علاقة الحواريّين بعيسى(ع) والرّسالة

علاقة الحواريّين بعيسى(ع) والرّسالة

لقد انطلق الحواريّون ليعلنوا أنّهم أنصار الله بعد أن آمنوا بالنبيّ عيسى(ع) وبرسالته الَّتي حمّله الله مسؤوليَّة ما تضمّنها من الوحي الّذي أنزل عليه، وأكَّدوا ذلك في دعائهم لله، وتوسَّلوا إليه أن يكتبهم مع الشَّاهدين في شهادتهم بالالتزام بالإسلام، وفي شهادتهم على النَّاس من خلال موقعهم الجديد في حركة الدَّعوة، واستجابتهم لنصرة الرّسول في السَّير إلى الله، ومواجهة التحدّيات في خطِّ الرّسالة الَّذي يسير عليه أتباعه والمؤمنون به، واستجاب الله لهم ذلك الدّعاء، كما يوحي الجوّ الّذي تتحرَّك فيه الآيات.

معركة الحقّ

وخاض الحواريّون المعركة القاسية مع اليهود الّذين كفروا برسالة النّبيّ عيسى وخطَّطوا لقتله ولاضطهاد أتباعه وإبعادهم عن حركته الرساليّة، وربما عاشوا الكثير من الضّغوط الكبيرة في مجتمعهم، ولا سيَّما أنَّ الموقع الأعلى في السّلطة الحاكمة كان يتحرَّك في هذا الاتجاه، لأنَّ نجاح عيسى وأنصاره في دعوته، وإقبال النّاس عليه وإيمانهم به، وخصوصاً عندما كانوا يشاهدون المعجزات الَّتي أجراها الله على يديه مما لا يملكه البشر العادي، جعل ملك اليهود يخاف من امتداد أمره، ما قد يجعله يفقد ملكه ويسقط سلطته، تماماً كما هم المترفون الَّذين كانوا يتحدّون الأنبياء ويضطهدون المستضعفين من المؤمنين بهم، لأنَّ ذلك يعطّل دورهم في السَّيطرة على المجتمع، فيفقدون بذلك كلَّ الامتيازات الّتي يتميّزون بها.

وهكذا، بدأ الكافرون يخطِّطون لتنفيذ مؤامراتهم ضدَّ نبيّ المعجزة، ويدبّرون المكائد والحِيَل في عمليَّة مكرٍ خفيّ، وخطّةٍ سرّيّة، وحقدٍ دفين، ليطفئوا نور الله بمكرهم، حتى يتخفَّفوا من ضغط المشكلة الجديدة الصَّعبة الّتي تحاصرهم. ولكنَّ الله شاء غير ما يشاؤون، ودبّر غير ما يدبّرون، بقدرته الغيبيّة الّتي لا يدركها أحد من النّاس، لأنَّ الله ينصر رسله والمؤمنين به بحكمته، وبالوسائل الخفيّة الّتي يحركها في صعيد الواقع، انطلاقاً من إرادته الإلهيَّة بأن تنطلق رسالته من مواقع اضطهاد الكافرين لرسله، لأنَّ الاضطهاد يعطي الرّسالة قوّتها وثباتها وعمقها وامتدادها في مشاعر النّاس وأفكارهم، فهم قد يستسلمون لسلطة الكافرين في بعض المراحل الّتي لا تسمح لهم بالحركة الدّفاعيّة، وقد يعاونونهم في اضطهاد الرّسل وأتباعهم من المؤمنين بفعل التّرغيب والتّرهيب، وقد يخضعون لما يقدَّم إليهم من إغراءات السّلطة ليعلنوا الحرب على الرّسالة والرَّسول، ولكنَّهم في الوقت نفسه، يختزنون في منطقة اللاشعور عمق الاحترام لهؤلاء الدّعاة الّذين يتمرَّدون على العذاب، ويسخرون من الاضطهاد، ويفرحون بمشاعر المعاناة الروحيَّة الّتي يواجهونها بعين الله، وينتصرون على كلِّ نوازع الضّعف في نفوسهم، ويحوِّلون الحزن والألم الجسديّ الذي يصيبهم إلى فرحٍ كبير، ويصبرون على كلّ المعاناة، ليحصلوا على مواقع القرب من الله، وليمنحهم ـ بذلك ـ رضاه ورحمته وبشارته وصلاته على الصَّابرين.

ثم تبدأ البذور الرّساليَّة الّتي عمّقوها في أرض الوجدان النفسي للنّاس، فتؤثِّر في أعماقهم من خلال كلمات يسمعونها هنا ولفتةٍ موحيةٍ يشاهدونها هناك، ومواقف يواجهونها ويقفون معها في مواقع الرسالة. وتنمو تلك البذور بعد ذلك، لتتحوّل إلى عشبٍ إيمانيّ وخضرةٍ روحيّةٍ يانعةٍ، تزهو بها الرّوح، ويهتزّ لها الشّعور، ثم تكون المفاجأة؛ فهؤلاء الجلاّدون يتحوَّلون إلى مؤمنين خاشعين يطلبون من الله التّوبة، ومن الرّسول وأصحابه العفو، وهؤلاء المتفرّجون الّذين كانوا يصفِّقون للسّلطة الجائرة الكافرة عندما تضطهد الرّساليّين، يتحوَّلون إلى عاملين في ساحة الإيمان، ويتحوَّل التّصفيق في أيديهم إلى الجانب الآخر، فيصفِّقون لمواقف الجهاد وللمجاهدين في نهاية المطاف.

التّدبير الإلهيّ للرّسالات

وهكذا كان تدبير الله لحركة الرّسالات في تخطيطٍ بعيد المدى، وإذا دبّر الله أمراً بوسائله الخفيّة، فإنّه خير من يدبّر، لأنّه هو الّذي يملك زمام أمور الحياة والإنسان في كلِّ مصادرهما ومواردهما، وهذا ما جاء في قوله تعالى: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله وَالله خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[1]، فقد عملوا على إيجاد الوسائل للقبض على النبيّ عيسى(ع) وقتله، في تدبيرّ خفيّ يمنع أصحابه من الفرار به ومن إنقاذه، ولكنَّ الله أبطل ذلك بطريقة غيبيَّة، ما جعلهم يقتلون شبيهه، على رأي، أو يتخيّلون أنهم قتلوه، من دون أن يحدث ذلك، على رأيٍ آخر، كما أنَّ الله رفعه إليه بقدرته، فأبطل بذلك مكرهم بطريقة خفيّة.

وقد أشرنا في المفردات إلى أنَّ المكر لا ينحصر بالتحرّك الخفيّ السيّئ، كما هو المعروف بين النّاس، بل هو الطريقة الخفيَّة التي يراد منها تعطيل مبادرات الآخرين ممّا يخطِّطون له على مستوى الفكرة والواقع، سواء كان ذلك خيراً أو شرّاً. وفي ضوء ذلك، جاء وصف المكر السيِّئ في قوله تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}[2]، ما يوحي بأنَّ هناك مكراً سيّئاً ومكراً حسناً، ولهذا أمكن نسبة المكر السيّئ إلى النّاس الّذين دبّروا لعيسى المكائد في خططهم الشيطانيّة الخفيّة الحاقدة التي حاولوا فيها إسقاط رسالته وإبعاده عن ساحة التّغيير الرساليّ نحو الأفضل، وتهديد حياته بالقضاء عليه، كما أمكن إسناد المكر الحسن إلى الله سبحانه وتعالى، الذي خطَّط ودبَّر لحفظ حياة نبيِّه وصون دعوته وامتدادها بين النّاس، وإنجاح رسالته في استمرارها في مدى الزّمن وانتشارها في أكثر من مكان.

وإذا كان الله هو الّذي يدبّر مكره الحسن في جانب الخير للنَّاس، بتوفير الوسائل الكفيلة بهدايتهم وإرشادهم إلى الطّريق المستقيم، فهل يملك أحد من خلقه أن يقف أمامه بالطريقة المضادَّة أو أن يأمن مكره، وهو الّذي يملك الأمر كلّه، ويحيط به من كلِّ جهاته، ويحرّكه من خلال حكمته، وينفّذه بقوّة قدرته، بينما لا يملك الكافرون إلا القليل من وسائل القوّة التي مكّنهم منها ليوجّهوها في طريق الخير، فوجَّهوها بسوء اختيارهم في طريق الشرّ؟! ولكنّ النّتيجة ـ في نهاية المطاف ـ لا تكون إلا للحقّ والإيمان والخير، لأنّها إرادة الله التي لا تنفصل عن مراده، ولا بدَّ من أن تصل إلى غاياتها النّهائيَّة ولو بعد حين.

الفيض الإلهيّ على الحواريّين

وقد تحدّث الله في سورة المائدة، في سياق تعداد نعمه على النبيّ عيسى بن مريم، عن الحواريّين، بأنّه ـ سبحانه ـ هداهم وألهمهم بأن يؤمنوا برسالته من خلال الفيض الرّوحيّ الإيمانيّ الّذي أفاضه على عقولهم ومشاعرهم ووعيهم لأسرار المعجزة الإلهيَّة الّتي أكرم الله بها النّبيّ عيسى(ع)، وهذا ما تحدَّث الله عنه بقوله تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ}[3]، فقد آمنوا الإيمان المنفتح على عمق التَّسليم المطلق لله والنّصرة لرسالته، من خلال التَّدبير الإلهيّ في توفير أسباب الهداية لهم، بحيث ابتعدوا عن كلِّ ضغوط المجتمع الّذي يحيط بهم، وهذا أسلوب قرآنيّ في تأكيد "أنَّ الله يهدي من يشاء"، بمعنى أنّه يهيّئ له وسائل الهداية، وقد جاء في سورة الفاتحة قوله تعالى: {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}[4]. فالمطلوب هو أن يوفّقهم الله للاهتداء، من خلال الانفتاح الإيحائيّ والمنهج الاهتدائيّ والظروف الإيجابيَّة التي تتدخَّل في وعي عقولهم للمفردات الروحيَّة والدراسة الفكريّة لمواقع الهدى، وليس المطلوب أن يدخل الله الهداية في ذواتهم بشكلٍ خارجٍ عن الاختيار، لأنَّ الله أراد للإنسان أن ينطلق في إيمانه من موقع الإرادة الحرَّة والاختيار الذّاتي.

ثقافة الحواريّين العقيديَّة

ونلتقي بالحواريّين في آيةٍ أخرى، يسألون عيسى أن يطلب لهم من الله طلباً غريباً، لتكون استجابته تكريماً لهم، وموجباً لاطمئنانهم وإحساسهم بقربهم من الله ومحبّته لهم، وهو ما جاء في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُواْ الله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ}[5].

ولكنَّ هذا الطّلب من الحواريّين يثير أكثر من علامة استفهام؛ إذ كيف يسألون عيسى(ع) عن استطاعة الله إنزال المائدة عليهم من السّماء، فإنَّ ذلك قد يوحي بالشّكّ في قدرة الله المطلقة، وبإساءة الأدب في حديثهم الاستفهاميّ عن واقعيّة القدرة الإلهيّة التي آمنوا بها؟ وهل كان هذا الأسلوب إلا كأساليب الأمم السّابقة عليهم في اقتراحاتهم التعجيزيّة، مع ما فيها من استهانةٍ بمقام ربّهم وسخريةٍ وهزءٍ بأنبيائهم، وهو ما ذكره القرآن من اقتراحات المشركين أيضاً على النبيّ محمَّد(ص) واليهود المعاصرين له بطريقة أكثر قبحاً وأشنع أسلوباً، وخصوصاً أنَّ الحواريين كانوا قد شاهدوا المعجزات الّتي أجراها الله على يدي عيسى(ع)، ورأوا قدرته الرساليّة على تحويل تمثال الطّير إلى طيرٍ حقيقيّ عندما ينفخ فيه بإذن الله، وإبرائه الأكمه والأبرص، وإحيائه الموتى، وإخباره إيّاهم بالغيب في خفايا حياتهم فيما يأكلون ويدَّخرون في بيوتهم، ما يدلّ على القدرة الإعجازيّة المطلقة لله، وإكرام عيسى بهذه القدرة لإثبات نبوّته؟ أو أنّ المسألة كانت ناشئةً من غفلتهم عن إيمانهم التفصيليّ بصفات الله وبرسولية عيسى(ع)، مما قد يحدث لبعض الناس من خواطر الشّكّ في منطقة اللاشعور الّتي تفصلهم عن مرحلة اليقين، فتثير في أذهانهم بعض الأسئلة، كما لو كانوا قد فقدوا ذاكرتهم في الجواب عنها مما رأوه أو سمعوه؟ أو أنَّ هذا الطلب الخاصّ لم يكن قد تحدّث عيسى عن مضمونه في قدراته التي أكرمه الله بها، لأنَّ مسألة إنزال مائدة من السّماء على بعض أتباع النبيّ الّذين آمنوا به، ليست من المسائل المألوفة في الأفعال الصَّادرة عن الله، ولم تحدث حالة مماثلة سابقة مشابهة لها مما أفاضه الله على رسله وعلى المؤمنين به، فظنّوا أنَّ الله لم يفعل ذلك، لأنّه لا يستطيع ذلك، لأنّهم لا يملكون ثقافةً عقيديّةً في معنى القدرة المطلقة لله، وفي أنّه قادر على كلِّ شيء، وأنّه إذا أراد شيئاً فيكفي في تحقّقه أن يقول له كن فيكون؟! إنّها علامات استفهام تنتصب أمامنا من خلال هذا السؤال الغريب.

وقد حاول المفسِّرون الإجابة عن ذلك، فقال بعضهم، كما ورد في قراءة الكسائي، وهو "من القرّاء السبعة": إنّ الآية لم تنـزل ـ كما هو المشهور ـ بقوله: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ}، بل "هل تستطيع ربّك"، بحيث يكون الخطاب موجَّهاً إلى عيسى، وتكون كلمة (رَبُّكَ) منصوبةً لا مرفوعةً، أي: "هل تستطيع أن تطلب من ربّك". ولعلَّ هذا التّفسير ينطلق من الأسلوب المتعارف في طلب بعض الأشياء، ممّا يعتقد الطّالب أنَّ الشّخص القادر على فعلٍ ما، لا يرفض تحقيق الطلب من خلال لطفه وكرمه وحاجة الطالب إليه، كما يقول النّاس بعضهم لبعض: هل تستطيع أن تفعل ذلك؟ ومراده أنَّك تستطيع أن تفعله فافعله، وبذلك قد يطلق هذا الكلام في المورد الّذي يثق فيه الإنسان بقدرته على القيام بما طلب منه، وقد يطلق في المورد الّذي لا يثق فيه بقدرته.

وعلى هذا الأساس، يمكننا أن نتمثَّل في حوارهم الّذي أداروه مع عيسى(ع)، أنّهم يقولون له: "هل يستطيع ربّك أن يُنـزل علينا مائدةً"، فإذا كان يستطيع ذلك، كما نعتقد، وكما تعتقد أنت من خلال رسالتك، فاطلب منه ذلك، لأنّك تستطيع أن تطلب منه ما يستطاع. وربّما كانت الفكرة التي تدور حولها الاستطاعة، هي كون الشّيء واجداً لشروطه الذاتيّة، من توفّر الحكمة فيه، وأن تكون استجابته مرتبطةً بمصلحة الطّالبين له، لأنَّ الله لا يفعل شيئاً لا حكمة ولا مصلحة فيه للعباد.

ولكنَّ عيسى(ع) يطلب منهم أن يتَّقوا الله، وأن لا يتحدَّثوا بهذه الطّريقة التي لا تنسجم مع الإيمان بالله الّذي هو على كلّ شيء قدير، وهذا هو قوله تعالى: {قَالَ اتَّقُواْ الله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[6]، وربما كان في هذا الأمر بالتّقوى دلالة على أنَّ سؤالهم عن استطاعة الله إنزال المائدة من السَّماء كان على نحو الحقيقة، ما دفع عيسى إلى بيان أنّه مخالف للتقوى وللإيمان، وخصوصاً أنَّ قراءة الكسائي لا تتناسب مع بلاغة القرآن في تركيب الجملة، لو فرضنا أنّها صحيحة من ناحية القاعدة العربيَّة. وليس من المستبعد أن يكون الوضع الّذي أحاط بهم هزّ توازن إيمانهم في تلك المرحلة، كما قد نستوحي ذلك من الآية التّالية، والله أعلم.

والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشام الأسبوعيَّة، فكر وثقافة


[1]  [آل عمران: 54].

[2]  [فاطر: 43].

[3]  [المائدة: 111].

[4]  [الفاتحة: 6، 7].

[5]  [المائدة: 112، 113].

[6]  [المائدة: 112].

لقد انطلق الحواريّون ليعلنوا أنّهم أنصار الله بعد أن آمنوا بالنبيّ عيسى(ع) وبرسالته الَّتي حمّله الله مسؤوليَّة ما تضمّنها من الوحي الّذي أنزل عليه، وأكَّدوا ذلك في دعائهم لله، وتوسَّلوا إليه أن يكتبهم مع الشَّاهدين في شهادتهم بالالتزام بالإسلام، وفي شهادتهم على النَّاس من خلال موقعهم الجديد في حركة الدَّعوة، واستجابتهم لنصرة الرّسول في السَّير إلى الله، ومواجهة التحدّيات في خطِّ الرّسالة الَّذي يسير عليه أتباعه والمؤمنون به، واستجاب الله لهم ذلك الدّعاء، كما يوحي الجوّ الّذي تتحرَّك فيه الآيات.

معركة الحقّ

وخاض الحواريّون المعركة القاسية مع اليهود الّذين كفروا برسالة النّبيّ عيسى وخطَّطوا لقتله ولاضطهاد أتباعه وإبعادهم عن حركته الرساليّة، وربما عاشوا الكثير من الضّغوط الكبيرة في مجتمعهم، ولا سيَّما أنَّ الموقع الأعلى في السّلطة الحاكمة كان يتحرَّك في هذا الاتجاه، لأنَّ نجاح عيسى وأنصاره في دعوته، وإقبال النّاس عليه وإيمانهم به، وخصوصاً عندما كانوا يشاهدون المعجزات الَّتي أجراها الله على يديه مما لا يملكه البشر العادي، جعل ملك اليهود يخاف من امتداد أمره، ما قد يجعله يفقد ملكه ويسقط سلطته، تماماً كما هم المترفون الَّذين كانوا يتحدّون الأنبياء ويضطهدون المستضعفين من المؤمنين بهم، لأنَّ ذلك يعطّل دورهم في السَّيطرة على المجتمع، فيفقدون بذلك كلَّ الامتيازات الّتي يتميّزون بها.

وهكذا، بدأ الكافرون يخطِّطون لتنفيذ مؤامراتهم ضدَّ نبيّ المعجزة، ويدبّرون المكائد والحِيَل في عمليَّة مكرٍ خفيّ، وخطّةٍ سرّيّة، وحقدٍ دفين، ليطفئوا نور الله بمكرهم، حتى يتخفَّفوا من ضغط المشكلة الجديدة الصَّعبة الّتي تحاصرهم. ولكنَّ الله شاء غير ما يشاؤون، ودبّر غير ما يدبّرون، بقدرته الغيبيّة الّتي لا يدركها أحد من النّاس، لأنَّ الله ينصر رسله والمؤمنين به بحكمته، وبالوسائل الخفيّة الّتي يحركها في صعيد الواقع، انطلاقاً من إرادته الإلهيَّة بأن تنطلق رسالته من مواقع اضطهاد الكافرين لرسله، لأنَّ الاضطهاد يعطي الرّسالة قوّتها وثباتها وعمقها وامتدادها في مشاعر النّاس وأفكارهم، فهم قد يستسلمون لسلطة الكافرين في بعض المراحل الّتي لا تسمح لهم بالحركة الدّفاعيّة، وقد يعاونونهم في اضطهاد الرّسل وأتباعهم من المؤمنين بفعل التّرغيب والتّرهيب، وقد يخضعون لما يقدَّم إليهم من إغراءات السّلطة ليعلنوا الحرب على الرّسالة والرَّسول، ولكنَّهم في الوقت نفسه، يختزنون في منطقة اللاشعور عمق الاحترام لهؤلاء الدّعاة الّذين يتمرَّدون على العذاب، ويسخرون من الاضطهاد، ويفرحون بمشاعر المعاناة الروحيَّة الّتي يواجهونها بعين الله، وينتصرون على كلِّ نوازع الضّعف في نفوسهم، ويحوِّلون الحزن والألم الجسديّ الذي يصيبهم إلى فرحٍ كبير، ويصبرون على كلّ المعاناة، ليحصلوا على مواقع القرب من الله، وليمنحهم ـ بذلك ـ رضاه ورحمته وبشارته وصلاته على الصَّابرين.

ثم تبدأ البذور الرّساليَّة الّتي عمّقوها في أرض الوجدان النفسي للنّاس، فتؤثِّر في أعماقهم من خلال كلمات يسمعونها هنا ولفتةٍ موحيةٍ يشاهدونها هناك، ومواقف يواجهونها ويقفون معها في مواقع الرسالة. وتنمو تلك البذور بعد ذلك، لتتحوّل إلى عشبٍ إيمانيّ وخضرةٍ روحيّةٍ يانعةٍ، تزهو بها الرّوح، ويهتزّ لها الشّعور، ثم تكون المفاجأة؛ فهؤلاء الجلاّدون يتحوَّلون إلى مؤمنين خاشعين يطلبون من الله التّوبة، ومن الرّسول وأصحابه العفو، وهؤلاء المتفرّجون الّذين كانوا يصفِّقون للسّلطة الجائرة الكافرة عندما تضطهد الرّساليّين، يتحوَّلون إلى عاملين في ساحة الإيمان، ويتحوَّل التّصفيق في أيديهم إلى الجانب الآخر، فيصفِّقون لمواقف الجهاد وللمجاهدين في نهاية المطاف.

التّدبير الإلهيّ للرّسالات

وهكذا كان تدبير الله لحركة الرّسالات في تخطيطٍ بعيد المدى، وإذا دبّر الله أمراً بوسائله الخفيّة، فإنّه خير من يدبّر، لأنّه هو الّذي يملك زمام أمور الحياة والإنسان في كلِّ مصادرهما ومواردهما، وهذا ما جاء في قوله تعالى: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله وَالله خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[1]، فقد عملوا على إيجاد الوسائل للقبض على النبيّ عيسى(ع) وقتله، في تدبيرّ خفيّ يمنع أصحابه من الفرار به ومن إنقاذه، ولكنَّ الله أبطل ذلك بطريقة غيبيَّة، ما جعلهم يقتلون شبيهه، على رأي، أو يتخيّلون أنهم قتلوه، من دون أن يحدث ذلك، على رأيٍ آخر، كما أنَّ الله رفعه إليه بقدرته، فأبطل بذلك مكرهم بطريقة خفيّة.

وقد أشرنا في المفردات إلى أنَّ المكر لا ينحصر بالتحرّك الخفيّ السيّئ، كما هو المعروف بين النّاس، بل هو الطريقة الخفيَّة التي يراد منها تعطيل مبادرات الآخرين ممّا يخطِّطون له على مستوى الفكرة والواقع، سواء كان ذلك خيراً أو شرّاً. وفي ضوء ذلك، جاء وصف المكر السيِّئ في قوله تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}[2]، ما يوحي بأنَّ هناك مكراً سيّئاً ومكراً حسناً، ولهذا أمكن نسبة المكر السيّئ إلى النّاس الّذين دبّروا لعيسى المكائد في خططهم الشيطانيّة الخفيّة الحاقدة التي حاولوا فيها إسقاط رسالته وإبعاده عن ساحة التّغيير الرساليّ نحو الأفضل، وتهديد حياته بالقضاء عليه، كما أمكن إسناد المكر الحسن إلى الله سبحانه وتعالى، الذي خطَّط ودبَّر لحفظ حياة نبيِّه وصون دعوته وامتدادها بين النّاس، وإنجاح رسالته في استمرارها في مدى الزّمن وانتشارها في أكثر من مكان.

وإذا كان الله هو الّذي يدبّر مكره الحسن في جانب الخير للنَّاس، بتوفير الوسائل الكفيلة بهدايتهم وإرشادهم إلى الطّريق المستقيم، فهل يملك أحد من خلقه أن يقف أمامه بالطريقة المضادَّة أو أن يأمن مكره، وهو الّذي يملك الأمر كلّه، ويحيط به من كلِّ جهاته، ويحرّكه من خلال حكمته، وينفّذه بقوّة قدرته، بينما لا يملك الكافرون إلا القليل من وسائل القوّة التي مكّنهم منها ليوجّهوها في طريق الخير، فوجَّهوها بسوء اختيارهم في طريق الشرّ؟! ولكنّ النّتيجة ـ في نهاية المطاف ـ لا تكون إلا للحقّ والإيمان والخير، لأنّها إرادة الله التي لا تنفصل عن مراده، ولا بدَّ من أن تصل إلى غاياتها النّهائيَّة ولو بعد حين.

الفيض الإلهيّ على الحواريّين

وقد تحدّث الله في سورة المائدة، في سياق تعداد نعمه على النبيّ عيسى بن مريم، عن الحواريّين، بأنّه ـ سبحانه ـ هداهم وألهمهم بأن يؤمنوا برسالته من خلال الفيض الرّوحيّ الإيمانيّ الّذي أفاضه على عقولهم ومشاعرهم ووعيهم لأسرار المعجزة الإلهيَّة الّتي أكرم الله بها النّبيّ عيسى(ع)، وهذا ما تحدَّث الله عنه بقوله تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ}[3]، فقد آمنوا الإيمان المنفتح على عمق التَّسليم المطلق لله والنّصرة لرسالته، من خلال التَّدبير الإلهيّ في توفير أسباب الهداية لهم، بحيث ابتعدوا عن كلِّ ضغوط المجتمع الّذي يحيط بهم، وهذا أسلوب قرآنيّ في تأكيد "أنَّ الله يهدي من يشاء"، بمعنى أنّه يهيّئ له وسائل الهداية، وقد جاء في سورة الفاتحة قوله تعالى: {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}[4]. فالمطلوب هو أن يوفّقهم الله للاهتداء، من خلال الانفتاح الإيحائيّ والمنهج الاهتدائيّ والظروف الإيجابيَّة التي تتدخَّل في وعي عقولهم للمفردات الروحيَّة والدراسة الفكريّة لمواقع الهدى، وليس المطلوب أن يدخل الله الهداية في ذواتهم بشكلٍ خارجٍ عن الاختيار، لأنَّ الله أراد للإنسان أن ينطلق في إيمانه من موقع الإرادة الحرَّة والاختيار الذّاتي.

ثقافة الحواريّين العقيديَّة

ونلتقي بالحواريّين في آيةٍ أخرى، يسألون عيسى أن يطلب لهم من الله طلباً غريباً، لتكون استجابته تكريماً لهم، وموجباً لاطمئنانهم وإحساسهم بقربهم من الله ومحبّته لهم، وهو ما جاء في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُواْ الله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ}[5].

ولكنَّ هذا الطّلب من الحواريّين يثير أكثر من علامة استفهام؛ إذ كيف يسألون عيسى(ع) عن استطاعة الله إنزال المائدة عليهم من السّماء، فإنَّ ذلك قد يوحي بالشّكّ في قدرة الله المطلقة، وبإساءة الأدب في حديثهم الاستفهاميّ عن واقعيّة القدرة الإلهيّة التي آمنوا بها؟ وهل كان هذا الأسلوب إلا كأساليب الأمم السّابقة عليهم في اقتراحاتهم التعجيزيّة، مع ما فيها من استهانةٍ بمقام ربّهم وسخريةٍ وهزءٍ بأنبيائهم، وهو ما ذكره القرآن من اقتراحات المشركين أيضاً على النبيّ محمَّد(ص) واليهود المعاصرين له بطريقة أكثر قبحاً وأشنع أسلوباً، وخصوصاً أنَّ الحواريين كانوا قد شاهدوا المعجزات الّتي أجراها الله على يدي عيسى(ع)، ورأوا قدرته الرساليّة على تحويل تمثال الطّير إلى طيرٍ حقيقيّ عندما ينفخ فيه بإذن الله، وإبرائه الأكمه والأبرص، وإحيائه الموتى، وإخباره إيّاهم بالغيب في خفايا حياتهم فيما يأكلون ويدَّخرون في بيوتهم، ما يدلّ على القدرة الإعجازيّة المطلقة لله، وإكرام عيسى بهذه القدرة لإثبات نبوّته؟ أو أنّ المسألة كانت ناشئةً من غفلتهم عن إيمانهم التفصيليّ بصفات الله وبرسولية عيسى(ع)، مما قد يحدث لبعض الناس من خواطر الشّكّ في منطقة اللاشعور الّتي تفصلهم عن مرحلة اليقين، فتثير في أذهانهم بعض الأسئلة، كما لو كانوا قد فقدوا ذاكرتهم في الجواب عنها مما رأوه أو سمعوه؟ أو أنَّ هذا الطلب الخاصّ لم يكن قد تحدّث عيسى عن مضمونه في قدراته التي أكرمه الله بها، لأنَّ مسألة إنزال مائدة من السّماء على بعض أتباع النبيّ الّذين آمنوا به، ليست من المسائل المألوفة في الأفعال الصَّادرة عن الله، ولم تحدث حالة مماثلة سابقة مشابهة لها مما أفاضه الله على رسله وعلى المؤمنين به، فظنّوا أنَّ الله لم يفعل ذلك، لأنّه لا يستطيع ذلك، لأنّهم لا يملكون ثقافةً عقيديّةً في معنى القدرة المطلقة لله، وفي أنّه قادر على كلِّ شيء، وأنّه إذا أراد شيئاً فيكفي في تحقّقه أن يقول له كن فيكون؟! إنّها علامات استفهام تنتصب أمامنا من خلال هذا السؤال الغريب.

وقد حاول المفسِّرون الإجابة عن ذلك، فقال بعضهم، كما ورد في قراءة الكسائي، وهو "من القرّاء السبعة": إنّ الآية لم تنـزل ـ كما هو المشهور ـ بقوله: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ}، بل "هل تستطيع ربّك"، بحيث يكون الخطاب موجَّهاً إلى عيسى، وتكون كلمة (رَبُّكَ) منصوبةً لا مرفوعةً، أي: "هل تستطيع أن تطلب من ربّك". ولعلَّ هذا التّفسير ينطلق من الأسلوب المتعارف في طلب بعض الأشياء، ممّا يعتقد الطّالب أنَّ الشّخص القادر على فعلٍ ما، لا يرفض تحقيق الطلب من خلال لطفه وكرمه وحاجة الطالب إليه، كما يقول النّاس بعضهم لبعض: هل تستطيع أن تفعل ذلك؟ ومراده أنَّك تستطيع أن تفعله فافعله، وبذلك قد يطلق هذا الكلام في المورد الّذي يثق فيه الإنسان بقدرته على القيام بما طلب منه، وقد يطلق في المورد الّذي لا يثق فيه بقدرته.

وعلى هذا الأساس، يمكننا أن نتمثَّل في حوارهم الّذي أداروه مع عيسى(ع)، أنّهم يقولون له: "هل يستطيع ربّك أن يُنـزل علينا مائدةً"، فإذا كان يستطيع ذلك، كما نعتقد، وكما تعتقد أنت من خلال رسالتك، فاطلب منه ذلك، لأنّك تستطيع أن تطلب منه ما يستطاع. وربّما كانت الفكرة التي تدور حولها الاستطاعة، هي كون الشّيء واجداً لشروطه الذاتيّة، من توفّر الحكمة فيه، وأن تكون استجابته مرتبطةً بمصلحة الطّالبين له، لأنَّ الله لا يفعل شيئاً لا حكمة ولا مصلحة فيه للعباد.

ولكنَّ عيسى(ع) يطلب منهم أن يتَّقوا الله، وأن لا يتحدَّثوا بهذه الطّريقة التي لا تنسجم مع الإيمان بالله الّذي هو على كلّ شيء قدير، وهذا هو قوله تعالى: {قَالَ اتَّقُواْ الله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[6]، وربما كان في هذا الأمر بالتّقوى دلالة على أنَّ سؤالهم عن استطاعة الله إنزال المائدة من السَّماء كان على نحو الحقيقة، ما دفع عيسى إلى بيان أنّه مخالف للتقوى وللإيمان، وخصوصاً أنَّ قراءة الكسائي لا تتناسب مع بلاغة القرآن في تركيب الجملة، لو فرضنا أنّها صحيحة من ناحية القاعدة العربيَّة. وليس من المستبعد أن يكون الوضع الّذي أحاط بهم هزّ توازن إيمانهم في تلك المرحلة، كما قد نستوحي ذلك من الآية التّالية، والله أعلم.

والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشام الأسبوعيَّة، فكر وثقافة


[1]  [آل عمران: 54].

[2]  [فاطر: 43].

[3]  [المائدة: 111].

[4]  [الفاتحة: 6، 7].

[5]  [المائدة: 112، 113].

[6]  [المائدة: 112].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية