نزول البلاء على آل فرعون

نزول البلاء على آل فرعون

ونواصل الحديث عن حياة النّبيّ موسى(ع) وتجربته الطَّويلة والمتنوّعة.

لقد تركت المعركة بين النّبيّ موسى(ع) وفرعون أثرها الإيجابيّ الكبير في الدَّور الرّساليّ الّذي التزمه النَّبيّ موسى(ع) في حريّة الحركة، فلم يتعرَّض لأيِّ ضغطٍ كبير من السّلطة الفرعونيّة، لأنَّهم شعروا من خلال التّجربة، بأنَّه يملك القوّة الّتي قد يطلق عليها القوة السّحريّة، ولكنّها ـ مع ذلك ـ تؤدّي إلى خشيتهم من تحدّيه اجتماعيّاً، لما قد يثيره في مواجهتهم من ردّ الفعل القويّ... وقد أراد الله أن يهزَّ أوضاعهم، كوسيلةٍ من وسائل إرباك موازين الاستقرار والقوَّة لديهم، كمقدّمةٍ لإضعاف سلطانهم واهتزاز مواقعهم العامَّة.

البلاء يصيب آل فرعون

وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ}، وهذا كناية عن الجدب في عمليَّة الإنتاج الزراعيّ الّذي يعيشون منه ويتغذّون به، وذلك بحبس الأمطار عنهم، أو تسليط الأمراض القاتلة على مزروعاتهم، بحيث يستمرّ ذلك معهم لأكثر من سنة، أو يتنوَّع ضعفاً وقوّةً بين سنةٍ وأخرى، ما يترك تأثيره السّلبيّ في الثّروة الاقتصادية الإنتاجيّة في التّنمية الماديّة، ويربك حياتهم على مستوى التّغذية والتنمية، ليتطوّر تأثيره الكبير في قوّة الحكم ونفوذه في الناس، باعتبار أنّ هذا الحكم يتقرّب إليهم من خلال القدرة المادية الّتي يمنحهم إيّاها طلباً لاستمرار التفافهم حوله وتأييدهم له.

إضافةً إلى أنَّ هذا الأمر يضعف موقع الحكم السّلطويّ في حلِّ المشاكل العامّة الّتي يتعرَّض لها النّاس، لجهة مسؤوليّة الدّولة الحاكمة عن معالجة أوضاع النّاس الصّعبة وإمكاناتهم الضيِّقة، الأمر الَّذي يؤدّي إلى ضعف السّلطة وعدم الثّقة بها، ويدفع الناس الّذين يعانون الجوع والحرمان من خلال حالة الجدب الزّراعيّ والنّقص في الثمرات، إلى البحث عن سلطةٍ أخرى في بلاد ثانية، ليحصلوا على حاجاتهم الحياتيّة، أو يدفعهم إلى الاستجابة للنبيّ موسى(ع) في الإيمان بالله الَّذي قد يلجأون إليه لرفع ذلك عنهم وإنقاذهم منه، لأنّه المالك للأمر كلّه، ولأنَّ قضيَّة الخصب والجدب لا تخضع دائماً للأسباب العاديَّة الّتي يملك النّاس، بمن فيهم أهل السّلطة، أمر التحكّم فيها، سلباً أو إيجاباً.

وقد لا يكون من الضّروريّ أن يكون هذا البلاء عقاباً مباشراً لهؤلاء بالمعنى الغيبـيّ للعقاب، فربما يكون خاضعاً لبعض الأوضاع الطبيعيّة الكونيّة، ولكنَّ الله سبحانه يريد لعباده في مثل هذه الحالات، أن يتذكَّروه ويرجعوا إليه عند اليأس من قدرة أصحاب النّفوذ المهيمنين على الواقع على تغييره، فيتوجّهوا ـ تلقائيّاً ـ إلى الله من خلال الدَّعوة الرساليَّة التي توجّههم إليه، وتفتح في وجدانهم فيوضات رحمته، ليعرفوا أنَّ الله هو وحده القادر على إنقاذهم من هذا البلاء الصّعب، بقوانينه وسننه التي تتحرّك من خلال الأسباب الطبيعيّة الاستثنائيّة الّتي يحركها بقدرته المطلقة، بما قد يعرف النّاس المؤمنون منها، مما أعطاهم من أسرار معرفته من مصدر الرَّسول والرّسالة، ما لا يعرفه أحدٌ بوسائله الخاصَّة، لأنّه مما اختصّ الله بعلمه.

غفلة القوم عن الحقّ

{لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}[1]، ويخرجون من أجواء الغفلة المطبقة على تفكيرهم، بفعل التوجيه المنحرف الّذي أثاره فيهم المضلّون من فئات الشّرك والضّلال، فيتراجعون عن تمرّدهم وعتوّهم واستكبارهم الفرعوني، عندما يلتفتون فيرون أنَّ فرعون الّذي يعبدونه أو يخضعون له، لا يملك حولاً ولا قوّةً، حتى إنّه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فيتذكّرون كلام موسى(ع) في مواعظه ونصائحه وتوجيهاته، الأمر الَّذي قد يدفعهم إلى الانسجام مع نداء الرَّسول للسَّير في خطّ رسالته الدّاعية إلى عبادة الله وحده في كلِّ مجالات الحياة الخاصَّة والعامَّة.

هذا ما يفرضه العقل على مَن يملك بعضه، والوجدان على مَن ينفتح على معناه، والوعي على مَن يتحرّك في مضمونه الفكريّ، ولكنَّهم لم يخرجوا من هذا النّفق المظلم الّذي أدخلتهم فيه السّلطة العمياء، من خلال محاصرتها لهم بالرغبات والشَّهوات والامتيازات، مغلقةً عنهم نوافذ التّفكير في الآفاق الروحيّة المضيئة بالإيمان، ما جعلهم يواجهون الأمر بطريقة أخرى. {فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـذِهِ}، فنحن مستحقّون لها، لكرامتنا الإنسانيَّة الّتي تغدق علينا سحب الخير وفيوضات النّعمة، {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ}[2]، بحيث يعتبرونهم مصدر الشّؤم، مما يتشاءم به النّاس من الأشخاص والأوضاع.

ولكنَّ الله يردُّ عليهم هذا المنطق التبريريّ الّذي يقنعون به أنفسهم من دون أساس، ليجدوا في ذلك بعض الرّاحة النفسيّة، في تحميلهم مسؤوليَّة ما يحدث لهم من سوء، لموسى(ع) والمؤمنين معه، لأنَّهم ـ في نظرهم ـ يمثّلون المشكلة المعقّدة التي تنزل عليهم هذا البلاء، فيقول ـ سبحانه ـ: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللهُ}، فهو الّذي أنزل عليهم ذلك كلّه، لأنّه ـ وحده ـ الّذي يرجع إليه أمر العافية والبلاء، ولا يملكها أحد غيره في الكون كلِّه، حتى إنَّ موسى، النّبيّ المرسل من عند الله، والمؤمنين المقرّبين إليه، لا يستطيعون أن يمارسوا أيَّ شيء من هذا القبيل.

{وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}[3]، لأنَّهم لا يملكون مصادر المعرفة الإيمانيَّة والحقيقة التوحيديَّة، في قدرة الله المطلقة على إدارة الكون كلِّه في كلِّ ما يتعرَّض له الخلق من أوضاعهم المرتبطة بأرزاقهم وأمورهم الحياتيّة الأخرى، وما يزالون في غفلةٍ عن الآفاق الرَّحبة للعقيدة الصّافية المنفتحة على علم الله وقدرته وحكمته في تدبير خلقه في السَّلب والإيجاب، فلا يعرفون كيف يخضع الوجود الكونيّ وما في داخله لإرادة الله في كلِّ شيء؛ فلا مغلق لما فتح، ولا فاتح لما أغلق، ولا رادَّ لما أعطى...

اتّهام موسى بالسِّحر

وهكذا غرقوا في وحول الجهل المطبق، والتخلّف السَّخيف، فوقفوا أمام النبيّ موسى وقفة المتحدّي الّذي يرفض كلَّ آيةٍ للإيمان، مهما بلغت من القوَّة في الحجَّة والبرهان، وابتعدوا عن تذكّر القدرة الإلهيّة الّتي أنزلت عليهم السيِّئة في حياتهم، فجعلهم ذلك لا يرجعون إلى النبيّ موسى، ولا يجدون فيه شخصيّة الرّسول الذي أرسله الله إليهم لهدايتهم إلى الحقّ، بل اعتبروه ساحراً كبيراً، من خلال اعتقادهم بدوره في السِّحر، أو من خلال محاولتهم إلصاق هذه الصِّفة به، لإبعاده عن صفة الرِّسالة الّتي يتعقَّدون منها.

وهكذا كان خطابهم له من خلال وصفهم له بالسَّاحر، {وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ}[4]، فقد أعطوا الآيات الّتي قدَّمها إليهم صفة السِّحر، لأنّهم كانوا يبحثون عن مبرِّرٍ لاستمرارهم على الكفر والتمرّد، على الرّغم من أنهم لو كانوا يحترمون عقولهم، وحرّكوها في دراسة طبيعة هذه الآيات الّتي تنطلق من إرادةٍ غيبيَّة لا من جهد بشريّ، لآمنوا بها، كما فعل السَّحرة الّذين استقدموهم لمجابهة موسى، فيما كانوا يزعمونه من اعتبار الآيتين المعجزتين اللّتين واجه بهما فرعون، من السِّحر بدرجة عالية. لكنّ مشكلتهم أنَّ العصبيَّة العمياء الّتي صادرت عقولهم، وأغلقت تفكيرهم، منعتهم من الانفتاح على الحقيقة الواضحة الّتي تتحدَّاهم بعناصرها الغيبيَّة، الّتي توحي إليهم بالحقيقة من خلال مقارنتها بعبث السحرة في تجربتهم التخييليَّة.

ولذلك، أطلقوا الكلمة التي أعلنوا فيها إصرارهم على رفض الإيمان برسالته، مهما قدّم إليهم من الآيات الإعجازيّة، تعصّباً للخطّ الّذي يلتزمونه، كما هو شأن القوى الطّاغية المستكبرة في كلِّ زمان ومكان، عندما تحاول ضرب كلِّ داعية للحقّ والعدل، والإجهاز على دعوته وتشويه صورته أمام النّاس، فتلصق به أو بدعوته بعض الصّفات السّلبيّة التي توحي بالمعاني المتخلّفة البعيدة عن كلِّ خير وصلاح، ليكون ذلك مبرّراً لهم للوقوف ضدَّه، ولإبعاد الناس عن القبول بدعوته، بكلِّ ما يملكونه من قوّة البغي والعدوان، خوفاً من تأثيره الرّساليّ في سلطانهم وامتيازاتهم الماديّة والسياسيّة.

بلاء متنوّع

وبدأت الآيات تتحرّك في الضَّغط على أوضاعهم، وتدمير خصوصيّاتهم المعيشيَّة وامتداداتهم الحياتيّة في البلاء المتنوّع الّذي أخذ يطاول القضايا الحيويّة للواقع الّذي يعيشون في داخله.

{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَـ فأغرق كلَّ شيء من الزّرع والمال والثروة الحيوانيَّة والمواقع الاقتصاديّة ـ وَالْجَرَادَ ـ الذي أكل كلَّ ثمراتهم الزراعيّة ـ وَالْقُمَّلَ ـ (بضمّ القاف وتشديد الميم)، وهي دوابّ صغار كالقردان تركب البعير. أمّا مع فتح القاف وتخفيف الميم، فهي الحشرة المعروفة التي تزحف على الرّؤوس والأجساد، وكلاهما ينزل البلاء والوباء ـ وَالضَّفَادِعَ ـ التي يُقال إنها كانت تظهر في طعامهم وشرابهم، فتنغِّص عليهم حياتهم ـ وَالدَّمَ ـ فقد تحوَّل الماء عندهم إلى دم ـ كما يقال ـ وقيل إنهم أصيبوا بمرض الرّعاف ـ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ ـ لتنذرهم وتعطيهم فكرةً عن سخط الله وعقابه ـ فَاسْتَكْبَرُواْ ـ على الله ورسوله بما يعيشونه من عقدة الكبرياء والجبروت، ورفضوا الاقتناع بما توحيه هذه الآيات من خلفيّات غيبيّة، والانفتاح على الإيمان بالله في قدرته على إنزال البلاء بهم بما لا يطيقون الصَّبر عليه ـ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ}[5]، فقد تأصَّلت الجريمة في أفكارهم، حتى صاروا يخطِّطون لتأكيدها في الواقع، وفي مشاعرهم الّتي صارت تجذب الحقد والضّغينة إلى العلاقة بالحقّ، وحاولوا أن يتماسكوا، وأرادوا أن يعالجوا المشكلة النّاشئة من ضغط هذه الآيات عليهم، ولكنَّهم عجزوا عن ذلك.

{وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ}، وهو العذاب ـ في معنى الكلمة هنا ـ وضاق بهم الأمر، ولم يجدوا مجالاً للاستمرار فيما هم فيه، وعرفوا بفطرتهم الذاتيَّة أنَّ هذا الأمر ليس من فعل موسى بصفته البشريّة أو قدرته السحريّة، لأنه يتجاوز الإمكانات العادية لأيّ إنسان، وأدركوا أنَّ الله ـ ربّ موسى وهارون ـ هو الذي أنزل عليهم ذلك عقاباً لهم على طغيانهم في أعمالهم الاستكباريّة، لجأوا إلى موسى ـ في نهاية المطاف ـ وتوسَّلوا إليه أن يدعو ربّه القادر على الأمر كلّه، أن يخلّصهم من البلاء الذي وقع عليهم، ليكشف عنهم العذاب، وعاهدوه على أن يؤمنوا بالله، ووعدوه بإرسال قومه معه، وتحريرهم من الطوق الاستعباديّ الّذي أحاطوهم به.

{قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ ـ من كرامته ولطفه ورحمته ـ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ ـ ببركة دعائك، وخلّصتنا من هذا الوضع الصَّعب الّذي أوقعنا في الشدّة في حياتنا العامّة ـ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}[6]، فيتحقَّق لك ما تريده من الإيمان الشامل برسالتك في امتداده العقيديّ في الواقع كلّه، في موقعنا وفي موقع الجماهير التابعة لله، ومن تحرير قومك من العبوديّة والاضطهاد.

الإصرار على الكفر

وقد أراد الله أن يمنحهم فرصةً للتّصحيح، أو ليظهر كذبهم وانحرافهم ونقضهم للوعد الّذي أخذوه على أنفسهم أمامه، {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ ـ فلم يتعهَّد الله لهم برفع العذاب إلى ما لا نهاية من الزّمن، بل رفعه إلى وقتٍ ما لينظر كيف يعملون ـإِذَا هُمْ يَنكُثُونَ}[7]، ينقضون العهد، فكان الحسم الأخير، وكانت النّهاية.

وقد صوّر لنا القرآن الكريم هذه المسألة في سورة الزّخرف، بقوله تعالى: {وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا}، تبعاً لما تمثِّله كلّ آيةٍ من الضّغط الّذي لا يتحمّلون نتائجه، {وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[8]، ولكنَّهم لم يرجعوا، بالرّغم من عهدهم للنّبيّ موسى بالإيمان برسالته، ومن إرسال قومه معه إذا رفع عنهم هذا العذاب الشَّديد.

ونستوحي أيضاً من هذه الآية، أنَّ فرعون كان لا يزال يملك القوَّة الطّاغية المسيطرة على بني إسرائيل في حصاره لهم وتطويق حريّاتهم، ما جعل الفرعونيّين يعاهدون موسى(ع) بإرسالهم معه، وتحريرهم من ضغوطهم القاسية، لأنَّ الحريّة التي حصل عليها موسى في انتصاره في المعركة، لم تتطوَّر إلى المستوى الّذي يستطيع فيه تحرير قومه. كما أنّهم استمرّوا في إصرارهم العنادي، بأنَّ هذه الآيات البيِّنات تمثّل عملاً من أعمال السِّحر، وهذا ما جاء في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءهُم مُّوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ}[9].

وهكذا واجه موسى(ع) هذه التَّعقيدات المثيرة من خلال هؤلاء الّذين اتّبعوا الشّيطان وخضعوا له، فأنساهم ذكر الله، وأدخلهم في الظّلمات التي منعتهم من رؤية النّور المنطلق من نور الرسالة والرسول.

أمَّا قوم موسى، فإنّهم لم يستطيعوا أن يستوعبوا خطَّ الإيمان بالله، ولا اتّباع رسالته، لأنَّ التخلّف الفكريّ كان مسيطراً على عقولهم، فلم يملكوا التّفكير العميق الّذي يدرسون من خلاله الدّعوة الرساليّة التي جاء بها موسى، حتى إنَّ المؤمنين بموسى(ع)، كانوا يعيشون القلق النّفسيّ والخوف من أن يضغط عليهم فرعون لإجبارهم على التّراجع عن إيمانهم. وهذا ما جاء في قوله تعالى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ}[10].

تحدّي فرعون لموسى

وقد حاول فرعون أن يتحدّى موسى بالكلام الاتهاميّ، بأنّه شخصيّة مسحورة بفعل السّحرة الّذين ضغطوا على عقله فابتعد عن التفكير السَّليم، ولكنّ موسى كان يملك القوّة التي جعلته يواجه هذا الطاغية بالكلمة القويّة القاسية، وهذا ما جاء في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً}[11]، وأنّك تخضع في نفسك وفي أعمالك المتنوّعة للسِّحر، ولست رسولاً من الله تحمل الرّسالة وتهدي إلى الحقّ.

{قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَـؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}، لأنَّ القدرة البشريَّة لا تملك القيام بذلك بهذا المستوى من الإعجاز والقوَّة الخارقة الّتي لا يملكها أيّ ساحر، لأنَّ السِّحر لا يمثِّل أيَّ عمقٍ في تغيير الواقع وفي التَّأثير الفاعل في الحياة، بل يمثّل تغيير الشّكل في السّطح، ويبعث الاهتزاز في حركة الصّورة في إحساس البصر، بينما تتحرَّك هذه الآيات الّتي أطلقتها أمامك، والتي حرَّكتها في حياة المجتمع من حولك، في أوضاع قومك والآخرين ممن يعيشون تحت سلطتك، لتصنع واقعاً جديداً في بعض مظاهر الحياة، بما يدلّ على أنها ليست من صنع البشر، بل لم ينـزلها إلا ربّ السَّماوات والأرض، خالق الكون كلّه وما فيه، لتكون {بَصَآئِرَ}، تفتح عيون النّاس الذين يكفرون بالله وبرسله على الحقيقة الّتي يرتكز عليها الإيمان، ليفكّروا في المسألة من جانبٍ آخر غير الجانب الّذي تعوّدوا أن يوجّهوا التَّفكير إليه.

وهذه هي مهمَّة الآيات الّتي ينـزلها الله على عباده، فهي ليست عرضاً للقوّة لينبهر النّاس بها في حالةٍ انفعاليّة، بل هي تحريك للفكر، ليقتنع النّاس بالحقّ من خلالها، وليكتشفوا ما لا يستطيعون اكتشافه إلا من خلالها بفعل الضّغوط الّتي يواجهونها في حركة العقيدة في حياتهم.

وهكذا، أثار موسى أمام فرعون حقيقة السرّ الّذي يختفي وراء هذه الآيات، ليفكِّر في ذلك في اتجاهٍ جديد، ثم انطلق ليردّ التحدّي الّذي مارسه فرعون ضدّه في مجال التّجريح الشَّخصيّ، فإذا كان يظنّه مسحوراً لأنّه دعا إلى الإيمان بالله، فإنَّ موسى يوجِّه إليه الإنذار بالحقيقة المرعبة الحاسمة الّتي تنتظره، وهي الهلاك، {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُوراً}[12] ، والثّبور هو الهلاك، وقد عبّر بالظّنّ محاكاةً لأسلوبه في التّعبير. والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [الأعراف: 130].

[2]  [الأعراف: 131].

[3]  [الأعراف: 131].

[4]  [الأعراف: 132].

[5]  [الأعراف: 133].

[6]  [الأعراف: 134].

[7]  [الأعراف: 135].

[8]  [الزخرف: 48].

[9]  [القصص: 36].

[10]  [يونس: 83].

[11]  [الإسراء: 101].

[12]  [الإسراء: 102].

ونواصل الحديث عن حياة النّبيّ موسى(ع) وتجربته الطَّويلة والمتنوّعة.

لقد تركت المعركة بين النّبيّ موسى(ع) وفرعون أثرها الإيجابيّ الكبير في الدَّور الرّساليّ الّذي التزمه النَّبيّ موسى(ع) في حريّة الحركة، فلم يتعرَّض لأيِّ ضغطٍ كبير من السّلطة الفرعونيّة، لأنَّهم شعروا من خلال التّجربة، بأنَّه يملك القوّة الّتي قد يطلق عليها القوة السّحريّة، ولكنّها ـ مع ذلك ـ تؤدّي إلى خشيتهم من تحدّيه اجتماعيّاً، لما قد يثيره في مواجهتهم من ردّ الفعل القويّ... وقد أراد الله أن يهزَّ أوضاعهم، كوسيلةٍ من وسائل إرباك موازين الاستقرار والقوَّة لديهم، كمقدّمةٍ لإضعاف سلطانهم واهتزاز مواقعهم العامَّة.

البلاء يصيب آل فرعون

وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ}، وهذا كناية عن الجدب في عمليَّة الإنتاج الزراعيّ الّذي يعيشون منه ويتغذّون به، وذلك بحبس الأمطار عنهم، أو تسليط الأمراض القاتلة على مزروعاتهم، بحيث يستمرّ ذلك معهم لأكثر من سنة، أو يتنوَّع ضعفاً وقوّةً بين سنةٍ وأخرى، ما يترك تأثيره السّلبيّ في الثّروة الاقتصادية الإنتاجيّة في التّنمية الماديّة، ويربك حياتهم على مستوى التّغذية والتنمية، ليتطوّر تأثيره الكبير في قوّة الحكم ونفوذه في الناس، باعتبار أنّ هذا الحكم يتقرّب إليهم من خلال القدرة المادية الّتي يمنحهم إيّاها طلباً لاستمرار التفافهم حوله وتأييدهم له.

إضافةً إلى أنَّ هذا الأمر يضعف موقع الحكم السّلطويّ في حلِّ المشاكل العامّة الّتي يتعرَّض لها النّاس، لجهة مسؤوليّة الدّولة الحاكمة عن معالجة أوضاع النّاس الصّعبة وإمكاناتهم الضيِّقة، الأمر الَّذي يؤدّي إلى ضعف السّلطة وعدم الثّقة بها، ويدفع الناس الّذين يعانون الجوع والحرمان من خلال حالة الجدب الزّراعيّ والنّقص في الثمرات، إلى البحث عن سلطةٍ أخرى في بلاد ثانية، ليحصلوا على حاجاتهم الحياتيّة، أو يدفعهم إلى الاستجابة للنبيّ موسى(ع) في الإيمان بالله الَّذي قد يلجأون إليه لرفع ذلك عنهم وإنقاذهم منه، لأنّه المالك للأمر كلّه، ولأنَّ قضيَّة الخصب والجدب لا تخضع دائماً للأسباب العاديَّة الّتي يملك النّاس، بمن فيهم أهل السّلطة، أمر التحكّم فيها، سلباً أو إيجاباً.

وقد لا يكون من الضّروريّ أن يكون هذا البلاء عقاباً مباشراً لهؤلاء بالمعنى الغيبـيّ للعقاب، فربما يكون خاضعاً لبعض الأوضاع الطبيعيّة الكونيّة، ولكنَّ الله سبحانه يريد لعباده في مثل هذه الحالات، أن يتذكَّروه ويرجعوا إليه عند اليأس من قدرة أصحاب النّفوذ المهيمنين على الواقع على تغييره، فيتوجّهوا ـ تلقائيّاً ـ إلى الله من خلال الدَّعوة الرساليَّة التي توجّههم إليه، وتفتح في وجدانهم فيوضات رحمته، ليعرفوا أنَّ الله هو وحده القادر على إنقاذهم من هذا البلاء الصّعب، بقوانينه وسننه التي تتحرّك من خلال الأسباب الطبيعيّة الاستثنائيّة الّتي يحركها بقدرته المطلقة، بما قد يعرف النّاس المؤمنون منها، مما أعطاهم من أسرار معرفته من مصدر الرَّسول والرّسالة، ما لا يعرفه أحدٌ بوسائله الخاصَّة، لأنّه مما اختصّ الله بعلمه.

غفلة القوم عن الحقّ

{لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}[1]، ويخرجون من أجواء الغفلة المطبقة على تفكيرهم، بفعل التوجيه المنحرف الّذي أثاره فيهم المضلّون من فئات الشّرك والضّلال، فيتراجعون عن تمرّدهم وعتوّهم واستكبارهم الفرعوني، عندما يلتفتون فيرون أنَّ فرعون الّذي يعبدونه أو يخضعون له، لا يملك حولاً ولا قوّةً، حتى إنّه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فيتذكّرون كلام موسى(ع) في مواعظه ونصائحه وتوجيهاته، الأمر الَّذي قد يدفعهم إلى الانسجام مع نداء الرَّسول للسَّير في خطّ رسالته الدّاعية إلى عبادة الله وحده في كلِّ مجالات الحياة الخاصَّة والعامَّة.

هذا ما يفرضه العقل على مَن يملك بعضه، والوجدان على مَن ينفتح على معناه، والوعي على مَن يتحرّك في مضمونه الفكريّ، ولكنَّهم لم يخرجوا من هذا النّفق المظلم الّذي أدخلتهم فيه السّلطة العمياء، من خلال محاصرتها لهم بالرغبات والشَّهوات والامتيازات، مغلقةً عنهم نوافذ التّفكير في الآفاق الروحيّة المضيئة بالإيمان، ما جعلهم يواجهون الأمر بطريقة أخرى. {فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـذِهِ}، فنحن مستحقّون لها، لكرامتنا الإنسانيَّة الّتي تغدق علينا سحب الخير وفيوضات النّعمة، {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ}[2]، بحيث يعتبرونهم مصدر الشّؤم، مما يتشاءم به النّاس من الأشخاص والأوضاع.

ولكنَّ الله يردُّ عليهم هذا المنطق التبريريّ الّذي يقنعون به أنفسهم من دون أساس، ليجدوا في ذلك بعض الرّاحة النفسيّة، في تحميلهم مسؤوليَّة ما يحدث لهم من سوء، لموسى(ع) والمؤمنين معه، لأنَّهم ـ في نظرهم ـ يمثّلون المشكلة المعقّدة التي تنزل عليهم هذا البلاء، فيقول ـ سبحانه ـ: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللهُ}، فهو الّذي أنزل عليهم ذلك كلّه، لأنّه ـ وحده ـ الّذي يرجع إليه أمر العافية والبلاء، ولا يملكها أحد غيره في الكون كلِّه، حتى إنَّ موسى، النّبيّ المرسل من عند الله، والمؤمنين المقرّبين إليه، لا يستطيعون أن يمارسوا أيَّ شيء من هذا القبيل.

{وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}[3]، لأنَّهم لا يملكون مصادر المعرفة الإيمانيَّة والحقيقة التوحيديَّة، في قدرة الله المطلقة على إدارة الكون كلِّه في كلِّ ما يتعرَّض له الخلق من أوضاعهم المرتبطة بأرزاقهم وأمورهم الحياتيّة الأخرى، وما يزالون في غفلةٍ عن الآفاق الرَّحبة للعقيدة الصّافية المنفتحة على علم الله وقدرته وحكمته في تدبير خلقه في السَّلب والإيجاب، فلا يعرفون كيف يخضع الوجود الكونيّ وما في داخله لإرادة الله في كلِّ شيء؛ فلا مغلق لما فتح، ولا فاتح لما أغلق، ولا رادَّ لما أعطى...

اتّهام موسى بالسِّحر

وهكذا غرقوا في وحول الجهل المطبق، والتخلّف السَّخيف، فوقفوا أمام النبيّ موسى وقفة المتحدّي الّذي يرفض كلَّ آيةٍ للإيمان، مهما بلغت من القوَّة في الحجَّة والبرهان، وابتعدوا عن تذكّر القدرة الإلهيّة الّتي أنزلت عليهم السيِّئة في حياتهم، فجعلهم ذلك لا يرجعون إلى النبيّ موسى، ولا يجدون فيه شخصيّة الرّسول الذي أرسله الله إليهم لهدايتهم إلى الحقّ، بل اعتبروه ساحراً كبيراً، من خلال اعتقادهم بدوره في السِّحر، أو من خلال محاولتهم إلصاق هذه الصِّفة به، لإبعاده عن صفة الرِّسالة الّتي يتعقَّدون منها.

وهكذا كان خطابهم له من خلال وصفهم له بالسَّاحر، {وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ}[4]، فقد أعطوا الآيات الّتي قدَّمها إليهم صفة السِّحر، لأنّهم كانوا يبحثون عن مبرِّرٍ لاستمرارهم على الكفر والتمرّد، على الرّغم من أنهم لو كانوا يحترمون عقولهم، وحرّكوها في دراسة طبيعة هذه الآيات الّتي تنطلق من إرادةٍ غيبيَّة لا من جهد بشريّ، لآمنوا بها، كما فعل السَّحرة الّذين استقدموهم لمجابهة موسى، فيما كانوا يزعمونه من اعتبار الآيتين المعجزتين اللّتين واجه بهما فرعون، من السِّحر بدرجة عالية. لكنّ مشكلتهم أنَّ العصبيَّة العمياء الّتي صادرت عقولهم، وأغلقت تفكيرهم، منعتهم من الانفتاح على الحقيقة الواضحة الّتي تتحدَّاهم بعناصرها الغيبيَّة، الّتي توحي إليهم بالحقيقة من خلال مقارنتها بعبث السحرة في تجربتهم التخييليَّة.

ولذلك، أطلقوا الكلمة التي أعلنوا فيها إصرارهم على رفض الإيمان برسالته، مهما قدّم إليهم من الآيات الإعجازيّة، تعصّباً للخطّ الّذي يلتزمونه، كما هو شأن القوى الطّاغية المستكبرة في كلِّ زمان ومكان، عندما تحاول ضرب كلِّ داعية للحقّ والعدل، والإجهاز على دعوته وتشويه صورته أمام النّاس، فتلصق به أو بدعوته بعض الصّفات السّلبيّة التي توحي بالمعاني المتخلّفة البعيدة عن كلِّ خير وصلاح، ليكون ذلك مبرّراً لهم للوقوف ضدَّه، ولإبعاد الناس عن القبول بدعوته، بكلِّ ما يملكونه من قوّة البغي والعدوان، خوفاً من تأثيره الرّساليّ في سلطانهم وامتيازاتهم الماديّة والسياسيّة.

بلاء متنوّع

وبدأت الآيات تتحرّك في الضَّغط على أوضاعهم، وتدمير خصوصيّاتهم المعيشيَّة وامتداداتهم الحياتيّة في البلاء المتنوّع الّذي أخذ يطاول القضايا الحيويّة للواقع الّذي يعيشون في داخله.

{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَـ فأغرق كلَّ شيء من الزّرع والمال والثروة الحيوانيَّة والمواقع الاقتصاديّة ـ وَالْجَرَادَ ـ الذي أكل كلَّ ثمراتهم الزراعيّة ـ وَالْقُمَّلَ ـ (بضمّ القاف وتشديد الميم)، وهي دوابّ صغار كالقردان تركب البعير. أمّا مع فتح القاف وتخفيف الميم، فهي الحشرة المعروفة التي تزحف على الرّؤوس والأجساد، وكلاهما ينزل البلاء والوباء ـ وَالضَّفَادِعَ ـ التي يُقال إنها كانت تظهر في طعامهم وشرابهم، فتنغِّص عليهم حياتهم ـ وَالدَّمَ ـ فقد تحوَّل الماء عندهم إلى دم ـ كما يقال ـ وقيل إنهم أصيبوا بمرض الرّعاف ـ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ ـ لتنذرهم وتعطيهم فكرةً عن سخط الله وعقابه ـ فَاسْتَكْبَرُواْ ـ على الله ورسوله بما يعيشونه من عقدة الكبرياء والجبروت، ورفضوا الاقتناع بما توحيه هذه الآيات من خلفيّات غيبيّة، والانفتاح على الإيمان بالله في قدرته على إنزال البلاء بهم بما لا يطيقون الصَّبر عليه ـ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ}[5]، فقد تأصَّلت الجريمة في أفكارهم، حتى صاروا يخطِّطون لتأكيدها في الواقع، وفي مشاعرهم الّتي صارت تجذب الحقد والضّغينة إلى العلاقة بالحقّ، وحاولوا أن يتماسكوا، وأرادوا أن يعالجوا المشكلة النّاشئة من ضغط هذه الآيات عليهم، ولكنَّهم عجزوا عن ذلك.

{وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ}، وهو العذاب ـ في معنى الكلمة هنا ـ وضاق بهم الأمر، ولم يجدوا مجالاً للاستمرار فيما هم فيه، وعرفوا بفطرتهم الذاتيَّة أنَّ هذا الأمر ليس من فعل موسى بصفته البشريّة أو قدرته السحريّة، لأنه يتجاوز الإمكانات العادية لأيّ إنسان، وأدركوا أنَّ الله ـ ربّ موسى وهارون ـ هو الذي أنزل عليهم ذلك عقاباً لهم على طغيانهم في أعمالهم الاستكباريّة، لجأوا إلى موسى ـ في نهاية المطاف ـ وتوسَّلوا إليه أن يدعو ربّه القادر على الأمر كلّه، أن يخلّصهم من البلاء الذي وقع عليهم، ليكشف عنهم العذاب، وعاهدوه على أن يؤمنوا بالله، ووعدوه بإرسال قومه معه، وتحريرهم من الطوق الاستعباديّ الّذي أحاطوهم به.

{قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ ـ من كرامته ولطفه ورحمته ـ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ ـ ببركة دعائك، وخلّصتنا من هذا الوضع الصَّعب الّذي أوقعنا في الشدّة في حياتنا العامّة ـ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}[6]، فيتحقَّق لك ما تريده من الإيمان الشامل برسالتك في امتداده العقيديّ في الواقع كلّه، في موقعنا وفي موقع الجماهير التابعة لله، ومن تحرير قومك من العبوديّة والاضطهاد.

الإصرار على الكفر

وقد أراد الله أن يمنحهم فرصةً للتّصحيح، أو ليظهر كذبهم وانحرافهم ونقضهم للوعد الّذي أخذوه على أنفسهم أمامه، {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ ـ فلم يتعهَّد الله لهم برفع العذاب إلى ما لا نهاية من الزّمن، بل رفعه إلى وقتٍ ما لينظر كيف يعملون ـإِذَا هُمْ يَنكُثُونَ}[7]، ينقضون العهد، فكان الحسم الأخير، وكانت النّهاية.

وقد صوّر لنا القرآن الكريم هذه المسألة في سورة الزّخرف، بقوله تعالى: {وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا}، تبعاً لما تمثِّله كلّ آيةٍ من الضّغط الّذي لا يتحمّلون نتائجه، {وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[8]، ولكنَّهم لم يرجعوا، بالرّغم من عهدهم للنّبيّ موسى بالإيمان برسالته، ومن إرسال قومه معه إذا رفع عنهم هذا العذاب الشَّديد.

ونستوحي أيضاً من هذه الآية، أنَّ فرعون كان لا يزال يملك القوَّة الطّاغية المسيطرة على بني إسرائيل في حصاره لهم وتطويق حريّاتهم، ما جعل الفرعونيّين يعاهدون موسى(ع) بإرسالهم معه، وتحريرهم من ضغوطهم القاسية، لأنَّ الحريّة التي حصل عليها موسى في انتصاره في المعركة، لم تتطوَّر إلى المستوى الّذي يستطيع فيه تحرير قومه. كما أنّهم استمرّوا في إصرارهم العنادي، بأنَّ هذه الآيات البيِّنات تمثّل عملاً من أعمال السِّحر، وهذا ما جاء في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءهُم مُّوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ}[9].

وهكذا واجه موسى(ع) هذه التَّعقيدات المثيرة من خلال هؤلاء الّذين اتّبعوا الشّيطان وخضعوا له، فأنساهم ذكر الله، وأدخلهم في الظّلمات التي منعتهم من رؤية النّور المنطلق من نور الرسالة والرسول.

أمَّا قوم موسى، فإنّهم لم يستطيعوا أن يستوعبوا خطَّ الإيمان بالله، ولا اتّباع رسالته، لأنَّ التخلّف الفكريّ كان مسيطراً على عقولهم، فلم يملكوا التّفكير العميق الّذي يدرسون من خلاله الدّعوة الرساليّة التي جاء بها موسى، حتى إنَّ المؤمنين بموسى(ع)، كانوا يعيشون القلق النّفسيّ والخوف من أن يضغط عليهم فرعون لإجبارهم على التّراجع عن إيمانهم. وهذا ما جاء في قوله تعالى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ}[10].

تحدّي فرعون لموسى

وقد حاول فرعون أن يتحدّى موسى بالكلام الاتهاميّ، بأنّه شخصيّة مسحورة بفعل السّحرة الّذين ضغطوا على عقله فابتعد عن التفكير السَّليم، ولكنّ موسى كان يملك القوّة التي جعلته يواجه هذا الطاغية بالكلمة القويّة القاسية، وهذا ما جاء في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً}[11]، وأنّك تخضع في نفسك وفي أعمالك المتنوّعة للسِّحر، ولست رسولاً من الله تحمل الرّسالة وتهدي إلى الحقّ.

{قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَـؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}، لأنَّ القدرة البشريَّة لا تملك القيام بذلك بهذا المستوى من الإعجاز والقوَّة الخارقة الّتي لا يملكها أيّ ساحر، لأنَّ السِّحر لا يمثِّل أيَّ عمقٍ في تغيير الواقع وفي التَّأثير الفاعل في الحياة، بل يمثّل تغيير الشّكل في السّطح، ويبعث الاهتزاز في حركة الصّورة في إحساس البصر، بينما تتحرَّك هذه الآيات الّتي أطلقتها أمامك، والتي حرَّكتها في حياة المجتمع من حولك، في أوضاع قومك والآخرين ممن يعيشون تحت سلطتك، لتصنع واقعاً جديداً في بعض مظاهر الحياة، بما يدلّ على أنها ليست من صنع البشر، بل لم ينـزلها إلا ربّ السَّماوات والأرض، خالق الكون كلّه وما فيه، لتكون {بَصَآئِرَ}، تفتح عيون النّاس الذين يكفرون بالله وبرسله على الحقيقة الّتي يرتكز عليها الإيمان، ليفكّروا في المسألة من جانبٍ آخر غير الجانب الّذي تعوّدوا أن يوجّهوا التَّفكير إليه.

وهذه هي مهمَّة الآيات الّتي ينـزلها الله على عباده، فهي ليست عرضاً للقوّة لينبهر النّاس بها في حالةٍ انفعاليّة، بل هي تحريك للفكر، ليقتنع النّاس بالحقّ من خلالها، وليكتشفوا ما لا يستطيعون اكتشافه إلا من خلالها بفعل الضّغوط الّتي يواجهونها في حركة العقيدة في حياتهم.

وهكذا، أثار موسى أمام فرعون حقيقة السرّ الّذي يختفي وراء هذه الآيات، ليفكِّر في ذلك في اتجاهٍ جديد، ثم انطلق ليردّ التحدّي الّذي مارسه فرعون ضدّه في مجال التّجريح الشَّخصيّ، فإذا كان يظنّه مسحوراً لأنّه دعا إلى الإيمان بالله، فإنَّ موسى يوجِّه إليه الإنذار بالحقيقة المرعبة الحاسمة الّتي تنتظره، وهي الهلاك، {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُوراً}[12] ، والثّبور هو الهلاك، وقد عبّر بالظّنّ محاكاةً لأسلوبه في التّعبير. والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [الأعراف: 130].

[2]  [الأعراف: 131].

[3]  [الأعراف: 131].

[4]  [الأعراف: 132].

[5]  [الأعراف: 133].

[6]  [الأعراف: 134].

[7]  [الأعراف: 135].

[8]  [الزخرف: 48].

[9]  [القصص: 36].

[10]  [يونس: 83].

[11]  [الإسراء: 101].

[12]  [الإسراء: 102].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية