كيف كانت ولادة مريم لابنها عيسى(ع) بعد أن تلقّت من الملائكة البشارة بهذا الوليد الذي مثَّل المعجزة الخارقة في عمليّة إيجاده وحمل أمّه به؛ هذا الحمل الَّذي جاء خارجاً عن قانون التّناسل الطّبيعيّ الّذي يحدث نتيجة التقاء الذّكر بالأنثى، بما يقذفه الذّكر في رحم الأنثى من نطفة تتلقَّفها البويضة لتتلقَّح بها، ليكون الولد نتيجةً طبيعيّةً لذلك؟ لقد تلقَّت مريم البشارة الإلهيَّة الّتي حملتها إليها الملائكة بما يشبه الغرابة لهذا الموضوع غير المألوف، لكنَّها تقبّلت ذلك عندما عرفت أنَّ المسألة مرتبطة بقدرة الله الَّذي أوجد القانون الطّبيعيّ في نظام التّوالد الإنسانيّ والحيوانيّ، فلا يعجزه أن يبدع قانوناً محدوداً لولادة عجيبة في حالةٍ خاصَّة، لأنَّ إرادته هي سرّ وجود الأشياء، من دون حاجةٍ إلى أيّ سببٍ عاديّ مما ألِفَه الناس في حياتهم، {
إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}
[1].
العناية الإلهيّة بمريم(ع)
وهكذا بدأت قصّة السيّدة العذراء مريم، الّتي كانت موضع كرامة الله، الّذي تقبَّلها بقبول حسن، وأنبتها نباتاً حسناً، وكفَّلها زكريا الّذي كان يدخل عليها في محرابها الّذي تتعبَّد الله فيه، فيرى عندها طعاماً شهيّاً، كما جاء في قوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا ـ فنحن لم نقدِّم إليك هذا الغذاء الذي تتغذّين به ـ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله ـ الذي أفاض عليّ هذا الرزق بطريقة غيبيّة ـإنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[2]، من خلال كرمه وما يجود به من رزق على عباده.
وبدأ القرآن يتحدّث عن تفاصيل حركة هذه السيّدة الطّاهرة، من خلال الحادثة المعجزة التي حدثت لها، وقد جعلها عنوان القصّة، باعتبار أنَّ حركة المعجزة انطلقت منها ومعها، ولأنها حملت أكثر الملامح اتّصالاً بها من حيث المضمون والموقف، ومن حيث الإيحاءات الروحيَّة في مسألة تقديم النَّموذج الأمثل للمرأة من خلال هذه الإنسانة المؤمنة الّتي تحوّل ضعفها الأنثويّ في نهاية المطاف إلى عنصر قوّة وثبات، بفضل الإيمان والرّعاية الإلهيّة.
وهكذا، أراد الله أن يخلِّد تجربة هذه السيِّدة العذراء العابدة لربّها، المنقطعة إليه، المنتظرة لطفه، والمنفتحة على رحمته، والرّاغبة في الحصول على رضوانه، من خلال عبادتها الخالصة المخلصة له، والّتي عاشت في امتداد خدمتها له عمق إحساسها بالإيمان به، وطهارة فكرها، ونقاوة روحها، وصفاء شعورها، لما يتفايض من أجواء محراب العبادة على كيان الإنسان المؤمن المتعبّد المبتهل إلى ربّه من فيض الطهارة.
اعتزال مريم للعبادة
وها هي تبرز في موقفٍ جديدٍ لم تختره بإرادتها، ولكنَّها تحركت به واتّجهت نحوه بطريقة عفويّة لا شعوريّة، في إحساسٍ خفيٍّ وشعورٍ عميقٍ بما ينتظرها في المستقبل القريب، كما لو كانت تستوحي شيئاً من الغيب المنفتح على حياتها، فتراه بما يشبه حالة الشّهود بعين البصيرة لا البصر، ما يجعلها تفكّر في أن تخلو بنفسها لعبادة ربها، في وحدة روحيّة عميقة الجذور في الذات.
وهكذا بدأت القصَّة الّتي أراد الله لنبيِّه محمد(ص) أن يذكرها، ليأخذ النّاس منها العبرة، وليعرفوا قدرة الله في عظيم لطفه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً}[3]، فقد اعتزلتهم وابتعدت عن مواقعهم السّكنيّة، حتى لا تلتقي بأحدٍ منهم، ولا ينتبه إليها أيّ قريبٍ من أسرتها، لئلا يشغلها عن عبادة الله وعن تأمّلاتها الرّوحيّة وأفكارها المعرفيّة، وهو ما جعلها لا تقوم بأيِّ نشاطٍ عائليّ ممّا يقوم به أفراد العائلة في شؤونهم الخاصَّة.
{فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً} ساتراً يحجبها عن النَّاس، بحيث لا تبصرها عيونهم. ولم تصرِّح الآية بالهدف من اتخاذ هذا الحجاب، وما إذا كان من أجل التفرّغ لمناجاة ربها بحرية أكثر، لتستطيع بهذه العزلة المكانيّة المستورة عن الأعين أن تقوم بفروض العبادة التي تنفتح من خلالها على الله...
روح الله يبشّر مريم(ع)
وكانت المفاجأة التي هزَّت كيانها بعنف، فها هي في عزلتها الرّوحيّة، تجد أمامها شابّاً لم يعهد لها أن رأته أو عرفته من قبل، وربّما لم تكن ملامحه شبيهةً بالملامح التي تتمثَّلها في أهلها أو في مجتمعها أو في معارفها، وربما أحسَّت بالخطر منه على نفسها في كونها وحيدةً ولا تملك أحداً يدافع عنها، وهي العفيفة المتميّزة بالطَّهارة الروحيّة الإيمانيّة، التي كانت في المستوى الأعلى من القيمة الأخلاقيّة الّتي لا تنفتح على شيء من السّوء أو الانحراف الجسديّ، مما قد يحدث في علاقات الرّجال بالنّساء في عدوانهم عليهنّ بطريقةٍ غير شرعيّة أو أخلاقيّة، من خلال الاغتصاب الجنسيّ.
ولكنَّ الله يطرح المسألة بعيداً عمَّا شعرت به من خطرٍ أو سوء: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً}[4]. وقد ذكر في بعض الرّوايات أنّه جبرئيل، وفي بعضها أنّه خلق عظيم من الملائكة المقرَّبين، ليحدِّثها عن المعجزة وعن الآية الكبرى الّتي أراد الله أن يُعدّها لها، مما أراد لها أن تنفتح عليه من خلال هذا البشر السويّ الذي أطلّ عليها بشكلٍ غير مألوف، إذ لم يدخل عليها من الباب الّذي تدخل منه إلى مكانها، وخصوصاً أنه بدا بشراً كأيِّ بشرٍ آخر في شكله وملامحه المميَّزة، فارتعدت فرائصها، وانتفض الطّهر في روحها، وتفجّر في أعماقها، كما لو كان قوّةً تدافع بها عن نفسها، لتحمي أخلاقيّتها الإنسانيّة الروحيّة، ولتستعين به على هذا الطّارق الغريب الجديد الّذي اقتحم عليها وحدتها، ولم يكن لديها قريب أو بعيد تستنجد به ليدافع عنها، فهرعت إلى الله الّذي يملك القوَّة جميعاً لتستجير به، وتستعين بقدرته، وتستنجد برحمته، فهو الّذي منحها هذا التمسّك بالحياة الطّاهرة العفيفة الّتي تتمرَّد على كلّ رجس، وتنأى عن كلّ قذارة أخلاقيّة، وهو القادر على أن يحمي فيها هذا الطّهر الّذي أفاضه على روحها، والّذي اختارت أن تعيش كلّ حياتها في دائرته وخطّه العام.
وقد عبَّرت عن ذلك بالصَّرخة القويّة: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً}[5]، فهو وحده الّذي يدافع عن الّذين آمنوا ـ وأنا منهم ـ وهو الّذي يجيرني منك إذا اجتاح شعورك خاطر الشّيطان في غريزتك المنحرفة، لأنّه الرّحمن الّذي يفيض بالرحمة على عباده الذين يطلبون الرّحمة منه في الشّدائد، فيشعر الإنسان مع هذا الفيض الربوبيّ بالسّكينة والطّمأنينة عندما يلجأ إليه. ثم ما يدريني من أنت، وما هي التزاماتك الإيمانيّة، وقيمك الأخلاقيّة؛ فهل أنت من الأشقياء الّذين يعتدون على أعراض النّاس، أو أنت من الأتقياء الّذين يحترمون كراماتهم؟! فإذا كنت ممن يلتزم خطَّ التّقوى، ويخاف الله في نفسه وفي النّاس، فإنّك لن تعرض لي بسوء، وسوف تبتعد بك التّقوى عن الخضوع للشّيطان ووساوسه وخطواته الخبيثة، وهذا ما جعله الله من ضمانةٍ للنّاس في حركة المتّقين.
وانتظرت ردَّ الفعل من هذا الشَّخص المجهول، في انتظار مشوبٍ بالقلق والحيرة، وربما تساءلت في داخل ذاتها: هل يستجيب لها بما يلهمه الله من التَّقوى والهداية بعد استعاذتها به، وبما يمنحها الله من خلاله، من عطفٍ ورحمةٍ ورعاية؟
وجاءت المفاجأة الأعظم بشكلٍ أكثر عنفاً وغرابةً، ولكن بطريقة أخرى: {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً}[6]، فلست من البشر العاديّين الّذين يتحركون بغرائزهم من موقع البشريّة الذاتيّة ليخيفوا الناس في أنفسهم وأعراضهم وكراماتهم، بل أنا من الملائكة، وقد صوّرني الله بصورة البشر بقدرته، وقد اختصّنا الله بكرامته، كما جاء في كتابه: {عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}[7]. وقد أمرني الله أن أتحدّث إليك بما قضاه وقدّره وأراده في أن يرزقك غلاماً زكياً، وأن يجعله آيةً للناس ورحمةً منه، وليس ذلك بالتعلّم والممارسة، بل بتوفيقٍ من الله، كما هو حال الأنبياء والرسل.
وهنا فزعت مريم من هذه الهبة العجيبة فزعاً شديداً يوحي بالرّعب وينذر بالهول؛ فهل هذا الشّخص جادٌّ في كلامه وصادق في ادّعائه أنّه رسولٌ من الله أو هو كاذب؟ ومن هي حتى يرسل الله إليها رسولاً، فذلك هو شأن الأنبياء، وهي ليست منهم، ولا هي في ذلك الموقع؟! وما يدريها، فقد تكون حيلةً منه لخداعها والتّغرير بها واجتذابها إليه لقضاء شهوته، بالإيحاء إليها بهبة هذا الغلام الزكيّ برسالةٍ من الله، لتتقبَّل الموقف الّذي يريدها أن تقف عنده أو يوصلها إليه، في عمليّة استغلالٍ خاصٍّ لشعورها، من خلال الإيحاء بالقداسة؟ ثم على ماذا يعتمد عندما يعبّر عن مهمَّته بأنّه يريد أن يهب لها غلاماً زكياً؟ وكيف يحدث ذلك للفتاة العذراء الّتي لم يمسسها بشر، وهي لا تزال في حالة العذريّة الطّاهرة، من دون أن تكون على أيّة علاقةٍ بأيِّ رجل؟
وهتفت بكلِّ ذعر: {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ـ فلم أتزوَّج من قبل لأنجب غلاماً من علاقتي الزوجيّة كبقيّة النّساء المتزوّجات ـ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً}[8]، كالنّساء الزّانيات الفاجرات المنحرفات أخلاقيّاً، اللاتي يتاجرن بأجسادهنّ ويتَّصلن بالرّجال في علاقات غير شرعيّة خارج نطاق الزواج.
ولكنّه، وهو الرّسول الملائكيّ الّذي أراد أن يمنحها البشارة الإلهيّة، ويلقي في نفسها السكينة الروحيّة، قطع لها الحديث السّلبيّ في هذا التصوّر المزعج، وأوحى إليها بأنّها تتحدّث عمّا هو مألوف لدى النّاس في مسألة ولادة المرأة في نطاق علاقة الذّكر بالأنثى، ولكن ما أرسلني الله به يتجاوز المألوف، وهو سرٌّ لا يحيط به النّاس، فليس الغلام الّذي سوف تنجبينه وليداً يولد على طريقة التّوالد الطبيعي، بل هو معجزةٌ إلهيّة أكرمك الله بها، فجعلك موضعاً لكرامته، ولا بدَّ من أن تنظري إليها من هذا الجانب، بوصفها تجلّياً للقدرة الإلهيّة الّتي تتجاوز الأسباب المعتادة، لأنّه هو مسبِّب الأسباب وخالقها، وهو الّذي ينظِّم العلاقة بين السّبب والمسبّب، تماماً كما هي قصّة خلق آدم الّذي خلقه الله من طين، ثم نفخ فيه من روحه، ثم قال له كن فكان.
وهكذا بلَّغها كلام الله لتزداد ثقةً، ولتطرد عن نفسها كلَّ الهواجس، {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ ـ الذي أحمل رسالته الموجَّهة إليك، فيما يعبّر عنه قول الله من إرادته التكوينيّة الّتي يقول من خلالها للشّيء كن فيكون ـ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ـ فلا يعجزه شيء في أصل وجوده وفي خصوصيّاته وصفاته، لأنّه القادر الّذي لا حدَّ لقدرته، ولا يثقله شيء، مهما كان عظيماً ـ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ ـ ليجدوا فيه سرَّ القدرة الخالقة، وليعتبروا به في معرفتهم بالله وإدراكهم عظمته، من خلال إبداعه الخلق ـ وَرَحْمَةً مِّنَّا ـ لأنّه سوف يهديهم إلى الحقّ، ويعلِّمهم، ويزكّيهم، ويرفع مستواهم إلى الدّرجات الرّفيعة في الوعي والحكمة... إنّها الإرادة الإلهيَّة الحاسمة التي لا مجال فيها للشكّ ولا للتردّد ولا للتّراجع ـ وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً}[9]، ممّا قضاه الله وقدَّره بإرادته، وعليك أن تتقبَّليه بإيمانك الذي يخضع لله فيما يقدِّره لعباده ويكلِّفهم به، ولا مجال للمناقشة والاعتراض، بل لا بدَّ من الخضوع الكليّ لله.
وهكذا اقتنعت مريم بهذه الرّسالة وهذا الرّسول، واطمأنّت إلى ما أراد الله لها أن تتحمَّله من مسؤوليّة، بحملها لهذا الغلام بقدرة الله وسرِّ إرادته. واستطاع إيمانها أن يكفل لها السَّكينة الروحيّة والطّمأنينة النّفسيّة، وسلّمت أمرها إلى الله تعالى.
وللحديث بقيّة، والحمد لله ربِّ العالمين.
*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
[1] [يس: 82].
[2] [آل عمران: 37].
[3] [مريم: 16].
[4] [مريم: 17].
[5] [مريم: 18].
[6] [مريم: 19].
[7] [الأنبياء: 26، 27].
[8] [مريم: 20].
[9] [مريم: 21].