لا نزال في الحديث عن التّجربة النّبويّة للنّبيّ سليمان(ع) وما يتَّصل بها من مسائل. فمن الصِّفات الّتي عُرِف بها سليمان، أنّه كان فقيهاً في حكمه في القضايا الّتي كانت تقع موضعاً للتَّنازع بين النّاس، والَّتي كان المتنازعون يلجأون فيها إلى القضاء ليحكم بينهم، ليعطي صاحب الحقِّ حقَّه. وكان داود هو الَّذي يرجع النّاس إليه بأمرٍ من الله، الَّذي جعله خليفةً في الأرض، وحاكماً للنَّاس فيما يختلفون فيه.
وقد كان داود(ع) عندما تعرض عليه بعض المشاكل الخلافيَّة الَّتي ربما تحتمل أكثر من حلّ، يتشاور فيها مع ولده سليمان الَّذي كان يملك معرفةً فقهيَّةً في مواجهة المشكلة، وذلك في خطِّ التَّوازن بين طبيعتها والحلّ الأقرب إلى الواقع. وأحياناً، يكون لداود وجهة نظر أخرى في حكم المسألة، من دون أن يبتعد عن خطِّ العدالة في ميزان القضاء، ومن دون أن يختلف مع ولده في النَّتائج، الأمر الَّذي يجعلهما منطلقين من قاعدةٍ واحدةٍ مع الاختلاف في الوسيلة والأسلوب.
القضاء في الحرث
وقد تعرَّض القرآن الكريم لحادثةٍ جرت، وحكم كلٌّ منهما فيها بطريقةٍ مختلفة، ولكن كانت وجهة نظر سليمان هي الأقرب إلى مواجهة حالة النّـزاع، ما جعل داود يتقبَّل ذلك في إصداره لحكمه، وربما أعلن ذلك لمن حوله ممن شهد حالة التَّشاور بين الأب والابن، ليعرّفهم المنـزلة الّتي ارتفع إليها ولده في وعيه للمشاكل الّتي تعترض النَّاس في خلافاتهم، تدليلاً على استحقاقه الخلافة من بعده بكلِّ مسؤوليَّاتها وشؤونها.
وهذا ما جاء في قوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ}[1]، وهو الزّرع أو الكرم، ولم تكن المسألة مسألة إصدار كلّ واحدٍ منهما حكماً مختلفاً عن الآخر، لأنَّ الواقعة الشخصيَّة الواحدة لا يصدر فيها إلا حكم واحد من الحاكم الَّذي يتمّ التّقاضي عنده، بل كانت المسألة مسألة بحثٍ وتشاورٍ بينهما، فيما هو الأسلوب الأقرب إلى حلِّ المشكلة العالقة الَّذي تتحقَّق به العدالة في إعطاء الحقّ لصاحبه.
وهذا ما جاء في كتاب "من لا يحضره الفقيه" للشَّيخ الصّدوق، فيما رواه بسنده عن جميل بن درّاج عن زرارة عن أبي جعفر محمد الباقر(ع) في قول الله عزَّ وجلّ: "{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ}[2]، قال: لم يحكما إنما كانا يتناظران، {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}[3]"[4]، بما تأمَّل فيه، أو بما ألهمه الله إيَّاه، ليدرسه داود ويتقبَّله في قربه إلى الحلِّ الواقعيّ، تماماً كما شأن القاضي الَّذي يستشير الثّقةَ عنده ممن يملك المعرفة في المسائل الَّتي يراد إصدار الحكم فيها.
ونستوحي من ذلك، أنَّ الله يقدِّم لنا هذا النموذج من الأنبياء الَّذين كانوا يملكون النّفاذ إلى حياة الناس في تفاصيلها اليوميَّة من موقع الامتيازات النوعيّة في القوّة والقدرة، وفي الخصائص الّتي خصَّهم الله بها، وذلك كجزءٍ من التّصوّر العام الَّذي يريد القرآن أن يتمثَّله المؤمنون في مسألة النبوَّة والأنبياء في العقيدة الرساليّة الإيمانيّة، ليقفوا حيث يريد الله منهم أن يقفوا في قضايا الغيب المحدودة، فلا يتوسَّعوا إلى أبعد من ذلك مما قد تثيره الأوهام بما قد يقترب من أجواء الخرافة، كما يريد لهم أن يدرسوا الجوانب السلبيَّة في الأجواء المحيطة بهم، كما يدرسون الجوانب الإيجابيَّة في ذلك.
الاختلاف في الحكم
أمّا طبيعة القصَّة، فقال جماعة إنَّ قطيع أغنام بعض الرّعاة دخل ليلاً إلى الأرض المملوءة بالزّرع أو الشّجر، وعبث فيه حتى أفسده وأتلف البعض منه، وجاء أصحاب الحرث إلى داود، فحكم بأن تُعطى كلّ الأغنام لصاحب البستان تعويضاً له عن هذه الخسارة الفادحة، ولكنَّ سليمان كان له طريقٌ آخر للتّعويض، فقال لأبيه، إنَّ الأرفق بالرّجلين أن يأخذ صاحب الأرض الغنم على سبيل الوديعة، ليستفيد من منافعها ولبنها وصوفها، وأن يأخذ صاحب الغنم الأرض ليصلحها حتى يعود الزّرع كما كان، وعندها يترادّان، فيأخذ هذا غنمه وذاك زرعه، فاستحسن داود حكم ولده وعمل به.
وقد كان الحكمان الصّادران عنهما في حلّ المشكلة منسجمين مع العدالة الّتي أمر الله بها في ميزان القضاء، وهذا ما يوحي به قوله تعالى: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ}[5]، فقد كان حكم كلّ واحدٍ منهما تحت رقابة الله وفي حضوره، فهو الشَّاهد على ما يصدر عن خلقه، سواء أكانوا من الأنبياء أم كانوا من غيرهم.
ولا مانع من الإتيان بضمير الجمع في مورد التّثنية، باعتبار معنى الجمع وانضمام أحدهما إلى ما قرَّره الآخر، فقد يرد ذلك في بعض الأساليب. أمّا إعادة الضّمير إلى الأنبياء، كما ذهب إليه صاحب تفسير الميزان، ففيه غموض، لعدم تقدّم ذكرٍ لهم في مجال الحكم بصيغة الجمع، من خلال الواقع الخارجيّ.
{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}[6]، أي أوضحنا له الفهم الحقيقيّ للقضيَّة أو للحكومة في هذه المسألة، فكان قضاؤه أقرب إلى مصلحة المتنازعين في التَّعويض المادّي الَّذي يتساوى فيه كلّ منهما في وصوله إلى حقّه من دون نقصٍ، وقد كان المعيار هو جبران الخسارة، فربما نظر داود إلى أنَّ الخسارة التي أصابت الزّرع تعادل قيمة الأغنام، ولذلك أعطى الأغنام ـ من خلال وجهة نظره في ميزان الحكم ـ لصاحب الزّرع، ولا سيَّما أنَّ التّقصير كان من صاحب الأغنام الّذي كان من مسؤوليَّته أن يضبط حركة غنمه في اللَّيل، وأن يمنعها من العبث بزرع النّاس الّذين لم يعتادوا حماية أرضهم في اللّيل، كما أنَّ من واجب صاحب الزرع حفظ زرعه في النهار. وقد روى الطبرسي في مجمع البيان عن النبيّ(ص)، أنَّه قضى بحفظ المواشي على أربابها ليلاً، وقضى بحفظ الحرث على أربابه نهاراً.
أمَّا معيار حكم سليمان، فقد كان منطلقاً من أنَّ خسارة صاحب البستان تعادل ما سينتفع به من الأغنام لسنةٍ كاملة، ولم تكن المسألة مسألة اجتهادٍ فقهيٍّ ظنيّ في الحكمين على حسب المصطلح في الاجتهاد، لأنَّ الأنبياء لا ينطلقون في أحكامهم من منطلقٍ ذاتيّ، بل من خلال تطبيق العدالة الإلهيَّة في النظرة إلى الواقع التعويضيّ الَّذي انطلق منه الحكمان.
{وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً}[7]، فقد أصدرا الحلَّ لهذه المشكلة والحكم بالحقّ من موقع العلم الّذي يتميَّزان به، مما ألهمهما الله إيَّاه ليتحركا من خلاله في قيامهما بمسؤوليّاتهما القضائيَّة من دون خطأٍ في القاعدة الَّتي يرتكز عليها الحكم القضائيّ، ولينطلقا به في توجيه النّاس إلى الحقّ في حياتهم العامَّة والخاصَّة، وفي منازعاتهم واختلافاتهم، للوصول إلى الموقف الصَّواب، لأنَّ مهمَّة الرسول تتحرّك في خطّين: خطّ الوعي للحياة من خلال فكرٍ يرفع به مستواها إلى الدَّرجات العليا، وخطّ العدل الّذي يحلّ المشاكل الّتي يواجهها الناس على صعيد الفرد والمجتمع. وبذلك، كان العلم يمثِّل قوّة الرسول في شخصيّته، كما أنَّ الحكم يؤكِّد التزام العدل في حركته بإيصال كلّ صاحب حقّ إلى حقّه.
هل أخطأ داود(ع)؟!
وقد يثير البعض السّؤال حول هذا الخلاف بين داود وسليمان في فهم حكم الشَّريعة في مثل هذه القضيّة، وكيف أصاب سليمان من حيث أخطأ داود النّبيّ الّذي جعله الله خليفةً في الأرض ليحكم بين النّاس بالحقّ، مع أنَّ مسألة العصمة في عقيدتنا في الأنبياء أساسيَّة، ولا سيَّما في مسألة التبليغ للأحكام أو في مسألة التّطبيق في مقام القضاء؟!
وقد ورد في الجواب عن ذلك أكثر من وجه، فقيل: إنَّ حكم سليمان كان ناسخاً لحكم داود، فقد حكم داود بما حكم به الأنبياء من قبله، ولكنَّ الله نسخ هذا الحكم، وأوحى إلى سليمان وحياً إلهاميّاً أنّ كلّ غنمٍ نفشت في زرع شخص، فليس لصاحب الزّرع إلا ما خرج من بطونها أو ما ينتفع به من صوفها وألبانها.
وقيل: إنَّ داود أراد أن يعرّف بني إسرائيل أنّ سليمان وصيّه من بعده، فلم يختلفا في الحكم، لأنَّ داود لم يكن في مقام بيان الحكم الواقعيّ، بل كان في مجال إظهار موقع سليمان المستقبليّ في النبوّة بالطّريقة الّتي توحي بالثّقة به.
ولكنَّ الجوابين لا يخلوان من مناقشة وغموض، لأنَّ النّسخ لم يكن وارداً في هذه الحالة من التّشاور بينهما في المسألة القضائيّة الّتي أريد بها التّعويض على صاحب الخسارة في الزرع، ولأنّ النّسخ لا يمنع من خطأ داود في حكمه، ولو بلحاظ هذه الحالة الخاصّة، ولا سيَّما أنّ النسخ لو كان ثابتاً، لكان الأولى أن يوحى به إلى داود الّذي هو الخليفة والحاكم، لا إلى سليمان الّذي لم يثبت أنّه كان نبيّاً آنذاك، ولا سيَّما مع احتمال أنه كان في سنّ الطّفولة، كما يذكر بعض الرواة، مع استبعادنا ذلك.
كما أنَّ الظّاهر من الآية أنهما كانا ينطلقان من منطلقٍ واحد، فلا تباين بينهما، ولا تعدّديّة في الرّأي في إظهار الحقّ والحكم، ليبدو حكم سليمان في دائرة الصَّواب، بينما يبدو حكم داود في دائرة الخطأ، فهذا لا يتناسب مع طبيعة الواقع، باعتبار أنَّ مجرّد اعتماد داود على سليمان ووضعه في مقام الحكم، يمكن أن يؤدِّي هذه المهمّة من دون الإساءة إلى مقام داود، ومن دون أن يؤدّي ذلك إلى فقدان الثّقة بحكمه.
منطلق واحد للحكم
وربّما كان أساس الحكم واحداً في المسألة، وهو ضمان صاحب الغنم للزّرع، ولكنَّ الاختلاف هو في طريقة تنفيذه، فحَكَمَ داود برقابها لصاحب الزرع، وحَكَمَ سليمان بما هو أرفق منه، وهو أن يستوفي صاحب الزّرع ما أتلف من زرعه من منافعها في تلك السّنة، مع ملاحظة أنَّ قيمة الزّرع تساوي قيمة رقاب الغنم، كما أنّ قيمة الرقبة تساوي منافعها المستوفاة في كلّ سنة عادةً. وبذلك، لم يختلفا في حكم الله، وإنما اختلفا في إجرائه في الدّائرة الّتي يملكان فيها الحريّة في التَّطبيق، ممّا يكون مرجع الأمر فيه إلى رأي الحاكم وتقديره لمصلحة الطّرفين في الموارد التي لا تشتمل على تشريع محدّد، كما في موارد التّعزيرات وأمثالها من التفاصيل الّتي تقع في منطقة الفراغ التّشريعيّ، فيكون للحاكم الحريّة في أن يملأه بما يراه من الصّلاح.
وبذلك، يكون تفهيم الله لسليمان المسألة، هو الإيحاء إليه ـ بطريقة الإلهام ـ بالأسلوب الأرفق في إجراء الحكم بالضَّمان. وقد لا يكون هناك أيّ مانعٍ عقليّ في أن يخطئ النبيّ بهذا المستوى، ولا سيَّما إذا كان ذلك قبل إصدار الحكم للتّنفيذ، وكان في ذلك مصلحة أخرى هي تربية نبيٍّ مستقبليٍّ آخر على إدارة الحكم وإظهار فضله. وربما كان ذلك منطلقاً من الإرادة الإلهيَّة في الإيحاء بأنَّ مثل هذه القضايا قد يكون الرّفق في معالجتها أفضل من العنف، من دون أن تكون هناك أية سلبيَّة في ذلك.
وإذا كان هذا النبيّ الموعود ابناً للنبيّ الحاليّ، وخاضعاً له، ومعترفاً بفضله، بلحاظ تربيته له وتثقيفه بالتَّعاليم الرّساليَّة الشرعيَّة، فلا يبعث ذلك على الإساءة إلى مكانته، وليس من الضَّروريّ أن يكون في ذلك تقليلٌ من قيمة موقعه في نظر النّاس، لأنَّهم يرون أن تميّز الولد منطلق من موقع رعاية والده له في علمه، كما أنّ الناس قد اعتادوا على اختلاف الحاكميْن في الحكم مع معرفتهم بأنّهما ينطلقان ـ معاً ـ من علمٍ ومعرفةٍ وصدقٍ وأمانةٍ، ولا سيَّما إذا لم يكن هناك تشريع محدَّد في تفاصيل الحكم، بل كان الأمر تابعاً لتقدير الحاكم في علاجه للمشكلة، وإن كان الحاكم نبيّاً.
وربما لا نجد في أدلّة عصمة الأنبياء(ع) ما يفرض مثل هذه الدقَّة في نظر الباحثين في العصمة، في مسألة صواب الحكم، طالما لا يؤدِّي ذلك إلى ترك الحكم الواقعيّ والانحراف عنه، كما في مثل هذه الحالة التي كانت النتيجة فيها، في نظرة الأب والابن، اتّفاقهما على الحكم، لأنَّ الأب لم يجد في علاج ولده للمشكلة ما ينافي علاجه لها من حيث المبدأ الّذي يمنح الحقّ لصاحبه.
وإنّنا ندعو إلى دراسة المسألة من جديد على مستوى البحث القرآني، من خلال ما صوَّره القرآن من الملامح العامّة والخاصّة لشخصيَّة النبيّ، فيما يؤكِّد بشريّته، مع التركيز على الموقع المميَّز له من خلال الوحي الّذي يرعى فكره وسلوكه وحركته في الدَّعوة والتّبليغ والقضاء والانفتاح على آفاق الكمال الإنسانيّ من موقع القيادة، إضافةً إلى أنَّ العقل الَّذي قد يكون من أدلّة ضرورة العصمة للنَّبيّ، لا ينفي مثل هذا النّوع من الاختلاف الَّذي لا يسيء إلى موقع النّبيّ والنبوّة. والحمد لله ربِّ العالمين.
*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
[1] [الأنبياء: 78].
[2] [الأنبياء: 78].
[3] [الأنبياء: 79].
[4] من لا يحضره الفقيه، الشّيخ الصدوق، ج 3، ص 101.
[5] [الأنبياء: 78].
[6] [الأنبياء: 79].
[7] [الأنبياء: 79].