رساليَّة مريم(ع) واصطفاؤها على نساء العالمين

رساليَّة مريم(ع) واصطفاؤها على نساء العالمين

مواصلةً للحديث عن النّبيّ عيسى(ع)، نتوقَّف عند بدايات حياته الشَّريفة، إذ كانت امرأة عمران تعيش الانفتاح الرّوحيّ على الله بكلّ وجدانها الإنسانيّ العبوديّ له، بحيث لم يقتصر تفكيرها على التزامها بطاعة الله وخدمته، بل كانت تفكِّر في امتداد ذرَّيتها في هذا الخطِّ التّوحيديّ الَّذي يوحِّد الله في العبادة والطَّاعة والخدمة لمواقع رضاه والقرب منه.

خصوصيَّة مريم(ع)

ولذلك، نذرت ما في بطنها خادماً لبيت الله وللعابدين له فيه، في تمنّياتها أن يكون ذكراً صالحاً لهذه الوظيفة المقدَّسة. ولمّا لم تتحقَّق لها هذه الأمنية، لأنَّ المولود كان أنثى، صارت أمنياتها أن يكون لهذه الأنثى شأن روحيّ في العصمة الذّاتيّة الّتي تبتعد بها عن وساوس الشّيطان وخطواته، وأن يمتدَّ ذلك في ذرَّيتها إن كانت لها ذرّية، كأيّ امرأةٍ تلد أبناءها بالطّريقة الشّرعيَّة في إنتاج الولد.

وهكذا طلبت من الله وابتهلت إليه في تضرّعاتها الروحيَّة، أن يتقبَّلها بكلِّ وجودها الحيويّ المتحرّك في خدمة دينه، لتكون مخلصةً بانقطاعها إليه، ومقبلةً بكلِّها عليه، فلا يكون لأحدٍ دور في تطلّعاتها واحتياجاتها وإقبالها، بل يكون التّوحيد لربِّها سرّ عقلها وقلبها وطاقتها وحركتها وحياتها كلّها، فهي ـ كما نذرت أمّها ـ هبة لله، فلا شيء لها فيها مما يكون للأمّ في الولد، ولا لأحدٍ من قراباتها في معنى الصِّلة الوثيقة.

{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ}، فكانت أمة الله الَّتي منحها الله عنصر القبول الحسن في رعايتها والعناية بها، كما لو كانت لها خصوصيّة مميّزة لديه، بما توحي به كلمة القبول الحسن الّتي تختزن المعاني الاحتضانيّة الروحيّة والتربويّة والإشراف الغيبـيّ.

وكان من مظاهر حركة هذا القبول الإلهيّ، ما هيَّأه لها من بيئةٍ صالحةٍ تكفل لها النموّ التربويّ الإنسانيّ في أجواءٍ منفتحةٍ على الإيمان والخير السّلوكيّ. وهذا ما عبَّر عنه الله سبحانه: {وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً}[1]، فقد خلق الله الإنسان في هذه الأرض، وغرس وجوده في امتداداتها كما يغرس النَّبات، كما جاء في قوله تعالى: {وَاللهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً}[2]، وذلك من خلال سرِّ التراب الّذي تكوَّن منه الإنسان الَّذي كان في وجوده قبضةً من الطّين ونفخةً من روح الله.

وقد كان إنبات مريم، من خلال البيئة الّتي وُلِدَت فيها وتحرّكت في حضانتها، إنباتاً حسناً، من خلال كفالة زكريّا، النبيّ الَّذي اختصَّه الله برسالته ومنحه العصمة، وقد حصل على امتياز هذه الكفالة، عندما اجتمع عدّة من الصَّالحين، واقترعوا، ليفوز من تخرج القرعة باسمه بكفالتها، فخرجت القرعة باسم زكريّا، وذلك قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}[3]، وذلك من خلال تنازعهم الّذي تمثَّل باقتراعهم على التكفّل بها.

شرعيَّة القرعة

ونستوحي من هذه الحادثة التّاريخيَّة الّتي قرّرها القرآن في شرعيَّة القرعة، أنَّ من الممكن اللّجوء إلى القرعة عند حدوث اختلافٍ لا حلَّ له بالوسائل الطبيعيّة، لتمييز الحقِّ من الباطل، والخير من غيره، وذلك إذا وصل الأمر إلى طريقٍ مسدود، بحيث لا يكون هناك حلٌّ مقبول من أطراف النّـزاع. وقد ورد عن أئمَّة أهل البيت(ع) تأكيد هذه الشّرعيَّة الّتي تحوَّلت إلى قاعدة فقهيَّة، وذلك مما ورد عنهم من الحديث إنَّ القرعة "لكلِّ أمر مشكل"[4]، أو "مشتبه"[5]، في الموارد الّتي تصل فيها المسألة إلى طريقٍ مغلقٍ في حلّ الخلافات بين النّاس أو في المشاكل المستعصية.

المكانة المميَّزة والاصطفاء

وقد كان من فيوضات الله على السيِّدة مريم الّتي تقبَّلها بقبول حسن، أنه أرسل إليها الملائكة لتبلّغها مكانتها المميّزة عند الله، وذلك هو قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ}[6]، فقد اختارها الله لتكون النَّموذج الأمثل والقدوة الحسنة الّتي ترتفع في درجتها، وفي قربها إليه، ومحبَّته لها، ومحبَّتها له، وسعيها للحصول على رضوانه ولطفه، لتكون بذلك متميِّزةً عن نساء العالمين، إضافةً إلى طهارتها الروحيّة والشّعورية الإنسانيَّة، فلم تعلق بها أيّة قذارة أخلاقيّة أو معنويّة، بل كانت منـزّهةً عن ذلك كلّه، بما تمثّلته من العفَّة الجسديَّة الّتي لم يكن لها مثيل.

ويدلّ هذا الاصطفاء على نساء العالمين، على أفضليَّة مريم على النِّساء، غير أنّه ورد في أحاديث متعدِّدة، أنَّ فاطمة الزّهراء(ع) هي سيِّدة نساء العالمين، وأنَّ مريم كانت سيّدة نساء عالمها. وربما يستفاد ذلك من كلمة "الاصطفاء" الّتي تدلّ على الاختيار الّذي يصدق على أفضليَّتها على نساء العالم المعاصر لها، وربما كان مضمون هذا الاصطفاء متمثّلاً بالألطاف الإلهيَّة في قبول الله الحسن لها، ووهبها عيسى من غير إخضاعها للسنَّة العامّة في الولادة في الزواج برجل، وشهادة ولدها ببراءتها ممّا اتّهمها به المجتمع، وهذه كلّها أمور حدثت في الزّمن الَّذي عاشت فيه.

وتتابع الملائكة حديثها مع مريم: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ}[7]، لتوحي إليها بأنَّ عليها أن تشكر الله على ما أولاها من لطفه وفضله ورحمته، وما ميَّزها به من موقع وكرامة، وذلك بأن تقنت لله، بما تمثّله كلمة القنوت من الخضوع لله ودوام الطَّاعة له، وأن تسجد له، دلالةً على عمق التّعبير عن العبوديّة الخاضعة له، وأن تركع له، لما يحمله الركوع من دلالةٍ على التّواضع، وانحناء الجسد له، وامتداد عنقها بين يديه، في حركةٍ إيحائيَّةٍ بأن يفعل بها ما يشاء.

البشارة بعيسى(ع)

وكانت البشارة العجيبة بالمفاجأة الّتي ملأت نفسها بالغرابة، وهي البشارة بولادة مولودٍ منها بكلمةٍ من الله الّذي تمثّل كلمته في مضمونها الإرادة، بعيداً من الأسباب الطبيعيّة الّتي ينتج منها الولد، فهي ـ في وجودها في عالم الخلق ـ حاصلة من سبب خفيٍّ مباشر مرتبط بقدرة الله المطلقة، والّتي عبّر عنها سبحانه بقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[8]، وقوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}[9]. فكما خلق آدم من دون أبٍ وأمّ، بكلمته في امتداد قدرته، فقد خلق عيسى من دون أب، بإرادته الّتي لا تنفصل عن مراده، وهذا ما جاء في قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}[10]، فهذا الوليد يولد بالكلمة الإلهيَّة. أمّا اسم المسيح، فقد قيل في تفسيره إنّه سمّي به، لأنه كان ممسوحاً باليمن والبركة، أو لأنّه مسح بالتَّطهير من الذنوب.

ويذكر صاحب تفسير الميزان، أنَّ "هذا اللّفظ ـ المسيح ـ كان واقعاً ضمن البشارة الّتي بشَّر بها جبرئيل مريم(ع)، على ما يحكيه تعالى: {إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ}، وهذا اللّفظ معرّب "مشيحا" الواقع في كتب العهدين. والّذي يستفاد منها، أنّ بني إسرائيل كان من دأبهم أنَّ المَلك منهم إذا قام بأمر المُلك، مسحته الكهنة بالدّهن المقدَّس ليبارَك له في ملكه، فكان يسمّى "مشيحا"، فمعناه: إمَّا الملك وإمَّا المبارك"[11]. وربّما كان قول عيسى(ع) ـ وهو في المهد ـ {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ}[12]، يؤيّد هذا التّفسير.

أمّا تقييد اسمه بأنّه ابن مريم، مع كون الخطاب لمريم، فللتّنبيه إلى أنه مخلوق من غير أب، ويكون معروفاً بهذا النعت، فتكون نسبته إلى أمّه لا إلى أبيه كما هو المعروف عند النّاس، لأنه لا أب له.

ويتابع الملائكة ـ وهم يتحدَّثون عن الله ـ ذكر الصّفة الّتي تميّز هذا الوليد البشارة، بأنّه يملك الوجاهة في الدنيا والآخرة، لأنّه سوف يكون الشَّخص المبارك الَّذي يبلِّغ رسالة الله، ويعيش مع الناس ليقدِّم إليهم الوعي والهداية والمنفعة الواسعة في حياتهم العامَّة والخاصَّة، بحيث يجتمعون حوله، ويسمعون كلامه، ويهتدون بهداه، وينفتحون على الحقِّ من خلاله، فيرتفع ـ بتوجيهه ـ مستوى العقل عندهم، ودرجة العدل في علاقات بعضهم ببعض، من خلال وحي الله في التّوراة والإنجيل، وما ألهمه الله إيّاه من الحكمة العميقة الَّتي تنفذ إلى أعماقهم. وهكذا، فإنَّه سيرتفع بوجاهته إلى الآخرة لإخلاصه لله، وعبادته له، وخدمته لدينه، ونفعه للنّاس، فيكون وجيهاً عند الله ومن المقرَّبين إليه، فيصعد بمنـزلته الروحيَّة إلى مواقع القرب عنده.

السرّ الإلهيّ في عيسى(ع)

وتتحدَّث الملائكة مع السيِّدة مريم عن السرِّ الإلهيِّ الّذي أودعه الله في شخصيَّة هذا الوليد المبارَك، وذلك عندما تلده ليتكلَّم وهو في المهد، ليدافع عن براءتها ضد اتّهام مجتمعها لها، لأنها لم تتزوّج لتلد من خلال الزوج، ما يعزّز عندهم اتّهامها بالزّنا!... وعندما يبلغ سنّ الرّشد، سيخاطب النّاس أيضاً بما يدلّهم على مواقع الخير ومسالك العدل ومنافع الحياة، وسيرتفع بذلك إلى درجة الصّالحين من الأنبياء والأولياء الذين يخلصون لرسالاتهم، وهذا هو قوله تعالى: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ}[13].

وربّما عقدت المفاجأة لسانها، ولكنَّها تساءلت من موقع الصّدمة القويّة، لأنَّ هذه البشارة بولادتها طفلاً من غير زواج، يمثِّل أمراً غريباً في أعلى مواقع الغرابة العجائبيّة مما لم يألفه الناس، ولكنّها لم تتحدّث بأسلوب الاعتراض الذي يستبعد مضمون ما جاءت به البشارة، لأنها عرفت أنَّ الملائكة كانوا يحدّثونها عن الله، لا بصفةٍ ذاتيّة منهم.

وهكذا صرخت بصوت الإنسان الذي يتحرّك من خلال الرّغبة في المعرفة: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ}، فأنا أعرف من خلال أمّي، ومن خلال النساء اللاتي يلدن الأولاد في المجتمع، أنَّ المرأة تلد الولد بسبب علاقتها الجنسيّة برجلٍ، من خلال السنّة التي أودعتها في كيان الإنسان الرّجل والمرأة في عمليّة الإنجاب، أمّا أنا، فلم تحدث لي مثل هذه العلاقة، ولم أدخل في هذه التّجربة، سواء كان ذلك من خلال الزّواج أو غيره. وهكذا ارتفعت بسؤالها إلى الله بأسلوبٍ روحيٍّ من التوسّل إليه، لينقذها من هذا الجوِّ الغامض الَّذي صدمها بهذه البشارة.

وجاءها الجواب سريعاً من الله، بطريقة حديث الملائكة معها أو بشكلٍ مباشر: {قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ}، فهو الخالق الَّذي يملك سرَّ الخلق، وهو الَّذي يخلق ما يشاء كيف يشاء، فإنَّ نظام الكون في وجوده، إنما هو مظهر قدرته تعالى في دنيا العلل والأسباب، وهو بقدرته يستطيع أن يغيِّر هذا النِّظام وقتما يريد إلى أسباب وعوامل أخرى، لأنَّ الخلق لم ينطلق لديه من خارج ذاته، بل هو مرتبط بقدرته وإرادته، {إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ}[14].

لذلك، لا بدَّ من أن لا تعيشي صدمة المفاجأة في هذه البشارة العجائبيَّة، بل ينبغي لك ـ وأنت المؤمنة الّتي تقبَّلها الله بقبولٍ حسنٍ في إيمانها وعقلها ومعرفتها بربّها في مواقع قدرته ـ أن تؤمني بأنَّ الله قادر على كلِّ شيء في حركة الكون في نظامه، وفي خلق الإنسان في تنوّعات وجوده، فلا غرابة في إدارة الله للكون أو في سننه المتنوّعة في الخلق، فهو الربّ الّذي لا ربّ غيره، والإله الواحد الّذي لا شريك له، والمهيمن على الوجود كلِّه، تبارك الله ربُّ العالمين. والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [آل عمران: 37].

[2]  [نوح: 17].

[3]  [آل عمران: 44].

[4]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 88، ص 234.

[5]  وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 26، ص 290.

[6]  [آل عمران: 42].

[7]  [آل عمران: 43].

[8]  [يس: 82].

[9]  [آل عمران: 59].

[10]  [آل عمران: 45].

[11]  تفسير الميزان، الطباطبائي، ج 3، ص 194.

[12]  [مريم: 31].

[13]  [آل عمران: 46].

[14]  [آل عمران: 47].

مواصلةً للحديث عن النّبيّ عيسى(ع)، نتوقَّف عند بدايات حياته الشَّريفة، إذ كانت امرأة عمران تعيش الانفتاح الرّوحيّ على الله بكلّ وجدانها الإنسانيّ العبوديّ له، بحيث لم يقتصر تفكيرها على التزامها بطاعة الله وخدمته، بل كانت تفكِّر في امتداد ذرَّيتها في هذا الخطِّ التّوحيديّ الَّذي يوحِّد الله في العبادة والطَّاعة والخدمة لمواقع رضاه والقرب منه.

خصوصيَّة مريم(ع)

ولذلك، نذرت ما في بطنها خادماً لبيت الله وللعابدين له فيه، في تمنّياتها أن يكون ذكراً صالحاً لهذه الوظيفة المقدَّسة. ولمّا لم تتحقَّق لها هذه الأمنية، لأنَّ المولود كان أنثى، صارت أمنياتها أن يكون لهذه الأنثى شأن روحيّ في العصمة الذّاتيّة الّتي تبتعد بها عن وساوس الشّيطان وخطواته، وأن يمتدَّ ذلك في ذرَّيتها إن كانت لها ذرّية، كأيّ امرأةٍ تلد أبناءها بالطّريقة الشّرعيَّة في إنتاج الولد.

وهكذا طلبت من الله وابتهلت إليه في تضرّعاتها الروحيَّة، أن يتقبَّلها بكلِّ وجودها الحيويّ المتحرّك في خدمة دينه، لتكون مخلصةً بانقطاعها إليه، ومقبلةً بكلِّها عليه، فلا يكون لأحدٍ دور في تطلّعاتها واحتياجاتها وإقبالها، بل يكون التّوحيد لربِّها سرّ عقلها وقلبها وطاقتها وحركتها وحياتها كلّها، فهي ـ كما نذرت أمّها ـ هبة لله، فلا شيء لها فيها مما يكون للأمّ في الولد، ولا لأحدٍ من قراباتها في معنى الصِّلة الوثيقة.

{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ}، فكانت أمة الله الَّتي منحها الله عنصر القبول الحسن في رعايتها والعناية بها، كما لو كانت لها خصوصيّة مميّزة لديه، بما توحي به كلمة القبول الحسن الّتي تختزن المعاني الاحتضانيّة الروحيّة والتربويّة والإشراف الغيبـيّ.

وكان من مظاهر حركة هذا القبول الإلهيّ، ما هيَّأه لها من بيئةٍ صالحةٍ تكفل لها النموّ التربويّ الإنسانيّ في أجواءٍ منفتحةٍ على الإيمان والخير السّلوكيّ. وهذا ما عبَّر عنه الله سبحانه: {وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً}[1]، فقد خلق الله الإنسان في هذه الأرض، وغرس وجوده في امتداداتها كما يغرس النَّبات، كما جاء في قوله تعالى: {وَاللهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً}[2]، وذلك من خلال سرِّ التراب الّذي تكوَّن منه الإنسان الَّذي كان في وجوده قبضةً من الطّين ونفخةً من روح الله.

وقد كان إنبات مريم، من خلال البيئة الّتي وُلِدَت فيها وتحرّكت في حضانتها، إنباتاً حسناً، من خلال كفالة زكريّا، النبيّ الَّذي اختصَّه الله برسالته ومنحه العصمة، وقد حصل على امتياز هذه الكفالة، عندما اجتمع عدّة من الصَّالحين، واقترعوا، ليفوز من تخرج القرعة باسمه بكفالتها، فخرجت القرعة باسم زكريّا، وذلك قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}[3]، وذلك من خلال تنازعهم الّذي تمثَّل باقتراعهم على التكفّل بها.

شرعيَّة القرعة

ونستوحي من هذه الحادثة التّاريخيَّة الّتي قرّرها القرآن في شرعيَّة القرعة، أنَّ من الممكن اللّجوء إلى القرعة عند حدوث اختلافٍ لا حلَّ له بالوسائل الطبيعيّة، لتمييز الحقِّ من الباطل، والخير من غيره، وذلك إذا وصل الأمر إلى طريقٍ مسدود، بحيث لا يكون هناك حلٌّ مقبول من أطراف النّـزاع. وقد ورد عن أئمَّة أهل البيت(ع) تأكيد هذه الشّرعيَّة الّتي تحوَّلت إلى قاعدة فقهيَّة، وذلك مما ورد عنهم من الحديث إنَّ القرعة "لكلِّ أمر مشكل"[4]، أو "مشتبه"[5]، في الموارد الّتي تصل فيها المسألة إلى طريقٍ مغلقٍ في حلّ الخلافات بين النّاس أو في المشاكل المستعصية.

المكانة المميَّزة والاصطفاء

وقد كان من فيوضات الله على السيِّدة مريم الّتي تقبَّلها بقبول حسن، أنه أرسل إليها الملائكة لتبلّغها مكانتها المميّزة عند الله، وذلك هو قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ}[6]، فقد اختارها الله لتكون النَّموذج الأمثل والقدوة الحسنة الّتي ترتفع في درجتها، وفي قربها إليه، ومحبَّته لها، ومحبَّتها له، وسعيها للحصول على رضوانه ولطفه، لتكون بذلك متميِّزةً عن نساء العالمين، إضافةً إلى طهارتها الروحيّة والشّعورية الإنسانيَّة، فلم تعلق بها أيّة قذارة أخلاقيّة أو معنويّة، بل كانت منـزّهةً عن ذلك كلّه، بما تمثّلته من العفَّة الجسديَّة الّتي لم يكن لها مثيل.

ويدلّ هذا الاصطفاء على نساء العالمين، على أفضليَّة مريم على النِّساء، غير أنّه ورد في أحاديث متعدِّدة، أنَّ فاطمة الزّهراء(ع) هي سيِّدة نساء العالمين، وأنَّ مريم كانت سيّدة نساء عالمها. وربما يستفاد ذلك من كلمة "الاصطفاء" الّتي تدلّ على الاختيار الّذي يصدق على أفضليَّتها على نساء العالم المعاصر لها، وربما كان مضمون هذا الاصطفاء متمثّلاً بالألطاف الإلهيَّة في قبول الله الحسن لها، ووهبها عيسى من غير إخضاعها للسنَّة العامّة في الولادة في الزواج برجل، وشهادة ولدها ببراءتها ممّا اتّهمها به المجتمع، وهذه كلّها أمور حدثت في الزّمن الَّذي عاشت فيه.

وتتابع الملائكة حديثها مع مريم: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ}[7]، لتوحي إليها بأنَّ عليها أن تشكر الله على ما أولاها من لطفه وفضله ورحمته، وما ميَّزها به من موقع وكرامة، وذلك بأن تقنت لله، بما تمثّله كلمة القنوت من الخضوع لله ودوام الطَّاعة له، وأن تسجد له، دلالةً على عمق التّعبير عن العبوديّة الخاضعة له، وأن تركع له، لما يحمله الركوع من دلالةٍ على التّواضع، وانحناء الجسد له، وامتداد عنقها بين يديه، في حركةٍ إيحائيَّةٍ بأن يفعل بها ما يشاء.

البشارة بعيسى(ع)

وكانت البشارة العجيبة بالمفاجأة الّتي ملأت نفسها بالغرابة، وهي البشارة بولادة مولودٍ منها بكلمةٍ من الله الّذي تمثّل كلمته في مضمونها الإرادة، بعيداً من الأسباب الطبيعيّة الّتي ينتج منها الولد، فهي ـ في وجودها في عالم الخلق ـ حاصلة من سبب خفيٍّ مباشر مرتبط بقدرة الله المطلقة، والّتي عبّر عنها سبحانه بقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[8]، وقوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}[9]. فكما خلق آدم من دون أبٍ وأمّ، بكلمته في امتداد قدرته، فقد خلق عيسى من دون أب، بإرادته الّتي لا تنفصل عن مراده، وهذا ما جاء في قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}[10]، فهذا الوليد يولد بالكلمة الإلهيَّة. أمّا اسم المسيح، فقد قيل في تفسيره إنّه سمّي به، لأنه كان ممسوحاً باليمن والبركة، أو لأنّه مسح بالتَّطهير من الذنوب.

ويذكر صاحب تفسير الميزان، أنَّ "هذا اللّفظ ـ المسيح ـ كان واقعاً ضمن البشارة الّتي بشَّر بها جبرئيل مريم(ع)، على ما يحكيه تعالى: {إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ}، وهذا اللّفظ معرّب "مشيحا" الواقع في كتب العهدين. والّذي يستفاد منها، أنّ بني إسرائيل كان من دأبهم أنَّ المَلك منهم إذا قام بأمر المُلك، مسحته الكهنة بالدّهن المقدَّس ليبارَك له في ملكه، فكان يسمّى "مشيحا"، فمعناه: إمَّا الملك وإمَّا المبارك"[11]. وربّما كان قول عيسى(ع) ـ وهو في المهد ـ {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ}[12]، يؤيّد هذا التّفسير.

أمّا تقييد اسمه بأنّه ابن مريم، مع كون الخطاب لمريم، فللتّنبيه إلى أنه مخلوق من غير أب، ويكون معروفاً بهذا النعت، فتكون نسبته إلى أمّه لا إلى أبيه كما هو المعروف عند النّاس، لأنه لا أب له.

ويتابع الملائكة ـ وهم يتحدَّثون عن الله ـ ذكر الصّفة الّتي تميّز هذا الوليد البشارة، بأنّه يملك الوجاهة في الدنيا والآخرة، لأنّه سوف يكون الشَّخص المبارك الَّذي يبلِّغ رسالة الله، ويعيش مع الناس ليقدِّم إليهم الوعي والهداية والمنفعة الواسعة في حياتهم العامَّة والخاصَّة، بحيث يجتمعون حوله، ويسمعون كلامه، ويهتدون بهداه، وينفتحون على الحقِّ من خلاله، فيرتفع ـ بتوجيهه ـ مستوى العقل عندهم، ودرجة العدل في علاقات بعضهم ببعض، من خلال وحي الله في التّوراة والإنجيل، وما ألهمه الله إيّاه من الحكمة العميقة الَّتي تنفذ إلى أعماقهم. وهكذا، فإنَّه سيرتفع بوجاهته إلى الآخرة لإخلاصه لله، وعبادته له، وخدمته لدينه، ونفعه للنّاس، فيكون وجيهاً عند الله ومن المقرَّبين إليه، فيصعد بمنـزلته الروحيَّة إلى مواقع القرب عنده.

السرّ الإلهيّ في عيسى(ع)

وتتحدَّث الملائكة مع السيِّدة مريم عن السرِّ الإلهيِّ الّذي أودعه الله في شخصيَّة هذا الوليد المبارَك، وذلك عندما تلده ليتكلَّم وهو في المهد، ليدافع عن براءتها ضد اتّهام مجتمعها لها، لأنها لم تتزوّج لتلد من خلال الزوج، ما يعزّز عندهم اتّهامها بالزّنا!... وعندما يبلغ سنّ الرّشد، سيخاطب النّاس أيضاً بما يدلّهم على مواقع الخير ومسالك العدل ومنافع الحياة، وسيرتفع بذلك إلى درجة الصّالحين من الأنبياء والأولياء الذين يخلصون لرسالاتهم، وهذا هو قوله تعالى: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ}[13].

وربّما عقدت المفاجأة لسانها، ولكنَّها تساءلت من موقع الصّدمة القويّة، لأنَّ هذه البشارة بولادتها طفلاً من غير زواج، يمثِّل أمراً غريباً في أعلى مواقع الغرابة العجائبيّة مما لم يألفه الناس، ولكنّها لم تتحدّث بأسلوب الاعتراض الذي يستبعد مضمون ما جاءت به البشارة، لأنها عرفت أنَّ الملائكة كانوا يحدّثونها عن الله، لا بصفةٍ ذاتيّة منهم.

وهكذا صرخت بصوت الإنسان الذي يتحرّك من خلال الرّغبة في المعرفة: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ}، فأنا أعرف من خلال أمّي، ومن خلال النساء اللاتي يلدن الأولاد في المجتمع، أنَّ المرأة تلد الولد بسبب علاقتها الجنسيّة برجلٍ، من خلال السنّة التي أودعتها في كيان الإنسان الرّجل والمرأة في عمليّة الإنجاب، أمّا أنا، فلم تحدث لي مثل هذه العلاقة، ولم أدخل في هذه التّجربة، سواء كان ذلك من خلال الزّواج أو غيره. وهكذا ارتفعت بسؤالها إلى الله بأسلوبٍ روحيٍّ من التوسّل إليه، لينقذها من هذا الجوِّ الغامض الَّذي صدمها بهذه البشارة.

وجاءها الجواب سريعاً من الله، بطريقة حديث الملائكة معها أو بشكلٍ مباشر: {قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ}، فهو الخالق الَّذي يملك سرَّ الخلق، وهو الَّذي يخلق ما يشاء كيف يشاء، فإنَّ نظام الكون في وجوده، إنما هو مظهر قدرته تعالى في دنيا العلل والأسباب، وهو بقدرته يستطيع أن يغيِّر هذا النِّظام وقتما يريد إلى أسباب وعوامل أخرى، لأنَّ الخلق لم ينطلق لديه من خارج ذاته، بل هو مرتبط بقدرته وإرادته، {إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ}[14].

لذلك، لا بدَّ من أن لا تعيشي صدمة المفاجأة في هذه البشارة العجائبيَّة، بل ينبغي لك ـ وأنت المؤمنة الّتي تقبَّلها الله بقبولٍ حسنٍ في إيمانها وعقلها ومعرفتها بربّها في مواقع قدرته ـ أن تؤمني بأنَّ الله قادر على كلِّ شيء في حركة الكون في نظامه، وفي خلق الإنسان في تنوّعات وجوده، فلا غرابة في إدارة الله للكون أو في سننه المتنوّعة في الخلق، فهو الربّ الّذي لا ربّ غيره، والإله الواحد الّذي لا شريك له، والمهيمن على الوجود كلِّه، تبارك الله ربُّ العالمين. والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [آل عمران: 37].

[2]  [نوح: 17].

[3]  [آل عمران: 44].

[4]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 88، ص 234.

[5]  وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 26، ص 290.

[6]  [آل عمران: 42].

[7]  [آل عمران: 43].

[8]  [يس: 82].

[9]  [آل عمران: 59].

[10]  [آل عمران: 45].

[11]  تفسير الميزان، الطباطبائي، ج 3، ص 194.

[12]  [مريم: 31].

[13]  [آل عمران: 46].

[14]  [آل عمران: 47].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية