[كان من دعاء الإمام زين العابدين (ع) إذا استقال من ذنوبه]:
"وَأنا ـ يَا إلهِي ـ عَبْدُكَ الَّذِي أمَرْتَه بالدُّعاءِ فَقَالَ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، هَا أنَا ذا يَا رَبِّ مَطْرُوحٌ بَيْنَ يَدَيْكَ، أنا الَّذِي أوقَرَتِ الخَطَايَا ظَهْرَهُ، وَأَنَا الَّذِي أفْنَتِ الذُّنُوبُ عُمْرَهُ، وَأَنَا الَّذِي بِجَهْلِهِ عَصَاكَ وَلَمْ تكُنْ أهْلاً مِنْهُ لِذَاكَ.
هَلْ أنْتَ يا إلهي راحِمٌ مِنْ دَعَاكَ فأُبلِغَ في الدُّعَاء، أمْ أنْتَ غَافِرٌ لَمِنْ بَكَاكَ فأُسْرِعَ في البُكَاءِ، أمْ أنْتَ مُتَجاوِزٌ عَمَّنْ عفّرَ لكَ وَجْهَهُ تَذَلُّلا، أمْ أنْتَ مُغْنِ مَنْ شكا إليْكَ فَقْرَهُ توكُّلاً؟".
* * *
ما هي صورتي ـ يا ربّ ـ في حالتي هذه التي أعيش فيها تحت ثقل الذّنب الذي أريد أن أستقيل منه، وأتخلّص من نتائجه؟... ما هي مشاعري الرّوحيّة، وما هي استجاباتي اللاهثة لإرادتك في الاستسلام إليك؟
أنا عبدك، بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى التّسليم المطلق لك بكلِّ شيء، والاستسلام المفتوح على كلّ مواقع أمرك ونهيك، فقد سلّمت لك كلّ أمري، واستسلمت لكلّ ما تحكم به عليّ.
أنا عبدك، بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى التّسليم المطلق لك بكلِّ شيء، والاستسلام المفتوح على كلّ مواقع أمرك ونهيك، فقد سلّمت لك أمري، واستسلمت لكلّ ما تحكم به عليّ.
لقد كانت إرادتك الربوبيّة لعبادك، أن يعبّروا لك عن إحساسهم العملي بعبوديتهم لك، بالدعاء الخاشع الذي يثيرون فيه كلّ مشاكلهم، ويقدّمون فيه - بين يديك - كلّ حاجاتهم، ويرتفعون إليك بكلّ ابتهالاتهم، ويستغفرونك - فيه - من كل خطاياهم، لأن الدعاء يمثّل الإعلان الروحي بالارتباط الوثيق بك، من خلال الحاجة الملحّة في كل الأشياء إليك، ويحفظ للإنسان خط التوازن الدقيق بين ضعفه أمامك، ليحميه ذلك من الاستسلام للآخرين في عصيانك، وبين قوته بك، ليؤكد له ذلك مسؤوليته الفاعلة عن الحياة وعن الإنسان، تقرّباً إليك.
أنا عبدك الذي أمرته بالدعاء، فاستجاب لك، ولكنها ليست الاستجابة الجامدة التي تنطلق من حالة خوف راعش بعيد عن معنى الحركة في نطاق الوعي، بل هي الاستجابة الواعية للإله الحبيب الذي أهفو إلى أن أحصل على محبته بالتحرّر من كلّ ما يوجب سخطه، وأذوّب روحي في لحظات الخشوع بين يديه، حتى يمنحني روحاً جديدة، لا أثر فيها لليأس، ولا معنى للسقوط.
ها أنا ـ يا ربّ ـ مطروح بين يديك، لا أشعر بذاتي ـ بين يديك ـ ولا بعنفواني الذي قد ينتصب شامخاً في لحظات الإحساس بإنسانيّتي في الوجود، ولكنّه ينحني وينحني ويتضاءل، ويلامس التراب، في خضوعه لك، ليجد، بعد ذلك، أنّ ذلك هو معناه عندك، فكلّما ازداد الإنسان خضوعاً لك، ازداد سموّاً في المعنى الرفيع لإنسانيته، وكلما انطلق في كبريائه وعنفوانه الذاتي أمامك، ازداد سقوطاً وابتعاداً عنى معنى الإنسان فيه، لأنّ معنى السموّ، هو أن يكون الإنسان إنسان الله لا إنسان الذات، فذلك هو الذي يمنحه المدد الروحي من الينبوع الصافي الذي لا ينتهي جريانه، بينما تجمده الذات في الزوايا الضيقة الجامدة التي تغلق عنه كلّ مسارب الهواء، وتحبس عنه كلّ نقطة ماء.
إنني مثقل، تضغط عليّ أثقال الخطايا حتى ينحني ظهري تحت تأثير ثقلها، بحيث أحس بالحياة تتحرك في كياني بجهد ثقيل.
وأنا ـ يا ربّ ـ الذي أفنت الذنوب عمره، فاستهلكت كلّ طاقته، وعبّأت كل فراغاته، واستغلّت كلّ شهواته، وأغرت كلّ نقاط ضعفه بالاستسلام لشيطان الهوى، حتى مرّ العمر به مروراً عابراً، تماماً كما هو الحلم الغارق في الأوهام.
إن مشكلتي هي هذا الجهل بحقائق الأشياء، وبنتائج الأعمال وبمقام الربوبيّة بما يجب على العبد تجاه ربّه، ولذلك فقد عصيتك من موقع جهلي للغرق في الغفلة والوهم، ولولا ذلك، لانتبهت إلى الحقيقة الصارخة، أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت، والذي أسبغ عليّ نعمه كلها، فمن الحقارة أن أعامله بهذه الطريقة التي لا تتناسب مع فضله وإحسانه إليّ، الأمر الذي يجعله أهلاً للطاعة لا للمعصية.
إنني أتساءل، لا تساؤل المستفهم الذي يجهل حقيقة ما يسأل عنه، ولكني أطلق علامات الاستفهام لأثير الفكرة التي تنطلق كل جارحة من جوارحي بالجواب عنها بالإيجاب، ليتعمق الإحساس بها في عقلي وقلبي وشعوري.
هل أنت ـ يا إلهي ـ راحم من دعاك، لأستزيد من الدعاء وأمتدّ فيه، وأحرِّكهُ بمختلف الأساليب، وألوِّنه بأنواع الألوان، ولا سيما ألوان الدموع، وأجتهد فيه بكل ما لديّ من طاقة؟!
إنني أعلم أنك ترحم الداعي فتستجيب له، لا سيّما إذا كان إلحاحه في دعائه ينطلق من عمق الإخلاص في طلباته، ووعي الألوهيّة في روحه، فقد دعوت عبادك إلى دعائك ووعدتهم الإجابة من موقع الإيحاء بقربك إليهم وإلى حاجاتهم وآلامهم ومشاكلهم، فقلت: {فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون} [البقرة: 186].
وقلت سبحانك :{وقال ربكم أدعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين}[غافر: 60].
فهل أنت ـ يا إلهي ـ غافر لمن بكاك، حتى تنفجر عيناه بالدموع الخاشعة الحييّة الخجلة منك، وليندفع قلبه يبكي في لهفة نبضاته ولهاث خفقاته، بكاء الأسف واللّوعة والندم والاستعطاف؟! فهل تشجعني ـ يا ربّ ـ على أن أبكي وأبكي حتى تغسل دموعي كل قذاراتي الروحية، فتهمي عليّ سحائب مغفرتك بالطّهر والصفاء والنقاء، لأعود طاهراً نقياً في حياتي الجديدة من خلال لمسات الحنان التي تمسّ شغاف قلبي، فيمتلئ بالفرح والسعادة؟ إنني أعرف يا ربّ، أنّ أحبّ العيون إليك هي العيون التي تبكي من خشيتك، من خلال ما توحي به الخشية من معنى الحب الكامن في الأعماق، الذي يرفض لصاحبه أن يسخط عليه المحبوب.
إن قيمة الدموع في إيحاءاتها النفسية أنّها تعبّر عن احتضان النور إشراقة العفو المطلّ علينا من الأعالي.
* * *
هل أنت ـ يا إلهي ـ متجاوز عمن عفّر لك وجهه تذلّلاً ؟ إنني ألصق وجهي بالأرض، بالتراب الذي يتطاير منها، ليكون غباراً يعطي الأشياء لوناً يشبه الرماد، في عملية إيحائية: أيها الإنسان المتمرّد على ربّه، المتكبّر في ذاته، تذكّر أنّك من التراب خلقت، وإلى التراب تعود، وتأمّل جيداً، أنّ التّراب تحوّل إنساناً من خلال نفخة الله في الطّين الذي اختزن الروح الإلهي ـ من خلال هذه القدرة ـ فكانت الحياة، وكان الوعي، وكانت الحركة، وكانت المسؤوليّة.
طأطئ رأسك لربّك حتى تعيش في ذلك معنى السموّ في شموخ الرأس، من خلال الرّضوان الذي يمنحه الله للعاملين على أساس الذلّ في الله، والعزّ أمام عدوّه.
إنني أعرف ـ يا ربّ ـ أنّك تتجاوز عن المتواضعين لك، الذين يسجدون لك سجود الروح في خضوعها لك، والعقل في وعيه لعظمتك، والجسد لانسحاقه في مواقع طاعتك. لذا سأكون الذّليل بين يديك، لأكون العزيز مع الناس كلّهم.
وهل أنت مغنٍ من شكا إليك فقره توكّلاً، إنني الفقير - يا رب - الذي يقف أمامك صفر اليدين، ليس له من الخير إلاّ ما أعطيت، فهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً إلاّ بك... وقد استهلكته الأيام، وسلبته البلايا كلّ شيء، ولكنه لم ييأس ولم يسقط، بل اندفع إليك في شكواه، توكلاً عليك، لأنك الغنيّ الذي يمنح الفقراء الذين يرجعون إليه ويتوكّلون عليه، كل ألوان العطاء الذي يغنيهم ويلغي كلّ فقرهم.
إنني أعلم أنك وليّ الغنى للفقراء إليك، لأن قضية العطاء هي سر ذاتك في رعايتها لكل الفقراء أمثالي.
*من كتاب "آفاق الروح ، ج 1".