المرحلة الجديدة في دعوة موسى(ع)

المرحلة الجديدة في دعوة موسى(ع)

انتهت المرحلة الفرعونيَّة الطاغية، وعاش الناس من بعد ذلك حريَّة اجتماعيَّة في أمورهم العامّة والخاصّة، وفي أمن شامل، وتخلَّص المستضعفون من بني إسرائيل من الاستعباد الفرعوني بعد أن حرَّرهم النبيّ موسى(ع) وحقّق هدفه الأساس في إرسالهم معه، وانطلقت المعجزة الإلهيَّة في تحويل البحر إلى أرضٍ يابسةٍ سمحت لموسى ومن معه بالسّير فيها والاتجاه إلى الجانب الآخر، وعاد البحر إلى حالته الأولى بعد أن استكمل جيش فرعون دخوله فيه، فغرقوا جميعاً.

وراثة الأرض

ويبقى السؤال: ماذا حدث بعد ذلك؟ هل رجعوا إلى مصر ليحكموها بقيادة موسى(ع)، أو أنهم أكملوا رحلتهم في الجانب الآخر ليستقرّوا في أرضٍ أخرى، وهي بيت المقدس، التي كان موسى يخطِّط للإقامة فيها وتحريك الدَّعوة إلى العالم من خلالها، باعتبارها الأرض المقدَّسة التي تجذب النّاس إليها بوحي قداستها الروحيّة إذا ارتفعت الحواجز الأمنيّة بينهم وبين الدّخول إليها؟

لا بدَّ لنا من متابعة الآيات القرآنيَّة الّتي تتحدَّث عن مرحلة ما بعد الانتصار على السُّلطة الفرعونيَّة، فنقرأ في البداية قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ}[1]. فنلاحظ أنَّ الله سبحانه أراد أن يتسلَّم المستضعفون قيادة الحكم في مصر، وأن يرثوا الأرض، فيكونوا سادتها وقادتها، وأن يتمكَّنوا في الأرض من موقع القوّة والثّبات بعد هزيمة فرعون وهامان ـ الّذي كان مصدر قوّةٍ ودعم لسلطة لفرعون ـ وجنودهما مما كانوا يحذرونه من حركة النبيّ موسى والمؤمنين معه والجماهير الكثيرة من قومه. وقد وصلت هذه الإرادة الموعودة من الله للمستضعفين إلى الدّرجة الفعليَّة بعد الانتصار على أولئك الطغاة وأتباعهم، وهذا ما جاءت به الآية الكريمة، في قوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ}[2].

فإنّنا نستوحي من هذه الآيات، أنَّ الله منح الامتداد الحرَّ للمستضعفين، بحيث مكَّنهم من الحركة في أيّ موقعٍ من مواقع الأرض، حتى الأرض المباركة المقدّسة، وتحقَّقت الإرادة الإلهيَّة لهؤلاء النّاس الصَّابرين الَّذين صبروا في مدى الأجيال على اضطهاد فرعون وسلطته الظالمة المستكبرة، لأنَّ الله سبحانه قد جعل الصَّبر قيمةً حركيَّةً لا بدَّ من أن تنتهي إلى النّتائج الإيجابيَّة، لأنَّ امتداده يضعف مراكز القوّة المستعلية بشكلٍ تدريجيّ.

وهذه الآية تدلّ على أنَّ المستضعفين قد أصبحوا سادة الأرض وقياديّيها، وأنَّ الله منحهم القدرة على الامتداد إلى أرضٍ أخرى، ما قد يوحي بأنّهم أمسكوا بالقيادة العامَّة في مصر، التي عاشوا الاستضعاف فيها تحت سلطة المستكبرين من فرعون وقومه.

حكم مصر!

ونقرأ في آيةٍ أخرى: {فَأَخْرَجْنَاهُم ـ أي فرعون وقومه ـ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}[3]. وفي آيةٍ مماثلة في قوله تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ}[4]، والمقصود بهم بنو إسرائيل بقيادة النّبيّ موسى والمؤمنين معه، بقرينة الآية السَّابقة، وباعتبار أنّهم كانوا هم المتحرّكين ضدّ المستكبرين في ساحة الصِّراع...

وهكذا يمثّل عنوان الوراثة معنى السّلطة الفعليَّة التي حصلت على الموقع القيادي الجديد بعد الموقع السَّابق، ومن المعروف أنها لن تتحقَّق بالمعنى الواقعي، إلا إذا كان المستضعفون من بني إسرائيل هم البديل في الواقع، ما يعني أنهم كانوا متواجدين في الأرض الّتي كانوا يسكنون فيها. ثم إنَّ الآيات التي تحدّثت عن معاناة موسى مع قومه، لم تتحدَّث عن ذلك في المجتمع المصريّ، بل في المسيرة التي كانوا يتحركون فيها معه، ما قد يوحي بأنهم لم يرجعوا إلى مصر ليحكموها وليكونوا في مواقع السلطة الجديدة الحاكمة القويّة.

ولكنّ بعض المفسِّرين، ومنهم القرطبي، نقل عن الحسن وغيره، أنَّ بني إسرائيل رجعوا إلى مصر، وقيل إنّه أراد بالوراثة هنا ما استعادوه من حُلي آل فرعون بأمر الله تعالى. وقال القرطبي إنَّ كلا الأمرين حصل لهم بعد هلاك فرعون وقومه، كما أنَّ مفسِّرين آخرين قالوا إنَّهم تحركوا نحو بيت المقدس بعد هلاك فرعون وأتباعه، إلا أنَّهم بعد مدّة مديدة رجعوا إلى مصر، وشكَّلوا فيها حكومتهم. ويعتقد بعض آخر من المفسّرين، أنَّ بني إسرائيل صاروا جماعتين أو فئتين، فجماعة بقيت في مصر وحكمت فيها، وجماعة تحرّكت مع موسى نحو بيت المقدس.

واحتمل البعض أنَّ بني إسرائيل حكموا مصر بعد موسى في زمان النّبيّ سليمان بن داود(ع). وردّه بعض المفسّرين إلى أنَّ موسى نبيّ ثائر كبير، فمن البعيد جدّاً أن يترك هذه الأرض الّتي تهاوت أركان حكومتها وقد أصبحت مقاليد أمرها بيده، فيذرها كلّياً دون أن يخطّط لها خطّة، ويتَّجه نحو فلسطين وبيت المقدس والصَّحارى الشّاسعة، ولا سيَّما أنَّ بني إسرائيل قد سكنوا مصر لسنين طوال، وتعوَّدوا على محيطها. فبناءً على هذا، لا يخرج الأمر من أحد حالين: إمّا أن نقول: إنَّ بني إسرائيل عادوا جميعاً إلى مصر وحكموا فيها، أو أن نقول إنَّ قسماً منهم بقي في مصر بأمر موسى، واستولى على العرش وحكم فيها. وفي غير هاتين الحالين، لا يتجلَّى مفهوم إخراج الفراعنة منها ووراثة بني إسرائيل.

هدف الرّسالة النبويّة

ونلاحظ على ما ذكروه، أنَّ الهدف الذي كان يستهدفه النبيّ موسى(ع)، كان ينطلق من الدّعوة إلى الإيمان التوحيدي بالله، ورفض عبادة الآلهة المدَّعاة في خطِّ الشّراكة لله، أو تأليه البشر واعتبارهم أرباباً للنّاس، وتحرير بني إسرائيل وإرسالهم معه، بعد أن دعا فرعون وقومه إلى عبادة الله، وتحاور معه في ذلك، ثم استفاد من انتصاره على السَّحرة الَّذين جمعهم فرعون لمواجهته.

وبقيت دعوته تتحرَّك في أكثر من موقفٍ في حالٍ جزئيّةٍ أو كليّةٍ، وقد أثَّرت هذه الدَّعوة في بعض النّاس الّذين اقتنعوا بموسى(ع)، عندما شاهدوا السَّحرة وهم يعلنون إيمانهم وسجودهم لله ربِّ العالمين، لأنّهم رفضوا اتّهام موسى بالسِّحر بعد أن أثبت السَّحرة سخافة ذلك. كما أنَّ المعجزة في فتح البحر لهم وإفساح المجال أمامهم للسَّير على الأرض اليابسة وإنقاذهم من فرعون وقومه، كانت الهدف الثّاني الّذي حقّقه الله لهم..

ولم يتحدَّث الله عن هدفٍ ثالثٍ، وهو قيام النبيّ موسى(ع) بحكم مصر ليكون في الموقع البديل من فرعون، بل إنَّ المطلوب منه كان الامتداد في الخطّة التي أعدَّها الله له بعد تحرير مصر من سيطرة الطاغية، وربما كان الله يريد منه ـ من خلال الرّسالة ـ أن يستكمل هداية قومه من بني إسرائيل، ليكونوا في مستوى الوراثة للأرض، وليبلغوا درجة الإمامة للبلد الَّذي كانوا يقيمون فيه في نطاق الاستعباد الفرعونيّ، كما عبّر الله عن ذلك: {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}[5]. ولعلَّ تحقيق هذه المهمَّة الرّساليَّة، كان يقتضي أن يفصلهم عن الجوّ الّذي كانوا يتأثّرون به، ويجعلهم يستعيدون الذّكريات السّوداء في الصنميّة الوثنيّة والربوبيّة الفرعونيّة، ليتنفَّسوا الهداية في الهواء الطّلق، لأنهم كانوا لا يزالون يفكّرون في الاتجاه المنحرف، ولم تكن علاقتهم بالنّبيّ موسى علاقةً رساليَّة ـ إلا من آمن منهم ـ بل كانت أشبه بالعلاقة القوميّة القياديّة الّتي يأملون أن تخلّصهم من فرعون وظلمه، ولذلك، كانوا يخاطبون موسى بأنّه أدخلهم في الأذى منذ أن حمل مسؤوليّة إنقاذهم من فرعون الَّذي شدَّد من ضغطه عليهم...

بداية معاناة جديدة

وهكذا انتقلوا إلى الضّفَّة الأخرى في أرضٍ جديدةٍ ومسيرة جديدة... وكانت المفاجأة الصّعبة للنبي موسى في حديثهم عن الذهنيّة الإشراكيّة، وطلبهم منه أن يجعل لهم إلهاً يعبدونه من دون الله، عندما التقوا بأناسٍ كانوا يعبدون الآلهة الوثنيَّة، وهذا ما جاء في قوله تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ ـ في عملية عبادة خاشعة وخضوع مسحوق لما يتصوَّرونه فيهم من الأسرار الإلهيّة ـ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ـ لنعبدها كما يعبدها هؤلاء القوم ـ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَـؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}[6]

فقد كانوا يشعرون ـ فيما يبدو ـ أنَّ النبوَّة مجرّد سلاح في يد موسى في معركته ضدّ فرعون، لا حقيقة إلهيَّة في الحياة ضدَّ كلّ ما هو زيف في الفكر وفي الواقع. وهذا ما واجهه موسى(ع) في بداية التَّجربة الأولى في الأجواء الجديدة، حيث استيقظت كلُّ رواسب الصنميَّة في الأعماق، وبدأت تتحرَّك على السَّطح، لتتحوَّل إلى نداءٍ متوسِّلٍ إلى موسى ليقوم بصناعة آلهةٍ لهم ليعبدوها كما للآخرين آلهة، فقالوا له: إنّنا ابتعدنا عن مصر وعن معابد الآلهة الّتي اعتدنا العبادة فيها للأصنام، فكيف تقبل أن نعاني هذا الحرمان الرّوحيّ؟! فأنقذنا من ذلك كما أنقذتنا من ظلم فرعون.

وشعر موسى(ع) بالمرارة، ولم تكن مرارة الخيبة الّتي تقود إلى الإحباط وتدفع إلى اليأس، بل هي مرارة الرّسول الّذي يشعر بأنَّ ما تحتاجه المرحلة من جهدٍ وتوعية وتربيةٍ لا زال كبيراً، لأنَّ القوم لم يأخذوا قضيّة الإيمان كقضيّةٍ للفكر والحياة، بل أخذوها كوسيلةٍ للخلاص من العبوديّة، لأنّ التاريخ الطويل الّذي عاشوه في أجواء الظّلم والطغيان والشّرك، قد ترك تأثيره الكبير في الملامح الداخليّة والخارجيّة لشخصيّتهم، ما يفرض على موسى(ع) وضع خطّة جديدة تختلف في وسائلها، وتتنوّع في أساليبها وأشكالها.

{وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}[7]، لأنّهم لم يتعرّفوا حقيقة الألوهيَّة في معناها المطلق، من حيث إنَّ الله يخلق كلَّ شيء، ويحيط بكلِّ شيء، وليس كمثله شيء، وليس بينه وبين أحدٍ من عباده قرابة ليكون واسطةً بينه وبينه، فلا معنى لأن يعبد أحدٌ أحداً ليقرّبه إلى الله زلفى، لأنَّ العمل المتحرّك في خطِّ الإيمان هو الّذي يقرّب العبد من ربّه. وبذلك، لا معنى لإعطاء هذه التّماثيل الحجريّة والخشبيّة والذهبيّة والنحاسيّة والفضيّة معنى الألوهة، فهي مخلوقة لله بمادَّتها، ومصنوعة للإنسان بشكلها، فكيف تحمل سرَّ الألوهة؟ ومن أين تحصل على القوّة والقدرة؟ إنّه الجهل والغفلة والخرافة والسّذاجة، إنهم يتمنّون أن يكونوا كهؤلاء؛ أن يعبدوا مثل ما يعبدون، هل عرفوا مستوى هؤلاء وقيمتهم فيما يفكّرون ويعملون؟!

{إِنَّ هَـؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ}، فإنَّ واقعهم يسير بهم إلى الهلاك والدّمار، لأنهم يفقدون العقل الّذي يفتح لهم نوافذ الحقّ، والحكمة الّتي تحكم الحياة وتدبّرها في ظلِّ نظامٍ دقيقٍ تلتقي فيه حركة الإنسان بحركة الكون. وإذا تحرّك الإنسان من دون قاعدةٍ ثابتةٍ أو منهجٍ متكامل، فإنه يبقى في مهبِّ الرّياح، فلا يسكن إلى ملجأ، ولا يستريح إلى أرض. {وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}[8]، لأنهم لا يملكون حجّة في عبادتهم لهذه الآلهة الصنمية المدّعاة.

التّوعية الرّساليّة

وتلك هي قصَّة الحقّ والباطل، فللحقِّ سلطانه من خلال قوّة العناصر الفكريَّة والعمليَّة التي تدعم مضمونه، وللباطل شهواته وأهواؤه الّتي تفقده الثّبات وتجعله في قبضة الاهتزاز، تبعاً لاختلاف الأهواء والشّهوات الّتي لا تشتعل إلا لتتبخَّر في الهواء، كماء الزّبد الّذي يذهب جُفاءً ولا يبقى منه شيء ينفع النّاس.

وهذا ما أراد النبيّ موسى(ع) أن يعمِّمه في ذواتهم، من أسلوب الإنكار لهذه الرّؤية الظلاميَّة للأشياء، ليدرسوا واقعهم المستقبليّ في نتائجه السَّلبيَّة على هدى واقع هؤلاء القوم في النَّتائج السلبيَّة الحاضرة. ثم عاد ليربطهم بالله من خلال النّعمة الّتي أنعم بها عليهم: {قَالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلَـهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}[9]، فيما منحكم من نعمه الكثيرة، وما ميّزكم به على فرعون وقومه من اختصاصكم برحمته وبآياته المعجزة، وبغير ذلك من نعمٍ كبيرةٍ في كلّ مجالات حياتكم.

إنّه تفضيل النِّعمة الّتي قد يخصّ بها الله بعض عباده لحكمةٍ ما، لا تفضيل القيمة الّتي يرفع بها بعض عباده على بعض درجات، ويقرّبهم إليه، ويمنحهم المزيد من رحمته ورضوانه. إنه يذكِّرهم بهذه النّعمة، ليفكّروا ويقارنوا، ليأخذوا من ذلك أوَّل درسٍ ينفتح بهم على الإيمان، وهو أن لا شيء غير الله يمكن أن يمنح الإنسان النّعَم في كلّ حياته، لأنه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً.

وهكذا بدأ موسى(ع) عمليّة التّوعية الرّساليّة في الدعوة التوحيديّة لقومه، في المسيرة الطويلة التي عاناها منهم كما عاناها من فرعون وقومه، ولكنّه لم يرجع إلى مصر في المرحلة التي واجهها معهم. فكيف واجه تلك المرحلة؟ والحمد لله ربّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [القصص: 5، 6].

[2]  [الأعراف: 137].

[3]  [الشعراء: 57 ـ 59].

[4]  [الدّخان: 25 ـ 28].

[5]  [القصص: 5].

[6]  [الأعراف: 138، 139].

[7]  [الأعراف: 139]

[8]  [الأعراف: 139].

[9]  [الأعراف: 140].

انتهت المرحلة الفرعونيَّة الطاغية، وعاش الناس من بعد ذلك حريَّة اجتماعيَّة في أمورهم العامّة والخاصّة، وفي أمن شامل، وتخلَّص المستضعفون من بني إسرائيل من الاستعباد الفرعوني بعد أن حرَّرهم النبيّ موسى(ع) وحقّق هدفه الأساس في إرسالهم معه، وانطلقت المعجزة الإلهيَّة في تحويل البحر إلى أرضٍ يابسةٍ سمحت لموسى ومن معه بالسّير فيها والاتجاه إلى الجانب الآخر، وعاد البحر إلى حالته الأولى بعد أن استكمل جيش فرعون دخوله فيه، فغرقوا جميعاً.

وراثة الأرض

ويبقى السؤال: ماذا حدث بعد ذلك؟ هل رجعوا إلى مصر ليحكموها بقيادة موسى(ع)، أو أنهم أكملوا رحلتهم في الجانب الآخر ليستقرّوا في أرضٍ أخرى، وهي بيت المقدس، التي كان موسى يخطِّط للإقامة فيها وتحريك الدَّعوة إلى العالم من خلالها، باعتبارها الأرض المقدَّسة التي تجذب النّاس إليها بوحي قداستها الروحيّة إذا ارتفعت الحواجز الأمنيّة بينهم وبين الدّخول إليها؟

لا بدَّ لنا من متابعة الآيات القرآنيَّة الّتي تتحدَّث عن مرحلة ما بعد الانتصار على السُّلطة الفرعونيَّة، فنقرأ في البداية قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ}[1]. فنلاحظ أنَّ الله سبحانه أراد أن يتسلَّم المستضعفون قيادة الحكم في مصر، وأن يرثوا الأرض، فيكونوا سادتها وقادتها، وأن يتمكَّنوا في الأرض من موقع القوّة والثّبات بعد هزيمة فرعون وهامان ـ الّذي كان مصدر قوّةٍ ودعم لسلطة لفرعون ـ وجنودهما مما كانوا يحذرونه من حركة النبيّ موسى والمؤمنين معه والجماهير الكثيرة من قومه. وقد وصلت هذه الإرادة الموعودة من الله للمستضعفين إلى الدّرجة الفعليَّة بعد الانتصار على أولئك الطغاة وأتباعهم، وهذا ما جاءت به الآية الكريمة، في قوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ}[2].

فإنّنا نستوحي من هذه الآيات، أنَّ الله منح الامتداد الحرَّ للمستضعفين، بحيث مكَّنهم من الحركة في أيّ موقعٍ من مواقع الأرض، حتى الأرض المباركة المقدّسة، وتحقَّقت الإرادة الإلهيَّة لهؤلاء النّاس الصَّابرين الَّذين صبروا في مدى الأجيال على اضطهاد فرعون وسلطته الظالمة المستكبرة، لأنَّ الله سبحانه قد جعل الصَّبر قيمةً حركيَّةً لا بدَّ من أن تنتهي إلى النّتائج الإيجابيَّة، لأنَّ امتداده يضعف مراكز القوّة المستعلية بشكلٍ تدريجيّ.

وهذه الآية تدلّ على أنَّ المستضعفين قد أصبحوا سادة الأرض وقياديّيها، وأنَّ الله منحهم القدرة على الامتداد إلى أرضٍ أخرى، ما قد يوحي بأنّهم أمسكوا بالقيادة العامَّة في مصر، التي عاشوا الاستضعاف فيها تحت سلطة المستكبرين من فرعون وقومه.

حكم مصر!

ونقرأ في آيةٍ أخرى: {فَأَخْرَجْنَاهُم ـ أي فرعون وقومه ـ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}[3]. وفي آيةٍ مماثلة في قوله تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ}[4]، والمقصود بهم بنو إسرائيل بقيادة النّبيّ موسى والمؤمنين معه، بقرينة الآية السَّابقة، وباعتبار أنّهم كانوا هم المتحرّكين ضدّ المستكبرين في ساحة الصِّراع...

وهكذا يمثّل عنوان الوراثة معنى السّلطة الفعليَّة التي حصلت على الموقع القيادي الجديد بعد الموقع السَّابق، ومن المعروف أنها لن تتحقَّق بالمعنى الواقعي، إلا إذا كان المستضعفون من بني إسرائيل هم البديل في الواقع، ما يعني أنهم كانوا متواجدين في الأرض الّتي كانوا يسكنون فيها. ثم إنَّ الآيات التي تحدّثت عن معاناة موسى مع قومه، لم تتحدَّث عن ذلك في المجتمع المصريّ، بل في المسيرة التي كانوا يتحركون فيها معه، ما قد يوحي بأنهم لم يرجعوا إلى مصر ليحكموها وليكونوا في مواقع السلطة الجديدة الحاكمة القويّة.

ولكنّ بعض المفسِّرين، ومنهم القرطبي، نقل عن الحسن وغيره، أنَّ بني إسرائيل رجعوا إلى مصر، وقيل إنّه أراد بالوراثة هنا ما استعادوه من حُلي آل فرعون بأمر الله تعالى. وقال القرطبي إنَّ كلا الأمرين حصل لهم بعد هلاك فرعون وقومه، كما أنَّ مفسِّرين آخرين قالوا إنَّهم تحركوا نحو بيت المقدس بعد هلاك فرعون وأتباعه، إلا أنَّهم بعد مدّة مديدة رجعوا إلى مصر، وشكَّلوا فيها حكومتهم. ويعتقد بعض آخر من المفسّرين، أنَّ بني إسرائيل صاروا جماعتين أو فئتين، فجماعة بقيت في مصر وحكمت فيها، وجماعة تحرّكت مع موسى نحو بيت المقدس.

واحتمل البعض أنَّ بني إسرائيل حكموا مصر بعد موسى في زمان النّبيّ سليمان بن داود(ع). وردّه بعض المفسّرين إلى أنَّ موسى نبيّ ثائر كبير، فمن البعيد جدّاً أن يترك هذه الأرض الّتي تهاوت أركان حكومتها وقد أصبحت مقاليد أمرها بيده، فيذرها كلّياً دون أن يخطّط لها خطّة، ويتَّجه نحو فلسطين وبيت المقدس والصَّحارى الشّاسعة، ولا سيَّما أنَّ بني إسرائيل قد سكنوا مصر لسنين طوال، وتعوَّدوا على محيطها. فبناءً على هذا، لا يخرج الأمر من أحد حالين: إمّا أن نقول: إنَّ بني إسرائيل عادوا جميعاً إلى مصر وحكموا فيها، أو أن نقول إنَّ قسماً منهم بقي في مصر بأمر موسى، واستولى على العرش وحكم فيها. وفي غير هاتين الحالين، لا يتجلَّى مفهوم إخراج الفراعنة منها ووراثة بني إسرائيل.

هدف الرّسالة النبويّة

ونلاحظ على ما ذكروه، أنَّ الهدف الذي كان يستهدفه النبيّ موسى(ع)، كان ينطلق من الدّعوة إلى الإيمان التوحيدي بالله، ورفض عبادة الآلهة المدَّعاة في خطِّ الشّراكة لله، أو تأليه البشر واعتبارهم أرباباً للنّاس، وتحرير بني إسرائيل وإرسالهم معه، بعد أن دعا فرعون وقومه إلى عبادة الله، وتحاور معه في ذلك، ثم استفاد من انتصاره على السَّحرة الَّذين جمعهم فرعون لمواجهته.

وبقيت دعوته تتحرَّك في أكثر من موقفٍ في حالٍ جزئيّةٍ أو كليّةٍ، وقد أثَّرت هذه الدَّعوة في بعض النّاس الّذين اقتنعوا بموسى(ع)، عندما شاهدوا السَّحرة وهم يعلنون إيمانهم وسجودهم لله ربِّ العالمين، لأنّهم رفضوا اتّهام موسى بالسِّحر بعد أن أثبت السَّحرة سخافة ذلك. كما أنَّ المعجزة في فتح البحر لهم وإفساح المجال أمامهم للسَّير على الأرض اليابسة وإنقاذهم من فرعون وقومه، كانت الهدف الثّاني الّذي حقّقه الله لهم..

ولم يتحدَّث الله عن هدفٍ ثالثٍ، وهو قيام النبيّ موسى(ع) بحكم مصر ليكون في الموقع البديل من فرعون، بل إنَّ المطلوب منه كان الامتداد في الخطّة التي أعدَّها الله له بعد تحرير مصر من سيطرة الطاغية، وربما كان الله يريد منه ـ من خلال الرّسالة ـ أن يستكمل هداية قومه من بني إسرائيل، ليكونوا في مستوى الوراثة للأرض، وليبلغوا درجة الإمامة للبلد الَّذي كانوا يقيمون فيه في نطاق الاستعباد الفرعونيّ، كما عبّر الله عن ذلك: {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}[5]. ولعلَّ تحقيق هذه المهمَّة الرّساليَّة، كان يقتضي أن يفصلهم عن الجوّ الّذي كانوا يتأثّرون به، ويجعلهم يستعيدون الذّكريات السّوداء في الصنميّة الوثنيّة والربوبيّة الفرعونيّة، ليتنفَّسوا الهداية في الهواء الطّلق، لأنهم كانوا لا يزالون يفكّرون في الاتجاه المنحرف، ولم تكن علاقتهم بالنّبيّ موسى علاقةً رساليَّة ـ إلا من آمن منهم ـ بل كانت أشبه بالعلاقة القوميّة القياديّة الّتي يأملون أن تخلّصهم من فرعون وظلمه، ولذلك، كانوا يخاطبون موسى بأنّه أدخلهم في الأذى منذ أن حمل مسؤوليّة إنقاذهم من فرعون الَّذي شدَّد من ضغطه عليهم...

بداية معاناة جديدة

وهكذا انتقلوا إلى الضّفَّة الأخرى في أرضٍ جديدةٍ ومسيرة جديدة... وكانت المفاجأة الصّعبة للنبي موسى في حديثهم عن الذهنيّة الإشراكيّة، وطلبهم منه أن يجعل لهم إلهاً يعبدونه من دون الله، عندما التقوا بأناسٍ كانوا يعبدون الآلهة الوثنيَّة، وهذا ما جاء في قوله تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ ـ في عملية عبادة خاشعة وخضوع مسحوق لما يتصوَّرونه فيهم من الأسرار الإلهيّة ـ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ـ لنعبدها كما يعبدها هؤلاء القوم ـ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَـؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}[6]

فقد كانوا يشعرون ـ فيما يبدو ـ أنَّ النبوَّة مجرّد سلاح في يد موسى في معركته ضدّ فرعون، لا حقيقة إلهيَّة في الحياة ضدَّ كلّ ما هو زيف في الفكر وفي الواقع. وهذا ما واجهه موسى(ع) في بداية التَّجربة الأولى في الأجواء الجديدة، حيث استيقظت كلُّ رواسب الصنميَّة في الأعماق، وبدأت تتحرَّك على السَّطح، لتتحوَّل إلى نداءٍ متوسِّلٍ إلى موسى ليقوم بصناعة آلهةٍ لهم ليعبدوها كما للآخرين آلهة، فقالوا له: إنّنا ابتعدنا عن مصر وعن معابد الآلهة الّتي اعتدنا العبادة فيها للأصنام، فكيف تقبل أن نعاني هذا الحرمان الرّوحيّ؟! فأنقذنا من ذلك كما أنقذتنا من ظلم فرعون.

وشعر موسى(ع) بالمرارة، ولم تكن مرارة الخيبة الّتي تقود إلى الإحباط وتدفع إلى اليأس، بل هي مرارة الرّسول الّذي يشعر بأنَّ ما تحتاجه المرحلة من جهدٍ وتوعية وتربيةٍ لا زال كبيراً، لأنَّ القوم لم يأخذوا قضيّة الإيمان كقضيّةٍ للفكر والحياة، بل أخذوها كوسيلةٍ للخلاص من العبوديّة، لأنّ التاريخ الطويل الّذي عاشوه في أجواء الظّلم والطغيان والشّرك، قد ترك تأثيره الكبير في الملامح الداخليّة والخارجيّة لشخصيّتهم، ما يفرض على موسى(ع) وضع خطّة جديدة تختلف في وسائلها، وتتنوّع في أساليبها وأشكالها.

{وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}[7]، لأنّهم لم يتعرّفوا حقيقة الألوهيَّة في معناها المطلق، من حيث إنَّ الله يخلق كلَّ شيء، ويحيط بكلِّ شيء، وليس كمثله شيء، وليس بينه وبين أحدٍ من عباده قرابة ليكون واسطةً بينه وبينه، فلا معنى لأن يعبد أحدٌ أحداً ليقرّبه إلى الله زلفى، لأنَّ العمل المتحرّك في خطِّ الإيمان هو الّذي يقرّب العبد من ربّه. وبذلك، لا معنى لإعطاء هذه التّماثيل الحجريّة والخشبيّة والذهبيّة والنحاسيّة والفضيّة معنى الألوهة، فهي مخلوقة لله بمادَّتها، ومصنوعة للإنسان بشكلها، فكيف تحمل سرَّ الألوهة؟ ومن أين تحصل على القوّة والقدرة؟ إنّه الجهل والغفلة والخرافة والسّذاجة، إنهم يتمنّون أن يكونوا كهؤلاء؛ أن يعبدوا مثل ما يعبدون، هل عرفوا مستوى هؤلاء وقيمتهم فيما يفكّرون ويعملون؟!

{إِنَّ هَـؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ}، فإنَّ واقعهم يسير بهم إلى الهلاك والدّمار، لأنهم يفقدون العقل الّذي يفتح لهم نوافذ الحقّ، والحكمة الّتي تحكم الحياة وتدبّرها في ظلِّ نظامٍ دقيقٍ تلتقي فيه حركة الإنسان بحركة الكون. وإذا تحرّك الإنسان من دون قاعدةٍ ثابتةٍ أو منهجٍ متكامل، فإنه يبقى في مهبِّ الرّياح، فلا يسكن إلى ملجأ، ولا يستريح إلى أرض. {وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}[8]، لأنهم لا يملكون حجّة في عبادتهم لهذه الآلهة الصنمية المدّعاة.

التّوعية الرّساليّة

وتلك هي قصَّة الحقّ والباطل، فللحقِّ سلطانه من خلال قوّة العناصر الفكريَّة والعمليَّة التي تدعم مضمونه، وللباطل شهواته وأهواؤه الّتي تفقده الثّبات وتجعله في قبضة الاهتزاز، تبعاً لاختلاف الأهواء والشّهوات الّتي لا تشتعل إلا لتتبخَّر في الهواء، كماء الزّبد الّذي يذهب جُفاءً ولا يبقى منه شيء ينفع النّاس.

وهذا ما أراد النبيّ موسى(ع) أن يعمِّمه في ذواتهم، من أسلوب الإنكار لهذه الرّؤية الظلاميَّة للأشياء، ليدرسوا واقعهم المستقبليّ في نتائجه السَّلبيَّة على هدى واقع هؤلاء القوم في النَّتائج السلبيَّة الحاضرة. ثم عاد ليربطهم بالله من خلال النّعمة الّتي أنعم بها عليهم: {قَالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلَـهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}[9]، فيما منحكم من نعمه الكثيرة، وما ميّزكم به على فرعون وقومه من اختصاصكم برحمته وبآياته المعجزة، وبغير ذلك من نعمٍ كبيرةٍ في كلّ مجالات حياتكم.

إنّه تفضيل النِّعمة الّتي قد يخصّ بها الله بعض عباده لحكمةٍ ما، لا تفضيل القيمة الّتي يرفع بها بعض عباده على بعض درجات، ويقرّبهم إليه، ويمنحهم المزيد من رحمته ورضوانه. إنه يذكِّرهم بهذه النّعمة، ليفكّروا ويقارنوا، ليأخذوا من ذلك أوَّل درسٍ ينفتح بهم على الإيمان، وهو أن لا شيء غير الله يمكن أن يمنح الإنسان النّعَم في كلّ حياته، لأنه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً.

وهكذا بدأ موسى(ع) عمليّة التّوعية الرّساليّة في الدعوة التوحيديّة لقومه، في المسيرة الطويلة التي عاناها منهم كما عاناها من فرعون وقومه، ولكنّه لم يرجع إلى مصر في المرحلة التي واجهها معهم. فكيف واجه تلك المرحلة؟ والحمد لله ربّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [القصص: 5، 6].

[2]  [الأعراف: 137].

[3]  [الشعراء: 57 ـ 59].

[4]  [الدّخان: 25 ـ 28].

[5]  [القصص: 5].

[6]  [الأعراف: 138، 139].

[7]  [الأعراف: 139]

[8]  [الأعراف: 139].

[9]  [الأعراف: 140].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية