ويتابع النّبيّ عيسى(ع) حديثه مع قومه عن دوره الرّساليّ الّذي يمثِّل الامتداد لمسيرة الرّسالات الّتي تتواصل وتتكامل في مضمونها التَّوحيديّ والتَّشريعيّ في المراحل الزمنيَّة، وإن كانت المتغيّرات الّتي تحدث للنَّاس في حياتهم العامَّة والخاصَّة، قد تفرض بعضاً من التَّغيير في التَّفاصيل المتنوّعة الّتي يختلف فيها زمنٌ عن زمن، وموقعٌ عن موقع.
وحدة الرِّسالات
وهكذا، أكَّد عيسى(ع) للنّاس أنّه جاء مصدّقاً لما أنزله الله على موسى من الكتاب الَّذي أراد له أن يكون منهاجاً للبشريَّة في مرحلةٍ طويلةٍ من الزمن، كما أوحى إلى الرّسل الّذين جاؤوا من بعده أن يأخذوا به ويحكموا بأحكامه، كما جاء في قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ الله وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}[1]، وقد جاء في كلام عيسى(ع): {وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ}[2]، وجاء أيضاً قوله تعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ}[3].
وهكذا، أراد(ع) أن يؤكِّد لبني إسرائيل الّذين كانت انطلاقته النبويَّة الأولى من مجتمعهم الّذي كان يأخذ بالتّوراة من خلال موقع النبيّ موسى فيهم، أنَّ رسالته التي يدعوهم إلى الإيمان بها ليست غريبةً عن جذورهم الدّينيّة، ما يفرض عليهم أن يؤمنوا به كما آمنوا في التاريخ القديم بالنبيّ موسى(ع)، فإنَّ النبوَّة الجديدة لا تلغي النبوَّة السَّابقة، لأنَّ النبوّات ليست منطلقةً من شخص النّبيّ في ذاتيّاته الفكريّة، وفي تجربته الخاصَّة، بل من وحي الله الّذي يشرّع للحياة كلّها وللإنسان كلّه، في الخطِّ العام الّذي تتكامل فيه الرّسالات، وتتوزَّع فيه الأدوار، إلا ما يختصّ بمرحلة النّبيّ في الزّمن الّذي يعيش فيه النّاس الَّذين أرسل إليهم، والأوضاع الّتي قد يعرض عليها التّغيير، مما تتنوّع فيه المصالح والمفاسد الَّتي يخضع لها التَّشريع أو تختلف فيها التّفاصيل، ولكن تبقى الرّسالة واحدةً في خطِّها العقيديّ العام، وهو التَّوحيد الخالص لله في العقيدة والعبادة والطّاعة.
وهكذا كان كلّ نبيٍّ مصدّقاً لمن سبقه من الأنبياء في رسالته وفي الكتاب الّذي أنزل عليه، ومنهم النبيّ عيسى بن مريم، وهذا ما نقرأه في قوله تعالى وهو يخاطب النبيّ محمَّداً(ص): {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ}[4]، الأمر الّذي يؤكِّد وحدة الرّسالات في الكتب الّتي أوحى الله بها إلى رسله، مع بعض التَّفاصيل الّتي قد تفرضها تنوّعات المراحل، بما تقتضيه المتغيّرات الواقعيَّة في حاجة النّاس إلى أحكامٍ جديدةٍ لا تلتقي بحاجات أتباع الأنبياء السَّابقين.
تنوّع أحكام الشَّريعة
ويعود الحديث ـ في وحي هذه الآية ـ إلى النبيّ عيسى بن مريم، فهو أحد أنبياء أولي العزم الذين اختصَّهم الله برسالاته، وقد جاء بعد النبيّ موسى برسالةٍ عامَّة شاملة، وأقرّ لأتباعه وللنّاس كافّةً بما بين يديه من التّوراة وصدَّق به، لأنَّ أحكامه الشّرعيَّة لم تنسخ ـ في الأغلب ـ لانسجامها مع النّاس في تلك المرحلة، ولأنَّ مفاهيمه لم يتجاوزها الزّمن من حيث المبدأ، بل كانت المسألة الرساليَّة بحاجةٍ إلى كتابٍ يعالج الإنسان من الدّاخل في الانفتاح على القيم الروحيّة التي ترتفع به إلى الله، كما يعالجه من الخارج في علاقاته الإنسانيَّة مع الآخرين في النّظام الأخلاقيّ الّذي يحدّد للنّاس الأسس الّتي ترتكز عليها أوضاعهم في التَّعامل والتَّواصل والتَّكامل، ونبذ العنف، والأخذ بالرّفق، إلى غير ذلك، ما يجعل الإنجيل الّذي يتضمَّن الهدى والنّور في أبعاده الروحيّة المنفتحة على الله في توحيده، وعلى الإنسان في معنى إنسانيّته التي تنفذ إلى الإنسان الآخر، مكمّلاً للتوراة.
وفي ضوء ذلك، فإنّ موقفه الرساليّ لم يكن يمثّل تحدّياً للمفاهيم والأحكام التي يؤمن بها هؤلاء الّذين بُعِث إليهم من بني إسرائيل، الّذين كانوا يرون من ناحية العصبيَّة القوميَّة التاريخيَّة، أنَّ التّوراة يمثّل كتابهم الخاصّ وشريعتهم المميّزة، فقد تركها على حالها، ما عدا بعض الأحكام التَّخفيفيّة التي شرّعها بأمرٍ من الله، ليزيل عنهم ثقل الالتزام بها من خلال التّحريم الّذي فرض عليهم فيها، كنتيجةٍ لتمرّدهم على الله في المرحلة السّابقة، فأراد الله آنذاك أن يؤدِّبهم بالتَّشريع الصَّعب الّذي يثقل عليهم في مسؤوليّاتهم الشّديدة، حتى إذا انطلق الزّمن في مدارٍ جديد، رفع الله عنهم ذلك كلَّه ببركة هذا الرّسول الذي أرسله الله بالمحبّة والرّحمة والسَّماح والبركة للنّاس جميعاً، وهذا ما أشار الله إليه بقوله تعالى: {وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}[5].
وجاء في مجمع البيان: "إنَّ الّذي أحلّ لهم لحوم الإبل، والشّروب ـ وهو الشَّحم الرقيق الّذي على الكرش والأمعاء ـ وبعض الطيور والحيتان، مما كان قد حُرّم على بني إسرائيل. عن قتادة والرّبيع وابن جريج ووهب. وقيل: أحلّ لكم السَّبت. عن الكلبي"[6]. وزاد بعضهم الأسماك.
وجاء في التَّفسير الكبير للفخر الرّازي: "وفيه سؤال، وهو أنّه يقال: هذه الآية الأخيرة مناقضة لما قبلها، لأنَّ هذه الآية الأخيرة صريحة في أنّه جاء ليحلَّ بعض الّذي كان محرَّماً عليهم في التّوراة، وهذا يقتضي أن يكون حكمه بخلاف حكم التّوراة، وهذا يناقض قوله: {وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ}.
والجواب أنّه لا تناقض بين الكلام، وذلك لأنَّ التَّصديق بالتّوراة لا معنى له إلا اعتقاد أنَّ كلَّ ما فيها هو حقٌّ وصواب، وإذا لم يكن الثّاني مذكوراً في التّوراة، لم يكن حكم عيسى بتحليل ما كان محرَّماً فيها مناقضاً لكونه مصدِّقاً بالتّوراة.
...وقيل: إنّه ـ عليه السّلام ـ ما غيَّر شيئاً من أحكام التّوراة... ثم إنّه فسّر قوله: {وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} بأمرين: أحدهما: أنَّ الأحبار كانوا قد وضعوا من عند أنفسهم شرائع باطلة ونسبوها إلى موسى، فجاء عيسى(ع) ورفعها وأبطلها، وأعاد الأمر إلى ما كان في زمن موسى(ع). والثاني: أنَّ الله تعالى كان قد حرَّم بعض الأشياء على اليهود، عقوبةً لهم على بعض ما صدر عنهم من الجنايات، كما قال الله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ}[7].
ثم بقي ذلك التَّحريم مستمرّاً على اليهود، فجاء عيسى(ع) ورفع تلك التَّشديدات عنهم. وقال آخرون: إنَّ عيسى رفع كثيراً من أحكام التّوراة، ولم يكن ذلك قادحاً في كونه مصدِّقاً بالتّوراة على ما بيّنّاه، ورفع السّبت ووضع الأحد قائماً مقامه، وكان محقّاً في كلّ ما عمل، لما بيّنّا أنَّ النّاسخ والمنسوخ كلاهما حقٌّ وصدق"[8].
وهكذا كانت الرّسالات السّماويّة يصدّق بعضها بعضاً، وربما تتنوَّع بعض أحكامها وجزئيّاتها، فيرتفع في الرّسالة الجديدة حكمٌ كان مشرَّعاً في الرّسالة السّابقة، لتغيّر الظّروف والمصالح والمفاسد الّتي تخضع لها تشريعات الأحكام...
وفي ضوء هذا التَّتابع والتَّكامل الرّساليّ، تنطلق الرّسالات السّماويّة لتدفع الإنسان إلى السَّير في الخطِّ المستقيم في جانب الفكر والتَّشريع فيما أوحاه الله إلى رسوله من كتاب، وإلى السَّير مع الرّسول فيما يلهمه الله من شؤون الحركة الإسلاميَّة في قضايا النَّاس اليوميَّة، بما يأمرهم به أو ينهاهم عنه، مما يحدث لهم في كلِّ أمورهم على مستوى اختلاف المرحلة في إيجابيّاتها أو سلبيّاتها.
ويتصاعد الأسلوب في النّتائج الّتي يستهدفها الرّسول، ليضع قضيَّة الإيمان بالله في توحيده وطاعته وعبادته في نطاقها الطّبيعيّ، لأنها ليست مجرّد حالة طارئة في مستوى الفكرة السّريعة المرتجلة لتأخذ جانباً من جوانب الفكر كأيّة فكرة أخرى، بل هي خطّ كامل للحياة يفرض نفسه على الفكرة والممارسة والشّعور، حتى في حال التنوّع في الشّكل والمضمون.
الاعتراف بالربوبيّة الشَّاملة
{فَاتَّقُواْ الله وَأَطِيعُونِ}، وهكذا دعاهم إلى تقوى الله في الوقوف عند حدوده، من خلال ما أوجبه عليهم وما حرَّمه، وإلى طاعته فيما يريده لهم من تنظيمٍ لأمور حياتهم في مسارها الجديد الّذي يخلق أوضاعاً جديدةً في حركة الإيمان نحو أهدافه الكبرى في الحياة، فإنَّ التقوى والطّاعة لله ولرسوله هما مظهر الاعتراف بالربوبيَّة الشّاملة، لما في مضمونهما الإيحائيّ من تأكيدٍ للعبوديّة الخالصة في سرِّ التَّوحيد المتمثّل بالخضوع الإنساني المطلق لله، وهما الخطّان اللّذان يتحرّك فيهما المبدأ العام في امتداده الحركيّ في ذات الإنسان، كما تنطلق منهما المفردات التفصيليّة التي ترتبط بالعقيدة كلّها في مضمونها العمليّ، كما جاء في قوله تعالى: {إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ}[9]، فإنَّ الإيمان بربوبيّة الله للنبيّ وللنّاس الآخرين، يمثِّل بدايةً للتصوّر والحركة، من خلال ما يعنيه الإيمان من السَّير على الصِّراط المستقيم الَّذي أراد الله لرسله وللنّاس أن يكون عنواناً لحركة حياتهم، ودعا النّاس إلى الدّعاء والابتهال إلى الله أن يهديهم إليه بصدقٍ وإخلاص، ليكونوا ممن أنعم الله عليهم بمعرفته والالتزام به، بعيداً عن الانحراف الّذي يستحقّون عليه غضب الله، أو عن الضَّلال في اتّجاهاته الواضحة.
لذلك، فإنَّ الدَّعوة إلى المضمون الرّساليّ الحركيّ هي دعوةٌ إلى الاستقامة على المنهج الإيمانيّ الحقّ في بداية المرحلة ونهايتها، لأنَّ الإيمان ليس مجرَّد فكرةٍ في العقل، ونبضةٍ في الشعور، بل هو ـ إلى جانب ذلك ـ حركة في العمل، وإعلان باللّسان...
وهذه هي دعوة عيسى والأنبياء من قبله ومن بعده؛ أن يراقب النّاس الله في كلِّ أفعالهم وأقوالهم وعلاقاتهم، في سرّهم وعلانيّتهم، وأن يطيعوا الرّسول فيما يبلّغهم عن الله من تعاليمه، ليعتقدوا به وينفِّذوه في حياتهم...
وهناك لفتة قرآنيَّة في هذه الدّعوة العيسويّة إلى الاعتراف بالله، وهي أنَّ عيسى(ع) بادر إلى الاعتراف بربوبيَّة الله سبحانه، ثم دعاهم إلى الاعتراف به، لأنَّه يريد لهم ما يريده لنفسه، ما يوحي إليهم بأنَّه لا يدعوهم إلى خطٍّ لا يسير عليه، بل إلى خطٍّ يريد الالتقاء مع قومه في السَّير عليه، للحصول على الخير الشَّامل في ذلك كلّه. والحمد لله ربِّ العالمين.
*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
[1] [المائدة: 44].
[2] [آل عمران: 50].
[3] [المائدة: 46].
[4] [المائدة: 48].
[5] [آل عمران: 50].
[6] تفسير مجمع البيان، الشّيخ الطبرسي، ج 2، ص 301.
[7] [النّساء: 160].
[8] تفسير الرّازي، الرّازي، ج 8، ص 63.
[9] [آل عمران: 51].