ذكر الشيخ العاملي الحرّ في الجزء السادس من "وسائل الشيعة" كثيراً من الأحاديث
عن النبي وأهل بيته (ص) بعنوان (أبواب جهاد النفس وما يناسبها)، استغرقت 270 صفحة،
ونذكر منها بعض ما يناسب هذا الفصل، عسى أن ينتفع به من يحرص على إصلاح ما بينه
وبين خالقه، فإنّ مدرسة أهل البيت وتعاليمهم هي وحدها تكشف ما ينطوي عليه قول جدّهم
سيد الكونين (ص): "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، وقوله: "الدين النصيحة
والمعاملة"، وقوله: "المهاجر من هجر السيئات". وقوله: "الدين بذل الجهد وصدق العمل"،
إلى غير ذلك مما يربط الإسلام بالحياة، ويسير بها إلى ما هو أحسن وآمن.
وإليك هذا الشاهد الناطق الصّادق، مع أنّه غيض من فيض. قال آل الرسالة بوحي من الله،
تقدست أسماؤه:
1 ـ "أفضل العبادة العفاف.. من كفّ أذاه، وعفّ بطنه وفرجه، كان في الجنّة ملكاً
محبوراً.. من قدر على امرأة حراماً فتركها مخافة الله، حرّم عليه النار.. طوبى لمن
ترك شهوته لموعد لم يره".
الدين صرح يقوم ويستقيم على أساسين متناقضين: فعل ما فيه للإنسان خير وصلاح، والكفّ
عما فيه شرّ وفساد. وما من شكّ أن فعل الخيرات أيسر وأسهل على النفس من ترك الشهوات
واللذّات المحرَّمة، أليس المال والنساء والجاه والسّلطان، زينة الحياة وغاية
الغايات عند كثير؟ وهل من وسيلة إلى الصّبر عنها إلا بورع واجتهاد؟
وهنا يكمن السرّ في قول المعصوم: "أفضل العبادة العفاف"، لأنّ الصلاة والصيام
والحجّ إلى بيت الله الحرام لا يحتاج إلى سدّ الثّلمات وردم السّراديب في زوايا
النفس الأمّارة، أما كبح الشهوة عن زينة الحياة فشاقّ وعسير. وفي حديث آخر: "من عصى
الله فقد نسي الله، وإن كثرت صلاته وصيامه وتلاوته للقرآن". ويتّفق هذا مع ظاهر
الآية 27 من المائدة: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}.
وقال الإمام الصادق (ع): "قليل العمل مع التقوى، خير من كثير بلا تقوى". فقال له
سائل: وكيف يكون كثير بلا تقوى؟ قال: "مثل الرّجل يكون عنده مال... فينفق منه في
الخيرات، ولكن إذا انفتح أمامه باب الحرام دخل فيه، فهذا أبعد النّاس عن التقوى
والمتّقين، ورجل آخر ليس عنده مال لينفق منه على المعوزين، ولكن اذا انفتح أمامه
باب الحرام لم يدخل فيه، فهذا من أهل الورع والتّقوى، لأنه ترك المنكرات، وانتهى عن
المحرَّمات".
والدرس الذي نستفيده من هذه الدروس المحمدية العلوية، هو أن علينا أن نقيس الإنسان
بمجموع أعماله، ونعتبرها مكملة بعضها للبعض الآخر، ولا ننظر إليه من جانب دون جانب
كقصّة العميان والفيل. مثلاً، قد يعطف فلان الفلاني على كسيح أو جريح لا يحسده على
شيء، ولا يحقد عليه لسابقة أو بادرة، فيسوّغ، وهذي هي الحال، أن نحكم ونقول: هذه
العاطفة بالخصوص إنسانية وطيبة، ولكن لا يسوغ بحال أن ننطلق منها إلى الحكم على
صاحبها بأنه إنسان طيب بقول مطلق، لأن مثل هذا الحكم يتطلب الفهم الكامل لكل جانب
من شخصيته، وكل اتجاه من اتجاهاته، فما يدرينا أنه لو ظفر بمن يحسد ما آتاه الله من
فضله لقطّعه عضواً عضواً؟
وكم رأينا من يستحسن القبيح من قريب أو حبيب، ويستقبح أحسن الحسن من آخر، أبداً، لا
لشيء إلا لأنه أكمل منه وأفضل؟ وأخيراً: هل من العقل والعدل في شيء أن نرتضي قول من
يستنكر عيوب النّاس، ويرتضيها هو لنفسه؟!
2 من تعاليم أهل الوحي والرّسالة: "من لم يعط نفسه شهوتها أصاب رشده.. من اجتنب ما
حرَّم الله عليه فهو أعبد النّاس، ومن قنع بما قسم الله له فهو أغنى النّاس". وقال
الإمام الصّادق (ع) في تفسير قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ
عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُور}(23 ـ الفرقان): "إن أعمالهم كانت شديدة
البياض، ولكنّهم كانوا إذا عرض لهم حرام لم يدعوه.. من قال: لا إله إلا الله مخلصاً
دخل الجنّة، وإخلاصه أن يحجزه (لا إله إلا الله) عما حرّم الله.. أفضل الجهاد من
أصبح لا يهمّ بظلم أحد.. أشدّ ما فرض الله على خلقه، أن ينصف العبدُ النّاس من
نفسه، وأن يواسي أخاه في ماله، وأن يذكر الله على كلّ حال، وليس ذكر الله أن يقول:
سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ولكن إذا ورد على حرام، خاف
الله عزّ وجلّ عنده وتركه.. من أقرَّ بدين الله فهو مسلم، ومن عمل بما أمر الله فهو
مؤمن".
من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، يعامل في الحياة الدنيا كالمسلمين في
الميراث والزواج وما أشبه، سواء أكان مخلصاً في كلمة الإسلام وشهادته أم غير مخلص،
والفرق بين هذا وذاك، إنما هو في ميزان الآخرة وعند رحمانها، لا في ميزان الدنيا
وشيطانها، حيث لا ينجو هناك إلا من أتى الله بقلب سليم، أمّا غيره، فله عذاب أليم
حتى ولو هلّل وتشهد. والمراد بالإخلاص هنا، ما أوضحه المعصوم بقوله: "وإخلاصه أن
تحجزه كلمة (لا إله إلا الله) عما نهى الله وحرَّم".
ويدلّنا هذا الربط بين كلمة التّوحيد والكفّ عن الحرام، أنّ هذا الحجز والكفّ أصل
من أصول الدين والعقيدة، وليس فرعاً كما يظنّ، بل هو تماماً كالإيمان بالله أو
بمنزلته، ويؤيّد ذلك قوله: "وليس ذكر الله أن يقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله
إلا الله والله أكبر، ولكن إذا ورد على ما يحرم عليه، خاف الله وتركه".
وفي كتاب "سفينة البحار" عن رسول الله: "على المسلم في كلّ يوم صدقة". فقيل له: ومن
يطق ذلك يا رسول الله؟ فقال: "كفّ الأذى عن الطريق صدقة.. دخل عبد الجنّة بغصنٍ من
شوك أماطه من الطريق.. من أماط من طريق المسلمين ما يؤذيهم، كتب الله له أجر قراءة
400 آية، كلّ حرف منها بعشر حسنات"... وسبقت الإشارة في آخر فصل المسؤولية، إلى أن
النبي (ص) قال لأبي ذرّ: "تصدَّق عن نفسك بكفّ الأذى عن الناس".
وأول ما يسبق إلى ذهن القارئ من هذه الأحاديث والتي قبلها، أن منفعة الناس على
أنواع ودرجات متفاوتات، منها سلب محض، وهو أن لا يمسّ الطّرف الأقوى من هو دونه
قوّة بأذى، ولا يستخدم قوّته في معصية الله والإساءة إلى عباده وعياله، ومنها أن
يزيل الأذى ولو كان شوكة في طريق، ومنها أن يبذل من نفسه وماله ما يحرّر الناس من
احتكار واستغلال، أو رقّ وهوان، أو فقر وجهل، أو تقليدٍ ما أنزل الله به من سلطان.
وبهذه المناسبة، نشير إلى أنَّ القرآن الكريم لعن الظالمين في العديد من آياته،
ونصّ على أنهم مخلّدون في الدار، وأنهم لا يفلحون أبداً: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ
بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}(44 ـ الأعراف).. {ألا لعنة
الله على الظالمين}(18 ـ هود).. {يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ
وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (52 ـ غافر).. {أَلَا إِنَّ
الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ}(45 ـ الشورى).. {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ
حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ}(18 ـ غافر).. {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ
الظَّالِمُونَ}(21 ـ الأنعام). وهناك بعض الآيات تومئ إلى أنّ الظالم كافر، مثل:
{فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُور}(99 ـ الإسراء).
*من كتاب "فلسفة الأخلاق في الإسلام".