المراقبة والمحاسبة

المراقبة والمحاسبة

يذكر علماء الأخلاق، وتؤكّد المتون الإسلامية، موضوع المراقبة والمحاسبة، ولا توجد هكذا مفاهيم في التعاليم غير الدينية، ولكن بما أنّ الأساس في التعليم والتربية الدينية هو الله وعبادة الحق، فإن هذه المسائل تطرح في الدين.

هناك آية في القرآن الكريم، وقد ذكرتها تكراراً، لأننا حينما كنا في الدرس في قمّ في فترة ما، كان مدرّس الأخلاق يهتمّ كثيراً بهذه الآية، وبما أننا سمعناها وفكّرنا فيها كثيراً، فقد كان لها وقع خاصّ في ذهني، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا الله فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[الحشر: 18، 19].

ولتنظر نفس ما قدّمت لغد، قصدي من المراقبة والمحاسبة هو هذه الكلمة، أي أنّ جميع أعمال الإنسان تعتبر (مقدّمة) في القرآن، وكثير من الآيات هي بهذا الصّدد: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ الله}[البقرة: 110]. وقد صاغ سعدي هذا المضمون شعراً، بقوله: اجمع متاعاً وأرسله إلى قبرك، فإنّ أحداً لن يبعث لك شيئاً بعد ذلك، وعليك أن تقدّم أنت.

تعبير التقديم هو من القرآن نفسه، فكلّ أعمال الإنسان هي مقدّمات، أي أنّ الإنسان يرسل متاعاً وبضاعة إلى المحلّ الذي سيرحل إليه قبل رحيله، ثم يلتحق به بعد ذلك. فعليكم أن تنظروا وتدقّقوا في هذه المقدّمات عندما تريدون إرسال شيء إلى مكان معيَّن، فإنكم تفحصونه وتتأكّدون منه قبل إرساله، فيجب أن تفعلوا مثل ذلك بالنّسبة إلى ما تقدّمونه لآخرتكم.

ثم يقول: {إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[المائدة: 8] كأنه يريد أن يقول: إنكم لم تنظروا، فهناك عين دقيقة جداً ترى في جميع الأحوال، فقد يرسل الإنسان شيئاً قبل سفره ثم يقول: حسناً، فليكن ما يكون ممن ينظر ويدقِّق؟ فيقال له: كلا، ليس الأمر هكذا. إنّ الله خبير وعليم بكلّ ما تفعلون.

قال بعض من كان حاضراً عند السيّد البروجردي (رضوان الله عليه) قبل وفاته بعدّة أيّام: لقد رأيناه حزيناً جداً، وإنّه قال: وأخيراً انتهى عمرنا، وسوف نرحل، ولم نستطع أن نقدّم لأنفسنا خيراً.

تصوّر أحد الجالسين المتملّقين، أنّ هناك محلاً للتملّق، فقال: لماذا تقول هذا يا سيّدي؟ نحن المساكين يجب أن نقول هذا، فأنتم تركتم آثاراً خيرة كثيرة بحمد الله، وخرّجتم طلاباً كثيرين، وكتبتم كتباً كثيرة، وبنيتم مسجداً عظيماً، ومدارس، فقال السيد: (خلص العمل، فإن الناقد بصير)، فماذا تقول أنت؟ إنك تصوّرت أن ما يوجد عند الناس وفي منطقهم هو كذلك عند الله تعالى.

{إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[المائدة: 8]. وهنا يستفيد علماء الأخلاق المسلمون مسألة مهمّة من هذه الآية، "وتلك هي المراقبة"، والمراقبة تعني أن تتعامل مع نفسك كشريك لا تطمئنّ له، ويجب أن تراقبه دائماً، أي اعتبر نفسك كدائرة وأنت المسؤول عنها، فيجب عليك مراقبتها وتفتيشها، أي يجب أن يكون حال الإنسان حال المراقب دائماً.

قلنا إنّ هناك دستوراً آخر يسمَّى المحاسبة، وجاء ذلك في التعاليم الإسلاميّة أيضاً، فانظروا إلى نهج البلاغة، وكم لجمله وعباراته من روح ومعنى؟!

يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا، وزنوها قبل أن توزَنوا". زنوا أنفسكم هنا، وانظروا هل إنّكم خفاف أم ثقال؟ فإن كنتم خفافاً، فأنتم لا شيء، وإن كنتم ثقالاً، فإنّكم تامّون مكتملون. لا تقولوا: إنَّ الإنسان يمكن أن يمتلئ بالذنوب. لا، بل إنّ ميزان يوم القيامة طبقاً للقرآن هو ميزان يزن الحسنات فقط؛ فإن كان فيه حسنات فهو ثقيل، وإلا فهو خفيف: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ}[القارعة: 6 – 9].

يعطي الإمام هنا دستوراً عامّاً للمحاسبة، وتفسير ذلك في رواياتنا هو: "ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كلّ يوم". فالمحاسبة في عمل الإنسان هي من امتيازات الإسلام. وقد ألّفت كتب في مجال محاسبة النفس، ومنها كتاب "محاسبة النفس" للسيّد ابن طاووس، ومثله للكفعمي، وقد طرحت مسألة مراقبة النّفس ومحاسبتها في أغلب الكتب الأخلاقيّة الإسلامية أو جميعها.

المشارطة، المعاتبة، المعاقبة :

لو أراد الإنسان تربية نفسه إسلامياً، فالشّرط الأوّل هو المراقبة. ولكن يقال إنّ هناك شيئاً قبل المراقبة والمحاسبة وشيئاً بعدها، فقبل المراقبة "المشارطة"، أي على الإنسان أن يقطع عهداً على نفسه، لأنّه إن لم تحصل المشارطة أوّلاً، ولم يجعل لنفسه برنامجاً، فإنه سوف لا يعرف كيف يراقب نفسه.

فليتعهّد مع نفسه في البداية على تحديد طعامه نوعاً وكمّاً، وتحديد نومه، وكلامه، وما يجب أن يقوم به لنفسه، وما يجب أن يقوم به لخلق الله، وعلى كيفيّة تقسيم أوقاته، فإنه يشخص هذه الأمور في ذهنه، ويعاهد نفسه بأن يعمل طبقاً لهذا البرنامج، وبعد ذلك، يراقب نفسه دائماً ويحاسبها على فعل ما تعهَّدت به، مرّةً في كلّ يوم وليلة، فإن كان قد عمل بتعهّداته، تأتي مرحلة الشّكر والحمد لله والسّجود شكراً له، وإن لم يفعل، تأتي مسألة المعاتبة، وتعني لوم النّفس إذا كانت المخالفة قليلة، وتأتي المعاقبة عندما تزداد المخالفة، والعقوبة تكون بالصوم وبالأعمال الشاقّة والصّعبة، وهذه من الأصول المسلَّمة في الأخلاق والتربية الإسلاميّة.

* من كتاب "التربية والتعليم في الإسلام".

يذكر علماء الأخلاق، وتؤكّد المتون الإسلامية، موضوع المراقبة والمحاسبة، ولا توجد هكذا مفاهيم في التعاليم غير الدينية، ولكن بما أنّ الأساس في التعليم والتربية الدينية هو الله وعبادة الحق، فإن هذه المسائل تطرح في الدين.

هناك آية في القرآن الكريم، وقد ذكرتها تكراراً، لأننا حينما كنا في الدرس في قمّ في فترة ما، كان مدرّس الأخلاق يهتمّ كثيراً بهذه الآية، وبما أننا سمعناها وفكّرنا فيها كثيراً، فقد كان لها وقع خاصّ في ذهني، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا الله فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[الحشر: 18، 19].

ولتنظر نفس ما قدّمت لغد، قصدي من المراقبة والمحاسبة هو هذه الكلمة، أي أنّ جميع أعمال الإنسان تعتبر (مقدّمة) في القرآن، وكثير من الآيات هي بهذا الصّدد: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ الله}[البقرة: 110]. وقد صاغ سعدي هذا المضمون شعراً، بقوله: اجمع متاعاً وأرسله إلى قبرك، فإنّ أحداً لن يبعث لك شيئاً بعد ذلك، وعليك أن تقدّم أنت.

تعبير التقديم هو من القرآن نفسه، فكلّ أعمال الإنسان هي مقدّمات، أي أنّ الإنسان يرسل متاعاً وبضاعة إلى المحلّ الذي سيرحل إليه قبل رحيله، ثم يلتحق به بعد ذلك. فعليكم أن تنظروا وتدقّقوا في هذه المقدّمات عندما تريدون إرسال شيء إلى مكان معيَّن، فإنكم تفحصونه وتتأكّدون منه قبل إرساله، فيجب أن تفعلوا مثل ذلك بالنّسبة إلى ما تقدّمونه لآخرتكم.

ثم يقول: {إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[المائدة: 8] كأنه يريد أن يقول: إنكم لم تنظروا، فهناك عين دقيقة جداً ترى في جميع الأحوال، فقد يرسل الإنسان شيئاً قبل سفره ثم يقول: حسناً، فليكن ما يكون ممن ينظر ويدقِّق؟ فيقال له: كلا، ليس الأمر هكذا. إنّ الله خبير وعليم بكلّ ما تفعلون.

قال بعض من كان حاضراً عند السيّد البروجردي (رضوان الله عليه) قبل وفاته بعدّة أيّام: لقد رأيناه حزيناً جداً، وإنّه قال: وأخيراً انتهى عمرنا، وسوف نرحل، ولم نستطع أن نقدّم لأنفسنا خيراً.

تصوّر أحد الجالسين المتملّقين، أنّ هناك محلاً للتملّق، فقال: لماذا تقول هذا يا سيّدي؟ نحن المساكين يجب أن نقول هذا، فأنتم تركتم آثاراً خيرة كثيرة بحمد الله، وخرّجتم طلاباً كثيرين، وكتبتم كتباً كثيرة، وبنيتم مسجداً عظيماً، ومدارس، فقال السيد: (خلص العمل، فإن الناقد بصير)، فماذا تقول أنت؟ إنك تصوّرت أن ما يوجد عند الناس وفي منطقهم هو كذلك عند الله تعالى.

{إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[المائدة: 8]. وهنا يستفيد علماء الأخلاق المسلمون مسألة مهمّة من هذه الآية، "وتلك هي المراقبة"، والمراقبة تعني أن تتعامل مع نفسك كشريك لا تطمئنّ له، ويجب أن تراقبه دائماً، أي اعتبر نفسك كدائرة وأنت المسؤول عنها، فيجب عليك مراقبتها وتفتيشها، أي يجب أن يكون حال الإنسان حال المراقب دائماً.

قلنا إنّ هناك دستوراً آخر يسمَّى المحاسبة، وجاء ذلك في التعاليم الإسلاميّة أيضاً، فانظروا إلى نهج البلاغة، وكم لجمله وعباراته من روح ومعنى؟!

يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا، وزنوها قبل أن توزَنوا". زنوا أنفسكم هنا، وانظروا هل إنّكم خفاف أم ثقال؟ فإن كنتم خفافاً، فأنتم لا شيء، وإن كنتم ثقالاً، فإنّكم تامّون مكتملون. لا تقولوا: إنَّ الإنسان يمكن أن يمتلئ بالذنوب. لا، بل إنّ ميزان يوم القيامة طبقاً للقرآن هو ميزان يزن الحسنات فقط؛ فإن كان فيه حسنات فهو ثقيل، وإلا فهو خفيف: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ}[القارعة: 6 – 9].

يعطي الإمام هنا دستوراً عامّاً للمحاسبة، وتفسير ذلك في رواياتنا هو: "ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كلّ يوم". فالمحاسبة في عمل الإنسان هي من امتيازات الإسلام. وقد ألّفت كتب في مجال محاسبة النفس، ومنها كتاب "محاسبة النفس" للسيّد ابن طاووس، ومثله للكفعمي، وقد طرحت مسألة مراقبة النّفس ومحاسبتها في أغلب الكتب الأخلاقيّة الإسلامية أو جميعها.

المشارطة، المعاتبة، المعاقبة :

لو أراد الإنسان تربية نفسه إسلامياً، فالشّرط الأوّل هو المراقبة. ولكن يقال إنّ هناك شيئاً قبل المراقبة والمحاسبة وشيئاً بعدها، فقبل المراقبة "المشارطة"، أي على الإنسان أن يقطع عهداً على نفسه، لأنّه إن لم تحصل المشارطة أوّلاً، ولم يجعل لنفسه برنامجاً، فإنه سوف لا يعرف كيف يراقب نفسه.

فليتعهّد مع نفسه في البداية على تحديد طعامه نوعاً وكمّاً، وتحديد نومه، وكلامه، وما يجب أن يقوم به لنفسه، وما يجب أن يقوم به لخلق الله، وعلى كيفيّة تقسيم أوقاته، فإنه يشخص هذه الأمور في ذهنه، ويعاهد نفسه بأن يعمل طبقاً لهذا البرنامج، وبعد ذلك، يراقب نفسه دائماً ويحاسبها على فعل ما تعهَّدت به، مرّةً في كلّ يوم وليلة، فإن كان قد عمل بتعهّداته، تأتي مرحلة الشّكر والحمد لله والسّجود شكراً له، وإن لم يفعل، تأتي مسألة المعاتبة، وتعني لوم النّفس إذا كانت المخالفة قليلة، وتأتي المعاقبة عندما تزداد المخالفة، والعقوبة تكون بالصوم وبالأعمال الشاقّة والصّعبة، وهذه من الأصول المسلَّمة في الأخلاق والتربية الإسلاميّة.

* من كتاب "التربية والتعليم في الإسلام".

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية