حادثة وفاة النَّبيّ سليمان وإخفاؤها عن الجنّ

حادثة وفاة النَّبيّ سليمان وإخفاؤها عن الجنّ

لا زلنا مع التّجربة النّبويّة للنّبيّ سليمان(ع)، حيث عاش(ع) ما قضى الله له من العمر في إدارة ما أوكله الله إليه من المسؤوليَّات الكبرى الَّتي تداخلت فيها النبوّة بالملك، الَّذي طلب من الله أن يكون ممّا لا ينبغي لأحدٍ من بعده، وقد سخَّر الله له ما لم يسخّره لأحدٍ من عباده، ومنحه من القدرات ما لم يمنحه لغيره، حتى إذا استكمل أجله، انتهت حياته ومات كما يموت الآخرون، لأنَّ الله جعل الموت سنّةً لخلقه، كما جاء في كلام الإمام عليّ(ع) في حديثه عن هذه السنَّة الحتميَّة في أمر سليمان في إحدى خطبه: "ولو أنَّ أحداً يجد إلى البقاء سلّماً، أو إلى دفع الموت سبيلاً، لكان ذلك سليمان بن داود، الّذي سُخِّر له ملك الجنّ والإنس مع النبوّة وعظيم الزلفة"[1].

غموض الوفاة

ولكنَّ حادثة موته لا تخلو من إثارة التّساؤل حول تفاصيلها، لأنَّ سليمان لم يمت على فراشه بين أفراد عائلته، ولم يسبق ذلك أيّ أعراضٍ مرضيَّة أو أوضاعٍ صحيّة تجعله في انتظار الموت، بل كان ـ كما يوحي الظَّاهر القرآنيّ ـ يجلس على كرسيّه يراقب الجنَّ وهم يعملون في مشاريعه العمرانيَّة، من دون أن يكتشفوا موته أو يشعروا به، وهو أمرٌ لا يخلو من الغرابة، إذ توحي الآية بأنّه بقي متَّكئاً على عصاه مدّةً من الزّمن، كما لو كان حيّاً، الأمر الَّذي اختلفت فيه الرّوايات؛ فهل بقي سنةً على هذه الحال أو شهراً أو عدّة أيّام؟ وهل إنَّ المقرَّبين منه عرفوا بموته ولكنَّهم أخفوه عن النّاس حتى لا يهتزَّ نظام الدّولة الّتي كانت خاضعةً له في قوّة موقعه وعظمة هيبته، أو أنَّ الآخرين قد خفي أيضاً عليهم ذلك؟

قد يبدو من المستبعد تماماً أن يخفى أمر وفاته مدّةً طويلةً عن عائلته وعن مساعديه المقرّبين منه، المتحرّكين في إدارة شؤون الملك عنده، بل حتّى لو كان ذلك ليوم واحد، لأنَّ من المسلَّم به ـ بطبيعة الأمور ـ أنّه كان هناك أفراد يراجعونه في تفاصيل الأوضاع العامَّة والخاصَّة، أو كانوا مكلَّفين بإيصال حاجاته وغذائه إليه، ولا بدَّ من أنهم سيعلمون بموته حتماً، ولا سيَّما أنه ليس من الطبيعيّ عدم تناوله الطعام والماء لمدّة طويلة، الأمر الذي قد يثير التّساؤل لدى مَن حوله، فيندفعون نحو البحث عن ذلك. وقد تحدَّث بعض المفسِّرين عن أنّهم علموا بأمر موته، إلا أنّهم أخفوا ذلك الأمر لغاياتٍ معيَّنة.

أمّا أمور الدّولة، فقد تحدّثت بعض الرّوايات عن أنَّ آصف بن برخيا وزير سليمان الخاصّ، هو الّذي كان يديرها. وورد في بعض الرّوايات، أنّ هذا الإخفاء كان بأمر سليمان، وأنه قال لأهله ـ عندما أحسَّ بدنوّ أجله ـ لا تخبروا الجنّ بموتي حتى يفرغوا من البناء، ودخل محرابه، وقام متَّكئاً على عصاه، فمات وبقي قائماً سنةً، وتمّ البناء، ثم سلَّط الله على منسأته ـ وهي عصاه ـ الأرضة حتى أكلتها، فخرَّ ميتاً، فعرف الجنّ بموته، وكانوا يحسبونه حيّاً، لما كانوا يشاهدونه من طول قيامه...

ولكن يبقى الغموض محيطاً بالمسألة، ولا سيَّما أنَّ الأرضة لا تحتاج إلى هذا الوقت الطّويل لتأكل عصاه، كما أنَّ غيابه عن أمور ملكه في إدارة الدّولة يخلق الكثير من حالات الاهتزاز، وربما يؤدِّي إلى بعض الفوضى، فلا بدَّ من أن يكون للمسألة وجه آخر لم يفصِّله الله في كتابه، مما قد لا يكون هناك ضرورة لإخراجه من حال الإجمال، لأنَّ المطلوب في الآية ربما كان التّأكيد أنّ الجنّ لا يعلمون الغيب مما كان النّاس يعتقدونه فيهم، فيلجأون إليهم ليعرّفوهم أنباء الغيب.

الجنّ لا يعلمون الغيب

وهذا ما تحدَّثت عنه الآية الكريمة: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ـ لم يعرفوا به ساعة حدوثه، لأنَّ الصورة التي كان عليها تشبه صورة الإنسان الحيّ، ولذلك ـ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ ـ وهي الأرضة ـ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ}، عندما انكسرت وأسقطته من كرسيّه، فخرَّ على وجهه، وعرفوا حينها أنّه ميّت، {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ}، الحقيقة الإيمانيّة الواقعيّة التّوحيديّة الّتي تؤكِّد استقلال الله بعلم الغيب، وأن لا أحد من عباده يملك أيّ ملكةٍ في هذا المجال، إلا بمقدار ما يُعلِمُه الله به من مفردات غيبه، كما هي سنّة الله في الأنبياء، فيما كانوا يحتاجون إليه في رسالاتهم من معلوماتٍ غيبيَّة كان الله يطلعهم عليها.

وهذه الفكرة هي خلاف الفكرة الشّعبيَّة الَّتي كانت شائعةً لدى النّاس بأنَّ الجنَّ يعلمون الغيب، أو فيما يتعلَّق ببعض التصوّرات الخاطئة الّتي كان الجنّ يعتقدونها في أنفسهم، وأنهم يستطيعون أن يقيموا بعض العلاقات الخاصَّة مع النّاس، فيطلعوهم على بعض الأمور الخفيَّة الّتي قد يتعرّفونها بشكلٍ خفيّ، من خلال وسائلهم في امتداداتهم في الواقع، ليوحوا إليهم بأنّهم يملكون الغيب الَّذي يستطيعون من خلاله إيقاع الضَّرر بالنّاس، أو جلب النَّفع إليهم، أو أنّهم يستطيعون اكتشاف أسرارهم.

ولكنَّهم واجهوا هذه الحقيقة في مسألة موت سليمان الَّتي مثَّلت الصّدمة، لما كانوا يعتقدونه في أنفسهم من الاطّلاع على الغيب، فقد استمرّوا في العمل القاسي المتعب في بناء المشاريع العمرانيَّة، وهم يحسبون أنَّ سليمان لا يزال ـ كما كان ـ ينظر إليهم ويراقبهم ليحاسبهم على ما قد يصدر عنهم من التّقصير، وعرفوا أخيراً بفعل سقوطه ميتاً على الأرض، {أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ}، لعلموا بموت سليمان المستور عنهم، ولكانوا {مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ}[2]، بسبب الجهد الشَّديد والقهر النَّفسيّ والمذلَّة والهوان، فيما كان يُفرض عليهم من الأعمال الشَّاقّة.

وهكذا عرف النّاس في هذه المسألة خطأ تصوّراتهم السَّاذجة حول القدرة الّتي يملكها الجنّ في العلم بالغيب، وما كانوا يظنّونه من أنَّ باستطاعتهم إخبار النّاس بما يجهلونه من أمور الغيب وأسراره.

العبرة من قصص الأنبياء

وبذلك تنتهي قصَّة داود وسليمان اللَّذين منحهما الله الكثير من ألطافه، وأفاض عليهما المزيد من نعمه، فكانا في المستوى الرّوحانيّ الكبير في التّوحيد الخالص لله وشكره العميق، والتقرّب من مواقع رضاه، حتّى قرّبهما الله إليه، وهو ما جاء في قوله تعالى عن كلٍّ من داود وسليمان في آيتين: {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ}[3]، وقال أيضاً عن كلِّ واحدٍ منهما: {إِنَّهُ أَوَّابٌ}[4].

وهكذا، منح الله داود موقع الخلافة في الأرض الّتي ارتفعت به إلى الدَّرجات العلى والمواقع المميّزة في مسؤوليّاته الكبرى عن الأرض في كلِّ حركة النّاس؛ في معاملاتهم وعلاقاتهم وكلّ أوضاعهم، ليتولّى في خلافته هذه رعاية الواقع الإنساني كلّه، وأمره بأن يحكم بين النّاس بالحقّ، على قاعدة التَّشريع الإلهيّ المنـزل عليه وعلى الأنبياء من قبله، بعيداً عن الهوى الذّاتي الذي يضلّ عن سبيل الله، وذلك هو قوله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}[5].

وربّما كان المراد بالحكم بين الناس بالحقّ، يتجاوز حالة القضاء إلى حالة الحكم التّنفيذيّ في أمورهم العامَّة الّتي يتحمّل مسؤوليّة القيام بها الأنبياء، الّذين حمّلهم الله الرسالة ليجسّدوها في حياة الناس على مستوى النظرية والتطبيق.

وهكذا تحدَّث الله عنه كيف واجه الّذين كفروا باللّعن، وذلك قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}[6]. وفي هذا دلالة على أنّ داود كان عنيفاً في أسلوبه مع الكافرين الذين يقومون بإفساد المجتمع بارتكاب المنكر وعدم التناهي عنه، ما يضيف إلى جريمة الكفر جريمة انتشار المنكر في المجتمع، ولذلك كان اللّعن الذي يمثّل الإبعاد، هو الأسلوب الذي واجههم به كما واجههم به النبيّ عيسى(ع)، لأنّ مهمّة الأنبياء هي إزالة المنكر من الأرض، سواء كان عقيديّاً أو أخلاقيّاً.

أمّا سليمان، فإنَّنا نجده يذكر الله ويشكره عند كلِّ نعمة من نعمه، وهذا ما تحدّث عنه القرآن، عندما قال سليمان في وادي النّمل: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}[7]، وما حكاه الله سبحانه عنه عندما رأى عرش ملكة سبأ مستقرّاً عنده: {قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}[8].

وقد كان يطلب من الله أن يرزقه الملك الواسع القويّ الذي يمتدّ في الأرض ليجذب النّاس إليه، كما حدث في تجربته مع ملكة سبأ وقومها الَّذين أسلموا لله ربِّ العالمين، وذلك هو قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ}[9]. فوهب الله له ذلك، {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ}[10].

ونستوحي من قصّة هذين النبيّين اللّذين أعطاهما الله من فضله ما لم يعطه لنبيٍّ آخر في الشّكل والمضمون، كيف ينفتح المؤمن على الله حتى في الحالة التي يملك فيها الكثير من الملك والقوّة والسّلطة والنعمة الوافرة، لأنّ إيمانه يجعله أقرب إلى الله من الدّنيا كلّها. والحمد لله ربّ العالمين.

*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 2، ص 107.

[2]  [سبأ: 14].

[3]  [ص: 25]، [ص: 40].

[4]  [ص: 30]، [ص: 44].

[5]   [ص: 26].

[6]  [المائدة: 78، 79].

[7]  [النمل: 19].

[8]  [النمل: 40].

[9]  [ص: 35].

[10]  [ص: 36، 37].


لا زلنا مع التّجربة النّبويّة للنّبيّ سليمان(ع)، حيث عاش(ع) ما قضى الله له من العمر في إدارة ما أوكله الله إليه من المسؤوليَّات الكبرى الَّتي تداخلت فيها النبوّة بالملك، الَّذي طلب من الله أن يكون ممّا لا ينبغي لأحدٍ من بعده، وقد سخَّر الله له ما لم يسخّره لأحدٍ من عباده، ومنحه من القدرات ما لم يمنحه لغيره، حتى إذا استكمل أجله، انتهت حياته ومات كما يموت الآخرون، لأنَّ الله جعل الموت سنّةً لخلقه، كما جاء في كلام الإمام عليّ(ع) في حديثه عن هذه السنَّة الحتميَّة في أمر سليمان في إحدى خطبه: "ولو أنَّ أحداً يجد إلى البقاء سلّماً، أو إلى دفع الموت سبيلاً، لكان ذلك سليمان بن داود، الّذي سُخِّر له ملك الجنّ والإنس مع النبوّة وعظيم الزلفة"[1].

غموض الوفاة

ولكنَّ حادثة موته لا تخلو من إثارة التّساؤل حول تفاصيلها، لأنَّ سليمان لم يمت على فراشه بين أفراد عائلته، ولم يسبق ذلك أيّ أعراضٍ مرضيَّة أو أوضاعٍ صحيّة تجعله في انتظار الموت، بل كان ـ كما يوحي الظَّاهر القرآنيّ ـ يجلس على كرسيّه يراقب الجنَّ وهم يعملون في مشاريعه العمرانيَّة، من دون أن يكتشفوا موته أو يشعروا به، وهو أمرٌ لا يخلو من الغرابة، إذ توحي الآية بأنّه بقي متَّكئاً على عصاه مدّةً من الزّمن، كما لو كان حيّاً، الأمر الَّذي اختلفت فيه الرّوايات؛ فهل بقي سنةً على هذه الحال أو شهراً أو عدّة أيّام؟ وهل إنَّ المقرَّبين منه عرفوا بموته ولكنَّهم أخفوه عن النّاس حتى لا يهتزَّ نظام الدّولة الّتي كانت خاضعةً له في قوّة موقعه وعظمة هيبته، أو أنَّ الآخرين قد خفي أيضاً عليهم ذلك؟

قد يبدو من المستبعد تماماً أن يخفى أمر وفاته مدّةً طويلةً عن عائلته وعن مساعديه المقرّبين منه، المتحرّكين في إدارة شؤون الملك عنده، بل حتّى لو كان ذلك ليوم واحد، لأنَّ من المسلَّم به ـ بطبيعة الأمور ـ أنّه كان هناك أفراد يراجعونه في تفاصيل الأوضاع العامَّة والخاصَّة، أو كانوا مكلَّفين بإيصال حاجاته وغذائه إليه، ولا بدَّ من أنهم سيعلمون بموته حتماً، ولا سيَّما أنه ليس من الطبيعيّ عدم تناوله الطعام والماء لمدّة طويلة، الأمر الذي قد يثير التّساؤل لدى مَن حوله، فيندفعون نحو البحث عن ذلك. وقد تحدَّث بعض المفسِّرين عن أنّهم علموا بأمر موته، إلا أنّهم أخفوا ذلك الأمر لغاياتٍ معيَّنة.

أمّا أمور الدّولة، فقد تحدّثت بعض الرّوايات عن أنَّ آصف بن برخيا وزير سليمان الخاصّ، هو الّذي كان يديرها. وورد في بعض الرّوايات، أنّ هذا الإخفاء كان بأمر سليمان، وأنه قال لأهله ـ عندما أحسَّ بدنوّ أجله ـ لا تخبروا الجنّ بموتي حتى يفرغوا من البناء، ودخل محرابه، وقام متَّكئاً على عصاه، فمات وبقي قائماً سنةً، وتمّ البناء، ثم سلَّط الله على منسأته ـ وهي عصاه ـ الأرضة حتى أكلتها، فخرَّ ميتاً، فعرف الجنّ بموته، وكانوا يحسبونه حيّاً، لما كانوا يشاهدونه من طول قيامه...

ولكن يبقى الغموض محيطاً بالمسألة، ولا سيَّما أنَّ الأرضة لا تحتاج إلى هذا الوقت الطّويل لتأكل عصاه، كما أنَّ غيابه عن أمور ملكه في إدارة الدّولة يخلق الكثير من حالات الاهتزاز، وربما يؤدِّي إلى بعض الفوضى، فلا بدَّ من أن يكون للمسألة وجه آخر لم يفصِّله الله في كتابه، مما قد لا يكون هناك ضرورة لإخراجه من حال الإجمال، لأنَّ المطلوب في الآية ربما كان التّأكيد أنّ الجنّ لا يعلمون الغيب مما كان النّاس يعتقدونه فيهم، فيلجأون إليهم ليعرّفوهم أنباء الغيب.

الجنّ لا يعلمون الغيب

وهذا ما تحدَّثت عنه الآية الكريمة: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ـ لم يعرفوا به ساعة حدوثه، لأنَّ الصورة التي كان عليها تشبه صورة الإنسان الحيّ، ولذلك ـ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ ـ وهي الأرضة ـ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ}، عندما انكسرت وأسقطته من كرسيّه، فخرَّ على وجهه، وعرفوا حينها أنّه ميّت، {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ}، الحقيقة الإيمانيّة الواقعيّة التّوحيديّة الّتي تؤكِّد استقلال الله بعلم الغيب، وأن لا أحد من عباده يملك أيّ ملكةٍ في هذا المجال، إلا بمقدار ما يُعلِمُه الله به من مفردات غيبه، كما هي سنّة الله في الأنبياء، فيما كانوا يحتاجون إليه في رسالاتهم من معلوماتٍ غيبيَّة كان الله يطلعهم عليها.

وهذه الفكرة هي خلاف الفكرة الشّعبيَّة الَّتي كانت شائعةً لدى النّاس بأنَّ الجنَّ يعلمون الغيب، أو فيما يتعلَّق ببعض التصوّرات الخاطئة الّتي كان الجنّ يعتقدونها في أنفسهم، وأنهم يستطيعون أن يقيموا بعض العلاقات الخاصَّة مع النّاس، فيطلعوهم على بعض الأمور الخفيَّة الّتي قد يتعرّفونها بشكلٍ خفيّ، من خلال وسائلهم في امتداداتهم في الواقع، ليوحوا إليهم بأنّهم يملكون الغيب الَّذي يستطيعون من خلاله إيقاع الضَّرر بالنّاس، أو جلب النَّفع إليهم، أو أنّهم يستطيعون اكتشاف أسرارهم.

ولكنَّهم واجهوا هذه الحقيقة في مسألة موت سليمان الَّتي مثَّلت الصّدمة، لما كانوا يعتقدونه في أنفسهم من الاطّلاع على الغيب، فقد استمرّوا في العمل القاسي المتعب في بناء المشاريع العمرانيَّة، وهم يحسبون أنَّ سليمان لا يزال ـ كما كان ـ ينظر إليهم ويراقبهم ليحاسبهم على ما قد يصدر عنهم من التّقصير، وعرفوا أخيراً بفعل سقوطه ميتاً على الأرض، {أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ}، لعلموا بموت سليمان المستور عنهم، ولكانوا {مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ}[2]، بسبب الجهد الشَّديد والقهر النَّفسيّ والمذلَّة والهوان، فيما كان يُفرض عليهم من الأعمال الشَّاقّة.

وهكذا عرف النّاس في هذه المسألة خطأ تصوّراتهم السَّاذجة حول القدرة الّتي يملكها الجنّ في العلم بالغيب، وما كانوا يظنّونه من أنَّ باستطاعتهم إخبار النّاس بما يجهلونه من أمور الغيب وأسراره.

العبرة من قصص الأنبياء

وبذلك تنتهي قصَّة داود وسليمان اللَّذين منحهما الله الكثير من ألطافه، وأفاض عليهما المزيد من نعمه، فكانا في المستوى الرّوحانيّ الكبير في التّوحيد الخالص لله وشكره العميق، والتقرّب من مواقع رضاه، حتّى قرّبهما الله إليه، وهو ما جاء في قوله تعالى عن كلٍّ من داود وسليمان في آيتين: {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ}[3]، وقال أيضاً عن كلِّ واحدٍ منهما: {إِنَّهُ أَوَّابٌ}[4].

وهكذا، منح الله داود موقع الخلافة في الأرض الّتي ارتفعت به إلى الدَّرجات العلى والمواقع المميّزة في مسؤوليّاته الكبرى عن الأرض في كلِّ حركة النّاس؛ في معاملاتهم وعلاقاتهم وكلّ أوضاعهم، ليتولّى في خلافته هذه رعاية الواقع الإنساني كلّه، وأمره بأن يحكم بين النّاس بالحقّ، على قاعدة التَّشريع الإلهيّ المنـزل عليه وعلى الأنبياء من قبله، بعيداً عن الهوى الذّاتي الذي يضلّ عن سبيل الله، وذلك هو قوله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}[5].

وربّما كان المراد بالحكم بين الناس بالحقّ، يتجاوز حالة القضاء إلى حالة الحكم التّنفيذيّ في أمورهم العامَّة الّتي يتحمّل مسؤوليّة القيام بها الأنبياء، الّذين حمّلهم الله الرسالة ليجسّدوها في حياة الناس على مستوى النظرية والتطبيق.

وهكذا تحدَّث الله عنه كيف واجه الّذين كفروا باللّعن، وذلك قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}[6]. وفي هذا دلالة على أنّ داود كان عنيفاً في أسلوبه مع الكافرين الذين يقومون بإفساد المجتمع بارتكاب المنكر وعدم التناهي عنه، ما يضيف إلى جريمة الكفر جريمة انتشار المنكر في المجتمع، ولذلك كان اللّعن الذي يمثّل الإبعاد، هو الأسلوب الذي واجههم به كما واجههم به النبيّ عيسى(ع)، لأنّ مهمّة الأنبياء هي إزالة المنكر من الأرض، سواء كان عقيديّاً أو أخلاقيّاً.

أمّا سليمان، فإنَّنا نجده يذكر الله ويشكره عند كلِّ نعمة من نعمه، وهذا ما تحدّث عنه القرآن، عندما قال سليمان في وادي النّمل: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}[7]، وما حكاه الله سبحانه عنه عندما رأى عرش ملكة سبأ مستقرّاً عنده: {قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}[8].

وقد كان يطلب من الله أن يرزقه الملك الواسع القويّ الذي يمتدّ في الأرض ليجذب النّاس إليه، كما حدث في تجربته مع ملكة سبأ وقومها الَّذين أسلموا لله ربِّ العالمين، وذلك هو قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ}[9]. فوهب الله له ذلك، {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ}[10].

ونستوحي من قصّة هذين النبيّين اللّذين أعطاهما الله من فضله ما لم يعطه لنبيٍّ آخر في الشّكل والمضمون، كيف ينفتح المؤمن على الله حتى في الحالة التي يملك فيها الكثير من الملك والقوّة والسّلطة والنعمة الوافرة، لأنّ إيمانه يجعله أقرب إلى الله من الدّنيا كلّها. والحمد لله ربّ العالمين.

*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 2، ص 107.

[2]  [سبأ: 14].

[3]  [ص: 25]، [ص: 40].

[4]  [ص: 30]، [ص: 44].

[5]   [ص: 26].

[6]  [المائدة: 78، 79].

[7]  [النمل: 19].

[8]  [النمل: 40].

[9]  [ص: 35].

[10]  [ص: 36، 37].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية