مفهوم فرعون للألوهيّة

مفهوم فرعون للألوهيّة

كيف كان فرعون يتصوّر الربوبيّة ومعنى الألوهيَّة في نفسه؟ حيث كان يؤكّد للنّاس أنَّه الربّ الأعلى لهم، كما كان يعلن لهم أنّه الإله ولا إله لهم غيره، وذلك ما حكاه القرآن عنه في قوله تعالى: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}[1]، في إصرارٍ على أنَّه في الدَّرجة العليا من الربوبيَّة الّتي لا بدّ لهم من أن يلتزموا بها، ويخضعوا لها، ويتعبَّدوا لقداستها. وجاء في قوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي}[2]، فإني لا أجد في هذا العالم الّذي نعيش فيه شخصاً يستحقّ الألوهيَّة للنّاس غيري، لما أتمتَّع به من عناصر العظمة في المال والسّلطة والاتّباع، فلا بدَّ لكم من أن تعترفوا بي في هذا الموقع، وإلا فإنّي سوف أعاقب الَّذين يتّخذون غيري إلهاً، وهذا هو ما هدَّد به النّبيّ موسى(ع) بقوله: {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}[3]، لأنَّك تتحدَّى الدّين الّذي يدين به النّاس في مصر ويتعبَّد به قومك، ما يوحي بتمرّدك على مواقع القدس الإلهيّ.

الخوف من دعوة موسى

ولكنَّنا نلاحظ في نصٍّ آخر، أنَّ قومه كانوا يحذّرونه من النَّبيّ موسى ومن دعوته إلى الإله الواحد، وذلك ما ذكره تعالى: {وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ}[4]، فهم يحدِّثونه عن آلهته الّتي سوف يسقطها موسى، ما يدلّ على أنَّه كان يتعبَّد لآلهةٍ يؤمن بها ويخضع لها، فكيف نوفِّق بين منطقه الّذي يقول إنَّه ليس لهم من إلهٍ غيره، وهذا النَّصّ؟

وقد نجيب عن هذا التَّنافي، بأنَّ فرعون كان يعبد الأوثان الّتي كان النَّاس يتعبَّدون لها ويقدِّسونها ويطلبون حاجاتهم منها، وهو ما يمكن أن نستفيده من حديث النَّبيّ يوسف(ع) مع صاحبي السّجن، كما جاء في قوله تعالى: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}[5]. وربما يتمثَّل ذلك بالجانب الخاصِّ من شخصيَّة فرعون وقومه، لجهة ما ورثوه عن آبائهم، مما لا يمثِّل أيّة سلطةٍ قاهرة أو مُلك واسع أو قدرة متحركة عظيمة.

أمّا مفهومه للألوهيَّة الّتي ادَّعاها لنفسه، والربوبيَّة الّتي دعا النّاس إليها للخضوع له والارتباط به، فهي تمثّل القوّة القادرة الحاكمة التي يلتزم الناس بتعاليمها وقراراتها، باعتباره الشَّخصيَّة المهيمنة على الأمر كلِّه في حياتهم، والمالكة للثّروات الضّخمة الّتي يفيضها عليهم، والجبروت الطّاغي الذي يسيطر على النّاس من خلال انتصاره على أعدائه من جهة، وضغطه القويّ على النّاس الّذين يعيشون تحت سلطته من جهةٍ أخرى، وهذا هو تفكيره في معنى الربوبيّة العليا الَّتي لا يملك أيّ قويّ الاقتراب منها، أو النّيل من مقامها، أو المواجهة لسلطانها، أو الفرار من طغيانها.

ولعلَّ هذا الاتجاه في فهم هذا المصطلح المقدَّس، هو الَّذي جعله يشعر بالقلق من حديث موسى(ع) عن ربِّ السّماوات والأرض وما بينهما، وربِّ المشارق والمغارب، وربِّ العالمين جميعاً، وربما دبَّ الخوف في نفسه أمام هذه الصّفات الّتي تشمل الكون كلّه، بينما كانت عظمته المتوهّمة قائمةً على أنّه يملك مصر والأنهار الّتي تجري من تحته، ولذلك، فقد فكّر تفكيراً ساذجاً غبيّاً في الدخول في مواجهةٍ مع هذا الربّ الذي يملك القدرات الخارقة الّتي لم يثبت أمامها السّحرة الّذين جاء بهم ليقهروا موسى أمام جماهيره المحتشدة في الساحة يوم الزينة، بل خرّوا ساجدين له، ولم ينفع فرعون تهديده لهم بالقتل الوحشيّ.

وهكذا، خاف فرعون من المستقبل الَّذي يتمثّل بهذا التحدّي الكبير لربوبيّته، فطلب من وزيره هامان أن يبني له صرحاً، كما جاء في قوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ}[6]، وقوله تعالى: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ}[7]. وهذا يدلُّ على الذّهنيّة السّخيفة في تمنّياته الخرقاء وطموحاته الوهميَّة، فكيف يملك هامان أن يبني له صرحاً من الطّين ليبلغ السّماوات التي لا يستطيع أحد بلوغها بهذه الوسائل المحدودة، مهما بلغت من إمكانيّة الارتفاع؟! ولكنّها الحالة الاستعراضيّة التي يحاول من خلالها الإيحاء إلى النّاس بأنّه بلغ الدّرجة العليا من القوّة، بحيث إنّه فكّر في الدّخول في صراعٍ مريرٍ مع ربّ موسى لينتصر عليه، وليبقى هو الربّ الأعلى، إلا أنّه كان قد بدأ يختزن في داخل نفسه مشاعر الإيمان، ولكن بشكلٍ ضبابيّ، فينفتح عليه تارةً، ويجحد به أخرى، حتى بلغ في نهاية المطاف موقع الاعتراف بالله، وذلك عندما بدأ يلفظ أنفاسه، حيث لم يعد ينفعه اعترافه.

الذّهنيّة الوثنيَّة

لقد كانت ذهنيّة فرعون في نظرته إلى نفسه، أو في التزامه بآلهته، تخضع لتاريخ الوثنيَّة في مضمونها، من خلال الأوهام التي يتصوّرها النّاس في نظرتهم إلى هذه الأوثان، بأنها تختزن الكثير من الأسرار، أو فيما يعتقدونه في الشخصيّات الكبيرة بأنّها تمتلك مواقع العظمة بما لها من قدرةٍ ماديّةٍ أو معنويّة، وهذا ما حدّثنا القرآن عنه في الشّخص الّذي أتاه الله الملك: {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[8].

وقد كانت المشكلة المهيمنة على الوثنيّين، أنهم فقدوا استقلال عقولهم في التّفكير، فلم يدرسوا الاعتقادات الّتي يعتقدونها، والالتزامات الّتي يلتزمونها، في عناصر رموزها الذاتيّة، وأوضاعها الجامدة المحدودة التي لا تملك أيّة حالةٍ من حالات الوعي لما حولها ومن حولها، ولا تنفتح على أية قوّةٍ فاعلةٍ في تأثيرها في النّفع والضّرر والحركة والجمود والحياة والموت. ولعلّ أفضل صورةٍ تمثّل هؤلاء، هي حديث النّبيّ إبراهيم(ع) مع أبيه وقومه: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[9].

وفي آياتٍ أخرى: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}[10]. وجاء في حواره مع أبيه: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئ}[11]، وفي آياتٍ أخرى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}[12]. فإنّنا نلاحظ في هذه الآيات، أنَّ هؤلاء لم يستطيعوا تبرير عبادتهم للأصنام إلا بأنهم يتّبعون في ذلك آباءهم ويقلِّدونهم، من دون دراسةٍ لما تمثّله من جمود الحجر الّذي لا حسّ فيه ولا حياة، مما يؤدّي إلى تحجّر عقولهم وفقدانهم للإحساس الواعي للأشياء، ولا سيَّما المرتبطة بالعبادة.

نماذج منحرفة ذهنيّاً

وقد تحدَّث الله عن بعض النَّماذج ممن كانوا يعيشون الانحراف الذّهنيّ في تصوّراتهم الخاطئة، كاعتقادهم بأنوثة الملائكة، وعبادتهم لها من دون أيّ أساسٍ فكريّ معقول، بل كانت الحالة الّتي يعيشون في ضلالها ناشئةً من تقليد الآباء بسبب العلاقة التاريخيّة العاطفيّة بهم، وذلك قوله تعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ}[13].

فنحن نلاحظ أنَّ هذا السّلوك يمثّل ظاهرةً عامّةً لكلّ المنحرفين عن الخطّ المستقيم في عبادة الله الواحد، والسَّير على هداه، في وعي الحقيقة في العقيدة والشّريعة والحياة. وتشير الآية الثّانية إلى أنَّ الَّذين يقودون هذا الاتّجاه المتخلّف في الانحراف عن الأصالة العقليَّة، هم المترفون الّذين يملكون السيطرة على المستضعفين، فيأخذون بأيديهم إلى الهلاك الرّوحيّ في خطِّ الخرافة، فإذا قال لهم الرّسول إنَّ الرسالة الّتي أحملها تمثّل المستوى الثقافيّ والروحيّ الأفضل مما وجدتم عليه آباءكم، رفضوا ذلك من دون تفكيرٍ أو مناقشة، بل امتدّوا في الكفر بالله تقليداً للآباء المتخلّفين.

وهناك آية أخرى أيضاً تصوّر هذا المنطق الجاهل الّذي لا يرتكز على حجّة قويّة، ولا يخضع لعقلٍ منفتح، ولا لهدى في اتّجاهات خطوط السَّير، وذلك قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ}[14].

المنهج العقليّ في الإسلام

إنَّ الخطّ المنهجيّ في الإسلام يرتكز على الاستقلال العقليّ في إبداع الفكرة الّتي ينتمي إليها الإنسان في إيمانه بالله، من خلال التطلّع إلى الكون كلّه، لينفتح على آيات الله في نفسه، بما أودع الله في خلقه من عناصر التّنظيم في تكامل أجهزته في حركة الحياة، وإنتاج الأفكار وتحديد الوسائل والغايات، وليقوم بجولةٍ واسعةٍ في آيات الله في الكون، في آفاق السَّماوات والأرض، وما بثَّ فيهما من دابّة، وما أودع في النظام الكوني من الظّواهر الّتي تمنح الحياة، وتحيي الأرض بعد موتها، وتحرّك الرّياح بالنِّعمة والنَّقمة، وتعطي الإنسان القدرة على الاستفادة مما سخَّره الله له من النّعم الكثيرة الّتي تمتدّ بها حياته.

لقد منح الله الإنسان العقل، وأعطاه الحريَّة في الانطلاق في إنتاج الفكر الَّذي يمثّل أصالة الحقِّ وسلامة الانتماء واستقامة الالتزام، وأراد له أن يتحمَّل مسؤوليَّة ذلك كلّه في الدّفاع عن عناصره وأدلّته، ولم يجعل التّقليد في العقيدة عذراً إذا لم يطابق الحقّ الّذي أنزله الله على رسله في الخطّ التّوحيديّ، لأنَّ العقيدة تمثِّل التجسيد الحيَّ للذّات في الانتماء، حتى لا يسقط الإنسان في الوثنيّة العباديّة أو السياسيّة أو الاجتماعيّة، من خلال الخضوع للشّخصيّات الّتي تفرض نفسها على النّاس في خطوطها الذاتيّة، ليتحركوا معها تحركاً أعمى بفعل العصبيَّة الّتي تلتقي بعصبيّة الجاهليّة، تماماً كما صوَّر الإمام عليّ(ع) بعض هذه النَّماذج في حديثه عن تنوّع الناس في مضمون القيمة السلبيَّة والإيجابيَّة؛ قال(ع) كما جاء في نهج البلاغة: "النّاس ثلاثة: فعالم ربّانيّ، ومتعلّم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كلِّ ناعق، يميلون مع كلّ ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركنٍ وثيق"[15].

وهذا هو حال المستضعفين من النّاس، التّابعين للمستكبرين في عقائدهم وعاداتهم وتقاليدهم وأوضاعهم العامّة والخاصّة، ولا عذر لهؤلاء في البقاء على حال الضّعف التي تبعدهم عن خطّ التوازن وعن الأخذ بأسباب القوّة، كما جاء في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِير}[16]، وفي قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ}[17]، لأنهم خضعوا لهم في كفرهم وضلالهم وحربهم وسلمهم، ما يحمّلهم المسؤوليّة أمام الله الذي أراد لهم أن يفكّروا بعقولهم فيما يوحون به إليهم، وأن يؤكِّدوا إرادتهم في موقع الأصالة الإنسانيَّة، وأن لا يقلِّدوهم في أمورهم من دون علمٍ أو برهان. وهذا ما تحدَّث الله به عن فرعون وقومه الَّذين استخفَّ عقولهم، وصادر إنسانيَّتهم، وضغط على أوضاعهم، وخدعهم بتصوير نفسه ربّاً وإلهاً يفرض عليهم طاعته وعبادته، وأطمعهم بما يحقِّق لهم حاجاتهم وأطماعهم فيما يملكه من السّلطة والموقع والمال.

تدبّر القرآن

وتلك مشكلة الفراعنة في العصور المتأخِّرة والزَّمن الحاضر، ممّن يسيرون في خطِّ الفراعنة التّاريخيِّين؛ هؤلاء الَّذين قد لا يطلبون من النَّاس المستضعفين أن يؤلّهوهم ويعتقدوا بربوبيَّتهم، ولكنَّهم يضغطون عليهم من خلال استغلال حاجاتهم ونقاط ضعفهم، ليتّبعوهم في تأييد مواقعهم الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة، ليتمكَّنوا من السيطرة على واقع النّاس في حركة الصّراع الدّائر من قِبَل المستكبرين للاستئثار بمواقع السّلطة، ليحارب النّاس من يحاربونه، وليسالموا من يسالمونه، وليتحركوا بالفتنة إذا أرادوا إثارتها للوصول إلى أهدافهم الخبيثة، أو للحصول على موقع استكباريّ جديد ضدّ المواقع الأخرى.

وقد يكون من السَّير في خطِّ المنهج الإسلاميّ، أن نقرأ القرآن قراءةً واعيةً، بحيث تكون مرتكزةً على التدبّر في آياته، وذلك بالانفتاح على ربط الحاضر بالماضي من أجل التّخطيط للمستقبل، على أساس الهدف القرآنيّ في تأسيس الشَّخصيَّة الإسلاميَّة على قاعدة الوعي، وذلك بأن لا يقف القارئ للقرآن عند الشخصيَّات التاريخيّة الّتي تحدَّثت عنها آياته على أساس حكاية التّاريخ، بل أن يتعمَّق في داخلها، وينفتح على آفاقها، باعتبار أنّها تمثِّل النّماذج الإنسانيَّة القلقة للشخصيّات المنحرفة من الطّغاة والمستكبرين، ليستوحي منها كيف ينظر إلى أمثالها من الشَّخصيات الحاضرة في عناصرها وصفاتها الطغيانيَّة الاستكباريَّة، ليتعامل معها بالطّريقة الّتي تعامل بها القرآن مع الشّخصيَّات المماثلة في التّاريخ، ويدرس سلبيَّاتها من خلال الخطّ القرآنيّ في إيحاءاته التحليليّة في الواقع الإنساني.

وإلى جانب ذلك، لا بدَّ من الانفتاح على الشخصيّات الرساليّة السّائرة في خطّ المسيرة التوحيديّة في طريق الدّعوة إلى الله، والمواجهة لأعدائه، والصَّبر على الأذى في جنبه، من أجل البحث في الواقع المعاصر عن النَّماذج التي تملك مثل هذه الصّفات الإيجابيّة في حركة الرّسالة في خطّ التّقوى، بما يتمثّل فيها من معنى القدوة العمليّة في الاهتداء بها، والحركة في اتجاه دورها القياديّ الإسلاميّ.

إنّنا نؤكّد ذلك، لأنّ القرآن يؤكّد أنَّ حديثه عن التاريخ هو حديث الدّرس والعبرة في امتداد الحياة الإنسانيَّة، ليستفيد كلّ جيلٍ من العناصر المستقيمة والمنحرفة، ومن التحدّيات السلبيّة، ومن مواقف الصِّراع بين الطغاة والرّسل، وحركة الشعوب في الاستجابة للرِّسالة أو التنكّر لها، فنأخذ منها الخطوط التربويَّة والمناهج الحركيَّة، على أساس أنَّ النَّماذج التاريخيَّة لا تنحصر في دائرتها المحليَّة أو الزمنيَّة، بل تمتدّ في العناصر الإنسانيّة في عمق الشّخصيّة في مبادئها وسلوكيَّاتها، وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ}[18]، وحتى يكون المنهج القرآني في حركته التاريخيّة منهجاً قويماً منفتحاً ممتدّاً بامتداد الحياة الإنسانيَّة، في تجربة المنحرفين في الأخذ بأسباب العقيدة الوثنيّة في الجانب السياسيّ والاجتماعيّ، وسيرهم خلف الشّخصيّات الجاهلة المنحرفة التي تملك السلطة القبليّة أو الثّروة الماليّة أو الدعم الاستكباريّ الّذي يؤكِّد حمايتها لمصالحها ضدّ الخطّ المستقيم، لأنَّ الوثنيّة السياسيّة والاجتماعيّة قد تؤثّر تأثيراً سلبيّاً في الإنسان، في حاضره ومستقبله، لأنَّ الوثنيّة العقيديّة تمثّل الخضوع للأصنام البشريّة، كما هي حال فرعون الّذي طغى في البلاد فأكثر فيها الفساد، وقد تتمثّل بأصنام المجتمع الطائفيّ والمذهبيّ والسياسيّ. والحمد لله ربّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [النازعات: 24].

[2]  [القصص: 38].

[3]  [الشعراء: 29].

[4]   [الأعراف: 127].

[5]  [يوسف: 39، 40].

[6]  [غافر: 36، 37].

[7]  [القصص: 38].

[8]   [البقرة: 258].

[9]   [الأنبياء: 52 ـ 54].

[10]  [الأنبياء: 66، 67].

[11]   [مريم: 42].

[12]  [الشعراء: 69 ـ 74].

[13]   [الزخرف: 22 ـ 24].

[14]  [البقرة: 170].

[15]  نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 4، ص 36.

[16]  [النساء: 97].

[17]  [البقرة: 166].

[18]  [يوسف: 111].

كيف كان فرعون يتصوّر الربوبيّة ومعنى الألوهيَّة في نفسه؟ حيث كان يؤكّد للنّاس أنَّه الربّ الأعلى لهم، كما كان يعلن لهم أنّه الإله ولا إله لهم غيره، وذلك ما حكاه القرآن عنه في قوله تعالى: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}[1]، في إصرارٍ على أنَّه في الدَّرجة العليا من الربوبيَّة الّتي لا بدّ لهم من أن يلتزموا بها، ويخضعوا لها، ويتعبَّدوا لقداستها. وجاء في قوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي}[2]، فإني لا أجد في هذا العالم الّذي نعيش فيه شخصاً يستحقّ الألوهيَّة للنّاس غيري، لما أتمتَّع به من عناصر العظمة في المال والسّلطة والاتّباع، فلا بدَّ لكم من أن تعترفوا بي في هذا الموقع، وإلا فإنّي سوف أعاقب الَّذين يتّخذون غيري إلهاً، وهذا هو ما هدَّد به النّبيّ موسى(ع) بقوله: {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}[3]، لأنَّك تتحدَّى الدّين الّذي يدين به النّاس في مصر ويتعبَّد به قومك، ما يوحي بتمرّدك على مواقع القدس الإلهيّ.

الخوف من دعوة موسى

ولكنَّنا نلاحظ في نصٍّ آخر، أنَّ قومه كانوا يحذّرونه من النَّبيّ موسى ومن دعوته إلى الإله الواحد، وذلك ما ذكره تعالى: {وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ}[4]، فهم يحدِّثونه عن آلهته الّتي سوف يسقطها موسى، ما يدلّ على أنَّه كان يتعبَّد لآلهةٍ يؤمن بها ويخضع لها، فكيف نوفِّق بين منطقه الّذي يقول إنَّه ليس لهم من إلهٍ غيره، وهذا النَّصّ؟

وقد نجيب عن هذا التَّنافي، بأنَّ فرعون كان يعبد الأوثان الّتي كان النَّاس يتعبَّدون لها ويقدِّسونها ويطلبون حاجاتهم منها، وهو ما يمكن أن نستفيده من حديث النَّبيّ يوسف(ع) مع صاحبي السّجن، كما جاء في قوله تعالى: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}[5]. وربما يتمثَّل ذلك بالجانب الخاصِّ من شخصيَّة فرعون وقومه، لجهة ما ورثوه عن آبائهم، مما لا يمثِّل أيّة سلطةٍ قاهرة أو مُلك واسع أو قدرة متحركة عظيمة.

أمّا مفهومه للألوهيَّة الّتي ادَّعاها لنفسه، والربوبيَّة الّتي دعا النّاس إليها للخضوع له والارتباط به، فهي تمثّل القوّة القادرة الحاكمة التي يلتزم الناس بتعاليمها وقراراتها، باعتباره الشَّخصيَّة المهيمنة على الأمر كلِّه في حياتهم، والمالكة للثّروات الضّخمة الّتي يفيضها عليهم، والجبروت الطّاغي الذي يسيطر على النّاس من خلال انتصاره على أعدائه من جهة، وضغطه القويّ على النّاس الّذين يعيشون تحت سلطته من جهةٍ أخرى، وهذا هو تفكيره في معنى الربوبيّة العليا الَّتي لا يملك أيّ قويّ الاقتراب منها، أو النّيل من مقامها، أو المواجهة لسلطانها، أو الفرار من طغيانها.

ولعلَّ هذا الاتجاه في فهم هذا المصطلح المقدَّس، هو الَّذي جعله يشعر بالقلق من حديث موسى(ع) عن ربِّ السّماوات والأرض وما بينهما، وربِّ المشارق والمغارب، وربِّ العالمين جميعاً، وربما دبَّ الخوف في نفسه أمام هذه الصّفات الّتي تشمل الكون كلّه، بينما كانت عظمته المتوهّمة قائمةً على أنّه يملك مصر والأنهار الّتي تجري من تحته، ولذلك، فقد فكّر تفكيراً ساذجاً غبيّاً في الدخول في مواجهةٍ مع هذا الربّ الذي يملك القدرات الخارقة الّتي لم يثبت أمامها السّحرة الّذين جاء بهم ليقهروا موسى أمام جماهيره المحتشدة في الساحة يوم الزينة، بل خرّوا ساجدين له، ولم ينفع فرعون تهديده لهم بالقتل الوحشيّ.

وهكذا، خاف فرعون من المستقبل الَّذي يتمثّل بهذا التحدّي الكبير لربوبيّته، فطلب من وزيره هامان أن يبني له صرحاً، كما جاء في قوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ}[6]، وقوله تعالى: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ}[7]. وهذا يدلُّ على الذّهنيّة السّخيفة في تمنّياته الخرقاء وطموحاته الوهميَّة، فكيف يملك هامان أن يبني له صرحاً من الطّين ليبلغ السّماوات التي لا يستطيع أحد بلوغها بهذه الوسائل المحدودة، مهما بلغت من إمكانيّة الارتفاع؟! ولكنّها الحالة الاستعراضيّة التي يحاول من خلالها الإيحاء إلى النّاس بأنّه بلغ الدّرجة العليا من القوّة، بحيث إنّه فكّر في الدّخول في صراعٍ مريرٍ مع ربّ موسى لينتصر عليه، وليبقى هو الربّ الأعلى، إلا أنّه كان قد بدأ يختزن في داخل نفسه مشاعر الإيمان، ولكن بشكلٍ ضبابيّ، فينفتح عليه تارةً، ويجحد به أخرى، حتى بلغ في نهاية المطاف موقع الاعتراف بالله، وذلك عندما بدأ يلفظ أنفاسه، حيث لم يعد ينفعه اعترافه.

الذّهنيّة الوثنيَّة

لقد كانت ذهنيّة فرعون في نظرته إلى نفسه، أو في التزامه بآلهته، تخضع لتاريخ الوثنيَّة في مضمونها، من خلال الأوهام التي يتصوّرها النّاس في نظرتهم إلى هذه الأوثان، بأنها تختزن الكثير من الأسرار، أو فيما يعتقدونه في الشخصيّات الكبيرة بأنّها تمتلك مواقع العظمة بما لها من قدرةٍ ماديّةٍ أو معنويّة، وهذا ما حدّثنا القرآن عنه في الشّخص الّذي أتاه الله الملك: {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[8].

وقد كانت المشكلة المهيمنة على الوثنيّين، أنهم فقدوا استقلال عقولهم في التّفكير، فلم يدرسوا الاعتقادات الّتي يعتقدونها، والالتزامات الّتي يلتزمونها، في عناصر رموزها الذاتيّة، وأوضاعها الجامدة المحدودة التي لا تملك أيّة حالةٍ من حالات الوعي لما حولها ومن حولها، ولا تنفتح على أية قوّةٍ فاعلةٍ في تأثيرها في النّفع والضّرر والحركة والجمود والحياة والموت. ولعلّ أفضل صورةٍ تمثّل هؤلاء، هي حديث النّبيّ إبراهيم(ع) مع أبيه وقومه: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[9].

وفي آياتٍ أخرى: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}[10]. وجاء في حواره مع أبيه: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئ}[11]، وفي آياتٍ أخرى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}[12]. فإنّنا نلاحظ في هذه الآيات، أنَّ هؤلاء لم يستطيعوا تبرير عبادتهم للأصنام إلا بأنهم يتّبعون في ذلك آباءهم ويقلِّدونهم، من دون دراسةٍ لما تمثّله من جمود الحجر الّذي لا حسّ فيه ولا حياة، مما يؤدّي إلى تحجّر عقولهم وفقدانهم للإحساس الواعي للأشياء، ولا سيَّما المرتبطة بالعبادة.

نماذج منحرفة ذهنيّاً

وقد تحدَّث الله عن بعض النَّماذج ممن كانوا يعيشون الانحراف الذّهنيّ في تصوّراتهم الخاطئة، كاعتقادهم بأنوثة الملائكة، وعبادتهم لها من دون أيّ أساسٍ فكريّ معقول، بل كانت الحالة الّتي يعيشون في ضلالها ناشئةً من تقليد الآباء بسبب العلاقة التاريخيّة العاطفيّة بهم، وذلك قوله تعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ}[13].

فنحن نلاحظ أنَّ هذا السّلوك يمثّل ظاهرةً عامّةً لكلّ المنحرفين عن الخطّ المستقيم في عبادة الله الواحد، والسَّير على هداه، في وعي الحقيقة في العقيدة والشّريعة والحياة. وتشير الآية الثّانية إلى أنَّ الَّذين يقودون هذا الاتّجاه المتخلّف في الانحراف عن الأصالة العقليَّة، هم المترفون الّذين يملكون السيطرة على المستضعفين، فيأخذون بأيديهم إلى الهلاك الرّوحيّ في خطِّ الخرافة، فإذا قال لهم الرّسول إنَّ الرسالة الّتي أحملها تمثّل المستوى الثقافيّ والروحيّ الأفضل مما وجدتم عليه آباءكم، رفضوا ذلك من دون تفكيرٍ أو مناقشة، بل امتدّوا في الكفر بالله تقليداً للآباء المتخلّفين.

وهناك آية أخرى أيضاً تصوّر هذا المنطق الجاهل الّذي لا يرتكز على حجّة قويّة، ولا يخضع لعقلٍ منفتح، ولا لهدى في اتّجاهات خطوط السَّير، وذلك قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ}[14].

المنهج العقليّ في الإسلام

إنَّ الخطّ المنهجيّ في الإسلام يرتكز على الاستقلال العقليّ في إبداع الفكرة الّتي ينتمي إليها الإنسان في إيمانه بالله، من خلال التطلّع إلى الكون كلّه، لينفتح على آيات الله في نفسه، بما أودع الله في خلقه من عناصر التّنظيم في تكامل أجهزته في حركة الحياة، وإنتاج الأفكار وتحديد الوسائل والغايات، وليقوم بجولةٍ واسعةٍ في آيات الله في الكون، في آفاق السَّماوات والأرض، وما بثَّ فيهما من دابّة، وما أودع في النظام الكوني من الظّواهر الّتي تمنح الحياة، وتحيي الأرض بعد موتها، وتحرّك الرّياح بالنِّعمة والنَّقمة، وتعطي الإنسان القدرة على الاستفادة مما سخَّره الله له من النّعم الكثيرة الّتي تمتدّ بها حياته.

لقد منح الله الإنسان العقل، وأعطاه الحريَّة في الانطلاق في إنتاج الفكر الَّذي يمثّل أصالة الحقِّ وسلامة الانتماء واستقامة الالتزام، وأراد له أن يتحمَّل مسؤوليَّة ذلك كلّه في الدّفاع عن عناصره وأدلّته، ولم يجعل التّقليد في العقيدة عذراً إذا لم يطابق الحقّ الّذي أنزله الله على رسله في الخطّ التّوحيديّ، لأنَّ العقيدة تمثِّل التجسيد الحيَّ للذّات في الانتماء، حتى لا يسقط الإنسان في الوثنيّة العباديّة أو السياسيّة أو الاجتماعيّة، من خلال الخضوع للشّخصيّات الّتي تفرض نفسها على النّاس في خطوطها الذاتيّة، ليتحركوا معها تحركاً أعمى بفعل العصبيَّة الّتي تلتقي بعصبيّة الجاهليّة، تماماً كما صوَّر الإمام عليّ(ع) بعض هذه النَّماذج في حديثه عن تنوّع الناس في مضمون القيمة السلبيَّة والإيجابيَّة؛ قال(ع) كما جاء في نهج البلاغة: "النّاس ثلاثة: فعالم ربّانيّ، ومتعلّم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كلِّ ناعق، يميلون مع كلّ ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركنٍ وثيق"[15].

وهذا هو حال المستضعفين من النّاس، التّابعين للمستكبرين في عقائدهم وعاداتهم وتقاليدهم وأوضاعهم العامّة والخاصّة، ولا عذر لهؤلاء في البقاء على حال الضّعف التي تبعدهم عن خطّ التوازن وعن الأخذ بأسباب القوّة، كما جاء في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِير}[16]، وفي قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ}[17]، لأنهم خضعوا لهم في كفرهم وضلالهم وحربهم وسلمهم، ما يحمّلهم المسؤوليّة أمام الله الذي أراد لهم أن يفكّروا بعقولهم فيما يوحون به إليهم، وأن يؤكِّدوا إرادتهم في موقع الأصالة الإنسانيَّة، وأن لا يقلِّدوهم في أمورهم من دون علمٍ أو برهان. وهذا ما تحدَّث الله به عن فرعون وقومه الَّذين استخفَّ عقولهم، وصادر إنسانيَّتهم، وضغط على أوضاعهم، وخدعهم بتصوير نفسه ربّاً وإلهاً يفرض عليهم طاعته وعبادته، وأطمعهم بما يحقِّق لهم حاجاتهم وأطماعهم فيما يملكه من السّلطة والموقع والمال.

تدبّر القرآن

وتلك مشكلة الفراعنة في العصور المتأخِّرة والزَّمن الحاضر، ممّن يسيرون في خطِّ الفراعنة التّاريخيِّين؛ هؤلاء الَّذين قد لا يطلبون من النَّاس المستضعفين أن يؤلّهوهم ويعتقدوا بربوبيَّتهم، ولكنَّهم يضغطون عليهم من خلال استغلال حاجاتهم ونقاط ضعفهم، ليتّبعوهم في تأييد مواقعهم الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة، ليتمكَّنوا من السيطرة على واقع النّاس في حركة الصّراع الدّائر من قِبَل المستكبرين للاستئثار بمواقع السّلطة، ليحارب النّاس من يحاربونه، وليسالموا من يسالمونه، وليتحركوا بالفتنة إذا أرادوا إثارتها للوصول إلى أهدافهم الخبيثة، أو للحصول على موقع استكباريّ جديد ضدّ المواقع الأخرى.

وقد يكون من السَّير في خطِّ المنهج الإسلاميّ، أن نقرأ القرآن قراءةً واعيةً، بحيث تكون مرتكزةً على التدبّر في آياته، وذلك بالانفتاح على ربط الحاضر بالماضي من أجل التّخطيط للمستقبل، على أساس الهدف القرآنيّ في تأسيس الشَّخصيَّة الإسلاميَّة على قاعدة الوعي، وذلك بأن لا يقف القارئ للقرآن عند الشخصيَّات التاريخيّة الّتي تحدَّثت عنها آياته على أساس حكاية التّاريخ، بل أن يتعمَّق في داخلها، وينفتح على آفاقها، باعتبار أنّها تمثِّل النّماذج الإنسانيَّة القلقة للشخصيّات المنحرفة من الطّغاة والمستكبرين، ليستوحي منها كيف ينظر إلى أمثالها من الشَّخصيات الحاضرة في عناصرها وصفاتها الطغيانيَّة الاستكباريَّة، ليتعامل معها بالطّريقة الّتي تعامل بها القرآن مع الشّخصيَّات المماثلة في التّاريخ، ويدرس سلبيَّاتها من خلال الخطّ القرآنيّ في إيحاءاته التحليليّة في الواقع الإنساني.

وإلى جانب ذلك، لا بدَّ من الانفتاح على الشخصيّات الرساليّة السّائرة في خطّ المسيرة التوحيديّة في طريق الدّعوة إلى الله، والمواجهة لأعدائه، والصَّبر على الأذى في جنبه، من أجل البحث في الواقع المعاصر عن النَّماذج التي تملك مثل هذه الصّفات الإيجابيّة في حركة الرّسالة في خطّ التّقوى، بما يتمثّل فيها من معنى القدوة العمليّة في الاهتداء بها، والحركة في اتجاه دورها القياديّ الإسلاميّ.

إنّنا نؤكّد ذلك، لأنّ القرآن يؤكّد أنَّ حديثه عن التاريخ هو حديث الدّرس والعبرة في امتداد الحياة الإنسانيَّة، ليستفيد كلّ جيلٍ من العناصر المستقيمة والمنحرفة، ومن التحدّيات السلبيّة، ومن مواقف الصِّراع بين الطغاة والرّسل، وحركة الشعوب في الاستجابة للرِّسالة أو التنكّر لها، فنأخذ منها الخطوط التربويَّة والمناهج الحركيَّة، على أساس أنَّ النَّماذج التاريخيَّة لا تنحصر في دائرتها المحليَّة أو الزمنيَّة، بل تمتدّ في العناصر الإنسانيّة في عمق الشّخصيّة في مبادئها وسلوكيَّاتها، وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ}[18]، وحتى يكون المنهج القرآني في حركته التاريخيّة منهجاً قويماً منفتحاً ممتدّاً بامتداد الحياة الإنسانيَّة، في تجربة المنحرفين في الأخذ بأسباب العقيدة الوثنيّة في الجانب السياسيّ والاجتماعيّ، وسيرهم خلف الشّخصيّات الجاهلة المنحرفة التي تملك السلطة القبليّة أو الثّروة الماليّة أو الدعم الاستكباريّ الّذي يؤكِّد حمايتها لمصالحها ضدّ الخطّ المستقيم، لأنَّ الوثنيّة السياسيّة والاجتماعيّة قد تؤثّر تأثيراً سلبيّاً في الإنسان، في حاضره ومستقبله، لأنَّ الوثنيّة العقيديّة تمثّل الخضوع للأصنام البشريّة، كما هي حال فرعون الّذي طغى في البلاد فأكثر فيها الفساد، وقد تتمثّل بأصنام المجتمع الطائفيّ والمذهبيّ والسياسيّ. والحمد لله ربّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [النازعات: 24].

[2]  [القصص: 38].

[3]  [الشعراء: 29].

[4]   [الأعراف: 127].

[5]  [يوسف: 39، 40].

[6]  [غافر: 36، 37].

[7]  [القصص: 38].

[8]   [البقرة: 258].

[9]   [الأنبياء: 52 ـ 54].

[10]  [الأنبياء: 66، 67].

[11]   [مريم: 42].

[12]  [الشعراء: 69 ـ 74].

[13]   [الزخرف: 22 ـ 24].

[14]  [البقرة: 170].

[15]  نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 4، ص 36.

[16]  [النساء: 97].

[17]  [البقرة: 166].

[18]  [يوسف: 111].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية