معجزات عيسى(ع) وخصائصه الرساليَّة

معجزات عيسى(ع) وخصائصه الرساليَّة

نتابع في هذا العدد حديث الملائكة مع مريم، بحسب طريقتهم الخاصَّة في إلقاء الكلام المتضمّن للبشارة بالمولود المعجزة، الَّذي يمنحه الله صفات الكرامة العلميَّة والرسوليَّة، والقدرة الإعجازيَّة التي يتحرّك بها بإذن الله، لتنفتح على مستقبله الحركيّ الرّساليّ الّذي يمتدّ فيه عطاؤه ونفعه للنَّاس، وروحيّته القدسيّة، وانطلاقته التّبليغيّة التي يبلِّغ فيها وحي الله لعباده، بحيث يجمع حوله أنصاره من المؤمنين به وبرسالته، ويتحدَّى علماء الطبّ بما تعجز عنه وسائلهم التقليديّة، بما يتمثَّل بالمعجزة الإلهيّة الَّتي يجريها الله على يديه ويلهمه مضمونها الغيبـيّ. وهكذا أريد للملائكة أن يبعثوا الطّمأنينة والسّكينة في وجدان مريم، لتعرف أنَّ قبول الله لها بالقبول الحسن، أعطاها من البشارة العجيبة في تنوّعات الأمور، ما يوحي بالكرامة والرّضوان مما لا يملك أحد من الناس مثله.

الوعي المعرفيّ

وهكذا قالت الملائكة لمريم كما جاء في القرآن الكريم: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}، فيمنحه ثقافة الكتاب الّذي ربّما تمثّل بالوحي الّذي يوحي به إليه، مما ينـزله على رسله الَّذين يلتقون على صعيدٍ واحدٍ وكلمةٍ واحدةٍ في الدَّعوة إلى التّوحيد المطلق، وإلى ما يصلح عقول النّاس وحياتهم في الإيمان والعقيدة والحياة، وربما كان يعني الكلمة المكتوبة، من دون أن يتعلَّمها على يد معلّم خاصّ، باعتبارها معرفةً إلهاميةً يتمثّل فيها الوعي المعرفي للكتابة المقروءة، وإلى جانب ذلك، يعطيه الحكمة الَّتي تصنع للشخصيَّة قوَّة الميزان الصَّحيح الَّذي يزن به الفكرة والكلمة والحركة، في الخطوات الَّتي ينطلق بها إلى الهدف المطلوب، فلا يضع الفكرة إلا في الإطار المناسب، ولا يحرّك الكلمة والخطوة إلا في الموقع الملائم، فلا اهتزاز في الموقف، ولا انحراف في الخطّ، بل هو الخطّ المستقيم الثّابت على قاعدة الحقّ، والمنفتح على المصلحة العامَّة للناس.

وقد قيل: إنَّ الحكمة هي المعرفة النافعة المتعلّقة بالاعتقاد والعمل، وقيل: إنها الفقه وعلم الحلال والحرام، عن ابن عباس. والظّاهر أنَّ هذه المعاني تمثّل المصاديق أو الوسائل التي يملك الإنسان من خلالها القوّة الذهنيّة واللّباقة العمليَّة ومواقع المسؤوليَّة، التي يستطيع من خلالها وضع الأشياء في موضعها، وتقدير الأمور بمقاديرها، وهو معنى الحكمة عرفاً.

ثم ينتقل الحديث عن موقع المعرفة من التعميم إلى التخصيص: {وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ}[1]، من خلال دورهما الرسالي، باعتبار انفتاحهما على شريعة الله، وما يرسمانه من حدودٍ لمفاهيم الحياة في تصوّراتها وتطلّعاتها وأهدافها، ما يجعل من قضيّة العلم لديه أمراً لا يرتبط بالترف الفكريّ الّذي يعيش معه الإنسان في نطاق التّجريد، بل يتّصل بالحياة كلّها في شمولها وامتدادها وحركتها في عالم الفكر وأصالة الأسلوب واتّجاهات العمل، ويجعل منها رسالةً تنتظر في فاعليّتها حركة الرسول وموقفه. وهنا يبدأ بالحديث عن دوره، ليقدِّم رسوليَّته التي تبتعد به عن فكر البشر وتقترب به إلى وحي الخالق: {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ}.

معجزات عيسى(ع)

ثمّ تنتقل العجائبيَّة من ذات الرّسول في ولادته، إلى طبيعة الممارسات الإعجازيّة الّتي يقدِّمها، كشاهدٍ حيٍّ على صدقه في ادّعاءاته أنّه رسول من الله، فقد أرسله إلى بني إسرائيل الّذين كان تاريخهم تمرّداً على الله، وتكذيباً لرسله، وقتلاً لهم، ومواجهةً لرسالتهم بمختلف التحدّيات الصّعبة، الأمر الّذي يفرض عليه مواجهتهم بأسلوبٍ حاسمٍ يقهر تمرّدهم، ويفضح أساليبهم، ويوقفهم عند حدّهم، ويقيم الحجَّة عليهم، تماماً كما هو فعل المعجزة التي أطلقها موسى(ع) في مواجهة سحرة فرعون، فوقعوا أمامه ساجدين. وأيّ أسلوبٍ أعظم من المعجزة الّتي يستحيل على أيِّ فردٍ في المجتمع، مهما كانت درجة علمه وقدرته، أن يأتي بمثلها، لأنها خاضعة لقدرة الله، لا لقدرة البشر؟!

وهذا هو ما فاجأهم به، كما جاء في قوله تعالى: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ}. فهو يصنع بيديه تمثالاً طينيّاً في صورة الطير، ثم ينفخ فيه، فتدبّ الحياة في داخله، ويتحرّك في الأرض والفضاء كبقيّة الطيور، بقوّة القدرة الإلهيّة الخالقة، تماماً كما هي الحال في نفخ الملَك في مريم، فكان عيسى "آيةً" تمثّل قدرة الله في مواقع عظمته وقوّته. وهذا من الأمور المعجزة الخارقة للعادة التي لا تخضع للأسباب الطبيعيّة الّتي وضعها الله في نطاق قدرة الإنسان.

{وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ}[2]، وقد كان الطّبّ هو الغالب على علماء مجتمعهم، كما يقال، بحيث كان الأطبّاء يمثّلون النّخبة المتقدّمة الّتي يعظّمها الناس ويضعونها في المواقع الرّفيعة في تقديرهم الاجتماعي، ولكن ماذا يستطيع الطبّ أن يصنع للإنسان، إلا أن يعالج حركة الحياة في نطاق الجسد، ليمنحه التّوازن في الإحساس بالعافية، من خلال معرفة الأطبّاء بقوانين الجسم الإنسانيّ في صحّته ومرضه، وأن يخفِّف الآلام التي تصيب الشَّخص لتهدأ، ويبلسم الجراح لتلتئم. فهذا هو مدى قدرة الطّبيب في علمه، ولكنَّه لن يستطيع ـ مهما بلغت درجته في علم الطبّ ـ أن يعطي الحياة للتّمثال الجامد، ليكون مخلوقاً حيّاً يتحرّك بذاته، كما هي حركة الأحياء، أو أن يمنح البصر بطريقة اللَّمس العاديّ لمن يولد بلا بصر، وهذا هو معنى الأكمه "الأعمى"، أو أن يشفي الأبرص بشكلٍ تلقائيّ من دون دواءٍ ولا علاج، أو أن يعيد الحياة إلى الموتى من جديد...

ولكنَّ السيّد المسيح يؤكّد لهم أنّه يستطيع ذلك، لا بقدرته الذاتيّة البشريّة، بل بقدرة الله الذي أعطاه في لمسته العادية سرّ الشّفاء والحياة؛ هذه القدرة الّتي تمثّل الإذن التكويني بالأسلوب غير المألوف، ممّا يعجز عنه الإنسان ولا يملك وسائله.

ولا يقف الأمر عند هذه الظّاهرة الإعجازية، بل يتعدَّاه إلى المعرفة الخفيّة للأسرار الخاصَّة التي تتّصل بحركة الإنسان الشخصيَّة فيما يأكل بشكلٍ خاصّ، من دون أن يطّلع عليه أحد، وما يختزنه في بيته من أغراضه وخفايا أموره، فيحيط بما هو خلف الصّدور والجدران، فلا يحجبه عنها شيء: {وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ}.

ومن المعروف لديهم، أنَّ عيسى(ع) لم يستند إلى أيّة ثقافة خاصَّة أو عامّة في ذلك كلّه أو في بعضه، ولا سيّما في الأمور الّتي لا تصل إليها القدرات الإنسانيَّة ـ مهما ارتفعت واتَّسعت ـ ولذلك، أكّد لهم أنَّ في هذه الظواهر الخارقة للعادة آيةً لهم، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[3]، بالآيات الّتي تقدَّم إليكم من أجل أن تركّز لكم اقتناعاتكم على أساس البراهين الواضحة الَّتي لا يملك الإنسان إلا أن يرضخ للإيمان بها في كلِّ مفاهيمه وحقائقه ومتطلّباته، وتلك هي قصَّة النبوّات، فهي تقود الإنسان نحو الإيمان بالحقيقة الإلهيَّة، من طريق المعجزة التي تتحدَّى الحسّ، ولا تقبل أيّة حالةٍ من حالات الشكّ من قريب أو بعيد.

رسول أو نبيّ؟!

ولنا هنا ملاحظات:

الأولى: هل كان عيسى(ع) رسولاً إلى بني إسرائيل دون غيرهم، أم للنَّاس كلّهم؟

ربما توحي فقرة: {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} بالخصوصيَّة، ولكن ينافي ذلك ما هو مشهور من أنَّ عيسى من أنبياء أولي العزم، الّذين يتميَّزون بأنَّ رسالتهم تمثّل ديناً جديداً ينتهي عنده الدّين الذي جاء قبله، ما يوحي بالصّفة العالميّة له، وخصوصاً أنّه جاء بكتابٍ جديدٍ يتمثّل فيه وحي الله الذي يشمل كلَّ قضايا الإنسان في شريعته وقيمه الروحيّة ونظامه الأخلاقيّ، مما يمتدّ بامتداد الزّمن في مرحلته التي تتّصل بمرحلة النبيّ محمّد(ص) الّذي بشّر عيسى(ع) به، وأخبر أنّه يأتي رسول من بعده اسمه أحمد، لينفتح على النّاس كلّهم، ولا يختصّ بجماعةٍ خاصّةٍ من الناس.

وربما يُجاب بأنَّ هناك فرقاً بين الرّسول والنبيّ، فالنبوّة منصب البعث والتبليغ، أمّا الرسالة، فهي السّفارة الخاصّة الّتي تستدعي الحكم والقضاء بالحقّ بين النّاس، إمّا بالبقاء والنعمة، أو بالهلاك، كما يفيده قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}[4]. وبعبارةٍ أخرى، النبيّ هو الإنسان المبعوث لبيان الدّين للنّاس، والرسول هو المبعوث لأداء بيانٍ خاصّ يستتبع ردّه الهلاك، وقبوله البقاء والسّعادة[5].

وخلاصة الفكرة: إنَّ لعيسى(ع) صفتين؛ النبوّة العامَّة من حيث هو صاحب دين ورسالة، {وَجَعَلَنِي نَبِيّاً}[6]، والرسوليّة من حيث هو حاكم وقاضٍ بين النّاس، ومتحرك في تدبير أمورهم وحلِّ مشكلاتهم وتوضيح قضاياهم. وربّما كان المقصود من كونه رسولاً إلى بني إسرائيل، أنّهم الجماعة الّذين يواجههم بالرّسالة في حركته الأولى، باعتبار أنَّ لكلّ دين منطلقاً من الموقع الَّذي يقيم في ساحته، ومن الأشخاص الَّذين تبدأ حركة التّبليغ في أوضاعهم الفكريَّة والعمليَّة، وتتحرّك في قضاياهم، لترتكز على قاعدةٍ متينةٍ ثابتةٍ يجمع فيها النبيّ المؤمنين به، ويلتقي بحواريّيه، ويثقِّف الدّعاة إلى دينه، ليكون دوره معهم دور التّجربة الأولى الّتي يبدأ بها خطَّ تجاربه الأخرى في المستقبل.

وفي ضوء ذلك، لا يكون الحديث عن كونه رسولاً إلى بني إسرائيل حديثاً عن الدّائرة المحدودة التي يتحرَّك عيسى في داخلها، والمجتمع المغلق الّذي يعيش فيه حركته الدّينيّة الرّسالية، بل يكون حديثاً عن المنطلق الذي تبدأ به المهمّة الرساليّة حركيّتها في الحياة، لتمتدّ في شموليَّتها إلى العالم من خلال الجماعة المؤمنة به في مسوؤليّتها في نقل الرّسالة إلى شعوبٍ أخرى وأممٍ متنوّعة.

وللحديث بقيّة. والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [آل عمران: 48].

[2]  [آل عمران: 49].

[3]  [آل عمران: 49].

[4]  [يونس: 47].

[5]  تفسير الميزان، السيّد الطباطبائي، ج 3، ص 199.

[6]  [مريم: 30].

نتابع في هذا العدد حديث الملائكة مع مريم، بحسب طريقتهم الخاصَّة في إلقاء الكلام المتضمّن للبشارة بالمولود المعجزة، الَّذي يمنحه الله صفات الكرامة العلميَّة والرسوليَّة، والقدرة الإعجازيَّة التي يتحرّك بها بإذن الله، لتنفتح على مستقبله الحركيّ الرّساليّ الّذي يمتدّ فيه عطاؤه ونفعه للنَّاس، وروحيّته القدسيّة، وانطلاقته التّبليغيّة التي يبلِّغ فيها وحي الله لعباده، بحيث يجمع حوله أنصاره من المؤمنين به وبرسالته، ويتحدَّى علماء الطبّ بما تعجز عنه وسائلهم التقليديّة، بما يتمثَّل بالمعجزة الإلهيّة الَّتي يجريها الله على يديه ويلهمه مضمونها الغيبـيّ. وهكذا أريد للملائكة أن يبعثوا الطّمأنينة والسّكينة في وجدان مريم، لتعرف أنَّ قبول الله لها بالقبول الحسن، أعطاها من البشارة العجيبة في تنوّعات الأمور، ما يوحي بالكرامة والرّضوان مما لا يملك أحد من الناس مثله.

الوعي المعرفيّ

وهكذا قالت الملائكة لمريم كما جاء في القرآن الكريم: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}، فيمنحه ثقافة الكتاب الّذي ربّما تمثّل بالوحي الّذي يوحي به إليه، مما ينـزله على رسله الَّذين يلتقون على صعيدٍ واحدٍ وكلمةٍ واحدةٍ في الدَّعوة إلى التّوحيد المطلق، وإلى ما يصلح عقول النّاس وحياتهم في الإيمان والعقيدة والحياة، وربما كان يعني الكلمة المكتوبة، من دون أن يتعلَّمها على يد معلّم خاصّ، باعتبارها معرفةً إلهاميةً يتمثّل فيها الوعي المعرفي للكتابة المقروءة، وإلى جانب ذلك، يعطيه الحكمة الَّتي تصنع للشخصيَّة قوَّة الميزان الصَّحيح الَّذي يزن به الفكرة والكلمة والحركة، في الخطوات الَّتي ينطلق بها إلى الهدف المطلوب، فلا يضع الفكرة إلا في الإطار المناسب، ولا يحرّك الكلمة والخطوة إلا في الموقع الملائم، فلا اهتزاز في الموقف، ولا انحراف في الخطّ، بل هو الخطّ المستقيم الثّابت على قاعدة الحقّ، والمنفتح على المصلحة العامَّة للناس.

وقد قيل: إنَّ الحكمة هي المعرفة النافعة المتعلّقة بالاعتقاد والعمل، وقيل: إنها الفقه وعلم الحلال والحرام، عن ابن عباس. والظّاهر أنَّ هذه المعاني تمثّل المصاديق أو الوسائل التي يملك الإنسان من خلالها القوّة الذهنيّة واللّباقة العمليَّة ومواقع المسؤوليَّة، التي يستطيع من خلالها وضع الأشياء في موضعها، وتقدير الأمور بمقاديرها، وهو معنى الحكمة عرفاً.

ثم ينتقل الحديث عن موقع المعرفة من التعميم إلى التخصيص: {وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ}[1]، من خلال دورهما الرسالي، باعتبار انفتاحهما على شريعة الله، وما يرسمانه من حدودٍ لمفاهيم الحياة في تصوّراتها وتطلّعاتها وأهدافها، ما يجعل من قضيّة العلم لديه أمراً لا يرتبط بالترف الفكريّ الّذي يعيش معه الإنسان في نطاق التّجريد، بل يتّصل بالحياة كلّها في شمولها وامتدادها وحركتها في عالم الفكر وأصالة الأسلوب واتّجاهات العمل، ويجعل منها رسالةً تنتظر في فاعليّتها حركة الرسول وموقفه. وهنا يبدأ بالحديث عن دوره، ليقدِّم رسوليَّته التي تبتعد به عن فكر البشر وتقترب به إلى وحي الخالق: {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ}.

معجزات عيسى(ع)

ثمّ تنتقل العجائبيَّة من ذات الرّسول في ولادته، إلى طبيعة الممارسات الإعجازيّة الّتي يقدِّمها، كشاهدٍ حيٍّ على صدقه في ادّعاءاته أنّه رسول من الله، فقد أرسله إلى بني إسرائيل الّذين كان تاريخهم تمرّداً على الله، وتكذيباً لرسله، وقتلاً لهم، ومواجهةً لرسالتهم بمختلف التحدّيات الصّعبة، الأمر الّذي يفرض عليه مواجهتهم بأسلوبٍ حاسمٍ يقهر تمرّدهم، ويفضح أساليبهم، ويوقفهم عند حدّهم، ويقيم الحجَّة عليهم، تماماً كما هو فعل المعجزة التي أطلقها موسى(ع) في مواجهة سحرة فرعون، فوقعوا أمامه ساجدين. وأيّ أسلوبٍ أعظم من المعجزة الّتي يستحيل على أيِّ فردٍ في المجتمع، مهما كانت درجة علمه وقدرته، أن يأتي بمثلها، لأنها خاضعة لقدرة الله، لا لقدرة البشر؟!

وهذا هو ما فاجأهم به، كما جاء في قوله تعالى: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ}. فهو يصنع بيديه تمثالاً طينيّاً في صورة الطير، ثم ينفخ فيه، فتدبّ الحياة في داخله، ويتحرّك في الأرض والفضاء كبقيّة الطيور، بقوّة القدرة الإلهيّة الخالقة، تماماً كما هي الحال في نفخ الملَك في مريم، فكان عيسى "آيةً" تمثّل قدرة الله في مواقع عظمته وقوّته. وهذا من الأمور المعجزة الخارقة للعادة التي لا تخضع للأسباب الطبيعيّة الّتي وضعها الله في نطاق قدرة الإنسان.

{وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ}[2]، وقد كان الطّبّ هو الغالب على علماء مجتمعهم، كما يقال، بحيث كان الأطبّاء يمثّلون النّخبة المتقدّمة الّتي يعظّمها الناس ويضعونها في المواقع الرّفيعة في تقديرهم الاجتماعي، ولكن ماذا يستطيع الطبّ أن يصنع للإنسان، إلا أن يعالج حركة الحياة في نطاق الجسد، ليمنحه التّوازن في الإحساس بالعافية، من خلال معرفة الأطبّاء بقوانين الجسم الإنسانيّ في صحّته ومرضه، وأن يخفِّف الآلام التي تصيب الشَّخص لتهدأ، ويبلسم الجراح لتلتئم. فهذا هو مدى قدرة الطّبيب في علمه، ولكنَّه لن يستطيع ـ مهما بلغت درجته في علم الطبّ ـ أن يعطي الحياة للتّمثال الجامد، ليكون مخلوقاً حيّاً يتحرّك بذاته، كما هي حركة الأحياء، أو أن يمنح البصر بطريقة اللَّمس العاديّ لمن يولد بلا بصر، وهذا هو معنى الأكمه "الأعمى"، أو أن يشفي الأبرص بشكلٍ تلقائيّ من دون دواءٍ ولا علاج، أو أن يعيد الحياة إلى الموتى من جديد...

ولكنَّ السيّد المسيح يؤكّد لهم أنّه يستطيع ذلك، لا بقدرته الذاتيّة البشريّة، بل بقدرة الله الذي أعطاه في لمسته العادية سرّ الشّفاء والحياة؛ هذه القدرة الّتي تمثّل الإذن التكويني بالأسلوب غير المألوف، ممّا يعجز عنه الإنسان ولا يملك وسائله.

ولا يقف الأمر عند هذه الظّاهرة الإعجازية، بل يتعدَّاه إلى المعرفة الخفيّة للأسرار الخاصَّة التي تتّصل بحركة الإنسان الشخصيَّة فيما يأكل بشكلٍ خاصّ، من دون أن يطّلع عليه أحد، وما يختزنه في بيته من أغراضه وخفايا أموره، فيحيط بما هو خلف الصّدور والجدران، فلا يحجبه عنها شيء: {وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ}.

ومن المعروف لديهم، أنَّ عيسى(ع) لم يستند إلى أيّة ثقافة خاصَّة أو عامّة في ذلك كلّه أو في بعضه، ولا سيّما في الأمور الّتي لا تصل إليها القدرات الإنسانيَّة ـ مهما ارتفعت واتَّسعت ـ ولذلك، أكّد لهم أنَّ في هذه الظواهر الخارقة للعادة آيةً لهم، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[3]، بالآيات الّتي تقدَّم إليكم من أجل أن تركّز لكم اقتناعاتكم على أساس البراهين الواضحة الَّتي لا يملك الإنسان إلا أن يرضخ للإيمان بها في كلِّ مفاهيمه وحقائقه ومتطلّباته، وتلك هي قصَّة النبوّات، فهي تقود الإنسان نحو الإيمان بالحقيقة الإلهيَّة، من طريق المعجزة التي تتحدَّى الحسّ، ولا تقبل أيّة حالةٍ من حالات الشكّ من قريب أو بعيد.

رسول أو نبيّ؟!

ولنا هنا ملاحظات:

الأولى: هل كان عيسى(ع) رسولاً إلى بني إسرائيل دون غيرهم، أم للنَّاس كلّهم؟

ربما توحي فقرة: {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} بالخصوصيَّة، ولكن ينافي ذلك ما هو مشهور من أنَّ عيسى من أنبياء أولي العزم، الّذين يتميَّزون بأنَّ رسالتهم تمثّل ديناً جديداً ينتهي عنده الدّين الذي جاء قبله، ما يوحي بالصّفة العالميّة له، وخصوصاً أنّه جاء بكتابٍ جديدٍ يتمثّل فيه وحي الله الذي يشمل كلَّ قضايا الإنسان في شريعته وقيمه الروحيّة ونظامه الأخلاقيّ، مما يمتدّ بامتداد الزّمن في مرحلته التي تتّصل بمرحلة النبيّ محمّد(ص) الّذي بشّر عيسى(ع) به، وأخبر أنّه يأتي رسول من بعده اسمه أحمد، لينفتح على النّاس كلّهم، ولا يختصّ بجماعةٍ خاصّةٍ من الناس.

وربما يُجاب بأنَّ هناك فرقاً بين الرّسول والنبيّ، فالنبوّة منصب البعث والتبليغ، أمّا الرسالة، فهي السّفارة الخاصّة الّتي تستدعي الحكم والقضاء بالحقّ بين النّاس، إمّا بالبقاء والنعمة، أو بالهلاك، كما يفيده قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}[4]. وبعبارةٍ أخرى، النبيّ هو الإنسان المبعوث لبيان الدّين للنّاس، والرسول هو المبعوث لأداء بيانٍ خاصّ يستتبع ردّه الهلاك، وقبوله البقاء والسّعادة[5].

وخلاصة الفكرة: إنَّ لعيسى(ع) صفتين؛ النبوّة العامَّة من حيث هو صاحب دين ورسالة، {وَجَعَلَنِي نَبِيّاً}[6]، والرسوليّة من حيث هو حاكم وقاضٍ بين النّاس، ومتحرك في تدبير أمورهم وحلِّ مشكلاتهم وتوضيح قضاياهم. وربّما كان المقصود من كونه رسولاً إلى بني إسرائيل، أنّهم الجماعة الّذين يواجههم بالرّسالة في حركته الأولى، باعتبار أنَّ لكلّ دين منطلقاً من الموقع الَّذي يقيم في ساحته، ومن الأشخاص الَّذين تبدأ حركة التّبليغ في أوضاعهم الفكريَّة والعمليَّة، وتتحرّك في قضاياهم، لترتكز على قاعدةٍ متينةٍ ثابتةٍ يجمع فيها النبيّ المؤمنين به، ويلتقي بحواريّيه، ويثقِّف الدّعاة إلى دينه، ليكون دوره معهم دور التّجربة الأولى الّتي يبدأ بها خطَّ تجاربه الأخرى في المستقبل.

وفي ضوء ذلك، لا يكون الحديث عن كونه رسولاً إلى بني إسرائيل حديثاً عن الدّائرة المحدودة التي يتحرَّك عيسى في داخلها، والمجتمع المغلق الّذي يعيش فيه حركته الدّينيّة الرّسالية، بل يكون حديثاً عن المنطلق الذي تبدأ به المهمّة الرساليّة حركيّتها في الحياة، لتمتدّ في شموليَّتها إلى العالم من خلال الجماعة المؤمنة به في مسوؤليّتها في نقل الرّسالة إلى شعوبٍ أخرى وأممٍ متنوّعة.

وللحديث بقيّة. والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [آل عمران: 48].

[2]  [آل عمران: 49].

[3]  [آل عمران: 49].

[4]  [يونس: 47].

[5]  تفسير الميزان، السيّد الطباطبائي، ج 3، ص 199.

[6]  [مريم: 30].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية