قدَّم عيسى بن مريم نفسه إلى قومه من موقعه الرّساليّ الَّذي منحه الله فيه المعجزة، حتى إذا بدأ رسالته في دعوة هؤلاء القوم إلى الله، كانت هذه المعجزة بمثابة الصَّدمة لهم، وذلك عندما يواجهون تلك الأعمال العجائبيَّة التي يأتي بها، ممّا لا يملك أيّ بشريّ أن يصنع مثلها، مهما بلغت درجة علمه في الطبّ، أو في اطّلاعه على خفايا الأمور في حياة الناس.
مواجهة التحدّيات
ولكنَّ مشكلة الأكثريَّة، ولا سيَّما الذين يملكون السّلطة على النّاس، أو الذين يتميَّزون بالقدرة الماليَّة ويأخذون بترف الحياة، أنهم يرفضون أيَّ دعوة إصلاحيّة، أو رسالة تغييريَّة، لأنّها سوف تربك أوضاعهم، فيفقدون عندها الكثير من امتيازاتهم في مجتمعهم الَّذي يستعبدون الضّعفاء فيه، فإذا جاءهم الشَّخص القياديّ الّذي يملك القدرة الإعجازيّة، ليصلح الفساد الّذي يأخذون به، وليحرّر العبيد من سلطتهم، ويقوّي الضَّعيف حتى يملك إرادته في خطِّ مواجهة الأقوياء، فقد يؤدِّي ذلك إلى أن يبتعد النّاس عنهم ويتبعونه.
ولذلك، وقفوا منه موقف التحدّي، بالبقاء على كفرهم، ورفضهم دعوته الإيمانيَّة، واندفعوا في اضطهاده وإسقاط موقعه، وعند ذلك، أدرك أنهم قد جمّدوا عقولهم عن التّفكير، وأصمّوا أسماعهم عن الاستماع إليه، وأغلقوا أبصارهم عن مظاهر الإعجاز، وعرف أنّه لن يؤمن منهم إلا من قد آمن من القلّة المؤمنة المخلصة. وربما كان من أسلوب الأنبياء أن لا ييأسوا من أوّل تجربة في الدّعوة إذا رفضها الكثيرون، بل كانوا يستمرّون في إقامة الحجّة عليهم بالمزيد من إيضاح المفاهيم الإنقاذيّة الّتي تتضمّنها الدّعوة لتغيير حياتهم نحو الأفضل.
ولكنَّ الأمر وصل إلى الدّرجة النهائيّة الحاسمة من خلال تعاملهم معه، في محاولةٍ للضّغط عليه بمختلف الوسائل التي يملكونها، ورفضهم الاستجابة له، وإعراضهم عن دعوة الإيمان الّتي دعاهم إليها، فلم يدخلوا في حوارٍ معه حول ما قدَّم إليهم من دلائل نبوّته، ولم ينفتحوا على الآفاق الواسعة، فرأى أن يتركهم كما تركوه، ويعرض عنهم كما أعرضوا عنه، وأن يتحدَّاهم بتعبئة المؤمنين به في خطّةٍ حركيّة فاعلة، حتى لا تختلط الأمور في الساحة، فلا يتميّز المؤمن من الكافر، ولا يملك المؤمنون موقعاً للقوّة أمام الآخرين.
وهكذا درس الموقف، وأدرك أنَّ أمرهم ميؤوسٌ منه، ما عدا النّفر القليل من أتباعه الذين استجابوا لدعوته وأقبلوا على ندائه؛ فأطلق الدّعوة الصّارخة التي عبّرت عن تصميمه القويّ في التحرك، في شكل نداءٍ يوجّهه إلى الجميع، وهو يعرف مَن الّذي يستجيب له ومن يرفض الاستماع إليه، لتتمّ عمليّة الفرز الاجتماعي على أساس طبيعة الموقف الّذي يأخذه كلٌّ منهم من الدّعوة، وهذا هو قوله تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللهِ}[1]، لأني سوف أنطلق في رحلةٍ طويلةٍ شاقّة معقَّدة، ولا بدَّ لهذه الرحلة من الأنصار الّذين يرون في المسيرة مسيرتهم الّتي لا مناص من أن يواجهوا في سبيلها الشّدائد والأهوال، ما يفرض أن يختزنوا في وجدانهم وإرادتهم الحاسمة طاقةً إيمانيّةً عظيمةً، تجعلهم يصمدون أمام التحدّيات، ويواجهون العقبات بعزمٍ وصبرٍ وإيمان، لأنَّ المعركة الّتي قد يخوضونها، قد تسلب الواحد منهم أمنه وثروته وراحته، وربما تسلب منه حياته، والمهمّ أن لا تسلبه إيمانه، حتى يواجه به العقبات بقوّة الإرادة والحركة والموقف.
العمل في إطار الرّسالة
ونلاحظ في كلام عيسى(ع) أنّه لم يطلب أنصاراً لذاته ليحصل على القوّة الذاتيّة في المجتمع، لأنه لم يتحرّك في المعركة من موقعه الذّاتيّ الاجتماعيّ، كبعض القياديّين الَّذين يعملون على أن يجمعوا النّاس حولهم ليستعرضوا قوّتهم في موقعهم القيادي، في عمليّة تضخيم للشّخصيّة أمام القيادات الأخرى، بل تحرّك من موقعه الرّساليّ، ومن منطلق مسؤوليّته أمام الله في إيجاد المجتمع المؤمن الّذي يؤمن بالله وبرسالاته.
ولذلك كان نداؤه: {مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللهِ}، لنسير إليه معاً في إعلاء كلمته، وتقوية دينه، وتأصيل توحيده، وتنفيذ إرادته في الحياة، وهذا هو النِّداء الّذي وجَّهه الله إلى المؤمنين في سورة الصّفّ في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى الله}[2]، لأنَّ هذه المسألة الإيمانيَّة مما يشترك بها الأنبياء السّائرون في الطّريق إلى الله، والدّاعون إلى نصرته بنصرة رسالته وتأييد رسله. وقد تكرّر الحديث عن نصرة الله بهذا المضمون في قوله تعالى: {إِن تَنصُرُوا الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[3].
وكان الفرز الإيمانيّ جاهزاً في السَّاحة: {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ الله}[4]، فنحن الّذين فتحنا عقولنا للرّسالة، وقلوبنا للرّسول، وعشنا حركة التوحيد لله في العقيدة والعبادة والطّاعة بروحانيّةٍ وفكرٍ ومعاناة، وتطلّعنا إلى ما ينتظرنا في لقاء الله من نعيم الآخرة ورضوانه، الّذي هو غاية الغايات ومنتهى الآمال، أمام ما ينتظرنا من عقباتٍ وشدائد وأهوالٍ في سبيله.
وهكذا استجابوا للنّداء وحدهم بعد أن كفر الآخرون، كما جاء في قوله تعالى: {فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ}[5]، من خلال لطف الله بهم، ونصره لموقعهم وحركتهم.
وكان الحواريّون الّذين استجابوا لنداء عيسى، يملكون الوعي في طبيعة المعركة وفي مضمون النِّداء، ولم تكن المسألة عندهم منطلقةً من علاقتهم الشّخصيَّة بعيسى، ليكون اتّباعهم له في دعوته من موقع العلاقة الخاصّة، بل كانت المسألة عندهم منطلقةً من موقع انفتاحهم على الله الّذي انفتح عليه عيسى، وإيمانهم به، واستعدادهم للجهاد في سبيله، ولمجابهة التحدّي الذي يفرضه الآخرون من الكافرين عليهم، ومواجهة المصاعب في هداية النّاس إلى الحقّ، كما أنّهم كانوا ينطلقون من وعيٍ لخطورة الموقف ودرجة التّضحية الّتي يتطلّبها ذلك منهم، وهو ما يحتاج إلى العقل المفكّر والحركة الواعية والإرادة القويّة والوعي المنفتح والموقف المستقيم.
منطلقات النّصرة
ويتابع هؤلاء الحواريّون الحديث عن منطلقات هذه النّصرة، فهم قد آمنوا بالله: {آمَنَّا بِالله}، والإيمان يعني الانفتاح على سرّ الربوبيّة في علاقة المربوب بالربّ، وخضوعه المطلق له، وذوبانه فيه، وتسليمه له في الأمور كلِّها؛ هذا التَّسليم الّذي يعني التّصميم والقناعة واليقين والثّبات على الخطّ الذي يبدأ من الله وينتهي إليه، لأنَّ الإيمان ليس مجرّد فكرةٍ يختزنها العقل، بل هو في مضمونه العقيديّ والعمليّ، موقف للحياة، يستوعب كلّ التفاصيل من خلال ما يواجهه الانتماء الصّادق، مما يلتزمه الإنسان في أوضاعه المتنوّعة، وأعماله المختلفة، وعلاقاته بالنّاس، وتطلّعاته في الانفتاح على المستقبل الّذي ينتظره أو يصنعه، ليكون الخطَّ الفاصل بين الإيمان والكفر فاصلاً على مستوى الالتزام الفكريّ والممارسة الفعليَّة، بحيث يتحوَّل الواقع عند المؤمن إلى إيمانٍ متجسّدٍ في الذّات وفي حركة الحياة، لا ليبقى صورةً شبحيّةً ساذجةً على صعيد النّظريّة والكلمة.
وبهذه الرّوح، وفي أجواء هذا التصوّر، كان الحواريّون يريدون التّأكيد الحيّ لموقفهم الصَّلب، وذلك بإشهاد عيسى(ع) على إسلامهم لله إسلام الكلمة والقلب والعقل والعمل: {وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}[6].
وهذه الشَّهادة تعطي للموقف بُعداً مهمّاً على صعيد حركة الإسلام في داخل النّفس، فإنَّ الفكرة قد تضعف إذا بقيت مجرّد فكرةٍ وشعور، ولكنّها تشتدّ كلَّما تحوّلت إلى معاناةٍ في الرّوح، وإعلانٍ في حركة الإنسان في الحياة، لأنَّ الموقف آنذاك يتَّخذ لنفسه معنى المسؤوليّة المتحرّكة أمام الله والناس. وربّما كان هذا هو السرّ في أنَّ إعلان الشّهادة من قِبَل الإنسان الّذي يريد الدّخول في الإسلام، يعتبر عنصراً أساسيّاً في إسلام المسلم، فلا يكفي ما يربط قلبه عليه من عقيدة وإيمان والتزام.
الشَّهادة لله بالإيمان
ولم يقف الحواريّون عند هذا الحدّ في التَّعبير عن إيمانهم وإسلامهم، فهم يعرفون أنَّ الرسول بشرٌ يوحى إليه من الله، وأنَّ الله هو الّذي تُقدَّم إليه الشَّهادة للتَّعبير عن عمق الإخلاص له في توحيده في العقيدة والعبادة، وأنَّ الشهادة لدى الرسول لا تمثّل إلا الإعلان له بأنّه ليس وحده في السّاحة، وليس وحده في المعركة، وأنَّ صوته في نداء طلب النصرة لله لم يذهب في الفراغ كما تذهب الأصوات الضَّائعة في مجتمعات الجحود والكفران، فهناك المؤمنون الّذين يتقدَّمون معه في خطِّ الجهاد والنّصرة والدّعوة إلى الله، وهناك أصواتهم الهادرة الّتي لا تخاف من الإعلان عن مواقفها المضادَّة لقوّة الكفر.
إنّهم يشهدون للرّسول ويطلبون شهادته لهم، ولكنَّهم في نهاية المطاف يقفون بين يدي الله ليشهد لهم باعتقادهم أنَّه الإله الواحد الَّذي لا شريك له، وأنّهم آمنوا به وآمنوا برسوله من خلال الإيمان به وبرسالته، وأسلموا له على أساس خطِّ الإيمان الفاعل في الحياة، ليعبّروا له عن هذا الإيمان العميق المتفجّر في عمق الذّات، الممتدّ في وجدانهم الرّوحي والفكري، وفي خطواتهم العمليَّة الّتي تحوِّل الإيمان في مضمونه إلى حركةٍ واعية تتمثّل باتّباع الرّسول، وليستلهموا منه القوَّة على مواجهة التحدّيات، لئلاَّ يضعفوا أمام نقاط الضَّعف الّتي تكمن في داخل ذواتهم، وتظهر في خارج وجودهم، فإنَّ شعور الإنسان بحضور الله القويّ القادر الرَّحمن الرَّحيم في حياته، من خلال المناجاة الذاتيّة والابتهال الخاشع إلى الله بأسلوب الدّعاء الخالص الّذي يوحي بانقطاعه إليه وإقباله بكلِّه عليه، يمنح الإنسان المؤمن شعوراً بالقوّة والرّضا والطّمأنينة والقدرة الواثقة بربّها وبنفسها، في روحيَّة الإمداد الإلهيّ الّذي ينساب إلى مشاعره وأحاسيسه عندما يواجه المواقف الصَّعبة في حياته.
وهكذا وقفوا أمام ربّهم، ولكن لا ليشهدوه على إيمانهم، ولا ليعرّفوه طبيعة هذا الإيمان وجديّته، لأنَّ الله يعلم ما في الصّدور، بل ليسألوا الله أن يرفعهم إلى مستوى الدعاة إلى دينه، المجاهدين في سبيله، الّذين يشهدون على الناس في التزامهم خطّ الرّسالات الكبيرة في الحياة، فإنّ الله قد جعل للطليعة الواعية المجاهدة دور الشّاهد على الناس، كما جعل ذلك للرّسل في المقام الأوّل.
وهذا ما جاء في قوله تعالى على لسانهم: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}[7]، الَّذين يشهدون للمؤمنين الّذين استجابوا لله في توحيده، وللرّسول في دعوته، وحملوا على الكافرين الَّذين رفضوا الإيمان فكراً وحركةً ومنهجاً، فانفتحوا على كلِّ المشاكل المتناثرة في صعيد السّاحة العامّة، وأصبحوا يملكون القدرة على تقديم تقرير وافٍ شاملٍ عن حيثيّات الرّسالة وأتباعها وخصومها، واستجاب الله لهم ذلك الدّعاء، كما يوحي الجوّ الّذي تتحرّك فيه الآيات. والحمد لله ربِّ العالمين.
*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
[1] [آل عمران: 52].
[2] [الصّفّ: 14].
[3] [محمّد: 7].
[4] [آل عمران: 52].
[5] [الصّفّ: 14].
[6] [آل عمران: 52].
[7] [آل عمران: 53].