نتابع الحديث عن النّبيّ سليمان(ع) الّذي تميَّزت حياته بالملك الواسع، والقوَّة الكبيرة، والتَّسخير العجيب، فقد سخَّر الله له ما لم يسخّره ـ من النّاحية العمليَّة والقدرات الواسعة ـ لأحدٍ من قبله ولا بعده، ولكنّ ذلك لم يبعده عن روحانيَّة العلاقة بالله في خطِّ خضوعه له وخشوعه في عبادته، وفي تقواه واندفاعه المطلق في طاعته إلى مستوى التَّضحية بكلِّ ما قد يشغله عن ذكر الله وعبادته، وإن كان ذلك لا يمثِّل انحرافاً في سلوكه، وهذا ما جعله موضع مدح الله له، وذلك قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ}، في إخلاص عبوديَّته لله، وذوبانه في محبَّته له، كصفةٍ عميقة تجذَّرت في أعماق ذاته فكريّاً وشعوريّاً، بحيث تحوَّلت إلى سلوكٍ روحيٍّ وخطٍّ عمليٍّ في كلِّ حياته، {إِنَّهُ أَوَّابٌ}[1]، حيث إنّه راجعٌ إلى الله، مُقبِلٌ عليه، مرتبطٌ به، منفتحٌ عليه في كلّ أموره، مع كلّ ما تعنيه هذه الكلمة من المبالغة في التَّعبير عن معنى الرّجوع إلى الله، باعتباره الوجهة الوحيدة الَّتي يتوجَّه إليها سليمان في كلِّ أوضاعه وعلاقاته وقضاياه.
استعراض سليمان للخيل
ومما حكاه القرآن عنه في مسألة إخلاصه لله، قصَّته مع الخيل، {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ}[2]، وهي الخيول المعدَّة في حال السّلم للركوب عليها، من أجل قطع المسافات للوصول إلى البلدان الّتي يقصدها في حاجاته السّلطويَّة وفي تدبيراته الملكيّة، وفي حال الحرب، لاستخدامها في ساحة الصِّراع ومواقع الدِّفاع ضدّ الأعداء. وقد قال معظم اللّغويّين والمفسّرين، إنَّ كلمة "الصّافنات" تطلق على الجياد الَّتي تقوم على ثلاث قوائم، وترفع إحدى قوائمها الأماميَّة قليلاً حتى تكون على طرف الحافر، وهذه الحالة تخصّ الخيول الأصيلة الّتي هي على أهبّة الاستعداد للتحرّك في أيّ لحظة، وصفة "الصّافنات" تطلق على المذكَّر والمؤنَّث، فلا تختصّ بإناث الخيل. أمّا الجياد، فهي جمع جواد، وتعني الخيول السَّريعة العدو في سيرها واندفاعها في الحركة أثناء توقّفها.
ونستوحي من الآية، أنَّ هذه الخيل كانت تُعرَض أمام سليمان في استعراضٍ شِبه عسكريّ، لأنها كانت من وسائل القوَّة الّتي تستخدم في مواجهة الأعداء، فأراد أن يستعرضها أمام عينيه ليعرف مدى نشاطها وفاعليَّتها وقدراتها وما تملكه من القوَّة، وربما كان يحبّ مشاهدتها في انجذابٍ نفسيٍّ إلى جمالها وحركيَّتها، وإعجابٍ بها وباجتماعها عنده كمظهرٍ من مظاهر الملك، ما جعله يستغرق في أوضاعها الحركيَّة أمامه، في حالٍ من الارتياح الذّاتيّ، بحيث شغله ذلك عن كلِّ ما حوله، حتى عن ذكر الله الَّذي كان يداوم عليه في شكره له وتعبيره عن حبِّه وخضوعه وخشوعه أمام ربوبيَّته.
ولكنّ ذلك لم يمثِّل حالة غيابٍ عن الانفتاح على ربّه، بل كلّ ما هناك أنّه استغرق في الانشغال بها كما يستغرق الإنسان فيما هو مباحٌ له، فانجذب إليها انجذاب الرّغبة فيها بما أبعده عمَّا عداها، حتى عن ذكر الله المحبَّب إليه، ولذلك قال: {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي}[3]. قيل: إنَّ كلمة "أحببت" تتضمَّن معنى فعلٍ يتعدّى بِعَنْ، كأنّه قال: إنّي جعلت حبَّ الخير شاغلاً لي عن ذكر ربي.
وقد تطلق كلمة الخير على الخيل، وقد جاء في الحديث المرويّ عن رسول الله(ص)، قال: "الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة"[4]، وربما كان ذلك جارياً على سبيل الكناية، باعتبارها وسيلةً من وسائل الجهاد في سبيل الله، وربما كان مقصود سليمان أنَّ حبَّه للخيل لم يكن ناتجاً من حبِّه للدّنيا، مما يكون من الشؤون المزاجيَّة فيما يحبّه الإنسان من أمورها وشهواتها الذاتيَّة، بل كان من أجل تنفيذ أمر الله في جهاد الأعداء. ولذلك، فإنَّ استعراضه لها كان من أجل اختبار فاعليّتها الحركيّة الهجوميّة أو الدّفاعيّة في هذا السّبيل الجهاديّ.
وهكذا ـ كما يقول بعض المفسّرين ـ استمرَّ سليمان ينظر إلى خيله الأصيلة المستعدَّة لمواجهة الأعداء، وهو يعيش حالاً شديدةً من الفرح والسّرور، حتى توارت عن أنظاره، {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ}[5]، الّذي حجبها عن رؤيته في المدى الّذي بلغته ووصلت إليه. وقد فسَّره البعض بالشّمس، أي حتى توارت الشّمس بالحجاب، وهو ظلام اللّيل في غيابها في الأفق الآخر.
وفي ضوء استغراقه في الانشغال بها، نسي صلاة العصر الّتي كان وقتها قبل غروب الشَّمس، وهذا هو المشهور بين المفسِّرين، وقد أثار بعض المفسِّرين احتمال أن يكون انشغاله بحبّ الخير عن ذكر ربّه منطلقاً من أمر الله، ليكون استعراضه وحبّه لها عملاً عباديّاً تجهيزاً لها للجهاد في سبيل الله. وبذلك، يكون الشَّاغل له عن عبادة الله في صلاته عملاً يختزن العبادة لله في داخله.
ولعلَّ الأساس في هذا التّوجّه التفسيريّ، هو الخروج بعمل سليمان عن كونه مخالفاً لموقعه الرّساليّ في انشغاله باستعراض الخيل عن عبادة الله الواجبة في وقت معيّن. ولكن ما تقدَّم ليس بحجّة قويَّة، ولا سيّما إذا كانت الصّلاة موقّتةً في ذلك الحين بوقت معيَّن، بحيث يذهب وقتها بغروب الشَّمس وتواريها بالحجاب اللّيليّ، كما في بعض الرّوايات. لذا، فإنَّ الانشغال عنها المؤدِّي إلى تركها بعملٍ آخر مرضٍ لله، موسّع في وقته، غير مبرّر شرعاً.
ولهذا، فقد يكون من الأقرب إبقاء الآية على ظاهرها الذي يوحي بأنَّ سليمان كان في مقام توبيخ نفسه أو الاعتذار إلى الله عمَّا حدث، وهو ما لا يتناسب بالتّأكيد مع التّوجيه المذكور الّذي قد لا يكون له معنى، إلا أن يقال: إنَّ ذلك كان بلحاظ أهميَّة الصَّلاة، وبذلك يكون قد قدَّم المهمّ على الأهمّ في ذلك الوقت الّذي قد يتّسع للعملين معاً، مع كون تقديم الصَّلاة أفضل بلحاظ الوقت.
وتبقى هناك ملاحظة مهمّة، وهي أنّ الحديث عن أنّ استغراق سليمان في حركة الخيل باعتباره عملاً عبادياً، ليس واضحاً، بل هو عمل استعراضيّ من الأعمال الطبيعيّة التي يقوم بها كقائد في تفقّده الوسائل الجهاديّة الموجودة لديه لدراسة ميزان القوّة عنده، لأنّ العبادة لا تكمن في هذا العمل، بل تكمن في العمق الروحيّ الّذي يعيشه النّبيّ القائد في خطَّته العامَّة والخاصَّة.
حدود عصمة الأنبياء
وقد نلاحظ في هذا المجال، أنَّ مسألة حدود العصمة فيما يراد من خلاله تأكيد القيمة الأخلاقيَّة المنفتحة على الله في القيام بما يحقِّق رضاه في أفق محبَّته، لا يكفي فيها التركيز على ترك المعصية، بل لا بدَّ من الانفتاح على العمق الروحيّ الّذي يتناسب مع قيمة النبوَّة في جانب ما تمثّله في دورها الحركيّ الرساليّ من القدوة الرساليّة للنّاس في سلوكها العمليّ.
وقد ينبغي دراسة الأسس الَّتي يحاول الكلاميّون من خلالها تبنّي مسألة عصمة الأنبياء بالشَّكل المطلق، لنتعرَّف كيف يمكن لنا أن نواجه الظَّواهر القرآنيَّة التي تمنح الجانب الإنساني قيمةً واقعيّةً في تقويم شخصيَّة النّبيّ، بالمستوى الّذي لا يبتعد به عن الإخلاص والصِّدق الواعي في خطِّ الرِّسالة، مع إفساح المجال لبعض نقاط الضّعف الإنسانيّ في مضمونها البشريّ أن تنفذ إلى حياته بشكلٍ جزئيٍّ طبيعيّ، من دون أن تترك أيّ تأثيرٍ سلبيّ في الالتزام بالطّاعة في العلاقة بالله.
موقف سليمان من الخيل
{رُدُّوهَا عَلَيَّ ـ أي الخيل ـ على ما هو الظَّاهر ـ في عمليّة استعادة لها في استعراضها أمامه، ولكن بروحيَّةٍ أخرى وبأسلوبٍ آخر ـ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ}[6]، وقيل في معناه: إنّه شرع يمسح بيده مسحاً بسوقها وأعناقها، بما يعبّر عن المحبَّة والحنان، ويجعلها مسبّلةً في سبيل الله جزاء انشغاله بها عن الصَّلاة.
وقيل: المراد بمسح أعناق الخيل وسوقها، ضربها بالسّيف وقطعها، والمسح القطع، فهو قد غضب عليها في الله لأنّها شغلته عن ذكره، فأمر بردِّها إليه، ثم ضرب بالسَّيف أعناقها وسوقها، فقتلها جميعاً.
ويعلّق صاحب تفسير الميزان على هذا الوجه، بأنَّ "مثل هذا الفعل مما تتنـزَّه ساحة الأنبياء عن مثله، فما ذنب الخيل لو شغله النّظر إليها عن الصَّلاة حتى تؤاخذ بأشدّ المؤاخذة، فتقتل تلك القتلة الفظيعة عن آخرها، مع ما فيه من إتلاف المال المحترم"[7]. ويذكر في موضعٍ آخر، أنَّ الروايات التي تؤكِّد هذه القصَّة بهذا الشَّكل، تنتهي إلى كعب الأحبار، مما يرويه من إسرائيليّاته في تفسير قصص القرآن، إضافةً إلى ما فيها من الاستغراق في التّفاصيل التي تدخل في دائرة الأعاجيب.
أمّا تعليقنا على ذلك، فإنَّ الظّاهر من الآية قد يؤكِّد ضرب أعناقها وسوقها، من خلال تفسير بعض أهل اللّغة، بأنَّ المسح كناية عن الضّرب، يقال: مسحته بالسّيف، أي ضربته به، كما يقال: مسست. كما أنَّ مسألة تسبيلها في سبيل الله لا يتوقَّف على ردِّها عليه، ولا يفسّر مسح أعناقها وسوقها، فإنَّ المتعارف لدى النّاس هو مسح الخيل على نواصيها، كما أنَّ هذه الرّوايات تلتقي مع ظهور الآية في كونها واردةً في مقام ردِّ الفعل الَّذي قام به سليمان إزاء انشغاله بها عن ذكر الله المتمثِّل بالصَّلاة، بحسب ما يذكره المفسِّرون، ما جعله يفكِّر في التخلّص منها بقتلها من غير ضرورة، أو أن يقصد من ذلك الانتقام منها من دون ذنب، أو إتلافها كمالٍ محترم لا يجوز إتلافه، بل قد يكون ذلك بمثابة ضغطٍ على نفسه بغية إيلامها، لأنها أحبّت الخيل بالمستوى الَّذي دفعه إلى الاستغراق في حركتها الاندفاعيَّة إلى درجة الانشغال بها عن بعض مسؤوليّاته، مع ملاحظة أنَّ ذلك كان حلالاً في شريعته، لأنَّ الخيل كانت تذبح كالأنعام للطّعام؛ والله العالم.
إعداد الخيل أمر إلهيّ
وهناك رأي آخر في تفسير الآية، وهو أنَّ ما فعله سليمان هو تعبير عن تقديره للخيول، باعتبار أنَّ من أراد أن يعبّر عن تقديره للجواد الأصيل، فإنّه يمسح رأسه ووجهه ورقبته وشعر رقبته، أو يمسح على ساقه، ما يوحي بتعلّقه الشَّديد بخيله التي تساعده في تحقيق أهدافه العليا السامية، وهو أمر لا يدعو إلى العجب أو الإنكار. وقد أكّد هذا التَّفسير الفخر الرازي في "تفسيره الكبير"، كما قد يستفاد ذلك ممّا ورد عن السيّد المرتضى، رحمه الله، في كتابه "تنـزيه الأنبياء"، في باب نفي الادّعاءات الباطلة والمحرّمة الَّتي ينسبها بعض المفسّرين ورواة الحديث إلى سليمان، قال: "إنَّ الله ابتدأ الآية بمدحه والثَّناء عليه، فقال: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}، فلا يمكن أن يثني عليه بهذا الثّناء، ثم يتبعه بغير فصلٍ بإضافة القبيح إليه، وأنه يتلهّى بعرض الخيل عن فعل المفروض عليه من الصّلاة. والّذي يقتضيه الظاهر، أنَّ حبّه للخيل وشغفه بها، كان عن إذن ربّه وبأمره وبتذكيره إياه، لأنَّ الله قد أمرنا بإرباط الخيل وإعدادها لمحاربة الأعداء، فلا ينكر أن يكون سليمان مأموراً بمثل ذلك"[8].
وإنَّنا لا نستبعد هذا التَّفسير؛ أوّلاً: لأنَّ الآية لم تتحدَّث عن الصَّلاة وعن انشغاله عنها بالاستغراق في متابعة الخيل، ولم يرد ذكر الشَّمس التي كانت مشرقةً عند بدء الاستعراض ثم غابت في أثنائه، لتفسّر الصَّلاة بصلاة العصر الّتي غفل عنها وتركها، بل المذكور في الآية كلمة "العشيّ"، الّتي ربّما يُراد منها حالة ما بعد الغروب بحسب الظّاهر، وإن كانت التَّفاسير تصرّح بأنها آخر النّهار، أو من زوال الشَّمس إلى غروبها، إلا أنَّ ذلك ليس متعيَّناً، بل قد يشمل ما بعد الغروب.
وثانياً: لأنّه لم يُعرَف أنَّ الصلاة ـ في عهد سليمان ـ كانت موقوتةً بالأوقات الَّتي فُرضت في عهد الرّسالة الإسلاميَّة وحدوث الصّلوات الخمس بأوقاتها المعيَّنة.
وثالثاً: لأنَّ قوله: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي}[9]، لا يظهر منه انشغاله عن ذكر ربّه إلى مستوى غفلته عن صلاته المفروضة عليه، ولا سيَّما أنَّ التّعبير وارد عن حبِّ الخير، أي الخيل، لا عن انشغاله بها عن ذكر الله، وربما كانت الآية لا تخلو من إجمالٍ في مضمونها.
ورابعاً: لأنَّ قتل سليمان للخيل ينافي بقاء حاجته إليها في تنقّلاته وجهاده ضدَّ الأعداء.
إنَّها ملاحظات للتأمّل، ويبقى للشّهرة التفسيريَّة دورها في الرّوايات وفي رأي علماء التّفسير. والحمد لله ربّ العالمين.
*ندوة الشّام الأسبوعيَّة، فكر وثقافة
[1] [ص: 30].
[2] [ص: 31].
[3] [ص: 32].
[4] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 61، ص 167.
[5] [ص: 32].
[6] [ص: 33].
[7] تفسير الميزان، السيد الطباطبائي، ج 17، ص 204.
[8] تنزيه الأنبياء، الشريف المرتضى، ص 134.
[9] [ص: 32].