هناك معادلة واضحة بيّنة،
وهي أنّ الفرق بين عظمة الله وبين عظمة أيِّ مخلوقٍ من مخلوقاته، هو أنّ
عظمة الله مطلقة، لا يحدّها شيء، وعظمة المخلوقات محدودة بحدود خاصّة.
والشيء الثاني، هو أنّ عظمة الله ذاتية لله، فالله هو العظيم في ذاته، لم
يكتسب عظمته من أيِّ شخصٍ آخر، أمّا عظمة غير الله، فهي مستمدّةُ ممّا
أعطاه الله لهم من بعض جوانب العظمة، ولذلك، فإنّ عظمة غير الله هي من آثار
عظمة الله، إذ إِنّ كلّ العظماء في ما يتميّزون به من مواقع العظمة، إنّما
استمدّوا عظمتهم من خلال ما أعطاهم الله من عظمة.
وعلى هذا الأساس، فعظمة الخلق مستمدّة من عظمة الخالق، أمّا عظمة الخالق،
فهي ليست مستمدةً من أيِّ أحد، لأنَّ عظمته تنطلق من سرّ ذاته، فهي ذاتية
له وليست طارئة. وإذا كانت عظمة الله مطلقة بلا حدود، وكانت عظمة الله
ذاتية، فكيف يمكن أن يكون أحد شبيهاً لله في عظمته؟ لا يمكن ذلك، من خلال
دراسة المسألة بشكلٍ واضح وبديهي.
"الحمدُ للهِ الفَاشي في الخَلْقِ أمْرُهُ وحَمْدُهُ، الظَّاهِرِ بالكَرَمِ
مَجْدُه، الباسِطِ بالجُودِ يَدَه، الذي لا تنقُصُ خزائِنُه، ولا تزيدُهُ
كَثْرَةُ العَطاءِ إلاّ جوداً وكَرَماً، إنَّهُ هو العَزيزُ الوَهَّاب".
كلّ شيءٍ يدلّ على وجود الله "الحمدُ للهِ الفَاشي في الخَلْقِ أمْرُهُ
وحَمْدُه" .
عندما نريد أن نتصوّر الله سبحانه وتعالى في ما له من أمرٍ يتحرّك الوجود
من خلاله، وفي ما له من حمدٍ في كلّ مواقع عظمته، فإنّنا لا نحتاج إلى أن
نُدقّق وإلى أن نتعمَّق، وإلى أن ندرسَ الأشياء، لأنَّ الإنسان يحتاج إلى
أن يتعمَّق ويدرس ويتعرّف الأشياء الخفيّة التي لا يستطيع أن يعرفها إلّا
من خلال الدراسة، وإلّا من خلال التجربة. أمّا في ما يتعلّق بالله، فإنّ
أمر الله منتشرٌ في الكون كلّه.
ماذا ترى في الكون؟ ترى السماوات والأرضين.. ترى الإنسان والحيوان والنبات
والجبال والبحار والأنهار، وترى كلَّ شيءٍ أمامك، وهذا كلّه هو من أمر
الله، لأنّ هذا كلّه من إرادة الله.
وهكذا عندما تريد أن تتعرّف مواقع حمد الله، فإنّك تجد مواقع حمدِ الله في
كلِّ مجالات عظمة الله، وإبداع الله، وسيطرة الله على الكون كلِّه. لذلك،
إذا أردت أن تتعرّف الله، فلا تحتاج أن تدخل كلِّية الفلسفة، حتى تعرف الله
من خلال الفلسفة ودراستها. تطلَّع.. اِقرأ كتاب الكون، تطلّع إلى الكون
كلّه، تجد أنّ أمر الله واضح في الكون، وأنّ حمده ظاهر في الكون، لا يحتاج
أن يعلّمك أحد، لأنّ طبيعة الأشياء تفرضُ ذلك.
وهذا هو الأسلوب القرآني الذي يريد للإنسان أن يتحرّك في معرفته بالله، بأن
ينطلق من خلال وجدانه، ومن خلال فطرته؛ أن تعرف الله بفطرتك، وأن تعرف الله
بوجدانك {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا
مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ}.
يتطلّع إلى السماء فيجدها في نظامها، وإلى الأرض في كلّ أنظمتها المتّصلة
بطبيعة الأرض وبمن في الأرض، فيقول: يا ربّ، إنّ من غير الممكن أن يكون هذا
بدون حكمة وبدون أساس، بشكل عفويّ لا يحتاج إلى عمق وتدقيق، لأنّ الأشياء
مربوطة بالفطرة، ولذلك قيل لأعرابية: بِمَ تستدلّين على وجود الله؟ قالت:
"بهذا المغزل، إنْ حرّكتُهُ تحرّك، وإنْ سكّنتُهُ سَكَنْ". هذا المغزل في
يدي، أمّا هذا الكون كلّه، فإذا لم يكن له محرّك، فكيف يتحرّك؟ وإذا لم يكن
له شخص يمسك حركته، فكيف يسكن؟
أيضاً، هناك أعرابي كان يعيش في البادية، لا يفهم القضايا إلّا من خلال
تجاربه، قالوا له: كيف تستدلّ على وجود الله؟ قال: "البعرة تدلُّ على
البعير"، عاش في حياة مع الجِمال، لا يعرف إلًّا من خلال هذه التجربة،
"وأثر الأقدام يدلُّ على المسير، أفسماءٌ ذات أبراج" الكواكب الموجودة
فيها، "وأرضٌ ذات فجاج، لا تدلّان على اللّطيف الخبير؟". إنّه يقول هذا
الظواهر الكونية العظيمة التي نراها بشكل طبيعي، هل من المعقول أنّها خُلقت
وحدها؟ ونحن نقول إنّه ليس من المعقول أن تكون هناك بعرة بدون بعير، أو أثر
أقدام من دون مسير.
من هنا، فالإنسان لا يحتاج للإيمان بالله إلى براهين وحجج وأدلّة، فالفطرة
كافية (الإسلام دين الفطرة): {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً
فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ
لِخَلْقِ الله}. فالمسألة لا تحتاج إلى عمق، وهذا نأخذه من فكرة: "الحمد
لله الفاشي ـ يعني المنتشر ـ في الخلق أمرُهُ وحمدُه"، بحيث لو أغمض
الإنسان عينيه، ووجّه فكرَهُ إلى جسده، ودرس كلّ الأجهزة التي يستمرّ من
خلالها وجوده، الجهاز العصبي والهضمي وكلّ الأجهزة، كيف تتحرّك؟ وكيف
تتنظّم؟ وكيف تنتج؟ يستطيع الإنسان من خلالها أن يتعرّف أمر الله، وأن
يتعرّف مواقع حمد الله في ذلك، {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي
أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}. ولكنّ الفرق أنّ
هناك أناساً يفكّرون وآخرون لا يفكّرون، هناك مَن يقولون إنّهم غير
مستعدّين للتفكير، {خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ
وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ}. كيف ختمها الله؟ الله لم يختمها بالشمع
الأحمر، بل إنّهم عندما فقدوا الإرادة على التفكير، فإنّ عقولهم وقلوبهم
ستفسد بالطّبع.
شخص تقول له: تعال انظر الشّمس مشرقة، وهو مغمض العينين، تقول له: افتح
عينيك لترى، يقول: أنا غير مستعدّ لأن أفتح عينيّ! افتح أُذنيك لأكلّمك،
فيضع قطنة في أذنيه! {يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم}، ماذا
تفعل؟ بعض الناس لا يؤمنون بالله، ليس لأنّه لم يثبت عندهم الإيمان بالله،
بل لأنّهم لا يريدون الإيمان.
فوا عجباً كيف يُعصى الإلـــ ــهُ أم كيفَ يجحدُهُ الجَاِحدُ
وفي كلِّ شيءٍ له آيةٌ تدلُّ على أنّه واحدُ
"الحمد لله الفاشي في الخلقِ أمرهُ وحمدُه". فإذا أردت أن تتعرّف أمر الله،
وأن تتعرّف مواقع حمد الله، فافتح عينيك لترى آيات الله في الكون، وافتح
أُذنيك لتسمع كلّ ما يمكن أن تسمعهُ من آيات الله، اسمعْ خرير الشلال،
واسمع عزف الرياح، واسمع تغريد الطيور، واسمع اللّغات التي يتحدّث بها
الناس، وافتح عقلك وقلبك على كلّ ما تراه، وعلى كلّ ما تسمعه، فإنّك لا
تستطيع إلا أن تكتشف الله في ذلك كلّه. ولذلك، فالمؤمن الحقّ، الأعمق
إيماناً بعد رسول الله(ص) هو عليّ بن أبي طالب(ع)، الذي ينقل عنه قوله: "ما
رأيتُ شيئاً إلا ورأيتُ الله قبله".. أيّ شيء أراه؛ الذرّة التي أراها،
الشمس والقمر والناس، أيُّ شيءٍ أراه، أرى فيه مظهراً لقدرة الله سبحانه
وتعالى، وأرى فيه علامةً على وجود الله.
ولذلك، فإنّ الله عندما يطرح المسألة في القرآن، فإنّه يطرحها بطريقة
استغراب، لأنّ الناس يشكّون {أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ}، والذي يتطلّع إلى السماوات وهذا النظام الكوني، الذي لحدّ
الآن، ومهما بلغ الإنسان من العِلْم، لايزال يقصُر عن الإحاطة ببعض المظاهر
الكونية في السماء، وما أدركه لا قيمة له أمام ما لم يُدركه، وهكذا بالنسبة
إلى الأرض: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}، عندما تدرس النظام الكوني
في السماء والنظام الكوني في الأرض، فهل يمكن أن تقول إنّه قد وُجِدَ صدفة
من نفسه؟
ينقل أنّ ملحداً قدم إلى المسلمين في زمن الخلافة العباسيّة وقال: أنا
قادمٌ لأتحدّى علماء المسلمين، اثبتوا لي وجود الله، فأنا مُلْحد. فقالوا:
أهلاً وسهلاً، غداً الموعد في العاشرة. وكانت المسألة في بغداد، وبغداد
يشقُّها نهر دجلة قسمين. وحان الموعد، ولكن العالِم الذي (من المقرّر أن
يواجهه) تأخّر، فقالوا له: لماذا تأخّرت عن الموعد؟ فقال: يقع بيتي في
الجانب الآخر من النهر، وليس عندي زورق، فرأيت في طريقي خشبات ومسامير
مرميّة، فركضت خشبة إلى خشبة ثانية، وركض المسمار إلى خشبة ودخل فيها،
وألصقها بالخشبة الثانية، وجاءت الخشبة الثالثة والرابعة، وهكذا انتظمت
الخشبات بعضها مع بعض وشكّلت زورقاً، وقد تمّت هذه العملية في نصف ساعة،
فركبتُ الزورق وأتيت. فقال الملحد: ما هذا الكلام الخرافي؟ كيف حدث كلّ هذا
تلقائياً، فأين عقلك؟! أليس هناك نجّار أو عامل أو فنّي؟
فقال العالِم: إذا كنت تقول عنّي إنّي خرافيّ، لا أملك عقلاً ولا علماً
عندما أتحدّث بهذه القضية الصغيرة، فأنت ماذا تقول؟ تقول إنَّ الأرض وُجدت
صدفةً بدون سبب، والسماء والنظام كلّه تركّب من نفسه، فإذا كان الزورق لا
يتركّب من نفسه، فكيف تركّبت هذه الأكوان من نفسها؟ فأسقِط في يد الرجل،
لأنّ المسألة خلاف الوجدان. فالطفل بفطرته عندما يرى شيئاً، يقول لك إذا
كان يتكلّم: من عمله؟ مَن أتى به؟ فهل دخل هذا الطفل الصغير جامعة حتى
يفهم؟ فهذا سؤال طبيعيّ. ولذا قال الله في القرآن: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ
غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}، هل هم الذين خلقوا أنفسهم؟ أم
خُلِقوا من غير خالق؟ وهل يمكن أن يكون خلقٌ من دون خالق مادام هناك عدم
يحتاج إلى قوّة لتُخرج الشيء من العدم إلى الوجود؟
إذا فتحت عينيك وأُذُنيك وعقلك وحواسّك، فإنّ أيَّ شيء تمسكُه وأنتَ مُغمض،
يُثبت وجود الله. وهناك شاعر يقول:
يقولون في البرهان آمَنَ معشرٌ وما نَفْعُ إيمانٍ يجيءُ ببرهانِ
فما أنا في ما يُدرك العقلُ مؤمنٌ ولكنّما من فوقِ عقليَ إيماني
ليس معنى ذلك، أنّ الإيمان فوق العقل، بل معناه أنّ الإحساس الطبيعي هو
الذي يخلق الإيمان:
ولمّا قضى الوجدان بالدّين بالورى طرحتُ دليلي واقتنعتُ بوجداني
والوجدان هنا هو الفطرة، ثم يتحدّث عن الآخرة ويقول:
فيا جانبَ البحرِ الذي أنا غارقٌ بلجَّتِهِ لا بدَّ من جانبٍ ثاني
فالبحر له ساحلان، مهما كان البحر كبيراً، عندما أكون على هذا الساحل، يجب
أن يكون هناك ساحل آخر. ولذا، فالآخرة ضرورية.
هكذا، بطريقة طبيعية عفوية، يجب أن لا نتعوّد على التعقيد في قضايا العقيدة
ووجود الله، فأفضل أسلوب من أساليب الاستدلال على وجود الله هو الأسلوب
القرآني، الذي يربط الإنسان بالوجدان. تطلّع، اسمع، شمّ، ذُقْ، إلمس
وفكِّر... لا تحتاج أكثر من هذا.
*من كتاب "في رحاب دعاء الافتتاح"، ص 79-89.