مواجهة موسى(ع) للتّحدّيات الفرعونيَّة

مواجهة موسى(ع) للتّحدّيات الفرعونيَّة

ونواصل الحديث عن تجربة النّبيّ موسى(ع) والتّحدّيات الّتي كانت تواجهه، ومن تلك التّحدّيات، تحدّيات السّلطة الفرعونيَّة..

غرور فرعون بملكه

تطوّرت نظرة فرعون إلى نفسه حتى وصلت إلى حال انتفاخ مرضيّ سيطرت على تفكيره، من خلال الامتيازات الماديّة الّتي كان يملكها، والنّاس الذين خضعوا له، والتخلّف المعرفيّ الّذي حكم عناصر شخصيّته، ومن خلال الاستضعاف البشريّ لبعض الفئات الضّعيفة المقهورة الّتي استعبد أوضاعها العامّة والخاصّة، حتى تعاظم هذا المرض النّفسيّ الخطير في نظرته إلى ذاته، بحيث تصوّر موقعه في مستوى الربوبيَّة الّتي تفرض على الناس أن يعبدوه، فلم يعد يرى في العالم إلا نفسه، ولا يحسّ في السَّاحة إلا بوجوده، ولا يتصوَّر الحياة من حوله إلا من خلال وحدانيَّته الّتي تفرض نفسها على الواقع كلِّه، فصار يعتبر أنَّ الَّذين لا يملكون من الإمكانات المادّيّة ما يملكه، لا يمثِّلون أيّة قيمة إنسانيَّة فاعلة كبرى، وهذا ما جعله يتحدَّث عن النّبيّ موسى(ع) بلهجة احتقاريّة، ولا سيَّما أنّه كان مستضعفاً من قوم مستضعفين، وكان له الفضل عليه في تربيته، وقد عبّر عن ذلك عندما خاطبه بقوله: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ}[1].

وهكذا أراد استعراض قوَّته الماديَّة أمام قومه، للتَّدليل على سعة ملكه، تعبيراً عن موقعه الكبير الَّذي لا يقترب منه أحد، وذلك ما جاء في قوله تعالى: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ}[2]، فأنا الَّذي أملك هذا البلد الواسع الكبير المملوء بالثّروات، والحافل بالخيرات، والقويّ بفعل هذه القوّة البشريَّة من الناس، إضافةً إلى الأنهار التي تجري تحت قدرتي، فتخصب الأرض بالثّمار المتنوّعة، والأشجار الباسقة، وتروي ظمأ الظّامئين، ما يجعل من موقعي حاجةً ضروريّةً للحياة كلّها.

{أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ}[3]، فماذا يملك موسى ليتحدَّى سلطتي، وينازعني في ملكي، ويهدِّدني في أرضي وسلطاني؟ فهو الإنسان المهين الّذي لا يملك أيّ عنصر من عناصر الاحترام التي تجعله شخصاً مرموقاً نظراً إلى وضعه المستضعف، وخصوصاً أنّه لا يكاد يفصح عمّا في نفسه في منطقه، {فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ}[4]، فكيف يدَّعي لنفسه المقام القياديّ في كونه ممثّلاً لربّه، ربّ السماوات والأرض، وهو الفقير في المال؟! فلو جاءنا وهو يلبس أسورةً من ذهب تدلّ على ثروته وتمنحه رونقاً وبهاءً وزينةً وعظمةً، فيما كان النَّاس يعتادونه من هذه الأمور الّتي تدلُّ على مكانة الشَّخص، أو لو أنّه جاء مع الملائكة الَّذين يشهدون له بالصِّدق بما يدَّعيه من الرِّسالة، وينفتحون به على الغيب، لأمكننا أن نحترمه ونقدِّر موقعه.

وهكذا، ترك كلام فرعون تأثيراً كبيراً في قومه، لأنَّ ذلك وحده الّذي يؤكِّد زعمه، حيث كان منطقه قريباً إلى ذهنيَّتهم التي كانت تركّز على المقوّمات الخارجية للشخصيّة مما تملكه من مالٍ وجاهٍ وقوّة، لا فيما تملكه من كفاءاتٍ فكريَّة وروحيَّة وعمليَّة، ولذلك انفعلوا بالمقارنة الّتي عقدها فرعون بينه وبين موسى، {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ}، أي استفزَّهم بأسلوبه القريب من سذاجة عقولهم، فحملهم على أن يسقطوا تحت تأثير منطقه، ويخضعوا لعناصر القوَّة في شخصه.

{فَأَطَاعُوهُ}، بالانصياع لخطَّته في مواجهة موسى(ع)، ولم يحاولوا أن يدرسوا كلامه دراسةً موضوعيّةً صائبة، ليعرفوا أنَّ السّلطة والمال لا يدخلان في تقويم الشخصيّة في الجانب القياديّ، لأنَّ القيادة تحتاج إلى العقل المنفتح، والفكر الواسع، والتَّجربة الغنيَّة، والقوّة الداخليّة في الذّات الإنسانيَّة، وهو ما يملكه النّبيّ موسى(ع) ولا يملكه فرعون. ولكنَّ المشكلة أنَّ هؤلاء النّاس لم يملكوا القدرة على التّوازن في التّفكير في موازين القيمة للأشخاص الَّذين يحكمون البلاد والعباد، ولم يتميَّزوا بالعقل الّذي يميِّز بين الحسن والقبيح، بل كانوا يتحركون من خلال جهلهم وتخلّفهم وانحرافهم الإنسانيّ عن الخطِّ المستقيم.

{إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ}[5]، لا يملكون الأساس القويم الَّذي يثبِّت أقدامهم على الأرض الصَّلبة في حركتهم الثّقافيَّة، وفي التزاماتهم المبدئيّة في التوازن العملي لما يفعلونه ويتركونه، لأنَّهم ليسوا أصحاب فكرٍ يضبط لهم مواقفهم، ويحدِّد لهم مواقعهم، بل هم أصحاب أهواء ومطامع تحرِّكهم ذات اليمين وذات الشّمال.

تزعزع قوَّة فرعون

ووفقاً لذلك، استطاع فرعون استغلال هؤلاء الجاهلين المتخلّفين الطَّامعين في ماله وجاهه، والطَّامحين للحصول على الامتيازات الكبرى في سلطانه، فرأى نفسه كبيراً بخضوعهم له وتصاغرهم أمامه، وابتعد بذلك عن التَّفكير في نقاط الضَّعف الداخليَّة الذاتيَّة في عناصره الشَّخصيَّة.

وهكذا خيِّل إليه من خلال هذا الانتفاخ المريض في نفسه، أنّه يتصاعد إلى المستوى الّذي يرتفع به إلى درجة اعتبار نفسه إلهاً للنّاس، فأعلن ذلك للجماهير الّتي حشدها في ساحته وحشرها في موقعه، كما جاء في قوله تعالى: {فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}[6]، ليتطلَّعوا إليه كما يتطلَّع العباد إلى ربهم في غياب العقل وغفلة الإحساس. وجاء في آيةٍ أخرى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي}[7]، لأنّني لم أجد أحداً يملك من العظمة ما أملكه، ومن عناصر القوّة ما أتميّز به.

وقد كان يشغله ويقلقه حديث النبيّ موسى(ع) عن ربِّ العالمين، لذا بادره بالسؤال المثير الَّذي هزّ جوابُ موسى(ع) عنه وجدانَه، وتحدّى جهله، وأبرز ضعفه، وهو ما جاء في قوله تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ}[8].

وقد شعر من خلال هذا المنطق الرّسوليّ بالرّعب من هذا الربِّ الّذي يهيمن على السَّماوات والأرض وما بينهما وعلى النَّاس كلِّهم؛ من مات ومن بقي، ولذلك لم يستطع التَّماسك أمام قومه، إلا باللّجوء إلى اتّهام موسى بالجنون، {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ}[9]، بما يدَّعيه من أنّه رسولٌ لهذا الربِّ العظيم الواسع القدرة، حسب زعمه. ولكنَّ موسى(ع) لم يتركه في حال الهدوء الّتي حاول أن يظهر بها أمام النَّاس، فأطلق حديثه عن الصّفة الثّانية لله ربِّ العالمين، {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ}[10]، ولذلك، فإني أدعوكم إلى أن تفكّروا بعقولكم، وتنفتحوا بوجدانكم، لتكتشفوا أنَّ الله وحده هو الّذي يملككم، ويملك ما تملكون، ويسيطر على العالم كلِّه.

وبدأ فرعون الّذي أعوزته الحيلة عن جوابه بالمنطق العقلانيّ، بتهديد موسى(ع) بالسِّجن، باعتباره إنساناً ضعيفاً من قومٍ ضعفاء يملك السلطة القويّة عليهم، {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}[11]، وظنّ أنَّ ذلك سوف يهزم الحالة النفسيّة لموسى، ولكنه تحدّاه بما زلزل عقله، وأضعف موقفه، وأسقط موقعه، {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ}[12]. وأسقط بما في يده، وربما شعر بأنَّ هذا الرّبّ ليس مجرّد حالةٍ سحريَّة أو خياليَّة، بل هو حقيقة صارخة قادرة مهيمنة. وهكذا آمن قومه بوجود هذا الإله الّذي سجد له السَّحرة، ولكنهم لم يعترفوا بذلك، كما جاء في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}[13].

قلق فرعون من موسى

وبدأ القلق الكبير يدبّ في نفس فرعون، وأصيب بضعفٍ في عقله، ففكّر في أن يدخل في حرب مع هذا الربّ العظيم لينتصر عليه بالقوَّة الّتي يملك عناصرها في ملكه الربوبيّ ـ حسب زعمه ـ، وهذا ما جاء في قوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ}[14]، في تصوّرٍ ساذجٍ بأنَّ الله يسكن في مناطق العلوِّ في السَّماء، ليصعد إليه ويدخل في صراعٍ معه. وجاء في آيةٍ أخرى تعبير أكثر صراحةً عن تصوّراته السَّاذجة: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ}[15].

فقد كان فرعون يتوهَّم أنَّ لهامان قدرةً على أن يبني له صرحاً ليبلغ به أسباب السَّماوات، الّتي لا يملك كلّ قوم فرعون وكلّ معاونيه في السّلطة، كهامان وقارون، أن يصلوا إلى مواقعها العالية. وقد تحدَّث الله عنهم في قوله: {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ}[16]، فقد كانوا يمثِّلون مراكز القوى الماليَّة والسياسيّة التي أفسحت لهم مجال السَّيطرة الواسعة، وهو ما جعلهم لا يستمعون إلى البيِّنات التي جاء بها موسى ليهديهم إلى الله وإلى صراطه المستقيم، بل إنَّ استكبارهم دفعهم إلى إنكار الحقّ، والتّعالي على النّاس، والتمرّد على الرّسل، وحاولوا أن يدافعوا بقوّتهم ليُبطلوا الرسالة، ويهزموا الرسول، ويطفئوا نور الله، فلم يستطيعوا ذلك، فقد أخذهم الله بعذابه، وما كانوا في موقع الغلبة، بما يمثّله التعبير بالسَّبق على سبيل الكناية، ولكنَّهم تحركوا في عمليَّة الهروب إلى الأمام، وذلك باتهام موسى بالسِّحر، للإعذار إلى أنفسهم وإلى النّاس في موقفهم المعاند، وهذا ما جاء في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ}[17].

وحار فرعون، ماذا يفعل في مواجهة النّبيّ موسى(ع) الّذي بدأ نفوذه يمتدُّ إلى مصر؟ وربما كان المؤمنون التّابعون له من قومه ومن غير قومه يزدادون بعد انتصاره الكبير، ولا سيَّما بعد أن حذَّره قومه الَّذين خافوا أن يفقدوا امتيازاتهم، وأن تتطوَّر حركة موسى إلى أن يبلغ الموقع الّذي يملك فيه السّلطة على الساحة كلّها، من خلال امتداد دعوته التوحيديّة الإصلاحيّة الّتي تفسد على المجتمع الفرعوني كلّ خططه وأفكاره ومواقفه وعلاقاته العامّة، مما يعتبرونه إفساداً في الأرض، وتدميراً للآلهة المدّعاة الّتي كان فرعون يتعبّد لها مع قومه.

محاولة التخلّص من موسى

{وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ}[18]، فكيف تدافع عن نظامك وآلهتك؟

وعندما لم يجد أيّة فرصة واقعيّة تحقِّق له النّصر من خلال المواجهة المتكافئة، حيث سبق له أن دخل في تجربتها وانهزم ـ مع سحرته ـ فيها، ما كان منه إلا اللّجوء إلى المجازر الوحشيَّة اللاإنسانيَّة، وذلك من خلال قتل الأطفال عند ولادتهم، لئلاّ ينشأ جيل جديد يملك القوّة العدديّة البشريّة في المستقبل، وهو أمرٌ لا يمكن أن يحقِّق أيَّ نصرٍ لأيّ حاكم يحترم نفسه، لأنَّ الانتصار لا يتحقَّق بقتل الطفولة واستحياء النّساء لإبقائهنّ من أجل الخدمة، {فَلَمَّا جَاءهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاء الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ}[19]. ونستوحي من ذلك، عجز فرعون وقومه عن التصدّي للمؤمنين بموسى(ع)، ما جعلهم ينتقلون إلى قتل أبنائهم، وهذا ما يؤكِّد السّقوط الإنسانيّ والإحباط السّلطويّ الّذي أصابهم في خطِّ المواجهة.

وتتعاظم العقدة النفسيّة لدى فرعون، فيعلن عزمه على قتل موسى الّذي أصابه بالإرباك في حكمه، منادياً قومه بأن يتركوه في هذه المبادرة التّصفويّة للخلاص من هذه القوّة الجديدة، في عمليّة استعراضٍ مجنونٍ للمواجهة مع الله الّذي سوف يقهره إذا تدخَّل في الدّفاع عنه، وذلك هو قوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ}، ليدافع عنه دون جدوى، مبرّراً ذلك بأنَّ مسؤوليَّته في حاكميَّته الربوبيّة هي حماية الدّين الذي ينتمي إليه النّاس في مصر، والقائم على عبادة الأوثان وعبادته، في مواجهة الدّين الّذي يدعو إليه موسى القائم على توحيد الله وعبادته، ورفض عبادة غيره من حجرٍ أو بشر، والدِّفاع عن الحركة الإصلاحيّة الّتي تمثّل نظامه القانوني في خطوطه التشريعيَّة والتنفيذيّة ضدّ موسى، الَّذي انطلق في حركته ونشاطه التخريبـيّ الإفساديّ لإظهار الفساد في الأرض على مستوى الأوضاع العامَّة في العلاقات الاجتماعيَّة والمعاملات القانونيَّة، وذلك ما عبّر عنه الله تعالى حاكياً عن منطقه: {إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ}[20].

وكان ردّ فعل موسى على هذا التَّهديد، هو الاستعاذة بالله من هذا الطّاغية، الذي لا يرتكز على خطِّ الإنسانيّة المنفتحة على الحقِّ والإيمان بيوم الحساب، {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ}[21]، ممّن يجعله استكباره يبرّر لنفسه كلَّ الجرائم الّتي يقوم بها ضدّ الرّساليّين المصلحين، انطلاقاً من عمق إحساسه بالكبرياء الّتي يختنق بها في الاستغراق في ذاته.

التَّخطيط لإنهاء فرعون

وفي نهاية المطاف، بدأ التَّخطيط الإلهيّ لإنهاء مرحلة فرعون، وكان التَّوجيه الصَّادر عن الله هو تنظيم الجماعة التّابعة لموسى بالطّريقة التي تمكّنهم من التحرك بقوّة، وهذا ما جاء في قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوت}، لتكون قاعدةً للانطلاق في عمليَّة صنع القوّة المستقبليّة، لأنّ بدايات النّصر قد لاحت، فلا مجال للاهتزاز في المواقع، بل لا بدَّ من التّخطيط للثّبات بما تمثّله إقامة البيوت المتقابلة، {وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}، أي متقابلة في مواجهة بعضها البعض، لأنَّ ذلك يؤمِّن إمكانيّة مواجهة أيّ خطر داهم، كأسلوبٍ من أساليب تجميع القوّة، {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ} الّتي تمثِّل الطابع الروحيّ الذي يطبع هذا المجتمع الجديد الذي يرتكز على أساس عبادة الله في مواجهة عبادة الطّاغوت، {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}[22] بالنّصر على فرعون في المرحلة النهائيّة، وبداية التحرك لإنهاء الطغيان، ليبدأ عهد جديد يرفّ فيه لواء الحقّ والعدل على رؤوس الجميع، فلا يبقى مجال لأيِّ ضغطٍ خارجيٍّ كافر، مهما كان نوعه.

وقد بدأ موسى(ع) بمنطقه الابتهاليّ أمام الله، في ذكر ما يواجهه من مشاكل المجتمع الفرعوني، وتأثير فرعون في النّاس من خلال القدرات الماديّة الّتي يملكها هو وجماعته، وذلك قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَ}[23]، الأمر الّذي جعل منهم فتنةً للنّاس الآخرين، ومكَّنهم من استغلال ذلك في عمليَّة الإغواء والإضلال، {رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ}، من خلال الضّغوط النّفسيَّة الّتي يضغطون بها على النّاس في حاجاتهم إلى أموالهم، وفي انفعالهم بالزينة الّتي تبهر أبصارهم وتغري النّفوس بأشكالها وألوانها، ما يضعف المواقف ويسحق الإرادات، {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} وامحقها، لئلاّ يكون لهم سبيل ضاغط على النّاس البسطاء، {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} واطبعها، حتى لا تنفتح على أيِّ فكرٍ يوحي إليها بالامتداد في حياة النَّاس، {فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ}، ليكون إيمانهم في نهاية الأمر من موقع رؤيتهم للعذاب الّذي يلتقون معه بالحقيقة، ولكن من دون جدوى.

وهكذا استجاب الله دعاء موسى وهارون، فأوحى إليهما: {قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَ} في موقع القوَّة الجديد الّذي ستحصلان عليه بعد إهلاك الطّاغوت، وتابعا المسيرة في الخطِّ الّذي أراد الله لكما أن تسيرا فيه، لأنَّ الإنسان بطبيعته الغريزيّة، قد يضعف أمام السّلطة، فيترك ما كان يدعو إليه، ويستسلم للدّوافع الذاتيّة والمؤثّرات الشّيطانيّة، بفعل الغفلة المطبِقة على عقله إذا لم ينفتح على الله في كلِّ حالاته، {وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} طريق الحقّ، ولا يهتدون إلى غايات الخير والعدل والإيمان.

هذا هو أسلوب التربية القرآنيَّة القائم على الإيحاء الدَّائم إلى الدّعاة ـ بمن فيهم الأنبياء ـ بالبقاء في خطِّ الاستقامة، والحذر الشَّديد من الانحراف والاستغراق في أيّة حالةٍ ذاتيّة، لأنَّ المسألة لا تتَّصل بمستوى الذَّات وقضيّتها، بل ترتبط بضخامة التحدّيات التي تواجه الرسالة وتزلزل الإنسان، وقد تهوي به إلى مكانٍ سحيق، لذا لا ينبغي أن يكون النّظر إلى قيمة الشّخص في درجة عظمته، ممّا يمنع البعض من إثارة النّصح والتّحذير له، بل إلى قيمة الرّسالة في حمايتها من كلّ الأوضاع السّلبيّة التي قد تحيط بحاملها فتنحرف به عن الخطّ المستقيم... وهذا درسٌ لكلّ الدّعاة إلى الله بعد مرحلة النبوّات والأنبياء في كلّ زمان ومكان. والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [الشعراء: 18].

[2]   [الزخرف: 51].

[3]  [الزخرف: 52].

[4]  [الزخرف: 53].

[5]  [الزخرف: 54].

[6]  [النازعات: 20 ـ 24].

[7]  [القصص: 38].

[8]   [الشعراء: 23 ـ 26].

[9]  [الشعراء: 27].

[10]  [الشعراء: 28].

[11]  [الشعراء:29].

[12]  [الشعراء: 30 ـ 33].

[13]   [النمل: 13، 14].

[14]   [القصص: 38].

[15]   [غافر: 36، 37].

[16]  [العنكبوت: 39].

[17]  [غافر: 23، 24].

[18]  [الأعراف: 127].

[19]  [غافر: 25].

[20]  [غافر: 26].

[21]  [غافر: 27].

[22]  [يونس: 87].

[23]  [يونس: 88]. 

ونواصل الحديث عن تجربة النّبيّ موسى(ع) والتّحدّيات الّتي كانت تواجهه، ومن تلك التّحدّيات، تحدّيات السّلطة الفرعونيَّة..

غرور فرعون بملكه

تطوّرت نظرة فرعون إلى نفسه حتى وصلت إلى حال انتفاخ مرضيّ سيطرت على تفكيره، من خلال الامتيازات الماديّة الّتي كان يملكها، والنّاس الذين خضعوا له، والتخلّف المعرفيّ الّذي حكم عناصر شخصيّته، ومن خلال الاستضعاف البشريّ لبعض الفئات الضّعيفة المقهورة الّتي استعبد أوضاعها العامّة والخاصّة، حتى تعاظم هذا المرض النّفسيّ الخطير في نظرته إلى ذاته، بحيث تصوّر موقعه في مستوى الربوبيَّة الّتي تفرض على الناس أن يعبدوه، فلم يعد يرى في العالم إلا نفسه، ولا يحسّ في السَّاحة إلا بوجوده، ولا يتصوَّر الحياة من حوله إلا من خلال وحدانيَّته الّتي تفرض نفسها على الواقع كلِّه، فصار يعتبر أنَّ الَّذين لا يملكون من الإمكانات المادّيّة ما يملكه، لا يمثِّلون أيّة قيمة إنسانيَّة فاعلة كبرى، وهذا ما جعله يتحدَّث عن النّبيّ موسى(ع) بلهجة احتقاريّة، ولا سيَّما أنّه كان مستضعفاً من قوم مستضعفين، وكان له الفضل عليه في تربيته، وقد عبّر عن ذلك عندما خاطبه بقوله: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ}[1].

وهكذا أراد استعراض قوَّته الماديَّة أمام قومه، للتَّدليل على سعة ملكه، تعبيراً عن موقعه الكبير الَّذي لا يقترب منه أحد، وذلك ما جاء في قوله تعالى: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ}[2]، فأنا الَّذي أملك هذا البلد الواسع الكبير المملوء بالثّروات، والحافل بالخيرات، والقويّ بفعل هذه القوّة البشريَّة من الناس، إضافةً إلى الأنهار التي تجري تحت قدرتي، فتخصب الأرض بالثّمار المتنوّعة، والأشجار الباسقة، وتروي ظمأ الظّامئين، ما يجعل من موقعي حاجةً ضروريّةً للحياة كلّها.

{أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ}[3]، فماذا يملك موسى ليتحدَّى سلطتي، وينازعني في ملكي، ويهدِّدني في أرضي وسلطاني؟ فهو الإنسان المهين الّذي لا يملك أيّ عنصر من عناصر الاحترام التي تجعله شخصاً مرموقاً نظراً إلى وضعه المستضعف، وخصوصاً أنّه لا يكاد يفصح عمّا في نفسه في منطقه، {فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ}[4]، فكيف يدَّعي لنفسه المقام القياديّ في كونه ممثّلاً لربّه، ربّ السماوات والأرض، وهو الفقير في المال؟! فلو جاءنا وهو يلبس أسورةً من ذهب تدلّ على ثروته وتمنحه رونقاً وبهاءً وزينةً وعظمةً، فيما كان النَّاس يعتادونه من هذه الأمور الّتي تدلُّ على مكانة الشَّخص، أو لو أنّه جاء مع الملائكة الَّذين يشهدون له بالصِّدق بما يدَّعيه من الرِّسالة، وينفتحون به على الغيب، لأمكننا أن نحترمه ونقدِّر موقعه.

وهكذا، ترك كلام فرعون تأثيراً كبيراً في قومه، لأنَّ ذلك وحده الّذي يؤكِّد زعمه، حيث كان منطقه قريباً إلى ذهنيَّتهم التي كانت تركّز على المقوّمات الخارجية للشخصيّة مما تملكه من مالٍ وجاهٍ وقوّة، لا فيما تملكه من كفاءاتٍ فكريَّة وروحيَّة وعمليَّة، ولذلك انفعلوا بالمقارنة الّتي عقدها فرعون بينه وبين موسى، {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ}، أي استفزَّهم بأسلوبه القريب من سذاجة عقولهم، فحملهم على أن يسقطوا تحت تأثير منطقه، ويخضعوا لعناصر القوَّة في شخصه.

{فَأَطَاعُوهُ}، بالانصياع لخطَّته في مواجهة موسى(ع)، ولم يحاولوا أن يدرسوا كلامه دراسةً موضوعيّةً صائبة، ليعرفوا أنَّ السّلطة والمال لا يدخلان في تقويم الشخصيّة في الجانب القياديّ، لأنَّ القيادة تحتاج إلى العقل المنفتح، والفكر الواسع، والتَّجربة الغنيَّة، والقوّة الداخليّة في الذّات الإنسانيَّة، وهو ما يملكه النّبيّ موسى(ع) ولا يملكه فرعون. ولكنَّ المشكلة أنَّ هؤلاء النّاس لم يملكوا القدرة على التّوازن في التّفكير في موازين القيمة للأشخاص الَّذين يحكمون البلاد والعباد، ولم يتميَّزوا بالعقل الّذي يميِّز بين الحسن والقبيح، بل كانوا يتحركون من خلال جهلهم وتخلّفهم وانحرافهم الإنسانيّ عن الخطِّ المستقيم.

{إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ}[5]، لا يملكون الأساس القويم الَّذي يثبِّت أقدامهم على الأرض الصَّلبة في حركتهم الثّقافيَّة، وفي التزاماتهم المبدئيّة في التوازن العملي لما يفعلونه ويتركونه، لأنَّهم ليسوا أصحاب فكرٍ يضبط لهم مواقفهم، ويحدِّد لهم مواقعهم، بل هم أصحاب أهواء ومطامع تحرِّكهم ذات اليمين وذات الشّمال.

تزعزع قوَّة فرعون

ووفقاً لذلك، استطاع فرعون استغلال هؤلاء الجاهلين المتخلّفين الطَّامعين في ماله وجاهه، والطَّامحين للحصول على الامتيازات الكبرى في سلطانه، فرأى نفسه كبيراً بخضوعهم له وتصاغرهم أمامه، وابتعد بذلك عن التَّفكير في نقاط الضَّعف الداخليَّة الذاتيَّة في عناصره الشَّخصيَّة.

وهكذا خيِّل إليه من خلال هذا الانتفاخ المريض في نفسه، أنّه يتصاعد إلى المستوى الّذي يرتفع به إلى درجة اعتبار نفسه إلهاً للنّاس، فأعلن ذلك للجماهير الّتي حشدها في ساحته وحشرها في موقعه، كما جاء في قوله تعالى: {فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}[6]، ليتطلَّعوا إليه كما يتطلَّع العباد إلى ربهم في غياب العقل وغفلة الإحساس. وجاء في آيةٍ أخرى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي}[7]، لأنّني لم أجد أحداً يملك من العظمة ما أملكه، ومن عناصر القوّة ما أتميّز به.

وقد كان يشغله ويقلقه حديث النبيّ موسى(ع) عن ربِّ العالمين، لذا بادره بالسؤال المثير الَّذي هزّ جوابُ موسى(ع) عنه وجدانَه، وتحدّى جهله، وأبرز ضعفه، وهو ما جاء في قوله تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ}[8].

وقد شعر من خلال هذا المنطق الرّسوليّ بالرّعب من هذا الربِّ الّذي يهيمن على السَّماوات والأرض وما بينهما وعلى النَّاس كلِّهم؛ من مات ومن بقي، ولذلك لم يستطع التَّماسك أمام قومه، إلا باللّجوء إلى اتّهام موسى بالجنون، {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ}[9]، بما يدَّعيه من أنّه رسولٌ لهذا الربِّ العظيم الواسع القدرة، حسب زعمه. ولكنَّ موسى(ع) لم يتركه في حال الهدوء الّتي حاول أن يظهر بها أمام النَّاس، فأطلق حديثه عن الصّفة الثّانية لله ربِّ العالمين، {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ}[10]، ولذلك، فإني أدعوكم إلى أن تفكّروا بعقولكم، وتنفتحوا بوجدانكم، لتكتشفوا أنَّ الله وحده هو الّذي يملككم، ويملك ما تملكون، ويسيطر على العالم كلِّه.

وبدأ فرعون الّذي أعوزته الحيلة عن جوابه بالمنطق العقلانيّ، بتهديد موسى(ع) بالسِّجن، باعتباره إنساناً ضعيفاً من قومٍ ضعفاء يملك السلطة القويّة عليهم، {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}[11]، وظنّ أنَّ ذلك سوف يهزم الحالة النفسيّة لموسى، ولكنه تحدّاه بما زلزل عقله، وأضعف موقفه، وأسقط موقعه، {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ}[12]. وأسقط بما في يده، وربما شعر بأنَّ هذا الرّبّ ليس مجرّد حالةٍ سحريَّة أو خياليَّة، بل هو حقيقة صارخة قادرة مهيمنة. وهكذا آمن قومه بوجود هذا الإله الّذي سجد له السَّحرة، ولكنهم لم يعترفوا بذلك، كما جاء في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}[13].

قلق فرعون من موسى

وبدأ القلق الكبير يدبّ في نفس فرعون، وأصيب بضعفٍ في عقله، ففكّر في أن يدخل في حرب مع هذا الربّ العظيم لينتصر عليه بالقوَّة الّتي يملك عناصرها في ملكه الربوبيّ ـ حسب زعمه ـ، وهذا ما جاء في قوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ}[14]، في تصوّرٍ ساذجٍ بأنَّ الله يسكن في مناطق العلوِّ في السَّماء، ليصعد إليه ويدخل في صراعٍ معه. وجاء في آيةٍ أخرى تعبير أكثر صراحةً عن تصوّراته السَّاذجة: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ}[15].

فقد كان فرعون يتوهَّم أنَّ لهامان قدرةً على أن يبني له صرحاً ليبلغ به أسباب السَّماوات، الّتي لا يملك كلّ قوم فرعون وكلّ معاونيه في السّلطة، كهامان وقارون، أن يصلوا إلى مواقعها العالية. وقد تحدَّث الله عنهم في قوله: {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ}[16]، فقد كانوا يمثِّلون مراكز القوى الماليَّة والسياسيّة التي أفسحت لهم مجال السَّيطرة الواسعة، وهو ما جعلهم لا يستمعون إلى البيِّنات التي جاء بها موسى ليهديهم إلى الله وإلى صراطه المستقيم، بل إنَّ استكبارهم دفعهم إلى إنكار الحقّ، والتّعالي على النّاس، والتمرّد على الرّسل، وحاولوا أن يدافعوا بقوّتهم ليُبطلوا الرسالة، ويهزموا الرسول، ويطفئوا نور الله، فلم يستطيعوا ذلك، فقد أخذهم الله بعذابه، وما كانوا في موقع الغلبة، بما يمثّله التعبير بالسَّبق على سبيل الكناية، ولكنَّهم تحركوا في عمليَّة الهروب إلى الأمام، وذلك باتهام موسى بالسِّحر، للإعذار إلى أنفسهم وإلى النّاس في موقفهم المعاند، وهذا ما جاء في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ}[17].

وحار فرعون، ماذا يفعل في مواجهة النّبيّ موسى(ع) الّذي بدأ نفوذه يمتدُّ إلى مصر؟ وربما كان المؤمنون التّابعون له من قومه ومن غير قومه يزدادون بعد انتصاره الكبير، ولا سيَّما بعد أن حذَّره قومه الَّذين خافوا أن يفقدوا امتيازاتهم، وأن تتطوَّر حركة موسى إلى أن يبلغ الموقع الّذي يملك فيه السّلطة على الساحة كلّها، من خلال امتداد دعوته التوحيديّة الإصلاحيّة الّتي تفسد على المجتمع الفرعوني كلّ خططه وأفكاره ومواقفه وعلاقاته العامّة، مما يعتبرونه إفساداً في الأرض، وتدميراً للآلهة المدّعاة الّتي كان فرعون يتعبّد لها مع قومه.

محاولة التخلّص من موسى

{وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ}[18]، فكيف تدافع عن نظامك وآلهتك؟

وعندما لم يجد أيّة فرصة واقعيّة تحقِّق له النّصر من خلال المواجهة المتكافئة، حيث سبق له أن دخل في تجربتها وانهزم ـ مع سحرته ـ فيها، ما كان منه إلا اللّجوء إلى المجازر الوحشيَّة اللاإنسانيَّة، وذلك من خلال قتل الأطفال عند ولادتهم، لئلاّ ينشأ جيل جديد يملك القوّة العدديّة البشريّة في المستقبل، وهو أمرٌ لا يمكن أن يحقِّق أيَّ نصرٍ لأيّ حاكم يحترم نفسه، لأنَّ الانتصار لا يتحقَّق بقتل الطفولة واستحياء النّساء لإبقائهنّ من أجل الخدمة، {فَلَمَّا جَاءهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاء الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ}[19]. ونستوحي من ذلك، عجز فرعون وقومه عن التصدّي للمؤمنين بموسى(ع)، ما جعلهم ينتقلون إلى قتل أبنائهم، وهذا ما يؤكِّد السّقوط الإنسانيّ والإحباط السّلطويّ الّذي أصابهم في خطِّ المواجهة.

وتتعاظم العقدة النفسيّة لدى فرعون، فيعلن عزمه على قتل موسى الّذي أصابه بالإرباك في حكمه، منادياً قومه بأن يتركوه في هذه المبادرة التّصفويّة للخلاص من هذه القوّة الجديدة، في عمليّة استعراضٍ مجنونٍ للمواجهة مع الله الّذي سوف يقهره إذا تدخَّل في الدّفاع عنه، وذلك هو قوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ}، ليدافع عنه دون جدوى، مبرّراً ذلك بأنَّ مسؤوليَّته في حاكميَّته الربوبيّة هي حماية الدّين الذي ينتمي إليه النّاس في مصر، والقائم على عبادة الأوثان وعبادته، في مواجهة الدّين الّذي يدعو إليه موسى القائم على توحيد الله وعبادته، ورفض عبادة غيره من حجرٍ أو بشر، والدِّفاع عن الحركة الإصلاحيّة الّتي تمثّل نظامه القانوني في خطوطه التشريعيَّة والتنفيذيّة ضدّ موسى، الَّذي انطلق في حركته ونشاطه التخريبـيّ الإفساديّ لإظهار الفساد في الأرض على مستوى الأوضاع العامَّة في العلاقات الاجتماعيَّة والمعاملات القانونيَّة، وذلك ما عبّر عنه الله تعالى حاكياً عن منطقه: {إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ}[20].

وكان ردّ فعل موسى على هذا التَّهديد، هو الاستعاذة بالله من هذا الطّاغية، الذي لا يرتكز على خطِّ الإنسانيّة المنفتحة على الحقِّ والإيمان بيوم الحساب، {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ}[21]، ممّن يجعله استكباره يبرّر لنفسه كلَّ الجرائم الّتي يقوم بها ضدّ الرّساليّين المصلحين، انطلاقاً من عمق إحساسه بالكبرياء الّتي يختنق بها في الاستغراق في ذاته.

التَّخطيط لإنهاء فرعون

وفي نهاية المطاف، بدأ التَّخطيط الإلهيّ لإنهاء مرحلة فرعون، وكان التَّوجيه الصَّادر عن الله هو تنظيم الجماعة التّابعة لموسى بالطّريقة التي تمكّنهم من التحرك بقوّة، وهذا ما جاء في قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوت}، لتكون قاعدةً للانطلاق في عمليَّة صنع القوّة المستقبليّة، لأنّ بدايات النّصر قد لاحت، فلا مجال للاهتزاز في المواقع، بل لا بدَّ من التّخطيط للثّبات بما تمثّله إقامة البيوت المتقابلة، {وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}، أي متقابلة في مواجهة بعضها البعض، لأنَّ ذلك يؤمِّن إمكانيّة مواجهة أيّ خطر داهم، كأسلوبٍ من أساليب تجميع القوّة، {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ} الّتي تمثِّل الطابع الروحيّ الذي يطبع هذا المجتمع الجديد الذي يرتكز على أساس عبادة الله في مواجهة عبادة الطّاغوت، {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}[22] بالنّصر على فرعون في المرحلة النهائيّة، وبداية التحرك لإنهاء الطغيان، ليبدأ عهد جديد يرفّ فيه لواء الحقّ والعدل على رؤوس الجميع، فلا يبقى مجال لأيِّ ضغطٍ خارجيٍّ كافر، مهما كان نوعه.

وقد بدأ موسى(ع) بمنطقه الابتهاليّ أمام الله، في ذكر ما يواجهه من مشاكل المجتمع الفرعوني، وتأثير فرعون في النّاس من خلال القدرات الماديّة الّتي يملكها هو وجماعته، وذلك قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَ}[23]، الأمر الّذي جعل منهم فتنةً للنّاس الآخرين، ومكَّنهم من استغلال ذلك في عمليَّة الإغواء والإضلال، {رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ}، من خلال الضّغوط النّفسيَّة الّتي يضغطون بها على النّاس في حاجاتهم إلى أموالهم، وفي انفعالهم بالزينة الّتي تبهر أبصارهم وتغري النّفوس بأشكالها وألوانها، ما يضعف المواقف ويسحق الإرادات، {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} وامحقها، لئلاّ يكون لهم سبيل ضاغط على النّاس البسطاء، {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} واطبعها، حتى لا تنفتح على أيِّ فكرٍ يوحي إليها بالامتداد في حياة النَّاس، {فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ}، ليكون إيمانهم في نهاية الأمر من موقع رؤيتهم للعذاب الّذي يلتقون معه بالحقيقة، ولكن من دون جدوى.

وهكذا استجاب الله دعاء موسى وهارون، فأوحى إليهما: {قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَ} في موقع القوَّة الجديد الّذي ستحصلان عليه بعد إهلاك الطّاغوت، وتابعا المسيرة في الخطِّ الّذي أراد الله لكما أن تسيرا فيه، لأنَّ الإنسان بطبيعته الغريزيّة، قد يضعف أمام السّلطة، فيترك ما كان يدعو إليه، ويستسلم للدّوافع الذاتيّة والمؤثّرات الشّيطانيّة، بفعل الغفلة المطبِقة على عقله إذا لم ينفتح على الله في كلِّ حالاته، {وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} طريق الحقّ، ولا يهتدون إلى غايات الخير والعدل والإيمان.

هذا هو أسلوب التربية القرآنيَّة القائم على الإيحاء الدَّائم إلى الدّعاة ـ بمن فيهم الأنبياء ـ بالبقاء في خطِّ الاستقامة، والحذر الشَّديد من الانحراف والاستغراق في أيّة حالةٍ ذاتيّة، لأنَّ المسألة لا تتَّصل بمستوى الذَّات وقضيّتها، بل ترتبط بضخامة التحدّيات التي تواجه الرسالة وتزلزل الإنسان، وقد تهوي به إلى مكانٍ سحيق، لذا لا ينبغي أن يكون النّظر إلى قيمة الشّخص في درجة عظمته، ممّا يمنع البعض من إثارة النّصح والتّحذير له، بل إلى قيمة الرّسالة في حمايتها من كلّ الأوضاع السّلبيّة التي قد تحيط بحاملها فتنحرف به عن الخطّ المستقيم... وهذا درسٌ لكلّ الدّعاة إلى الله بعد مرحلة النبوّات والأنبياء في كلّ زمان ومكان. والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [الشعراء: 18].

[2]   [الزخرف: 51].

[3]  [الزخرف: 52].

[4]  [الزخرف: 53].

[5]  [الزخرف: 54].

[6]  [النازعات: 20 ـ 24].

[7]  [القصص: 38].

[8]   [الشعراء: 23 ـ 26].

[9]  [الشعراء: 27].

[10]  [الشعراء: 28].

[11]  [الشعراء:29].

[12]  [الشعراء: 30 ـ 33].

[13]   [النمل: 13، 14].

[14]   [القصص: 38].

[15]   [غافر: 36، 37].

[16]  [العنكبوت: 39].

[17]  [غافر: 23، 24].

[18]  [الأعراف: 127].

[19]  [غافر: 25].

[20]  [غافر: 26].

[21]  [غافر: 27].

[22]  [يونس: 87].

[23]  [يونس: 88]. 

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية