الجوع فيه فوائد للإنسان في تكميل نفسه ومعرفته بربّه، لا تحصى، وقد ورد في فضائله أشياء عظيمة في الأخبار، لا بأس بالإشارة إليها أوّلاً، ثمّ الإشارة إلى حكمته .
روي عن النبيّ(ص) قال: "جاهدوا أنفسكم بالجوع والعطش، فإنّ الأجر في ذلك كأجر المجاهد في سبيل الله، وإنّه ليس من عمل أحبّ إلى الله من جوع وعطش".
وقال: "أفضلكم عند الله منزلة يوم القيامة، أطولكم جوعا وتفكَّراً في الله سبحانه".
وقال لأسامة: إن استطعت أن يأتيك ملك الموت وبطنك جائع، وكبدك ظمآن فافعل، فإنّك تدرك بذلك أشرف المنازل، وتحلّ مع النبيّين، وتفرح بقدوم روحك الملائكة، ويصلَّى عليك الجبّار .
وفي حديث المعراج قال: "قال: يا أحمد، هل تعلم ما ميراث الصّوم؟ قال: لا. قال: ميراث الصوم قلَّة الأكل، وقلَّة الكلام. ثمّ قال في ميراث الصّمت: إنّها تورث الحكمة، وهي تورث المعرفة، وتورث المعرفة اليقين، فإذا استيقن العبد، لا يبالي كيف أصبح، بعسر أم بيسر، فهذا مقام الراضين .فمن عمل برضاي، ألزمه ثلاث خصال: شكراً لا يخالطه الجهل، وذكراً لا يخالطه النسيان، ومحبّة لا يؤثر على محبّتي حبّ المخلوقين، فإذا أحبّني أحببته وحبّبته إلى خلقي، وأفتح عين قلبه إلى جلالي وعظمتي، فلا أخفي عنه علم خاصّة خلقي، أناجيه في ظلم اللَّيل ونور النّهار، حتّى ينقطع حديثه مع المخلوقين ومجالسته معهم، وأسمعه كلامي وكلام ملائكتي، وأعرّفه سرّي الَّذي سترته من خلقي - إلى أن قال -: وأستغرقنّ عقله بمعرفتي، ولأقومنّ له مقام عقله، ثمّ لأهوّننّ عليه الموت وسكراته، وحرارته وفزعه، حتّى يساق إلى الجنّة سوقاً، فإذا نزل به ملك الموت يقول: مرحباً بك وطوبى لك ثمّ طوبى لك، إنّ الله إليك لمشتاق - إلى أن قال - يقول: هذه جنّتي، فتبحبح فيها، وهذا جواري فاسكنه .
فيقول الروح: إلهي، عرّفتني نفسك فاستغنيت بها عن جميع خلقك. وعزّتك وجلالك، لو كان رضاك في أن أقطَّع إرباً إرباً، أو أقتل سبعين قتلة بأشدّ ما يقتل به الناس، لكان رضاك أحبّ إليّ - إلى أن قال - فقال الله عزّ وجلّ: وعزّتي وجلالي، لا أحجب بيني وبينك في وقت من الأوقات، حتّى تدخل عليّ أيّ وقت شئت، كذلك أفعل بأحبّائي".
أقول: في هذه الأخبار إشارة وتصريح بحكمة الجوع وفضيلته، وإن شئت أبسط من ذلك، فانظر إلى ما ذكره علماء الأخلاق أخذاً من أخبار الباب من خواصّه وفوائده، وقد ذكروا له فوائد عظيمة:
منها: صفاء القلب، لأنّ الشبع يكثر البخار في الدّماغ، فيعرضه شبه السكر، فيثقل القلب بسببه عن الجريان في الأفكار، وعن سرعة الانتقال، فيعمى القلب، الجوع بخلاف ذلك، فيصير سبباً لصفاء القلب ورقّته، ويهيِّئ القلب لإدمان الفكر الموصل إلى المعرفة، وله نور محسوس، وروي عن النبيّ(ص): "من أجاع بطنه، عظمت فكرته".
وقد سمعت مواريث المعرفة. ومنها: الانكسار والذلّ، وزوال الأشر والبطر، والفرح الَّذي هو مبدأ الطغيان، فإذا ذلّ النفس، يسكن لربّه ويخشع .
ومنها: كسر سورة الشّهوات والقوى الَّتي تورث المعاصي، وتوقع في الكبائر المهلكات، لأنّ أغلب الكبائر تنشأ من شهوة الكلام، وشهوة الفرج، وكسر الشّهوتين سبب للاعتصام من المهلكات .
ومنها: دفع النّوم المضيّع للعمر الَّذي هو رأس مال الإنسان لتجارة الآخرة، وهو سبب لدوام السهر الَّذي هو بذر كلّ خير، ومعين للتهجّد الباعث لوصول المقام المحمود .
ومنها: تيسّر جميع العبادات من وجوه، أهونها قلَّة الاحتياج إلى التخلَّي وتحصيل الطعام، وقلَّة الابتلاء بأمراض شتّى، فإنَّ المعدة بيت الداء، والحمية رأس كلّ دواء، وكلّ ذلك محوج للإنسان لعروض الدنيا من مالها وجاهها اللَّذين فيهما هلك من هلك .
ومنها: التمكَّن من بذل المال والإطعام والصّلة والبرّ والحجّ والزيارة وبالجملة العبادات الماليّة كلَّها...
من كتاب "المراقبات"، ص 154-157.