ونواصل الحديث عن تجربة النّبيّ سليمان(ع)، حيث جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ}[1]، وهو ما يوحي بوجود فتنةٍ في حياة سليمان مما يفتتن الله به رسله، ليدفعهم إلى التّفكير في مهمَّاتهم الموكلة إليهم، كنوعٍ من أنواع الاختبار الّذي يتحرّك في واقع التجربة المحدَّدة الّتي يواجهونها، ليكون ذلك في نتائجه السلبيّة مثبِّتاً لهم ومبعداً عن أيّ حالةٍ من الخطأ، أو عن أيِّ موقعٍ من مواقع الاهتزاز، مما لا يدخل في مجالات الانحراف العقيديّ في علاقتهم بالله وانفتاحهم عليه.
الإعداد الرِّساليّ للنّبيّ
وهذا ما نستوحيه من القرآن الكريم؛ في خطاب الله تعالى لنبيِّه محمّد(ص): {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}[2]، وقوله تعالى: {وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ}[3]، وقوله تعالى: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً}[4]... فهذه الآيات توحي بأنَّ هناك لطفاً إلهيّاً ينفذ إلى حياة النّبيّ في داخل ذاته وخارجها، ويرعى سلوكه، ليتمَّ إعداده الرساليّ في مواجهة التحدّيات، وفي الابتعاد عن نقاط الضّعف. وهكذا، يتعهَّد الله نبيّه بالتّثبيت في حال الصّراع مع المشركين، ويربطه بتاريخ الأنبياء قبله الّذين تحمَّلوا الكثير من الضّغوط القاسية والاضطهادات الشَّديدة.
وقد أراد الله لسليمان أن يرجع إليه بكلِّ ذاته في حياته العقليَّة والروحيَّة والعمليَّة، وفي الأمور كلّها، كوسيلةٍ من وسائل التربية الإلهيّة الرّشيدة له، وكأسلوبٍ عمليّ إيحائيّ فيما ينبغي له أن يفعله، لأنّه لم يكن قد سبق له الاطّلاع على الثّقافة الرّساليَّة كلّها، باستثناء ما كان يختزنه في أعماقه من روحيَّة الإيمان التّوحيدي، ومن حال الشّكر للنّعمة التي أفاضها الله عليه، ومن الأجواء الروحيّة المتمثّلة بسُبُحات أبيه داود، ما كان يؤهِّله لإفاضاتٍ جديدةٍ يستكمل بها بنيانه الرّساليّ الّذي يرتفع به إلى درجة النبوّة.
ونحن لا نجد أيَّ مشكلة في تعليم الله أنبياءه عبر التّجارب الواقعيّة الّتي يواجهونها بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر، لأنَّ ذلك لا ينطلق من وجود سلبيّات في الذّات من النّاحية الدّينيَّة، بل هو عمليَّة تهدف إلى إتمام البناء الدّاخليّ في فكره وإحساسه وشعوره، بالطّريقة الحيَّة، لتوجيهه في بعض أوضاعه الَّتي يريد الله له أن يركّزها على أساسٍ من الاستقامة الرساليَّة في الخطّ الفكريّ والعمليّ، لتكون إطلالته على حياة الآخرين في حركة الدَّعوة والتّبليغ من موقع القيادة المرشدة الموجِّهة الّتي ترسم للنّاس الخطَّ الواضح للطّريق المستقيم من خلال الدّعوة والقدوة.
ابتلاء سليمان
{وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً}، وهذا هو موضع الاختبار الَّذي أثار في نفس سليمان التّفكير في طبيعة هذا الإلقاء على كرسيّه، باعتبار أنّه موجَّه إليه في عمليّة تنبيهٍ له من حالة معيّنة تمثّلت في حياته، ما أدَّى إلى استغراقه فيها بشكلٍ ذاتيّ، غافلاً عن ذكر الله.
وقد اختلفت الرّوايات في تصوير المراد بالفتنة، فذكر بعض المفسّرين أنّه كان يشعر بقوَّة كبيرة في جسده تجعله يتمتَّع بقوّة جنسيّة يملك معها أن يواقع عدداً كبيراً من نسائه، والّذي قد يقترب من رقم المائة، لتلد له كلّ واحدةٍ منهنّ ولداً يجاهد في سبيل الله. وربما استغرق في هذا التّفكير غير الواقعيّ من حيث القدرة الخاصَّة الّتي قد لا تحصل للإنسان الطّبيعيّ، ولم يفكّر في المسألة من حيث ارتباطها بالقدرة الإلهيّة الّتي قد لا تستجيب لرغبته، لأنَّ مجرَّد مواقعة المرأة لا ينتج حمل الولد بشكل مؤكَّد، فقد لا يتحقَّق الحمل، إمَّا بسبب عقمها، أو من خلال بعض الموانع الجسديَّة، ولم يلتفت إلى أنَّ الأمر بيد الله الّذي قد يمنح الإنسان الولد أو قد يجعله عقيماً، فأراد الله أن يواجهه بالتَّجربة الصّعبة الّتي لا تلتقي مع أمنياته، فولد له ولداً غير متكامل الخلقة، وألقاه على كرسيّه جسداً لا روح فيه، ليدلِّل له على أنَّ الأمور كلّها بيده مما لم يغفله سليمان في إيمانه، ولكنَّه كان مشدوداً إلى أمنيته.
وقيل إنَّ الله ابتلاه بمرض، فألقاه على كرسيّه كجسدٍ لا روح فيه، إلى غير ذلك من الرّوايات التي لا أساس فيها للحجّيّة في وثاقة المصدر، ولا سيَّما أنَّ الكثير منها لا يتناسب مع أخلاقيّة الأنبياء أو المؤمنين مما روته المصادر الإسرائيليّة، مستغلّةً إجمال بعض الرّوايات، لتتكفّل بتفسيرها بحسب المزاعم الّتي تلتزم بها من أجل إرباك الأصالة القرآنيّة. فلنردّ علم ذلك إلى أهله، ولنقف عند إيحاءات الآية في حصول نوعٍ من البلاء الافتتانيّ الّذي أنزله الله على سليمان، ليكون بمثابة الصَّدمة الرّوحيَّة التي أثارت فيه الأفكار الإيجابيّة حول موقعه من الله، ورجوعه إليه، وطاعته له، والانقياد له في كلّ الأمور.
وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى: {ثُمَّ أَنَابَ}[5]، والإنابة تعني الرّجوع إلى ربّه، والانفتاح عليه وعلى محبّته، والتطلّع إلى رضاه، والانجذاب إلى الثّقة الكبيرة برعايته لعباده واستجابته لابتهالاتهم ودعواتهم ولكلّ ما يرغبون فيه ويطلبونه منه، مهما كان كبيراً وكثيراً، لأنّه هو الرّحمن الرّحيم، وهو على كلّ شيءٍ قدير.
تساؤلات حول طبيعة الفتنة
وقد ترد بعض التّساؤلات حول مسألة إلقاء الجسد على الكرسيّ الّذي كان يجلس عليه سليمان بحسب العادة في موقعه الملوكي التّقليدي، ولا سيَّما إذا كان هذا الجسد مولوداً جديداً له، لأنَّ المفروض أن يكون في جانب أمّه، كما أنّ الإلقاء لا يصدق إلا إذا كان الملقى نازلاً من الأعلى، فكيف نفهم ذلك؟ وهل يمكن أن تكون كلمة "الكرسيّ" واردةً على سبيل الكناية عن مركز السّلطة وموقع الملك، كما ورد في التّعبير القرآني في بعض الآيات؛ وليس عن المعنى الحقيقيّ للكرسيّ؟
إنّها أسئلةٌ لم يتَّضح جوابها في هذه الفقرة القرآنيّة الّتي توحي بأنَّ سليمان تجاوز النّتائج السلبيّة للفتنة بوعيه الإيماني، ورجع إلى ربّه، وأحسّ بأنَّ الله قد تقبّله وأفاض عليه من رحمته، وفتح له من هذا الجوّ الرّوحيّ واللّطف الإلهيّ أفقاً واسعاً، ليطلب من ربّه بعض رغباته الّتي توسّع من دائرة دوره في المهمّة الّتي أوكلها الله إليه في حمل الرّسالة، مما هو كبير عنده، ولكنَّه صغير عند الله الّذي لا يعجزه شيء، وشعر في عمق وجدانه الإيمانيّ بأنَّ الله سوف يستجيب له ويحقِّق له رغبته العظيمة، لأنّه سبحانه يستجيب لمن دعاه إذا كان هناك مصلحة فيما يدعوه، فذلك هو وعده سبحانه وهو الصَّادق فيه.
{قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي}[6]، ما يحدث لي في خطرات قلبي مما لا ينسجم مع موقع ربوبيّتك المتمثّلة بذاتك القدسيّة، أو مما تطبق عليّ فيه الغفلة الّتي تقودني إلى بعض التّمنّيات الذاتيّة التي ربما أبتعد فيها عن ذكرك، حتى لو لم يكن في ذلك تمرّد عليك وجرأة على مقامك الربوبيّ، بل كان حالةً من حالات الشّرود الذهنيّ والسّلوك الخاضع للغفلة عنك، مما لا عصمة لي فيه إلا من خلال رعايتك وحمايتك لي من كلِّ شيطانٍ يغريني ويخترق وساوس نفسي، وعدوٍّ يضلّني ويغويني، ونفسٍ تجذبني إلى السّوء...
فأنا يا ربّ خاضعٌ لك، ومخلصٌ في طاعتك، وموقنٌ بتوحيدك، ومؤمن بأنّك أنت الله الّذي لا إله غيرك ولا معبود سواك ولا طاعة إلا لك، وأنا أحبّ أن أبقى معك، أسبِّحك وأحمدك وأستغرق في عظمتك وأخضع لقدسك، ولذلك، فإني أستغفرك من غير ذنبٍ أذنبته، أو جرمٍ أجرمته، أو معصيةٍ ارتكبتها، فإني لا أجرؤ على ذلك، ولكني أطمع بغفرانك وأتطلَّع إليه، وأرغب في الحصول على محبَّتك ورضاك، وعلى الرّحمة الَّتي تفيضها عليّ في عقلي وقلبي وشعوري، ما يدفعني إلى أن أرتفع إلى مقام قدرتك التي امتدَّت إلى كلّ خلقك وإلى كلِّ الوجود، فأعطني من كرمك ما يحقِّق لي الرّغبة، {وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ}[7]، لأملك بذلك القوّة المسيطرة التي أعاهدك على أن أستخدمها برعايتك ورضاك وقوّتك، ووفق الشّريعة التي فرضتها على عبادك، لأستطيع من خلالها الامتداد الحركيّ الواقعيّ في سلطة الإيمان المستمدّة منك في نطاق هذا الملك بما لا يملك أحدٌ أن يقهرني به، بينما أستطيع قهر الآخرين به ممن لا يستجيب لدعوتك ولا يعمل في خطِّ رضاك.
الملك الفريد
وهذا الملك الّذي يطلبه سليمان ـ الملك ـ النبيّ، لا ينطلق من حالةٍ ذاتيّة تتطلّب تغذية العنصر الأنانيّ الذّاتي في شخصيّته، أو تقوية التّحرّك العدوانيّ في سلطته، لأنَّ روحيّته في طلبه هذا هي روحيّة المؤمن الرسالي الذي يرجع إلى الله ويخضع له، ويستغفره، وينفتح عليه ويرجوه في كلِّ رغباته، بما لا يبتعد عن مواقع رضاه.
وفي ضوء ذلك، فإنَّ تحديد الملك بأنّه لا ينبغي لأحدٍ من بعده، لا يتحرَّك في دائرة منع غيره من مثله، بل في نطاق تميّزه بخصوصيّةٍ نوعيّة تشتمل على الخوارق المعجزة، بما يوحي بكرامة الله له وعنايته به، بما يميِّز الله به بعض عباده من بعضٍ آخر، تماماً كما هي الحال فيما أفاض الله به على موسى(ع) في الآيات الّتي منحه إيّاها وجعلها في متناول يده في ردّ التحدّي الفرعوني، أو مما أفاض الله به على عيسى(ع) في إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وإعلام النّاس بما يدَّخرونه في بيوتهم، وغير ذلك من الخصوصيّات الإعجازية الّتي يصدق على كلّ واحدٍ منها أنّه لا ينبغي لأحدٍ من بعده في عناصرها الخاصَّة.
واستجاب الله له ذلك: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء ـ أي تتحرّك في تحقيق مقاصده وتيسير حاجاته بإرادته واختياره، بسهولةٍ ولينٍ من دون أيّ مشكلة، وذلك على سبيل الكناية في التّعبير عن مطاوعتها له وانقيادها لرغبته في كلِّ مشاريعه المتحركة في التنقّلات البعيدة من مكانٍ إلى مكانٍ بسرعة ـ حَيْثُ أَصَابَ}[8]، أي حيث أراد مما يقصده ويريد الوصول إليه في أهدافه المتنوّعة. ولا منافاة بين هذه الآية في توصيف الرّيح بالرّخاء، والتّعبير عنها بأنها عاصفة في قوله تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ}[9]، لأنَّ التّعبيرين واردان على سبيل الكناية، إذ يراد من الرّخاء الانقياد، ومن العاصفة السّرعة، والله العالم.
{وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ}[10]، وهي القوَّة الّتي سخَّرها الله له لخدمة مشاريعه العمرانيّة وامتداداته الاقتصاديّة، حيث كان الشّياطين يستخرجون له من البحر الثّروات المستقرّة في أعماقه، كاللّؤلؤ والمرجان وغيرهما، في انقيادٍ وخضوعٍ له في تنفيذ التّعليمات، {وَآخَرِينَ ـ وهم الَّذين كانوا يتمرَّدون على أوامره في الأعمال المطلوب منهم القيام بها ـ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ}[11]، والسَّلاسل التي يقيّدهم بها داخل السّجن الّذي يعتقلهم فيه، باعتبار سيطرته المطلقة عليهم، من خلال ما منحه الله من القدرة والسّلطة عليهم...
وقد خاطبه الله في إجابته لدعائه وتحقيقه لما طلبه منه قائلاً له: {هَذَا عَطَاؤُنَا ـ مما لا يملك أحد مثله من النّاس من حولك، ولا يتحقَّق لأحدٍ من بعدك، مما أكرمناك به ـ فَامْنُنْ ـ على من تشاء من الناس الذين تتحمَّل مسؤوليَّة رعايتهم، بما أعطاك الله من جوده وكرمه ـ أَوْ أَمْسِكْ ـ عمَّن لا يستحقّ العطاء ممن تريد حرمانه، فإنَّ الأمرين يستويان فيما جعله الله لك من الحريّة في التصرّف، بما أعطاك من المال والطّاقة من جهة حجم العطاء الإلهيّ الكبير الّذي منَّ الله به عليك ـ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[12]، لأنّه العطاء الّذي لا حدَّ له في ملك الله وقدرته، فلا ينقصه البذل، ولا يُفقره العطاء.
المكانة المميَّزة عند الله
ويبقى لسليمان من كرامة الله وموقعه منه وحظوته لديه: {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى ـ مما يقرِّبه إليه ويرفع درجته عنده، لأنّه انطلق في مواقع القرب إليه بإخلاصه وطاعته وعبادته وجهاده في سبيله ـ وَحُسْنَ مَآبٍ}[13] في الآخرة، في مقامه في رضوان الله ورحمته وعظيم لطفه. وهذا يؤكِّد منـزلة سليمان عند ربِّه، وأنّ كلّ ما مرَّ عليه من حالة الفتنة في البلاء، لم ينـزل من مكانته عند الله شيئاً. والحمد لله ربِّ العالمين.
*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
[1] [ص: 34].
[2] [الفرقان: 32].
[3] [هود: 120].
[4] [الإسراء: 74].
[5] [ص: 34].
[6] [ص: 35].
[7] [ص: 35].
[8] [ص: 36].
[9] [الأنبياء: 81].
[10] [ص: 37].
[11] [ص: 38].
[12] [ص: 39].
[13] [ص: 40].