موسى(ع) يحثّ قومه على مواجهة سلطة فرعون

موسى(ع) يحثّ قومه على مواجهة سلطة فرعون

متابعةً لما تقدَّم من حديث، نواصل حديثنا عن رحلة النّبيّ موسى(ع) مع فرعون وسلطانه.

اهتزاز سلطة فرعون

بدأ عرش فرعون يهتزّ على مستوى موقعه الاستكباريّ، وحالته النفسيَّة، ونظرة الكثيرين من النّاس إليه، وخصوصاً ممّن حضروا المعركة الَّتي دعا إليها ضدّ النّبيّ موسى(ع) من خلال السَّحرة، ليشهدوا انتصاره الكاسح الَّذي يؤكِّد فيه أنّه الأقوى والأعلى. أمّا موسى(ع)، فقد استطاع أن يستوعب قومه في أجواء عاطفيَّة تثير الأمل في نفوسهم، وتوحي بالإيمان في أفكارهم، وبدأوا يلتفّون حوله تحت تأثير تلك الأجواء، لأنَّهم شعروا بأنَّهم حصلوا على بعض الحريَّة نتيجة هذا السّقوط العنفوانيّ الفرعوني، حيث استطاع موسى أن يُثبت أنّه الأقوى في هذه المعركة، وهو أمرٌ يساعد على تطوّر الأمور لصالحه، وحصوله على تحرير قومه من استعباد فرعون لهم، لأنَّ قوّة موسى في هذه المعركة الفاصلة، أوحت إلى الجماهير في تلك المنطقة، بأنَّه أصبح هناك قوَّتان في السّاحة، وهما قوَّة فرعون وقوَّة موسى، بعد أن كانوا يرون أنَّ هناك قوّة واحدة، وهي القوَّة الفرعونيَّة.

هكذا بدأ موسى(ع) يتحرّك في السّاحة من موقع هذه القوّة المنفتحة على الواقع في ساحة قومه الَّذين التزموا بقيادته عاطفيّاً، سواء كانوا ممن آمن به، أو لم يؤمنوا به ولكنَّهم خضعوا له. وربما رأى قوم فرعون بعضاً من هذا الالتفاف العاطفيّ الجديد، أو سمعوا عنه شيئاً من مخابراتهم الخفيَّة، إن لم يكونوا قد رأوا هذه الظّاهرة البارزة في الواقع، وأخذوا يفكّرون: ماذا يفعلون تجاه هذا التطوّر المخيف في حركة هذه الجماعة الّتي كانت تمثِّل الفئة الّتي يستقوي بها فرعون في حربه على الأعداء، وفي سلطته الدّاخليّة، لأنَّهم كانوا العبيد المستضعفين الَّذين يتلقّون الأوامر والتَّعليمات، فيطيعون؟

الحذر من حركة موسى

وبدأ التيّار الفرعوني، من خلال الّذين يمثّلون السّلطة في مواقعهم وامتيازاتهم القانونيّة وامتداداتهم الشعبيّة، يواجه المسألة بخوف وحذر، وأخذ يفكّر في القضاء على حركة موسى(ع) وهي في بداياتها الأولى، وكان حديثهم مع فرعون لإثارته ضدّ موسى وقومه، ليستخدم العنف السّاحق ضدّهم قبل أن يتضخَّم تيّار المستضعفين الَّذي يقوده موسى، فيهدّد السّلطة القائمة، ويسيطر على الوضع الدَّاخليّ في حركة الحكم في السّاحة الجماهيريّة الّتي يحكمها فرعون وقومه. ولربما لم يكن فرعون بحاجةٍ إلى مثل هذه الإثارة، لأنَّ صدمته العنيفة كانت كفيلةً باستثارته على المدى القصير أو الطّويل.

{وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ}، من خلال القوَّة الجديدة الّتي حصلوا عليها؟ وذلك هو منطق الطّغاة الحاكمين في ما يثيرونه ضدّ خصومهم في السّاحات الشَّعبيّة، من المعارضين لسياستهم وحكمهم وإدارتهم لأوضاع النّاس، من عناوين الإصلاح والإفساد، فينظرون إلى كلِّ عملٍ يدعم حكمهم أو نظامهم أو سيطرتهم الواسعة، أو يهيِّئ لهذا الحكم سُبُل الاستقرار والاستمرار، على أنّه من أعمال البناء والإصلاح، فيما يرون أنَّ أيَّ عملٍ ينقض هذا الحكم، ويعمل على تغييره وإضعافه، ويساهم في إثارة الأجواء ضدّه، ويتحرّك باتجاه زلزلة قواعده واهتزاز أركانه، كمقدّمةٍ للانقلاب عليه، على أنّه من أعمال الهدم والإفساد.

وفي ضوء هذا، كان هؤلاء القوم ـ قوم فرعون ـ يعتبرون الدَّعوة إلى توحيد الله، ونبذ الشّرك، ومحاربة الطّغيان، والقضاء على الظّلم، وتحرير العبيد من المستضعفين، وغير ذلك من المفاهيم الرساليَّة الَّتي كان يدعو إليها موسى(ع)، ويسير عليها مع المؤمنين من قومه، حركة إفساد في الأرض، لأنَّه ينطلق في خطّةٍ تغييريّةٍ تقلب الموازين، وتفتح الذهنيَّة على أفقٍ إنسانيٍّ جديدٍ للحريّة، فلا يبقى أحدٌ من أصحاب الامتيازات الزائفة الظّالمة، ولا يذر أيّ إله في الأرض، ممن يعتبرهم النّاس أو يعتبرون أنفسهم آلهةً، سواء كان فرعون أو ما يعبدونه من الأصنام، ولا يبقى في الوجدان العام للنّاس إلا الله الّذي لا إله إلاّ هو. وهذا ما أراد قوم فرعون أن ينذروه به في إثارتهم له، {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} في وحدةٍ موحشةٍ قاتلة، بحيث لا يبقى معك أحد من هؤلاء الّذين كانوا يتبعونك ويتعبَّدون لك ولآلهتك.

منطق الطّغاة

وجاء الردّ الفرعونيّ الّذي يمثِّل منطق الطّغاة الَّذين لا استعداد لهم للمناقشة في الأوضاع الجديدة الّتي لا تنسجم مع أوضاعهم ومصالحهم ومواقعهم، ولا طاقة لهم في مشاعرهم الذَّاتيَّة للتَّفكير في الموضوع، أو لإدارة الحوار مع القوى المعارضة المضادَّة، إلاّ بالتَّهديد بالقوّة الّتي يملكونها في مواجهة الضّعفاء الّذين لا يملكون أيّ ميزان للقوّة الماديّة في حياتهم.

{قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ}، سنقضي على الأجيال الجديدة الّتي قد تتحوَّل إلى قوّة شعبيَّة لمصلحة موسى، فلا يبقى منهم أحد يقوى على المواجهة، وحمل السّلاح، وتخريب الأوضاع، والسَّيطرة على السّلطة، وإضعاف مواقعنا، لأنَّ الذّكور عادةً هم وقود الحرب ومواقع القوَّة فيها، {وَنَسْتَحْيِـي نِسَاءهُمْ}، فنبقيهنَّ كإماء وخادمات، لأنَّ النّساء لا تمنح القيادة أو أيّة قوّة في المواجهة، فلا يمكن لموسى وأخيه هارون أن يحصل من خلالهنّ على أيّة قوة، وبذلك لا يبقى ـ بفعل هذه الخطّة ـ أيّ شخصٍ قويٍّ في هذا الاتّجاه، ولن يبقى إلا نحن الأقوياء الحاكمون الّذين يمتدّ سلطاننا، وتتضاعف قوَّتنا، وتخضع لنا الجماهير.

{وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ}[1]، عندما نستخدم هذه القوَّة القاهرة من الرجال والسّلاح والأموال والمُلك الطّاغي، فأين يكون موقع هؤلاء المستضعفين؟ وكيف سيثبتون أمام كلِّ هذه القوَّة الَّتي نملكها، وكلّ هذا الجبروت الطّغياني؟ فلا تخافوا على سلطاني وسلطانكم، وعلى آلهتي وآلهتكم، فإنَّ المستقبل الكبير سوف يكون لنا، كما هو الحاضر الَّذي نعيش فيه. وربما ترك مثل هذا التّهديد أثره السّلبيّ في نفوس قوم موسى(ع) الَّذين عاشوا ذهنيَّة العبوديَّة المملوءة بالخوف من السيّد الفرعوني الَّذي كانوا خاضعين لسلطانه، فلم يبقَ لديهم أيّ إحساس بالقوّة من خلال هذا الضّعف التاريخيّ الّذي كان مسيطراً على المشاعر والأحاسيس.

أمَّا القوّة التي فاجأتهم في انتصار موسى(ع) الّذي كان انتصاراً لهم، لأنّه منهم وفي موقع القيادة لحياتهم، فقد كانت تمثّل التّجربة الأولى للواقع الجديد، وربما لم يصدّقوا ما رأته عيونهم، وما سمعته آذانهم من الظّاهرة المتمثّلة بالمعركة الفاصلة بين فرعون ـ في هزيمة سحرته ـ وموسى في انتصاره الكبير، ولم يكن إيمان المؤمنين بموسى قد أخذ الصَّلابة القويّة، ولم تكن عزيمتهم قد قويت، بل كانوا يهتزّون أمام الوعيد الفرعونيّ في الحاضر، كما كانوا يهتزّون أمام وعيده في الماضي، فوقف موسى(ع) يشدّ من عزائمهم، ويقوِّي إيمانهم وثقتهم بالله، ويبعث فيهم روح الصَّبر والثّبات، ليفتح أمامهم نوافذ الأمل وأبواب الرّجاء.

تثبيت موسى لقومه

{قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُو}[2]، فإنَّ الوصول إلى الغايات الّتي يسعى إليها الإنسان المؤمن، لا بدَّ من أن يمرَّ بأكثر من مرحلة، ولكلّ مرحلةٍ مشاكلها وتحدّياتها وآلامها، فلا بدَّ من الصَّبر الَّذي يمنح الإنسان التّوازن في الموقف، والانفتاح في التّفكير من أجل مواجهة الواقع الصَّعب، وعدم الوقوع في قبضة الانفعال الَّذي يشلّ عقل الإنسان وتفكيره، ويقوده في النّهاية إلى الهاوية، فلا تتجمَّدوا أمام المرحلة الحاضرة لتعتبروها خاتمة المطاف، بل عليكم أن تتطلَّعوا إلى ما كان عليه هؤلاء قبل هذه المرحلة وسيطرتهم عليها، فهم لم يكونوا شيئاً في الوجود ولا في السّلطة، بل كان هناك قومٌ آخرون، أورثهم الله الأرض طبقاً لسنَّته في الكون، ومضوا كما مضى الَّذين من قبلهم، وجاءت بهؤلاء إلى السّلطة ظروف موضوعيَّة هيّأت لهم وراثة هذه الأرض في الموقع والحكم والسَّيطرة والملك، وسيزولون كما زال غيرهم، إن عاجلاً أو آجلاً، ويبقى الأمر كلّه لله مالك الوجود كلّه في الأرض والسّماء والإنسان.

{إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}، وذلك تبعاً لتطوّر مراحل التَّاريخ الَّتي تنقل الحكم من جيلٍ إلى آخر، ومن فئةٍ إلى أخرى، فقد ينتصر الظَّالمون في معركة، وقد ينهزمون في معركة أخرى، وهكذا تتحرَّك سنة الله في الكون على أساس حكمته وتدبيره في ربط المسبّبات بأسبابها، ولكنَّها مجرّد مراحل تبدأ وتنتهي من دون عمقٍ وامتدادٍ وتجذّرٍ في الحياة.

{وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}[3]، الَّذين يجسِّدون إرادة الله في إصلاح أمور الحياة، في الحكم والشَّريعة والعقيدة، على قاعدةٍ صلبة تؤكِّد للإنسان مفاهيمه الواسعة الثّابتة، وأوضاعه المستقيمة الهادفة، وتحرِّك التّقوى في داخله، لتستوعب ذلك كلَّه في خطَّة حكيمة ممتدّة، يحكم مراحلها الوعي والصِّدق والأمانة والإخلاص.

وهكذا يريد الله من المؤمنين أن يعملوا للسَّير في خطِّ التّقوى في حياتهم، من أجل أن يجعلوا من أنفسهم القيادة الواعية الملتزمة، الَّتي تتحمَّل الصِّعاب والمشاقّ والتّحدّيات بروحٍ قويّةٍ صابرة، لأنَّ مسألة حكم الأرض وقيادة الإنسان في مواجهة التيّار الكافر الضَّاغط، ليست مسألة كلماتٍ تُقال، وليست انفعالاً يتشنَّج ويصرخ، أو عبادةً تبتهل وتخشع، ولكنَّها المواقف الّتي تفكّر وتتقدَّم وتصبر وتواجه التحدّيات بروح العزيمة والقوّة، وبإرادة الإيمان والإخلاص الباحث دائماً عن لطف الله وروحه ورضوانه في كلِّ خطوةٍ من خطوات الطّريق.

ولم يكن قوم موسى(ع) قد بلغوا هذا المستوى من الوعي الَّذي يفهم معنى المرحلة في اتجاه الهدف، ومعنى الصَّبر في مسيرة الوصول إلى الغاية، ومعنى التوكّل على الله في الانطلاق نحو غيب المستقبل بقوَّة، فكانوا يتألّمون مما يلاقونه من آلام بعد أن ساروا مع موسى، ويرون أنَّ الحال لم تتغيَّر بعد الالتزام بقيادته، وها هي الآلام تمتدّ بهم معه، فما الَّذي انتفعوا به من خلاله؟ فلا تزال المشكلة هي المشكلة، والواقع هو الواقع.

ردّ القوم على موسى

{قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَ}[4]، إنّه منطق الضّعفاء الّذين لا يعرفون معنى حركة القوّة في الداخل من أجل تنمية روح التحدّي في الواقع، فهم لا يتعاملون مع القضايا الّتي يعيشونها من موقع العلاقة بالأهداف الكبيرة البعيدة في مستقبل الحياة، بل يتعاملون معها من موقع المشاعر والانفعالات فيما تختزنه من همومٍ وآلام.

إنّهم يعيشون في جوِّ الإحساس دون التّفكير في مضمون المشكلة، لأنَّهم لا بدَّ من أن يعرفوا أنَّ هناك فرقاً بين الإيذاء الّذي يتعرَّض له الإنسان وهو لا يحمل أيّ قضيَّة، فيزيده هذا الأذى شعوراً بالانسحاق والإحباط، ويأسره إحساسه بالألم الّذي لحق به في اللحظة الحاضرة، والإيذاء الذي يتعرَّض له وهو يحمل قضيَّة، ويتحرّك من أجل رسالة، فيزيده الأذى شعوراً بالقوَّة والصّلابة، لأنّه يضاعف معنى التحدّي في مشاعره وأحاسيسه، في عمليّة إيمانٍ بالقضيّة الكبيرة التي لا بدَّ لها من أن تستمرّ معه في مسيرته الجهاديّة، لتحلَّ المشكلة من جذورها بعيداً عن كلّ عوامل التّخدير.

ولهذا، فإنَّ مثل هذا الاتجاه لا يرتاح لعمليَّة التّهدئة، بل ينطلق دائماً في أجواء التّثوير، لأنّ المسألة ليست مسألة ذاتٍ تريد أن تستريح، بل هي مسألة أمَّة تريد أن تتحرّك وتتقدَّم، ومسألة واقعٍ يريد أن يتغيّر، وهذا ما أراد موسى أن يثيره في الانفتاح الإيمانيّ على الله في حالات الشدَّة، والثّقة بوعده في حالات الضّيق، فذلك هو الَّذي يجدِّد في الإنسان روح القوّة، ويبعث في روحه معنى الأمل.

{قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ}، كما أهلك الطغاة من قبله بالطريقة المباشرة وغير المباشرة، فقد أعدَّ الله للطّغاة مصيراً لا يستطيعون الهروب منه، ولكنَّ لكلّ شيء وقتاً لا يتعدّاه، تبعاً لما أودعه الله في حركة الحياة من أسرار حكمته، فليكن أملنا بالله كبيراً، ونحن نعمل في سبيل تهيئة الظّروف الّتي تتحقَّق فيها إرادته بالنَّصر من خلال أسبابه الواقعيَّة.

{وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ}[5]، فقد وعد الله المستضعفين أن يستخلفهم في الأرض، والله لا يخلف وعده، كما جاء في قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ}[6]. فمسألة الاستخلاف في الأرض ليست امتيازاً لأحد، بل هي المسؤوليَّة الواعية من أجل تغيير الواقع وفق الأسس الإيمانيَّة التي تصلح أمر البلاد والعباد، بعيداً عن الأسس الاستكباريّة الكافرة التي تفسد الحياة كلَّها بخطط الكفر والضَّلال.

ولهذا، فإنَّ المسألة تعيش في نطاق الامتحان والاختبار لما تحملونه من عقيدة، وما تعيشونه من مفاهيم، وما تتحركون به من خططٍ وأهداف، ليُعرَف الصّادقون من الكاذبين، والمخلصون من المنافقين، {فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}[7]، فيما تمارسونه في خلافتكم على مستوى الحكم في إدارة شؤون النّاس والحياة، وفي شؤون أنفسكم في التزامكم بالمسؤوليَّة... وهذا ما تمثّله مسألة الحكم في المفهوم الدّيني للإنسان؛ إنها قصَّة التّغيير وتحويل المسيرة من خطّ الظّلم إلى خطّ العدل، ومن شريعة الكفر إلى شريعة الإيمان، وليست عمليّة تبديل أسماءٍ وتغيير وجهات، لنبرّر الظّلم باسم العدل، وننطلق مع الكفر باسم الإيمان.

هذا ما كان من أمر موسى مع قومه، فكيف تعامل في معركته الجديدة مع فرعون وقومه في العقوبات الإلهيَّة؟ وكيف واجه فرعون وقومه هذا التحدّي الجديد؟ وكيف حاول تهديد موسى واستعراض قوَّته أمام النّاس؟

والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [الأعراف: 127].

[2]  [الأعراف: 128].

[3]  [الأعراف: 128].

[4]  [الأعراف: 129].

[5]   [الأعراف: 129].

[6]  [القصص: 5، 6].

[7]   [الأعراف: 129].

متابعةً لما تقدَّم من حديث، نواصل حديثنا عن رحلة النّبيّ موسى(ع) مع فرعون وسلطانه.

اهتزاز سلطة فرعون

بدأ عرش فرعون يهتزّ على مستوى موقعه الاستكباريّ، وحالته النفسيَّة، ونظرة الكثيرين من النّاس إليه، وخصوصاً ممّن حضروا المعركة الَّتي دعا إليها ضدّ النّبيّ موسى(ع) من خلال السَّحرة، ليشهدوا انتصاره الكاسح الَّذي يؤكِّد فيه أنّه الأقوى والأعلى. أمّا موسى(ع)، فقد استطاع أن يستوعب قومه في أجواء عاطفيَّة تثير الأمل في نفوسهم، وتوحي بالإيمان في أفكارهم، وبدأوا يلتفّون حوله تحت تأثير تلك الأجواء، لأنَّهم شعروا بأنَّهم حصلوا على بعض الحريَّة نتيجة هذا السّقوط العنفوانيّ الفرعوني، حيث استطاع موسى أن يُثبت أنّه الأقوى في هذه المعركة، وهو أمرٌ يساعد على تطوّر الأمور لصالحه، وحصوله على تحرير قومه من استعباد فرعون لهم، لأنَّ قوّة موسى في هذه المعركة الفاصلة، أوحت إلى الجماهير في تلك المنطقة، بأنَّه أصبح هناك قوَّتان في السّاحة، وهما قوَّة فرعون وقوَّة موسى، بعد أن كانوا يرون أنَّ هناك قوّة واحدة، وهي القوَّة الفرعونيَّة.

هكذا بدأ موسى(ع) يتحرّك في السّاحة من موقع هذه القوّة المنفتحة على الواقع في ساحة قومه الَّذين التزموا بقيادته عاطفيّاً، سواء كانوا ممن آمن به، أو لم يؤمنوا به ولكنَّهم خضعوا له. وربما رأى قوم فرعون بعضاً من هذا الالتفاف العاطفيّ الجديد، أو سمعوا عنه شيئاً من مخابراتهم الخفيَّة، إن لم يكونوا قد رأوا هذه الظّاهرة البارزة في الواقع، وأخذوا يفكّرون: ماذا يفعلون تجاه هذا التطوّر المخيف في حركة هذه الجماعة الّتي كانت تمثِّل الفئة الّتي يستقوي بها فرعون في حربه على الأعداء، وفي سلطته الدّاخليّة، لأنَّهم كانوا العبيد المستضعفين الَّذين يتلقّون الأوامر والتَّعليمات، فيطيعون؟

الحذر من حركة موسى

وبدأ التيّار الفرعوني، من خلال الّذين يمثّلون السّلطة في مواقعهم وامتيازاتهم القانونيّة وامتداداتهم الشعبيّة، يواجه المسألة بخوف وحذر، وأخذ يفكّر في القضاء على حركة موسى(ع) وهي في بداياتها الأولى، وكان حديثهم مع فرعون لإثارته ضدّ موسى وقومه، ليستخدم العنف السّاحق ضدّهم قبل أن يتضخَّم تيّار المستضعفين الَّذي يقوده موسى، فيهدّد السّلطة القائمة، ويسيطر على الوضع الدَّاخليّ في حركة الحكم في السّاحة الجماهيريّة الّتي يحكمها فرعون وقومه. ولربما لم يكن فرعون بحاجةٍ إلى مثل هذه الإثارة، لأنَّ صدمته العنيفة كانت كفيلةً باستثارته على المدى القصير أو الطّويل.

{وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ}، من خلال القوَّة الجديدة الّتي حصلوا عليها؟ وذلك هو منطق الطّغاة الحاكمين في ما يثيرونه ضدّ خصومهم في السّاحات الشَّعبيّة، من المعارضين لسياستهم وحكمهم وإدارتهم لأوضاع النّاس، من عناوين الإصلاح والإفساد، فينظرون إلى كلِّ عملٍ يدعم حكمهم أو نظامهم أو سيطرتهم الواسعة، أو يهيِّئ لهذا الحكم سُبُل الاستقرار والاستمرار، على أنّه من أعمال البناء والإصلاح، فيما يرون أنَّ أيَّ عملٍ ينقض هذا الحكم، ويعمل على تغييره وإضعافه، ويساهم في إثارة الأجواء ضدّه، ويتحرّك باتجاه زلزلة قواعده واهتزاز أركانه، كمقدّمةٍ للانقلاب عليه، على أنّه من أعمال الهدم والإفساد.

وفي ضوء هذا، كان هؤلاء القوم ـ قوم فرعون ـ يعتبرون الدَّعوة إلى توحيد الله، ونبذ الشّرك، ومحاربة الطّغيان، والقضاء على الظّلم، وتحرير العبيد من المستضعفين، وغير ذلك من المفاهيم الرساليَّة الَّتي كان يدعو إليها موسى(ع)، ويسير عليها مع المؤمنين من قومه، حركة إفساد في الأرض، لأنَّه ينطلق في خطّةٍ تغييريّةٍ تقلب الموازين، وتفتح الذهنيَّة على أفقٍ إنسانيٍّ جديدٍ للحريّة، فلا يبقى أحدٌ من أصحاب الامتيازات الزائفة الظّالمة، ولا يذر أيّ إله في الأرض، ممن يعتبرهم النّاس أو يعتبرون أنفسهم آلهةً، سواء كان فرعون أو ما يعبدونه من الأصنام، ولا يبقى في الوجدان العام للنّاس إلا الله الّذي لا إله إلاّ هو. وهذا ما أراد قوم فرعون أن ينذروه به في إثارتهم له، {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} في وحدةٍ موحشةٍ قاتلة، بحيث لا يبقى معك أحد من هؤلاء الّذين كانوا يتبعونك ويتعبَّدون لك ولآلهتك.

منطق الطّغاة

وجاء الردّ الفرعونيّ الّذي يمثِّل منطق الطّغاة الَّذين لا استعداد لهم للمناقشة في الأوضاع الجديدة الّتي لا تنسجم مع أوضاعهم ومصالحهم ومواقعهم، ولا طاقة لهم في مشاعرهم الذَّاتيَّة للتَّفكير في الموضوع، أو لإدارة الحوار مع القوى المعارضة المضادَّة، إلاّ بالتَّهديد بالقوّة الّتي يملكونها في مواجهة الضّعفاء الّذين لا يملكون أيّ ميزان للقوّة الماديّة في حياتهم.

{قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ}، سنقضي على الأجيال الجديدة الّتي قد تتحوَّل إلى قوّة شعبيَّة لمصلحة موسى، فلا يبقى منهم أحد يقوى على المواجهة، وحمل السّلاح، وتخريب الأوضاع، والسَّيطرة على السّلطة، وإضعاف مواقعنا، لأنَّ الذّكور عادةً هم وقود الحرب ومواقع القوَّة فيها، {وَنَسْتَحْيِـي نِسَاءهُمْ}، فنبقيهنَّ كإماء وخادمات، لأنَّ النّساء لا تمنح القيادة أو أيّة قوّة في المواجهة، فلا يمكن لموسى وأخيه هارون أن يحصل من خلالهنّ على أيّة قوة، وبذلك لا يبقى ـ بفعل هذه الخطّة ـ أيّ شخصٍ قويٍّ في هذا الاتّجاه، ولن يبقى إلا نحن الأقوياء الحاكمون الّذين يمتدّ سلطاننا، وتتضاعف قوَّتنا، وتخضع لنا الجماهير.

{وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ}[1]، عندما نستخدم هذه القوَّة القاهرة من الرجال والسّلاح والأموال والمُلك الطّاغي، فأين يكون موقع هؤلاء المستضعفين؟ وكيف سيثبتون أمام كلِّ هذه القوَّة الَّتي نملكها، وكلّ هذا الجبروت الطّغياني؟ فلا تخافوا على سلطاني وسلطانكم، وعلى آلهتي وآلهتكم، فإنَّ المستقبل الكبير سوف يكون لنا، كما هو الحاضر الَّذي نعيش فيه. وربما ترك مثل هذا التّهديد أثره السّلبيّ في نفوس قوم موسى(ع) الَّذين عاشوا ذهنيَّة العبوديَّة المملوءة بالخوف من السيّد الفرعوني الَّذي كانوا خاضعين لسلطانه، فلم يبقَ لديهم أيّ إحساس بالقوّة من خلال هذا الضّعف التاريخيّ الّذي كان مسيطراً على المشاعر والأحاسيس.

أمَّا القوّة التي فاجأتهم في انتصار موسى(ع) الّذي كان انتصاراً لهم، لأنّه منهم وفي موقع القيادة لحياتهم، فقد كانت تمثّل التّجربة الأولى للواقع الجديد، وربما لم يصدّقوا ما رأته عيونهم، وما سمعته آذانهم من الظّاهرة المتمثّلة بالمعركة الفاصلة بين فرعون ـ في هزيمة سحرته ـ وموسى في انتصاره الكبير، ولم يكن إيمان المؤمنين بموسى قد أخذ الصَّلابة القويّة، ولم تكن عزيمتهم قد قويت، بل كانوا يهتزّون أمام الوعيد الفرعونيّ في الحاضر، كما كانوا يهتزّون أمام وعيده في الماضي، فوقف موسى(ع) يشدّ من عزائمهم، ويقوِّي إيمانهم وثقتهم بالله، ويبعث فيهم روح الصَّبر والثّبات، ليفتح أمامهم نوافذ الأمل وأبواب الرّجاء.

تثبيت موسى لقومه

{قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُو}[2]، فإنَّ الوصول إلى الغايات الّتي يسعى إليها الإنسان المؤمن، لا بدَّ من أن يمرَّ بأكثر من مرحلة، ولكلّ مرحلةٍ مشاكلها وتحدّياتها وآلامها، فلا بدَّ من الصَّبر الَّذي يمنح الإنسان التّوازن في الموقف، والانفتاح في التّفكير من أجل مواجهة الواقع الصَّعب، وعدم الوقوع في قبضة الانفعال الَّذي يشلّ عقل الإنسان وتفكيره، ويقوده في النّهاية إلى الهاوية، فلا تتجمَّدوا أمام المرحلة الحاضرة لتعتبروها خاتمة المطاف، بل عليكم أن تتطلَّعوا إلى ما كان عليه هؤلاء قبل هذه المرحلة وسيطرتهم عليها، فهم لم يكونوا شيئاً في الوجود ولا في السّلطة، بل كان هناك قومٌ آخرون، أورثهم الله الأرض طبقاً لسنَّته في الكون، ومضوا كما مضى الَّذين من قبلهم، وجاءت بهؤلاء إلى السّلطة ظروف موضوعيَّة هيّأت لهم وراثة هذه الأرض في الموقع والحكم والسَّيطرة والملك، وسيزولون كما زال غيرهم، إن عاجلاً أو آجلاً، ويبقى الأمر كلّه لله مالك الوجود كلّه في الأرض والسّماء والإنسان.

{إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}، وذلك تبعاً لتطوّر مراحل التَّاريخ الَّتي تنقل الحكم من جيلٍ إلى آخر، ومن فئةٍ إلى أخرى، فقد ينتصر الظَّالمون في معركة، وقد ينهزمون في معركة أخرى، وهكذا تتحرَّك سنة الله في الكون على أساس حكمته وتدبيره في ربط المسبّبات بأسبابها، ولكنَّها مجرّد مراحل تبدأ وتنتهي من دون عمقٍ وامتدادٍ وتجذّرٍ في الحياة.

{وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}[3]، الَّذين يجسِّدون إرادة الله في إصلاح أمور الحياة، في الحكم والشَّريعة والعقيدة، على قاعدةٍ صلبة تؤكِّد للإنسان مفاهيمه الواسعة الثّابتة، وأوضاعه المستقيمة الهادفة، وتحرِّك التّقوى في داخله، لتستوعب ذلك كلَّه في خطَّة حكيمة ممتدّة، يحكم مراحلها الوعي والصِّدق والأمانة والإخلاص.

وهكذا يريد الله من المؤمنين أن يعملوا للسَّير في خطِّ التّقوى في حياتهم، من أجل أن يجعلوا من أنفسهم القيادة الواعية الملتزمة، الَّتي تتحمَّل الصِّعاب والمشاقّ والتّحدّيات بروحٍ قويّةٍ صابرة، لأنَّ مسألة حكم الأرض وقيادة الإنسان في مواجهة التيّار الكافر الضَّاغط، ليست مسألة كلماتٍ تُقال، وليست انفعالاً يتشنَّج ويصرخ، أو عبادةً تبتهل وتخشع، ولكنَّها المواقف الّتي تفكّر وتتقدَّم وتصبر وتواجه التحدّيات بروح العزيمة والقوّة، وبإرادة الإيمان والإخلاص الباحث دائماً عن لطف الله وروحه ورضوانه في كلِّ خطوةٍ من خطوات الطّريق.

ولم يكن قوم موسى(ع) قد بلغوا هذا المستوى من الوعي الَّذي يفهم معنى المرحلة في اتجاه الهدف، ومعنى الصَّبر في مسيرة الوصول إلى الغاية، ومعنى التوكّل على الله في الانطلاق نحو غيب المستقبل بقوَّة، فكانوا يتألّمون مما يلاقونه من آلام بعد أن ساروا مع موسى، ويرون أنَّ الحال لم تتغيَّر بعد الالتزام بقيادته، وها هي الآلام تمتدّ بهم معه، فما الَّذي انتفعوا به من خلاله؟ فلا تزال المشكلة هي المشكلة، والواقع هو الواقع.

ردّ القوم على موسى

{قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَ}[4]، إنّه منطق الضّعفاء الّذين لا يعرفون معنى حركة القوّة في الداخل من أجل تنمية روح التحدّي في الواقع، فهم لا يتعاملون مع القضايا الّتي يعيشونها من موقع العلاقة بالأهداف الكبيرة البعيدة في مستقبل الحياة، بل يتعاملون معها من موقع المشاعر والانفعالات فيما تختزنه من همومٍ وآلام.

إنّهم يعيشون في جوِّ الإحساس دون التّفكير في مضمون المشكلة، لأنَّهم لا بدَّ من أن يعرفوا أنَّ هناك فرقاً بين الإيذاء الّذي يتعرَّض له الإنسان وهو لا يحمل أيّ قضيَّة، فيزيده هذا الأذى شعوراً بالانسحاق والإحباط، ويأسره إحساسه بالألم الّذي لحق به في اللحظة الحاضرة، والإيذاء الذي يتعرَّض له وهو يحمل قضيَّة، ويتحرّك من أجل رسالة، فيزيده الأذى شعوراً بالقوَّة والصّلابة، لأنّه يضاعف معنى التحدّي في مشاعره وأحاسيسه، في عمليّة إيمانٍ بالقضيّة الكبيرة التي لا بدَّ لها من أن تستمرّ معه في مسيرته الجهاديّة، لتحلَّ المشكلة من جذورها بعيداً عن كلّ عوامل التّخدير.

ولهذا، فإنَّ مثل هذا الاتجاه لا يرتاح لعمليَّة التّهدئة، بل ينطلق دائماً في أجواء التّثوير، لأنّ المسألة ليست مسألة ذاتٍ تريد أن تستريح، بل هي مسألة أمَّة تريد أن تتحرّك وتتقدَّم، ومسألة واقعٍ يريد أن يتغيّر، وهذا ما أراد موسى أن يثيره في الانفتاح الإيمانيّ على الله في حالات الشدَّة، والثّقة بوعده في حالات الضّيق، فذلك هو الَّذي يجدِّد في الإنسان روح القوّة، ويبعث في روحه معنى الأمل.

{قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ}، كما أهلك الطغاة من قبله بالطريقة المباشرة وغير المباشرة، فقد أعدَّ الله للطّغاة مصيراً لا يستطيعون الهروب منه، ولكنَّ لكلّ شيء وقتاً لا يتعدّاه، تبعاً لما أودعه الله في حركة الحياة من أسرار حكمته، فليكن أملنا بالله كبيراً، ونحن نعمل في سبيل تهيئة الظّروف الّتي تتحقَّق فيها إرادته بالنَّصر من خلال أسبابه الواقعيَّة.

{وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ}[5]، فقد وعد الله المستضعفين أن يستخلفهم في الأرض، والله لا يخلف وعده، كما جاء في قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ}[6]. فمسألة الاستخلاف في الأرض ليست امتيازاً لأحد، بل هي المسؤوليَّة الواعية من أجل تغيير الواقع وفق الأسس الإيمانيَّة التي تصلح أمر البلاد والعباد، بعيداً عن الأسس الاستكباريّة الكافرة التي تفسد الحياة كلَّها بخطط الكفر والضَّلال.

ولهذا، فإنَّ المسألة تعيش في نطاق الامتحان والاختبار لما تحملونه من عقيدة، وما تعيشونه من مفاهيم، وما تتحركون به من خططٍ وأهداف، ليُعرَف الصّادقون من الكاذبين، والمخلصون من المنافقين، {فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}[7]، فيما تمارسونه في خلافتكم على مستوى الحكم في إدارة شؤون النّاس والحياة، وفي شؤون أنفسكم في التزامكم بالمسؤوليَّة... وهذا ما تمثّله مسألة الحكم في المفهوم الدّيني للإنسان؛ إنها قصَّة التّغيير وتحويل المسيرة من خطّ الظّلم إلى خطّ العدل، ومن شريعة الكفر إلى شريعة الإيمان، وليست عمليّة تبديل أسماءٍ وتغيير وجهات، لنبرّر الظّلم باسم العدل، وننطلق مع الكفر باسم الإيمان.

هذا ما كان من أمر موسى مع قومه، فكيف تعامل في معركته الجديدة مع فرعون وقومه في العقوبات الإلهيَّة؟ وكيف واجه فرعون وقومه هذا التحدّي الجديد؟ وكيف حاول تهديد موسى واستعراض قوَّته أمام النّاس؟

والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [الأعراف: 127].

[2]  [الأعراف: 128].

[3]  [الأعراف: 128].

[4]  [الأعراف: 129].

[5]   [الأعراف: 129].

[6]  [القصص: 5، 6].

[7]   [الأعراف: 129].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية