اصطفاء الأنبياء لحمل الرسالة

اصطفاء الأنبياء لحمل الرسالة

  ونلتقي في هذا الدَّرس بالمسيح عيسى بن مريم، وهو نبيٌ من أنبياء الله، من الذرّية الطّاهرة التي اصطفاها الله وفضّلها بالموقع الرّسالي، والخلافة العامّة، والدّور الّذي يمنح الحياة والإنسان حركةً روحيّةً في الموقع المادّيّ الّذي يراد له أن يمتزج في معطياته بالرّوح، في نطاق القيم الأخلاقيَّة الإنسانيَّة الّتي تؤصِّل للإنسان معناه، ليتداخل في تكوينه عنصران مميَّزان؛ العنصر المادّي الّذي يتمثَّل به وجوده المادّي، ونفخة الرّوح الّتي أودع الله فيها كلَّ قدرته ولطفه ورحمته.


  تواصل الرّسالات

  وهذا ما عبّرت عنه الآية الكريمة: {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}1. فقد اختار الله آدم لدور الخلافة الأولى في الأرض، من أجل أن يبدأ الرّحلة الإنسانيَّة في مجتمع أسرته الخاصَّة، لتبني الأرض وتعمرها على أساس التخطيط الإلهي، واختار نوحاً ليكون أوّل الأنبياء من أولي العزم، ليبلّغ الرسالة التّوحيدية، ويقود الإنسان إلى الإيمان بالله وعبادته وطاعته، ويعطي النّموذج الأعلى في الصَّبر أمام التّحدّيات التي امتدّت في الزّمن، إضافةً إلى دأبه في التّبليغ والوعظ والإرشاد والتوعية والهداية، ليخرج النّاس من ظلمات الجهل والتخلّف والوثنيّة والخرافة، إلى نور العلم والتقدّم والوحدانيَّة لله، في عمق الإيمان الّذي يحوِّل الدَّاخل الفكريّ إلى إشراقةٍ منفتحةٍ على التحرّك في اتّجاه النموّ العقلي والإبداع التجريبـي، حتّى لم يبق هناك مجالٌ جديد للتّجربة، لأنه استنفد كلّ التجارب، ما يعطي الدلالة على مدى ما كان يتمتّع به من روحيّة واسعة عميقة ممتدّة في رحاب الله.


  وقد امتدّ اختيار الله له بعد الطوفان، ليبدأ الرّحلة الرساليّة الثّانية في مجتمعٍ جديدٍ مع من كانوا معه في السَّفينة، ليبدأ معهم الخطوط العامّة والمفردات التّفصيليّة للرّسالة، ممّا لم يحدّثنا الله عن تفاصيله، ولكنَّه أشار إلى الذرّية التي انطلقت منه ومن جمهوره الّذي آمن به ليبدأ معهم التاريخ الجديد للبشريّة.


  واختار الله سبحانه من بعده النبيّ إبراهيم(ع)، الّذي أسلم وجهه لله، وجعل القاعدة الأساس الّتي ينطلق منها هي الالتزام بالله بشكلٍ مطلق، بحيث يتحرّك العقل ليرتفع بتفكيره إلى وحدانيَّة الله، وتتحرّك العاطفة لتنفتح على الإنسان كلّه في روحيّة العدل، وتتحرَّك الطّاقة لتكون في مستوى العبادة الخالصة لله والطّاعة الملتزمة به، كلّ ذلك امتثالاً لأمر الله: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}2.

  وقد عاش إبراهيم(ع) من خلال هذا الخطِّ الشّامل الّذي ينطلق من التوحيد، ويرفض الشِّرك ويواجه الوثنيّة، ويحرّر الفكر من سيطرة الخرافة، ويرتفع به إلى إشراقة العقل الذي يتابع الأمور ويحاكمها ويناقش تفاصيلها ومفرداتها، ليصل إلى الحقيقة الأصيلة. وقد عانى الكثير في تجربته الصَّعبة مع أبيه وقومه، ولكنَّه واجه ذلك بالقلب المطمئنّ الرّاضي الذي احتضن في داخله كلّ التطلّعات الإنسانيّة الروحيّة نحو الله.

  وانطلق الإسلام من خلاله كخطٍّ عريضٍ للحياة في الفكر والأعمال والمشاريع المتنوّعة الّتي يحتاجها الإنسان في تطوّره المادّيّ والمعنويّ، والوسائل والأهداف الّتي لا تبتعد عن أسلوب الرّسالة وخطّ التّوحيد، وخطّط لامتداد هذا الإسلام المطلق في العقيدة والسّلوك، فأوصى بنيه به، وعاشه بنوه الطيّبون من الرّسل الَّذين اختصَّهم الله بنعمته، فاصطفاهم برسالته، ومنهم إسحاق وإسماعيل ويعقوب، وصولاً إلى نبيِّنا الأعظم محمَّد(ص).

  ولم تكن القضيّة قضيّة نسبٍ يعطي الامتياز، بل كانت قضيّة رسالة واتّباع خطّ، كما قال الله سبحانه: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}3، وقوله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}4. وهكذا أصبح لإبراهيم أهلٌ ينتسبون إليه، ويصطفي الله بعضهم، ولكن لا مجال لتعميم الحكم على كلّ من انتسب إليه.

  أمَّا آل عمران، فقد نلتقي بالنَّسب الذي ينتمي إليه موسى وهارون، وقد نلتقي بالنَّسب الذي تنتمي إليه مريم ـ وعيسى من خلالها ـ وإن كان النّسب المباشر ليس واحداً بالنِّسبة إلى موسى ومريم، لوجود فترةٍ زمنيّةٍ كبيرةٍ بينهما قد تبلغ ألفاً وثمانمائة سنة، ولذلك، فإنَّ أبا مريم هو غير أبي موسى...


  صفات الأنبياء

  وعلى أيِّ حال، فقد كان هذا الاصطفاء لحمل الرّسالة من أجل أن يكونوا رسلاً ودعاةً وهداةً للعالمين، ولا بدَّ في سبيل ذلك من أن يكونوا في تفكيرهم وشعورهم وسلوكهم نماذج متفوّقة في ميزان القيمة، ليكونوا القدوة في القول والعمل، حتّى يعطوا النَّاس من روحيَّتهم الفيَّاضة بالإيمان، المنطلقة في خطِّ المسؤوليَّة، روحاً جديدةً عاليةً، ترفع من مستواهم الفكريّ والرّوحيّ.


  فقضيَّة الرّسالة ليست مجرّد فكرٍ يقدّمه الرَّسول إلى النّاس في مضمونه الثّقافي من أجل تغيير تفكيرهم من الباطل إلى الحقّ، وليست مجرَّد مشاعر تنبض في القلب في بُعدها العاطفي الشعوري لتمنحهم رصيداً كبيراً في الإحساس العاطفيّ، ولكنّها القوّة التي تقتحم الذّات وتتحرّك في أعماق الروح، لتغيّر الوجدان الذّاتيّ في بعديه المادّيّ والمعنويّ وفق التّخطيط الإلهي في وحيه للحياة وللإنسان، في كلّ ما يعنيه من تأصيلٍ لإنسانيّة الإنسان في الدّاخل والخارج، ليرتفع في ميزان المعرفة إلى مواقع القرب من الله، وليؤكِّد حركيّته في قيادة الواقع نحو الأفضل.


  ومن هنا، فإنّنا نستطيع أن نقرّر أنَّ الرسول لا بدَّ من أن يكون شخصاً غير عاديّ في ملكاته الفكريّة والروحيّة والأخلاقيّة، ليكون المعلّم والمربّي والقدوة والمَثَل الحيّ، وحتى يستطيع القيام بهذه المهمّة التغييريّة الكبيرة، وهذا ما ينفرد بمعرفته خالق الإنسان الّذي يعرف من سرّ ذات الإنسان وحجم قدراته الروحيّة الخفيّة ما لا يعرفه الآخرون، ولا يملكون الإحاطة به. فالرّسول هو البشر الّذي يبقى في مستوى بشريّته، فلا يأخذ دور الملائكة، ولا يختزن بعض أسرار الألوهة، بل يبقى الرّسول الإنسان، بكلِّ ما يوحي به مدلول الرّسالة في عمق شخصيّة الإنسان في وجوده النفسي والحركي في عالم الشّهود.

  وهكذا اصطفى الله هؤلاء ومَنْ بعدهم: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ـ في تتابعهم في حمل الرّسالة كما تتلاحق في ارتباط النَّسب ـ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}5، يسمع ما يقوله هؤلاء، ويطَّلع على ما يسرّونه ويعلنونه، ليفتح هذا الإشراف الإلهيّ قلب النبيّ وكيانه على آفاق المسؤوليَّة، في عمليّة تدقيقٍ ومتابعةٍ وإبداع، ليعلم أنّه قد أبلغ رسالات ربّه كاملةً غير منقوصة، كما يريده الله، وكما يحبّه ويرضاه.


  قصّة امرأة عمران

  وهكذا كان النبيّ عيسى(ع) من هذه الذرّية الصَّالحة في أصولها الروحيَّة وأبعادها الرساليَّة، لينتقل في نطاق آل عمران من جدّته التقيّة المؤمنة المخلصة لله، التي امتلأ قلبها بمحبّة الله، فأرادت أن تدخل في تجربة خدمة بيت العبادة بشكلٍ غير مباشر، من خلال المولود الذي تحمله، لتربّيه على أن يبذل كلَّ طاقاته الخدماتيّة لله، فيخدم العابدين الرّاكعين السّاجدين في بيت الله إخلاصاً ومحبّةً، فتشعر أمّه بالسَّعادة لهذه التضحية الإنسانيّة، إذ فضَّلت لولدها رعاية المعبد على رعايته لها، في حاجة الأمّ إلى ولدها عندما تتقدَّم بها السنّ وتصبح في حاجة إلى الخدمة. وربّما استأذنت زوجها، الّذي قيل إنه كان نبيّاً أو شخصاً صالحاً مخلصاً لله، في نذرها الإيمانيّ، عندما شعرت بعوارض الحمل الّذي أرادته أن يكون محرَّراً، بحيث لا يكون خاضعاً لأحد، بل يكون إنساناً حرّاً في خدمة الله، في الوقت الّذي يرى في حريته معنى عبوديته الخالصة له.

  وهذا ما قصَّه الله علينا في قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً}، أي محرّراً من وثاق سلطة الآخرين عليه، بحيث لا يكون خاضعاً في التزامه البشريّ في النّسب والحركة الواقعيّة لأيّة سلطة بشريّة، سواء في ذلك سلطة والديه، أو سلطة الآخرين من قراباته أو ممّن يملك الإشراف على إدارة شؤون النّاس في المجتمع.


  وهكذا انطلقت هذه المرأة المؤمنة الصَّالحة بهذا النّذر الروحيّ في ابتهالها إلى الله ودعائها له، وطلبت منه أن يتقبَّل منها هذه الهديّة الخالصة، ويسمع دعاءها من خلال ما يعلمه من إخلاصها، وهذا ما جاء في قوله تعالى في حديثه على لسانها: {فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}6. وبقيت هذه المرأة الصَّالحة في انتظار استجابة الله لنذرها، وتحقيق حلمها الذهبيّ في ولادة المولود المحرَّر الخادم لله في بيته، وعاشت هذه الروحيَّة الإيمانيَّة الَّتي تشعر معها بسعادة الرّوح داخل ذاتها، كأيِّ إنسانٍ يعيش أحلامه الّتي ينتظر تحوّلها إلى واقع حيّ.


  وجاء اليوم الموعود الَّذي انتظرته ليتحقَّق حلمها الكبير، وكانت المفاجأة غير المنتظرة؛ فالمولود أنثى، والأنثى ـ بحسب التّشريعات والتّقاليد التي كانت سائدةً في ذلك الزمن ـ لا تصلح للخدمة في بيت المقدس، لأنها من وظائف الذّكور، ولذلك هتفت هتاف البائس المعتذر الخائب، لتعلن أنَّ الحلم لن يتحقَّق، وأنَّ النّذر لن يتحوَّل إلى عالم الحقيقة الوجوديّة، {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى ـ ولم تكن بحاجةٍ إلى هذا الهتاف الإعلاني، فإنَّ الله أعلم بما وضعت ـ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ ـ لأنّه هو الّذي خلقها وصوّرها ـ  وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى}7، وهذا الكلام لم يكن من باب تفضيل الذَّكر على الأنثى في عالم القيمة والقرب من الله واللّطف الإلهي في مستوى الخلق، بل كان تقريراً للوظيفة الّتي أعدَّ لها الذكر في خدمة المعبد، ولم تعدّ لها الأنثى.


  ولو أردنا قراءة هذه المسألة بتفصيلٍ أكثر، لقلنا إنَّ المولود لو كان ذكراً، لكان من شأنه أن ينتهي إلى خادمٍ بسيطٍ في بيت المقدس، بينما غدت هذه الأنثى الّتي وضعتها مؤهَّلةً لكرامة الله، حيث ظهرت من خلالها المعجزة الإلهيّة في قدرة الله، في خلقه إنساناً من أمٍّ بلا أب، تماماً كما هي القدرة الإلهيَّة في خلق آدم من دون أبٍ وأمّ.


  وبدأت المرأة تفكِّر من جديد ـ فيما توحي به هذه الآية ـ فهي لا تريد الابتعاد عن الله في أحلامها الرّوحيَّة الإيمانيَّة، ولأنَّ الله لم يقدّر لها أن تلد ذكراً خادماً لبيت المقدس، وولدت ـ بدلاً منه ـ أنثى، فقد عادت إليه في حال ابتهالٍ ومناجاةٍ له في أمنياتها الجديدة، وقد اختارت أن تسمّيها "مريم" الّتي تعني "العابدة" في لغتهم ـ كما يقال ـ لتكون إنسانةً عابدةً لله، مطيعةً له فيما يأمر به وينهى عنه، ثم طلبت منه أن يعيذها وذرَّيتها في مستقبل حياتها عندما تصبح لها أسرة، من الشَّيطان الرّجيم، فيجيرها وأولادها من وسوسته وتثبيطه ومكره وخداعه ومكائده الّتي يسعى من خلالها لإضلالهم عن الصِّراط المستقيم، ليبقى سيرهم في خطِّ الطَّاعة والاستعاذة، بعيداً عن الانحراف والزَّلل، وهذا هو قوله تعالى: {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}8.


  إنَّنا نكتشف في هذه المرأة الّتي ذابت في الله، وعاشت حلم الحصول على رضوانه، إنسانةً صالحةً في الدَّرجة العليا من الصَّلاح، تعيش العلاقة بالله كأروع ما تكون العلاقات، وكأصفى ما تكون المشاعر، وكأعظم ما تتحرَّك الأفكار، فقد كانت تفكِّر في مستقبل ذرّيّتها ليكونوا القريبين من الله، البعيدين عن الشَّيطان، لتكون بذلك النَّموذج الحيّ للمرأة المؤمنة الّتي تنفتح في إيمانها على المستقبل الَّذي قد لا تبلغ مداه، تماماً كما يفكّر الأنبياء في إبلاغ رسالاتهم إلى النّاس، ليلتزم بها كلّ جيل، فيحملها إلى الجيل الّذي بعده.


  وهذا ما حدَّثنا الله به عن النبيّ يعقوب في قوله تعالى: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}10، وفي قوله تعالى عن إبراهيم وإسماعيل: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}10.

  وهذا هو المنهج الّذي لا بدَّ للدّعاة إلى الله، وللعاملين في سبيله، وللملتزمين برسالته، من أن يتّبعوه، فلا يفكِّروا في خطواتهم الرساليّة العمليّة في حركة الدّعوة في أنفسهم أو في حاضرهم، بل لا بدَّ لهم من التّفكير في المستقبل الرّساليّ، بالتَّخطيط للوسائل الواقعية التي تمنح الرسالة امتداداً للأجيال المقبلة، لأنّ الرسالات لا تقتصر على زمنٍ دون زمنٍ، بل هي للحياة كلّها وللإنسان كلّه، الأمر الذي يفرض علينا أن نفكّر في حركة الإنسان في مستقبله القادم، ليكون الدين كلّه لله، وليتحرّك معناه في حياة النّاس.


  وهكذا كان دعاء امرأة عمران في ابتهالاتها المنفتحة على مستقبل ابنتها وذرّيّتها، في أن يثبِّتهم الله على خطِّ الاستقامة. فكيف استجاب الله لتضرّعاتها وطلباتها؟ وكيف تقبَّل الله هذه الوليدة بلطفه؟

  هذا ما سوف نتحدَّث عنه في الأسبوع القادم، إن شاء الله...

   *ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة

  

1  [آل عمران: 33، 34].

2  [البقرة: 131].

3  [البقرة: 124].

4  [آل عمران: 68].

5  [آل عمران: 34].

6  [آل عمران: 35].

7  [آل عمران: 36].

8  [آل عمران: 36].

9  [البقرة: 133].

10  [البقرة: 127، 128].

  ونلتقي في هذا الدَّرس بالمسيح عيسى بن مريم، وهو نبيٌ من أنبياء الله، من الذرّية الطّاهرة التي اصطفاها الله وفضّلها بالموقع الرّسالي، والخلافة العامّة، والدّور الّذي يمنح الحياة والإنسان حركةً روحيّةً في الموقع المادّيّ الّذي يراد له أن يمتزج في معطياته بالرّوح، في نطاق القيم الأخلاقيَّة الإنسانيَّة الّتي تؤصِّل للإنسان معناه، ليتداخل في تكوينه عنصران مميَّزان؛ العنصر المادّي الّذي يتمثَّل به وجوده المادّي، ونفخة الرّوح الّتي أودع الله فيها كلَّ قدرته ولطفه ورحمته.


  تواصل الرّسالات

  وهذا ما عبّرت عنه الآية الكريمة: {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}1. فقد اختار الله آدم لدور الخلافة الأولى في الأرض، من أجل أن يبدأ الرّحلة الإنسانيَّة في مجتمع أسرته الخاصَّة، لتبني الأرض وتعمرها على أساس التخطيط الإلهي، واختار نوحاً ليكون أوّل الأنبياء من أولي العزم، ليبلّغ الرسالة التّوحيدية، ويقود الإنسان إلى الإيمان بالله وعبادته وطاعته، ويعطي النّموذج الأعلى في الصَّبر أمام التّحدّيات التي امتدّت في الزّمن، إضافةً إلى دأبه في التّبليغ والوعظ والإرشاد والتوعية والهداية، ليخرج النّاس من ظلمات الجهل والتخلّف والوثنيّة والخرافة، إلى نور العلم والتقدّم والوحدانيَّة لله، في عمق الإيمان الّذي يحوِّل الدَّاخل الفكريّ إلى إشراقةٍ منفتحةٍ على التحرّك في اتّجاه النموّ العقلي والإبداع التجريبـي، حتّى لم يبق هناك مجالٌ جديد للتّجربة، لأنه استنفد كلّ التجارب، ما يعطي الدلالة على مدى ما كان يتمتّع به من روحيّة واسعة عميقة ممتدّة في رحاب الله.


  وقد امتدّ اختيار الله له بعد الطوفان، ليبدأ الرّحلة الرساليّة الثّانية في مجتمعٍ جديدٍ مع من كانوا معه في السَّفينة، ليبدأ معهم الخطوط العامّة والمفردات التّفصيليّة للرّسالة، ممّا لم يحدّثنا الله عن تفاصيله، ولكنَّه أشار إلى الذرّية التي انطلقت منه ومن جمهوره الّذي آمن به ليبدأ معهم التاريخ الجديد للبشريّة.


  واختار الله سبحانه من بعده النبيّ إبراهيم(ع)، الّذي أسلم وجهه لله، وجعل القاعدة الأساس الّتي ينطلق منها هي الالتزام بالله بشكلٍ مطلق، بحيث يتحرّك العقل ليرتفع بتفكيره إلى وحدانيَّة الله، وتتحرّك العاطفة لتنفتح على الإنسان كلّه في روحيّة العدل، وتتحرَّك الطّاقة لتكون في مستوى العبادة الخالصة لله والطّاعة الملتزمة به، كلّ ذلك امتثالاً لأمر الله: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}2.

  وقد عاش إبراهيم(ع) من خلال هذا الخطِّ الشّامل الّذي ينطلق من التوحيد، ويرفض الشِّرك ويواجه الوثنيّة، ويحرّر الفكر من سيطرة الخرافة، ويرتفع به إلى إشراقة العقل الذي يتابع الأمور ويحاكمها ويناقش تفاصيلها ومفرداتها، ليصل إلى الحقيقة الأصيلة. وقد عانى الكثير في تجربته الصَّعبة مع أبيه وقومه، ولكنَّه واجه ذلك بالقلب المطمئنّ الرّاضي الذي احتضن في داخله كلّ التطلّعات الإنسانيّة الروحيّة نحو الله.

  وانطلق الإسلام من خلاله كخطٍّ عريضٍ للحياة في الفكر والأعمال والمشاريع المتنوّعة الّتي يحتاجها الإنسان في تطوّره المادّيّ والمعنويّ، والوسائل والأهداف الّتي لا تبتعد عن أسلوب الرّسالة وخطّ التّوحيد، وخطّط لامتداد هذا الإسلام المطلق في العقيدة والسّلوك، فأوصى بنيه به، وعاشه بنوه الطيّبون من الرّسل الَّذين اختصَّهم الله بنعمته، فاصطفاهم برسالته، ومنهم إسحاق وإسماعيل ويعقوب، وصولاً إلى نبيِّنا الأعظم محمَّد(ص).

  ولم تكن القضيّة قضيّة نسبٍ يعطي الامتياز، بل كانت قضيّة رسالة واتّباع خطّ، كما قال الله سبحانه: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}3، وقوله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}4. وهكذا أصبح لإبراهيم أهلٌ ينتسبون إليه، ويصطفي الله بعضهم، ولكن لا مجال لتعميم الحكم على كلّ من انتسب إليه.

  أمَّا آل عمران، فقد نلتقي بالنَّسب الذي ينتمي إليه موسى وهارون، وقد نلتقي بالنَّسب الذي تنتمي إليه مريم ـ وعيسى من خلالها ـ وإن كان النّسب المباشر ليس واحداً بالنِّسبة إلى موسى ومريم، لوجود فترةٍ زمنيّةٍ كبيرةٍ بينهما قد تبلغ ألفاً وثمانمائة سنة، ولذلك، فإنَّ أبا مريم هو غير أبي موسى...


  صفات الأنبياء

  وعلى أيِّ حال، فقد كان هذا الاصطفاء لحمل الرّسالة من أجل أن يكونوا رسلاً ودعاةً وهداةً للعالمين، ولا بدَّ في سبيل ذلك من أن يكونوا في تفكيرهم وشعورهم وسلوكهم نماذج متفوّقة في ميزان القيمة، ليكونوا القدوة في القول والعمل، حتّى يعطوا النَّاس من روحيَّتهم الفيَّاضة بالإيمان، المنطلقة في خطِّ المسؤوليَّة، روحاً جديدةً عاليةً، ترفع من مستواهم الفكريّ والرّوحيّ.


  فقضيَّة الرّسالة ليست مجرّد فكرٍ يقدّمه الرَّسول إلى النّاس في مضمونه الثّقافي من أجل تغيير تفكيرهم من الباطل إلى الحقّ، وليست مجرَّد مشاعر تنبض في القلب في بُعدها العاطفي الشعوري لتمنحهم رصيداً كبيراً في الإحساس العاطفيّ، ولكنّها القوّة التي تقتحم الذّات وتتحرّك في أعماق الروح، لتغيّر الوجدان الذّاتيّ في بعديه المادّيّ والمعنويّ وفق التّخطيط الإلهي في وحيه للحياة وللإنسان، في كلّ ما يعنيه من تأصيلٍ لإنسانيّة الإنسان في الدّاخل والخارج، ليرتفع في ميزان المعرفة إلى مواقع القرب من الله، وليؤكِّد حركيّته في قيادة الواقع نحو الأفضل.


  ومن هنا، فإنّنا نستطيع أن نقرّر أنَّ الرسول لا بدَّ من أن يكون شخصاً غير عاديّ في ملكاته الفكريّة والروحيّة والأخلاقيّة، ليكون المعلّم والمربّي والقدوة والمَثَل الحيّ، وحتى يستطيع القيام بهذه المهمّة التغييريّة الكبيرة، وهذا ما ينفرد بمعرفته خالق الإنسان الّذي يعرف من سرّ ذات الإنسان وحجم قدراته الروحيّة الخفيّة ما لا يعرفه الآخرون، ولا يملكون الإحاطة به. فالرّسول هو البشر الّذي يبقى في مستوى بشريّته، فلا يأخذ دور الملائكة، ولا يختزن بعض أسرار الألوهة، بل يبقى الرّسول الإنسان، بكلِّ ما يوحي به مدلول الرّسالة في عمق شخصيّة الإنسان في وجوده النفسي والحركي في عالم الشّهود.

  وهكذا اصطفى الله هؤلاء ومَنْ بعدهم: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ـ في تتابعهم في حمل الرّسالة كما تتلاحق في ارتباط النَّسب ـ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}5، يسمع ما يقوله هؤلاء، ويطَّلع على ما يسرّونه ويعلنونه، ليفتح هذا الإشراف الإلهيّ قلب النبيّ وكيانه على آفاق المسؤوليَّة، في عمليّة تدقيقٍ ومتابعةٍ وإبداع، ليعلم أنّه قد أبلغ رسالات ربّه كاملةً غير منقوصة، كما يريده الله، وكما يحبّه ويرضاه.


  قصّة امرأة عمران

  وهكذا كان النبيّ عيسى(ع) من هذه الذرّية الصَّالحة في أصولها الروحيَّة وأبعادها الرساليَّة، لينتقل في نطاق آل عمران من جدّته التقيّة المؤمنة المخلصة لله، التي امتلأ قلبها بمحبّة الله، فأرادت أن تدخل في تجربة خدمة بيت العبادة بشكلٍ غير مباشر، من خلال المولود الذي تحمله، لتربّيه على أن يبذل كلَّ طاقاته الخدماتيّة لله، فيخدم العابدين الرّاكعين السّاجدين في بيت الله إخلاصاً ومحبّةً، فتشعر أمّه بالسَّعادة لهذه التضحية الإنسانيّة، إذ فضَّلت لولدها رعاية المعبد على رعايته لها، في حاجة الأمّ إلى ولدها عندما تتقدَّم بها السنّ وتصبح في حاجة إلى الخدمة. وربّما استأذنت زوجها، الّذي قيل إنه كان نبيّاً أو شخصاً صالحاً مخلصاً لله، في نذرها الإيمانيّ، عندما شعرت بعوارض الحمل الّذي أرادته أن يكون محرَّراً، بحيث لا يكون خاضعاً لأحد، بل يكون إنساناً حرّاً في خدمة الله، في الوقت الّذي يرى في حريته معنى عبوديته الخالصة له.

  وهذا ما قصَّه الله علينا في قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً}، أي محرّراً من وثاق سلطة الآخرين عليه، بحيث لا يكون خاضعاً في التزامه البشريّ في النّسب والحركة الواقعيّة لأيّة سلطة بشريّة، سواء في ذلك سلطة والديه، أو سلطة الآخرين من قراباته أو ممّن يملك الإشراف على إدارة شؤون النّاس في المجتمع.


  وهكذا انطلقت هذه المرأة المؤمنة الصَّالحة بهذا النّذر الروحيّ في ابتهالها إلى الله ودعائها له، وطلبت منه أن يتقبَّل منها هذه الهديّة الخالصة، ويسمع دعاءها من خلال ما يعلمه من إخلاصها، وهذا ما جاء في قوله تعالى في حديثه على لسانها: {فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}6. وبقيت هذه المرأة الصَّالحة في انتظار استجابة الله لنذرها، وتحقيق حلمها الذهبيّ في ولادة المولود المحرَّر الخادم لله في بيته، وعاشت هذه الروحيَّة الإيمانيَّة الَّتي تشعر معها بسعادة الرّوح داخل ذاتها، كأيِّ إنسانٍ يعيش أحلامه الّتي ينتظر تحوّلها إلى واقع حيّ.


  وجاء اليوم الموعود الَّذي انتظرته ليتحقَّق حلمها الكبير، وكانت المفاجأة غير المنتظرة؛ فالمولود أنثى، والأنثى ـ بحسب التّشريعات والتّقاليد التي كانت سائدةً في ذلك الزمن ـ لا تصلح للخدمة في بيت المقدس، لأنها من وظائف الذّكور، ولذلك هتفت هتاف البائس المعتذر الخائب، لتعلن أنَّ الحلم لن يتحقَّق، وأنَّ النّذر لن يتحوَّل إلى عالم الحقيقة الوجوديّة، {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى ـ ولم تكن بحاجةٍ إلى هذا الهتاف الإعلاني، فإنَّ الله أعلم بما وضعت ـ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ ـ لأنّه هو الّذي خلقها وصوّرها ـ  وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى}7، وهذا الكلام لم يكن من باب تفضيل الذَّكر على الأنثى في عالم القيمة والقرب من الله واللّطف الإلهي في مستوى الخلق، بل كان تقريراً للوظيفة الّتي أعدَّ لها الذكر في خدمة المعبد، ولم تعدّ لها الأنثى.


  ولو أردنا قراءة هذه المسألة بتفصيلٍ أكثر، لقلنا إنَّ المولود لو كان ذكراً، لكان من شأنه أن ينتهي إلى خادمٍ بسيطٍ في بيت المقدس، بينما غدت هذه الأنثى الّتي وضعتها مؤهَّلةً لكرامة الله، حيث ظهرت من خلالها المعجزة الإلهيّة في قدرة الله، في خلقه إنساناً من أمٍّ بلا أب، تماماً كما هي القدرة الإلهيَّة في خلق آدم من دون أبٍ وأمّ.


  وبدأت المرأة تفكِّر من جديد ـ فيما توحي به هذه الآية ـ فهي لا تريد الابتعاد عن الله في أحلامها الرّوحيَّة الإيمانيَّة، ولأنَّ الله لم يقدّر لها أن تلد ذكراً خادماً لبيت المقدس، وولدت ـ بدلاً منه ـ أنثى، فقد عادت إليه في حال ابتهالٍ ومناجاةٍ له في أمنياتها الجديدة، وقد اختارت أن تسمّيها "مريم" الّتي تعني "العابدة" في لغتهم ـ كما يقال ـ لتكون إنسانةً عابدةً لله، مطيعةً له فيما يأمر به وينهى عنه، ثم طلبت منه أن يعيذها وذرَّيتها في مستقبل حياتها عندما تصبح لها أسرة، من الشَّيطان الرّجيم، فيجيرها وأولادها من وسوسته وتثبيطه ومكره وخداعه ومكائده الّتي يسعى من خلالها لإضلالهم عن الصِّراط المستقيم، ليبقى سيرهم في خطِّ الطَّاعة والاستعاذة، بعيداً عن الانحراف والزَّلل، وهذا هو قوله تعالى: {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}8.


  إنَّنا نكتشف في هذه المرأة الّتي ذابت في الله، وعاشت حلم الحصول على رضوانه، إنسانةً صالحةً في الدَّرجة العليا من الصَّلاح، تعيش العلاقة بالله كأروع ما تكون العلاقات، وكأصفى ما تكون المشاعر، وكأعظم ما تتحرَّك الأفكار، فقد كانت تفكِّر في مستقبل ذرّيّتها ليكونوا القريبين من الله، البعيدين عن الشَّيطان، لتكون بذلك النَّموذج الحيّ للمرأة المؤمنة الّتي تنفتح في إيمانها على المستقبل الَّذي قد لا تبلغ مداه، تماماً كما يفكّر الأنبياء في إبلاغ رسالاتهم إلى النّاس، ليلتزم بها كلّ جيل، فيحملها إلى الجيل الّذي بعده.


  وهذا ما حدَّثنا الله به عن النبيّ يعقوب في قوله تعالى: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}10، وفي قوله تعالى عن إبراهيم وإسماعيل: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}10.

  وهذا هو المنهج الّذي لا بدَّ للدّعاة إلى الله، وللعاملين في سبيله، وللملتزمين برسالته، من أن يتّبعوه، فلا يفكِّروا في خطواتهم الرساليّة العمليّة في حركة الدّعوة في أنفسهم أو في حاضرهم، بل لا بدَّ لهم من التّفكير في المستقبل الرّساليّ، بالتَّخطيط للوسائل الواقعية التي تمنح الرسالة امتداداً للأجيال المقبلة، لأنّ الرسالات لا تقتصر على زمنٍ دون زمنٍ، بل هي للحياة كلّها وللإنسان كلّه، الأمر الذي يفرض علينا أن نفكّر في حركة الإنسان في مستقبله القادم، ليكون الدين كلّه لله، وليتحرّك معناه في حياة النّاس.


  وهكذا كان دعاء امرأة عمران في ابتهالاتها المنفتحة على مستقبل ابنتها وذرّيّتها، في أن يثبِّتهم الله على خطِّ الاستقامة. فكيف استجاب الله لتضرّعاتها وطلباتها؟ وكيف تقبَّل الله هذه الوليدة بلطفه؟

  هذا ما سوف نتحدَّث عنه في الأسبوع القادم، إن شاء الله...

   *ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة

  

1  [آل عمران: 33، 34].

2  [البقرة: 131].

3  [البقرة: 124].

4  [آل عمران: 68].

5  [آل عمران: 34].

6  [آل عمران: 35].

7  [آل عمران: 36].

8  [آل عمران: 36].

9  [البقرة: 133].

10  [البقرة: 127، 128].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية