الخوف والرجاء في المفهوم الإسلامي(*)
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن : 46]، {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى*فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40 ـــ 41]، ويقول في آيةٍ أخرى، {وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم : 14]، ويقول سبحانه وتعالى في آيةٍ أخرى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} [الأحزاب : 39]، هذه الآيات وغيرها من الآيات الكثيرة في القرآن، ركَّزت على مسألة الخوف من الله في عمق شخصية المؤمن؛ فلا بدّ للإنسان المؤمن في كلّ حياته الإيمانية الداخلية من أن يستشعر خوف الله في قلبه، بحيث يواجه حياته من موقع أنّه مسؤولٌ أمام الله في كلّ قضية صغيرة أو كبيرة، وأنَّ هناك حساباً على كلّ شيء، وأنَّ الله مطّلع على كلّ شيء مهما كان سريّاً.
الخوف من الله
وهكذا يعيش الإنسان في نفسه هذا القلق النفسي من خلال طبيعة عمله. هل يرضي عمله الله فيأمن عذاب الله غداً؟ أم عمله لا يرضي الله فيكون في موقع عذاب الله غداً؟ وعندما يؤكّد الله في القرآن على الخوف، فإنّه لا يريد الخوف الذي يجعلك تعيش في نفسك هذه الحالة الذاتية الانفعالية بعيداً عن مسألة العمل، إنَّ الله يريد منك أن تظلّ خائفاً منه، لتراقب نفسك كيف يكون عملك وكيف يكون التزامك بربّك، وكيف تؤكّد إيمانك بعملك وبكلّ أوضاعك العامّة والخاصّة. تخاف من الله فتنضبط، وتخاف من الله فتلتزم، وتخاف من الله فتترك كلّ حرام، وتخاف من الله فتفعل كلّ ما أوجبه الله عليك، وهذا ما أكّدته الآية الكريمة {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] أن تخاف الله ثمّ تقول لنفسك: يا نفس إنَّ الله حرَّم عليكِ أشياء، وأوجب عليكِ أشياء، وجعل لكِ في ما حرَّمه عليكِ وفي ما أوجبه عليكِ الجنّة في الطاعة. إذا أطعتِ يا نفس ما أمركِ الله به، وأطعتِ ما نهاكِ الله عنه فتركته، فإنَّ الله سيعطيك ثواب ذلك رضاه والجنّة؛ وإذا عصيتِ يا نفس ما حرَّمه الله عليكِ ففعلته وما أوجبه الله عليكِ فتركته، فإنَّ أمامك سخطه والنار. ليكن خوفك من ربّك منطلقاً من شعورك بعظمة الله، ومن خطورة سخطه، ومن خطورة عذابه في يوم القيامة وبذلك يكون خوفك من الله خوفاً عملياً، تستشعر فيه ضرورة أن تلتزم الخطّ الذي يقرّبك إلى الله ويصلك به، وأن تبتعد عن الخطّ الذي يبعدك عن الله، ويقرّبك من الشيطان. لا بدّ للإنسان أن يعيش ذلك في نفسه إذا كان يأمل في الجنّة، ولا بدّ أن يكون خوفك من الله سبحانه وتعالى في كلّ أعمالك وأقوالك وعلاقاتك، بحيث يكون هو المقياس في ما تقبله أو ترفضه، في ما يعرض عليك الناس من مسؤوليات ومواقف، وفي ما يعرضه الناس عليك من مواقع وعلاقات.
كلّ الناس، سواء كانوا أقرباءك أو كانوا أصدقاءك أو كانت لك مصلحة عندهم، إذا طلبوا منك شيئاً، قل لهم إنّني سأدرس المسألة على أساس أنّ ما طلبتموه منّي هل يرضي ربّي عنّي أو لا يرضي ربّي عنّي، لأنّي أخاف الله ربّ العالمين، ولأنّني أعرف مدى خطورة عقابه. لو "زعلتم" منّي أو رضيتم ليس ذلك مشكلة، لأنَّ رضاكم وسخطكم قد يؤذيني بعض الشيء، ولكنّه يزول كما تزولون وكما أزول أنا معكم، ولكنَّ رضى الله سبحانه وتعالى هو الرضى، وإنَّ سخطه هو السخط. وهذا ما عبَّر عنه أمير المؤمنين (عليه السلام) في دعاء كميل، عندما تحدّث عن سخط الله وعن غضبه على أساس المعاصي التي يقوم بها الإنسان في حياته "فإنَّ ذلك لا يكون إلاّ عن غضبك وانتقامك وسخطك وهذا ما لا تقوم له السماوات والأرض، يا سيّدي فكيفَ بي وأنا عبدُكَ الضعيف الذليل الحقير المسكين المستكين". ولذلك يريدنا الله دائماً أن نتذكَّر يوم القيامة، حتّى يتأكّد هذا الخوف عندنا، لأنَّ مشكلتنا هي أنّنا نستغرق في الدنيا وننسى الآخرة، وأنّنا نتذكَّر عذاب الناس ولا نتذكَّر عذاب الله، وأنّنا نعمل على أن نحصل على رضى الناس بسخط الله من أجل أن نحصل على بعض ما يعطوننا إيّاه، ولكنّنا عندما نتذكّر الآخرة نتذكّر دائماً أنّه ليس عندنا ضمان من الموت، مَنْ منّا يأمن على نفسه من أن يموت بعد لحظة؟ هل يملك أحد ضماناً؟ لو جاء أحد إليك وقال لك: اعصِ الله في ما أكلّفك به، بعد ساعة أو بعد يوم، قل له: ماذا إذا جاءني الأجل قبل هذه الساعة أو بعدها، كيف أواجه الله بما عملت.
إنَّ كثيراً منّا يستعجل المعصية ويسوِّف التوبة، ولكن مَن قال لك إنّك تدرك التوبة، فربّما تموت قبل أن تتوب، وربّما تنسى التوبة بعد ذلك. إنَّ الإيمان يفرض عليك أن تفكّر دائماً بالله، وأن تفكّر دائماً بخوف الله سبحانه وتعالى. وليس معنى أن تخاف من الله أن تيأس إذا كثرت ذنوبك، ليس معنى ذلك أن تسقط، بل معنى ذلك أن تعمل على أن تتوب إذا كنتَ قد عصيت، وتعمل على أن تصحِّح طريقك إذا كنتَ قد عصيت، حتّى يستقيم أمرك في طريق الله وحتّى تنفتح حياتك على الله. معنى أن تخاف الله، أن تظلّ تراقب نفسك وتحاسبها وتحاكمها وتغيّرها، حتّى تجعل نفسك على الصورة التي يحبّها الله سبحانه وتعالى.
التوازن بين الخوف والرّجاء
إنّ الله يريد أن يكون هناك في قلب الإنسان المؤمن نور خيفة ونور رجاء، أن تكون عندك خيفة من الله تمنعك من المعصية وتدفعك إلى الطاعة، كما لو كان الله يريد أن يعاقبك بكلّ عقابه، وأن يكون لك رجاء برحمة الله، كما لو كان الله يريد أن يكافئك. فقد ورد في وصيّة لقمان لابنه، وأكّدها أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيّته لولده الإمام الحسن (عليه السلام)، "خَفِ اللهَ خوفاً لو وافيته ببرّ الثقلين خفت أن يعذّبك، وارجُ الله رجاءً لو وافيته بذنوب الثقلين رجوت أن يغفر لك"(1) أن تتوازن لديك روحية الخوف من الله، لتمنعك من الانحراف وروحية الرجاء بالله، لتمنعك من اليأس ومن القنوط، تذكَّر دائماً أنّ الله شديد العقاب، وأنّ الله غفورٌ رحيم، هو "أشدّ المعاقبين في مَوْضِعِ النكال والنَقِمَة" وهو "أرحمُ الراحمين في موضع العفْوِ والرحمة" تذكَّر ذلك لتتوازن في حياتك، حتّى لا يسقطك الخوف باليأس، ولا يجعلك الرجاء تتحرّك لتمتد في المعصية كما يفعل بعض الناس.
إنَّ شخصية الناس تحمل نقطتين: النقطة الأولى تتعلّق بجانب التطرّف في الخوف فيقول إنسان ما: أنا ارتكبت معاصي كثيرة في حياتي فلا أرجو رحمة الله، كيف سأُلاقي وجه الله ولا توجد جريمة إلاّ ارتكبتها، عشتُ حياتي وقلبي أسود على الناس، بأيّ عين سأُلاقي الله سبحانه وتعالى، وبأيّ وجه سألاقيه، فيجب أن أستسلم لمصيري في معصية الله، لأنّني وقعت ولا يمكن أن أنهض من هذه الوقعة. هكذا يفكّر بعض الناس وهذا خطأ، لأنَّ هذا الفهم يقتضي أن ييأس الإنسان من رحمة الله. والله سبحانه وتعالى قال لهؤلاء الناس: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر : 53]. فإذا كنت قد أسرفت في المعاصي في حياتك، وتورّطت في كثيرٍ من الجرائم، فإنَّ عليك أن تعرف {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ...} [النساء : 48]، فلا تقنط من رحمة الله، ولا تيأس من رحمة الله لأنَّ "لله رحمة في يوم القيامة يتطاول لها عنق إبليس".
أمّا النقطة الثانية من التطرّف فتتعلّق بجانب الرجاء، فبعض الناس يأمل برحمة الله بالمستوى الذي لا يفكّر فيه في طاعة، ولا يعمل على أن يمنع نفسه عن معصية، عندما يشرب الخمر أو يلعب القمار، أو يزني ويسرق ويظلم، ويعين الظالمين، ويفعل كلّ المحرّمات، ويترك الصلاة، ويترك الصوم والحجّ والخمس والزكاة. وبعد ذلك يقول: الله سبحانه وتعالى كبير وعظيم، ليس من المعقول أن يحاسبني، ومَن أنا حتّى يحاسبني؟ فالله سبحانه أكبر وأعظم من أن يعذِّب أحداً، وعندما يفكّر في جنّة وفي نار، يقول "ليوم الله يهوِّن الله" فيدفعه ذلك إلى الامتداد في المعصية وإلى ترك الواجبات وتسويف التوبة.. هذا تطرُّف أيضاً.
أمّا الإنسان المتوازن فهو الذي عبَّر الله عنه سبحانه وتعالى أنّه يحذر الآخرة {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ...} [الزمر : 9]. وهو يتحرّك في خطّين لا ينفصل أحدهما عن الآخر؛ فهو في الوقت الذي يحذر فيه الآخرة ويخاف عقاب الله في الآخرة، يرجو رحمة الله في أنّه لو أذنب فإنَّ الله يعفو عن ذنبه، فهو يعمل على أنْ لا يذنب، ولكنّه إذا أذنب فهو يرجو رحمة الله في ذلك، فيتوازن في قلبه الخوف والرجاء، هذا ما ينبغي لنا أنْ نربّي أنفسنا عليه.
ضرورة تحصيل الطمأنينة
ومن خلال ذلك، لا بدّ لنا من أن نقرأ القرآن قراءة واعية في كلّ ما يتحدّث به الله سبحانه وتعالى عن أهوال يوم القيامة، فإذا قرأنا هذه الآية التي تقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ*يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 1 ـــ 2]. عندما تقرأ هذه الآيات فعليك أن تستحضر ذلك الموقف، وعليك أن تجعل نفسك هناك، عندما يكون الزلزال الروحي والنفسي. فكِّر أن تكون مطمئناً في مواقع الزلزال، لأنَّ هناك أُناساً في يوم القيامة يؤمنهم الله من الفزع الأكبر، وهم الذين اطمأنَّت نفوسهم بالإيمان بالله وبمحبّة الله، وبالعمل الصالح الذي يرضي الله. هؤلاء الناس الذين يخاطب الله كلّ واحدٍ منهم قبل أن يموت {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ*ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً*فَادْخُلِي فِي عِبَادِي*وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 ـــ 30].
فكِّر عندما يقول لكَ الله {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} قل لنفسك: يا نفس لو كنت الآن في ذلك الموقف، فهل أكون من المطمئنين برضوان الله، أم من الذين يعيشون الزلزال خوفاً من عذاب الله؟ فكِّر في نفسك الآن، حتى تعرف كيف تحصل على الطمأنينة هناك. فكِّر أن تخاف الآن حتّى لا تخاف غداً، لأنَّ أولياء الله الذين يخافون الله في الدنيا، ويدفعهم خوف الله في الدنيا إلى أن يطيعوا الله، وأن يلزموا دين الله أولئك {لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} كن الخائف من الله الآن تكن الآمن يوم القيامة، وكن الآمن من مكر الله الآن تكُنِ الخائف يوم القيامة، اختر الآن، لا تزال في ساحة العمل "اليوم عمل ولا حساب" خذ حريّتك، اعمل ما تريد، انطلق بكلّ جرائمك، بكلّ معاصيك، بكلّ شيء، خذ حريّتك، لا أحد يوقفك. لكنّ هناك خوفين لا بدّ من أن تختار بينهما؛ أن تخاف الآن من الله فتأمن يوم القيامة، وأن تحسّ بالأمن من مكر الله الآن فتخاف يوم القيامة، أيّ خوف يجب أن تقدّمه، {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس : 62]، ومَن هم أولياء الله {الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} [يونس : 63]، والتقوى هي الخوف. الذين يراقبون الله، ويخافونه ويحسبون حسابه في كلّ شيء، هؤلاء لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} لا (يزوربون) من هنا وهناك، هم أبداً على الخط. {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف: 13]، {... مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [المائدة: 69]، {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} أحسن في عمله وأحسن في نيّته، {فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة : 112]. إذاً عندما نعرف أنّ الذين آمنوا وكانوا يتّقون والذين قالوا ربّنا الله ثمّ استقاموا، والذين آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا صالحاً والذين أسلموا وجوههم لله، وهم محسنون، هؤلاء لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون. فكيف ندبِّر أمرنا في الدنيا؟
الأمان الحقيقي
إنّ الله يقول لك، إذا آمنت بالله واستقمت، إذا آمنت بالله واتّقيت، إذا أسلمت وجهك إلى الله وأحسنت، إذا آمنت بالله واليوم الآخر وعملت صالحاً، فلكَ الأمان يومَ لا أمانَ إلاّ لمن أعطاه الله الأمان. هل تتبع زيداً وعمراً، قولوا لكلّ مَن يريد أن يدفعهم إلى عمل أو إلى مشروع أو إلى انتماء أو إلى عصبية أو إلى ضرر لإنسان، قولوا له يا فلان نحن معك، شرط أن تسمح لنا بأمان من الله أنْ لا يعذّبنا يوم القيامة، إذا سرنا معك أعطنا الأمان. وليس هناك مَن يستطيع أن يعطي الأمان إلاّ من خلال ما رسمه الله من خطوط الأمان، مَن الذي يعطيكم الأمان؟ بعض الناس يفكّر بالعلماء المجتهدين الأتقياء، حتّى هؤلاء يحتاجون إلى الأمان من الله سبحانه وتعالى. الله سبحانه وتعالى يقول لرسوله {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر : 65]، إنّما أعطى الأمان لرسول الله، ولكلّ رسل الله، لأنّهم آمنوا بالله وأطاعوه، وجاهدوا في سبيله. لا يوجد فرق في هذا الطريق، الفرق أنّ درجات الإيمان عند الأنبياء أكثر من درجات الإيمان عندنا، درجات العمل عند الأنبياء أكثر من درجات عملنا وروحية الجهاد عند الأنبياء أعمق من روحيّتنا، لكن لا فرق بيننا وبين كلّ الأنبياء وكلّ الأئمّة سوى أنّ الله رضي عنهم لأنّهم {عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ*لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 26 ـــ 27] الخطّ نفسه الذي يرضى فيه الله عنّا، هو الذي يرضى فيه عن النبيّ، لا يوجد فرق، ولهذا الله كان يخاطب النبيّ في القرآن بما خاطب به بقيّة الناس كما يقول الله: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء : 48].
النبيّ وخطّ الاستقامة
الله يقول للنبيّ، أنتَ رسول الله وحبيب الله، لكن ما دمت تسير على خطّ التوحيد وما دمت مستقيماً وما دمتَ من الذين قالوا ربّنا الله ثمّ استقاموا، ولكن لو انحرفت عن خطّ التوحيد فإنَّ عملك سيحبط {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر : 65]، الله يخاطب ويتحدّث عن النبيّ {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} يعني لو أنّ النبيّ زاد حرفاً في القرآن لم ينزله الله عليه {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ*لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ*ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ*فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 44 ـــ 47]، والنبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قال في بعض خطبه في آخر حياته: "لا يتمنَّ متمنّ، ولا يدّع مدَّعٍ، ألاَ إنّه ليس بين الله وبين أحدٍ من عباده شيء يعطيه به خيراً أو يدفع به عنه شرّاً إلاّ العمل ولو عصيت لهويت"(1). يعني أنا نبيّكم لو أنّي عصيت الله سأهوي، إذ ليس هناك فرق بيني وبين أيّ إنسان. لهذا لا تتصوّر أنّ من الممكن أن تأمن على نفسك وأنتَ مذنب وخاطئ؛ فلا يقدر أحد أن يقوم لك بـــ "واسطة"، افتح قلبك واستشعر الندم في قلبك ممّا فعلت، وأكّد إرادتك، وافتح قلبك وقل يا ربّي إنّي تائبٌ يتُب الله عليك.
مسؤولية الإنسان أمام الله
يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): "لا يغرَّك الناس من نفسك، فإنَّ الأمر يصل إليك من دونهم"(2). قد يخدعك الناس عن نفسك، أنتَ اعمل كذا والباقي علينا، وعلى "ذمّتنا". هذا الذي يقول "على ذمّتي" مَن هو، هل هو نبيّ، هل هو وصيّ؟ لا. يقول الله لك يوم القيامة مَن فلان حتّى تجعل ذمّته ضماناً لك؟ لا أحد يقدر أن يحمل خطيئة أحد {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ*وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت: 12 ـــ 13].
لا أحد يستطيع أن يحمل خطايا أحد. كلّ إنسان يحمل خطاياه على ظهره، لا تصدّقوا أحداً. فكِّر في نفسك، بكلّ عملٍ تعمله؛ هل يقرّبك من الله أم يبعدك عنه؟ هل ينجّيك من سخط الله أم لا؟ لأنّك ستموت وحدك وسيغلق اللّحد عليك وحدك، وستقف يوم القيامة وحدك، {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم : 95]، {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ...} [الأنعام : 94]، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} [النحل : 111] ما معنى هذه الآية. أنا أُكرِّرها دائماً على نفسي وعليكم: أنتَ وحدك ستكون المحامي عن نفسك، لا يوجد محامي دفاع، ولا يوجد شهود دفاع {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا}، {اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء : 14]، هكذا فكِّر دائماً واستشعر الواقع الذي تعيش. إنَّ إمامنا الإمام زين العابدين (عليه السلام) في دعاء أبي حمزة الثمالي يقول "فما لي لا أبكي ولا أدري إلى ما يكون مصيري، وأرى نفسي تخادعني وأيّامي تخاتلني، وقد خَفَقَتْ فوق رأسي أجنحة الموت" يعني يمثّل الموت مثل الطائر الذي يكون فوق رأسك، وعندما يأتي تسمع حفيف أجنحته على رأسك، وبعد ذلك يقف على رأسك "وقد خَفَقتْ فوق رأسي أجنحة الموت فما لي لا أبكي، أبكي لخروج نفسي، أبكي لظلمة قبري، أبكي لضيق لحدي، أبكي لسؤال منكرٍ ونكيرٍ إيّاي، أبكي لخروجي من قبري عرياناً ذليلاً حامِلاً ثقلي على ظهري، أنظُرُ مرّةً عن يميني وأُخرى عن شمالي إذ الخلائق في شأنٍ غير شأني" {لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ*وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ*ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ*وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ*تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} [عبس: 37 ـــ 41].
هذا الجوّ يجب أن نستشعره دائماً في حياتنا العامّة والخاصّة، لأنّ ما يحكمنا هو عبوديّتنا لربّنا، وعلينا أن نكون مخلصين في هذه العبودية، بأن نفكِّر في كلّ أمورنا انطلاقاً من خوفنا من الله سبحانه وتعالى. فإنْ كنت طالباً يكون همّك أن تحمل شهادتك آخر السنة أمام رفاقك أو كنتَ تاجراً تعمل على أساس أن تكون الناجح في تجارتك. ولكن علينا أن نفكّر أن نكون الناجحين في امتحان الله في الدنيا، حتّى نأخذ شهادتنا في الآخرة {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ*إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ*فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ*فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ*قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ*كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ*وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ*وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ*يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ*مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ*هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ*خُذُوهُ فَغُلُّوهُ*ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ*ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ*إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ*وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ*فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ*وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ*لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ} [الحاقة: 19 ـــ 37].
المجاهدون لا يخافون الموت
المطلوب أن نعيش هذا الجوّ. وإنّما أكَّد الله علينا أن نعيش مثل هذا الجوّ، لأجل أن نضبط خطواتنا على الخطّ، لأنَّ الذي لا يخاف من عقاب الله ولا يرغب في نعيمه، سوف يذهب به الشياطين كلّ مذهب، وسوف تأخذ به الأهواء في كلّ طريق، وسوف ينسى نفسه عندما ينسى ربّه، فيكون خطراً على نفسه وخطراً على الحياة، لأنّه لا يرتكز على قاعدة حقيقيّة يمكن لها أن تثبت خطواته في الطريق المستقيم، ويمكن لها أن تثبت له مواقفه في المواقع الصحيحة.
إنَّ الخوف من الله يجعلنا ننضبط ويجعلنا نتوازن ويجعلنا نستقيم ويجعلنا نأخذ الثقة من الله سبحانه وتعالى. عندما تخاف الله وحده فإنّك لا تخاف من شيء، ولكنّك عندما تخاف من الناس فإنّك تخاف من كلّ شيء. الذي يخاف من الله حدَّد خطواته بخطوط واضحة جيّداً. نحن في الحياة عندما نخاف، إنّما نخاف من الموت في كلّ الأخطار التي نعيشها في حياتنا، والخوف من الموت خوف حقيقي يعيشه كلّ إنسان منّا، لكنّ هناك نقطة لا بدّ من أن نلاحظها وقد حلَّها الله لنا، أنتَ عندما تتحرّك في خطّ الجهاد {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة : 52]، عندما نخاف من الله تكون قويّاً أمام العدوّ، لأنّك عندما تواجه العدوّ فإنّك تقول له من خلال موقفك ماذا تنتظر منّا، إمّا أن نموت فتكون الشهادة، وإمّا أن نبقى فيكون النّصر، وكلاهما من الحسنيين اللّتين ننال بهما عند الله الدرجة العالية؟ وفي مجالات حياتك العامّة، إذا كنت قد رتَّبت شغلك مع الله، وكنتَ مؤمناً وصالحاً، وكانت عندك بعض الذنوب القليلة هنا وهناك، فإنَّ خوفك من الموت لا يكون إلاّ بلحاظ خوفك من ذنبك. اعقد في قلبك الانفتاح على الله والرجاء برحمة الله وتُبْ إلى الله من ذلك. وعند ذلك لو جاءك الموت فلن يأتيك بشرّ، لأنّه ينفتح بك على رحمة الله سبحانه وتعالى. ولهذا فإنَّ الإنسان المؤمن عندما يكون خائفاً من الله، فإنَّ خوفه من الله يجعله يراقب الله في كلّ أموره ويقتحم المواقف بكلّ إيمان بالله.
إذا مات المؤمن ففي خطّ الله، وإذا عاش فإنّه يبقى في طاعة الله، لذلك فالمؤمن لا يخاف الموت. عندما تعرف نفسك أنّك وليّ الله، فأنتَ لا تخاف الموت. ولهذا الله تحدّى اليهود بقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الجمعة : 6] لأنّكم تقولون إنّ الله يحبّكم، وأنتم أولياء الله وأحباؤه، وشعب الله المختار، فتمنّوا الموت. وفي آيةٍ أخرى يقول الله عنهم: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة : 96]، {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ*وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} من الجرائم والموبقات {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [الجمعة: 6 ـــ 7]، {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ*يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 8 ـــ 9]. إذاً، الإنسان المؤمن يملك ضماناً، ولهذا عندما يخاف من الله، فإنَّ خوفه من الله يتحرّك ليكون عنصر قوّة في داخل نفسه، فلا يهاب أحداً، لأنَّ منتهى الهيبة هو الموت، وأنتَ عندما تموت في موقف من مواقف الطاعة فذلك هو الفوز العظيم.
الخوف من الناس يزلزل الموقف
فيما الإنسان الذي يخاف من الناس لا يمتلك قاعدة أبداً، كبعض الناس الذين تتلَوَّن مواقفهم حسب الرياح، تأتي الريح شرقية يصبحون شرقيين، تأتي غريبة يصبحون غربيين، تأتي معتدلة فتراهم معتدلين، وهكذا يبقون حائرين. إنّه يخاف من هذا فيسير كما يريد، ويخاف من ذاك فيسير كما يريد. وهكذا تظلّ الرياح تأخذه من هنا وهناك. والإنسان عندما يكون في قبضة الرياح لا يعرف نفسه أين تتركه الرياح، لكنّ الذي يرتكز على قاعدة من الله يعرف نفسه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30]، خطّ البداية يحدِّد لك خطّ النهاية، إنّه خطّ الاستقامة. بينما الإنسان الذي إذا مالَت الريح مال معها، ولأنّه يخاف من هذه السلطة يسير معها، ثمّ ينطلق إلى السلطة التي تأتي بعدها خوفاً على نفسه، وهكذا، فالذي يخاف من الناس يخاف من كلّ أحد، وليس له شخصية.
إنَّ الله سبحانه وتعالى أراد منّا أن لا نخاف أحداً غيره {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب : 39] هذا هو الخطّ. عندما تريد أن تبلِّغ رسالات الله، فعليك أن تخاف الله، حتّى يدفعك خوفك من الله سبحانه وتعالى إلى أن تستقيم {فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [الشورى : 15]، {وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ} لو أنّ أيَّ إنسان أراد منك أن تهتزَّ، فإنَّ عليك أن تقول: "ربّي الله"، وتتركه.
إنّك تعيش الخوف من الله، لتعيش الثقة بنفسك. أن لا تأخذك في الله لومة لائم، يعني إذا وقفت أمام الله، وكان الموقف لله سبحانه وتعالى، فلو أنّ الناس كلّهم لاموك على أمر، فعليك أن لا تخاف، الآية تقول: {... يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ} [المائدة : 54] القرآن يتكلّم بلغة عربية واضحة، افهموها جيّداً، {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ} جهاد الكلمة، جهاد السيف، وجهاد السياسة {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ} نحن نتمسّك بخطّ الجهاد ولو تكلَّم علينا الناس، ولو وقفوا ضدّنا ليست عندنا مشكلة ما دام الله معنا.. هذه هي الفكرة. ليس المؤمن أن يكون قلبه هواء، وعندما تتحرّك الموجة يخذل أصحاب الحقّ. بعض الناس يخذلون الحقّ ويخذلون أصحابه، لأنّهم يخافون كلام الناس. وسيحاسب الله الساكتين عن الحقّ، كما يحاسب الله أعداء الحقّ، ولهذا "الساكت عن الحقّ شيطان أخرس". أيُّها المؤمن، كن مع الله، وخف الله، تكن قويّاً، وهذا ما أكّدته الآية الكريمة: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران : 173]، الناس كلّهم ضدّك وقد تجمَّعوا ليهزموا موقفكم ويسقطوا روحيّتكم ويعملوا على اضطهادكم وتصفيتكم. ولكن كلّ هذا التهويل زادهم إيماناً، لأنّهم شعروا بأنّهم لو لم يشكِّلوا خطراً على التيّار المنحرف، لَمَا تجمَّع هؤلاء، أنا أقول لكم شيئا، كمؤمنين، كلَّما سبَّكم الناس أكثر، كلّما اضطهدوكم أكثر، كلّما اشمأزَّت نفوسهم منكم أكثر، يجب أن تكون ثقتكم بأنفسهم أكبر، لأنّه لو لم تكونوا خطراً على الكفر والضلال والانحراف، لَمَا شعر الناس بأهميّتكم ليضربوكم وليحاصروكم.
إذا لم يشتمك أحد، وإذا لم يؤذك ويضطهدك أحد فَأَعِد النظر في وضعك. إنّك بقدر ما تكون خطراً على الكفر وعلى الظلم والطغيان، يكون ذلك دليلاً على أنّك تسير في الاتجاه الصحيح. فلهذا عندما قالوا لهم إنّ الناس كلّهم ضدّكم والناس كلّهم في خطّ الكفر، زادهم إيماناً. لذلك نحن نشعر بقيمة إيماننا، وقوّة إيماننا {فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ*إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران :174 ـــ 175]
إذا وقفتم بين خوف الله وبين خوف أولياء الشيطان فخافوا الله وتقدَّموا، ولا تخافوا أولياء الشيطان، ولا تأبهوا لكلّ تهاويلهم وأوضاعهم. والله يحدّثنا عن بعض الناس الذين يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله {... إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً} [النساء : 108]، الله يقول لرسول الله في بعض المواقف، عندما كان النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يتأثّر من كلام الناس خوفاً على الرسالة {... وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} [الأحزاب : 37]، يعطينا القوّة في متابعة خطّ السير في طاعة الله وفي خطّ الإسلام الحقّ المتحرّك على رضى الله.
الإسلام وتعدُّد الطوائف
قد يقول البعض لا نستطيع أن نطرح الإسلام في لبنان، باعتباره بلداً متعدّد الطوائف، تكلَّموا في أيّ شيءٍ آخر غير الإسلام، بدّلوا كلماتكم وأفكاركم بكلمات وأفكار أخرى، وألبسوا الإسلام ياقة أوروبية أو أميركية أو روسية أو أيّ شيء، حتّى يتقبله الناس. إنَّ بالمستطاع استخدام أيّ أفكار من أجل أن ترتّب أوضاعك في هذا المجتمع لكي يصفّق لك، باعتبار أنّك معتدل ولست متطرِّفاً، لكن ماذا نقول لله؟ وماذا نقول لرسول الله؟ لقد جعل رسول الله الإسلام أمانة الله في عنق كلّ مسلم، أرادنا أن ندعو إلى الإسلام كما دعا، وأن نجاهد أعداء الله كما جاهد، وأن نركِّز المجتمع على أساس الإسلام كما ركَّز. ماذا نقول غداً لرسول الله إذا وقفنا بين يديه، وقال لنا ماذا عملتم للإسلام؟ لقد خفتم أن يقول الناس عنكم إنّكم متطرّفون، لقد خفتم أن يقول الناس عنكم إنّكم متعصّبون، لقد خفتم أن يقول الناس عنكم إنّكم رجعيون متزمّتون؟ لقد قال عنّي الناس أكثر من ذلك، حتّى اتّهموني بعقلي، وقالوا إنّني مجنون ولم أتراجع فكيف تتراجعون؟ ماذا نقول لله غداً، والله يريدنا أن ننصر دينه؟ {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمّد : 7] ونصرة الله بنصرة دينه، بأن نجعل دينه حركة الحياة كلّها من حولنا. كيف نقول لله ذلك؟ هل نقول يا ربّنا خفنا أن يقول الناس عنّا كذا وكذا؟ فليقل الناس، ما قيمة ما يقول الناس؟!
مشروعنا على ضوء الإسلام
إنّنا لا نخاف الله، إذا لم نتحدّث باسم الإسلام، وإذا لم يطلق الإسلام في خطّ الفكر والسياسة والاجتماع. نحن عندما نطرح الإسلام فإنّنا نطرحه على أساس أنّه عنوان الحريّة للإنسان، وعنوان العدالة للإنسان، وعنوان التحدّي للظلم الذي يريد أن يضطهد إنسانية الإنسان. بعض الناس يقول ما مشروعكم أيُّها الإسلاميون؟ كيف تفكِّرون؟ قدِّموا مشروعاً. نحن نقدّم عمق حركية الإسلام في مرونته عندما يتحرّك في واقع الناس، على أساس أنّ الإسلام يملك عقلية المرحلة كما يملك عقلية الاستراتيجية، ويعرف كيف يركّز مواقعه هنا وهناك. ليس معنى ذلك أنّنا ساذجون، نقول إمّا أن يكون غداً إسلام وإمّا نقعد في بيوتنا. لا، نحن نتحرّك لنخفّف من الظلم ما أمكن، ونقوّي من الحريّة ما أمكن، ونواجه الألاعيب هنا وهناك ما أمكن.
إنَّ لبنان هو جزء من العالَم الإسلامي، وعندما نقول إنّنا نرفض أن يكون لبنان ممرّاً للاستعمار، أو مقرّاً للاستعمار، فإنّما نريد أن نؤكّد الحريّة الحقيقيّة للإنسان في لبنان. نحن عندما نقول إنّنا نرفض التدخّل الأميركي في لبنان، حتّى لا يكون لبنان مزرعة للسياسة الأميركية وللاقتصاد الأميركي وللمصالح الأميركية على حساب شعبه، فإنّما نريد أن نؤكّد حريّة الإنسان في لبنان. وهكذا عندما نقف ضدّ "إسرائيل"، ونقول لكلّ الناس إنّ عليهم أن يشعروا بخطورة "إسرائيل" سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وأنّ وجودها في المنطقة يشكّل الخطر على كلّ المنطقة في المستقبل وأنّ عليكم أن تنظروا المستقبل ولا تتجمَّدوا في الحاضر.
وقفة الاستحقاق الرئاسي
وإذا انتقلنا إلى ساحتنا فماذا نرى؟ نرى الجميع مشغولاً بما يسمّونه الاستحقاق الدستوري. يقولون للناس يجب أن ننتخب رئيساً للجمهورية، وتكرّ سبحة التعليقات: هذا الرئيس قوي أو ضعيف، مرشّح تصادمي أو مرشّح توافقي، وما إلى ذلك من الكلمات، والناس مشغولون بكلّ هذه (الهمروجة) الإعلامية والسياسية، حتّى إِنَّ الناس تركوا اقتصادهم، وتركوا شعاراتهم السياسية، وتركوا أخطار "إسرائيل"، وتركوا كلّ شيء وتوقَّفوا عند عنوان: مَن الرئيس؟
إنّنا نريد أن نثير هذه المسألة ونناقشها: نحن الآن، انطلاقاً من فكرنا الإسلامي، نرفض كلّ هذا الواقع القائم ولاسيّما الإصرار على مارونية الرئيس، ونحن لا نريد أن نتكلَّم بالتفاصيل بل سنتحدّث عن نقاط أخرى.
النقطة الأولى: مَن الذي ينتخب الرئيس؟ بالتأكيد ليس النواب فعلياً هم الذين سينتخبونه. لكن الآن الحديث في الساحة عن محادثات تتمّ في أميركا لهذه الغاية. المبعوث الأميركي يتحدّث عن شخصية الرئيس في باريس والفاتيكان وطبعاً دمشق، باعتبار ما للدور السوري من تأثير في هذا البلد، لكنّ هناك تداولاً على المستويات العليا التي لا يسمح فيها لأيّ لبناني بمن فيهم رئيس الجمهورية أن يكون له رأي في هذا الموضوع. إنَّ الذي ينتخب رئيس الجمهورية هو المواقع الإقليمية والدولية، وليس للبنانيين في ذلك شيء إلاّ أن يتسلَّموا الورقة التي تمثّل كلمة السرّ، ليوزّعوها على الحاضرين ليتشكَّل النصاب الانتخابي ومن ثمّ الإجماع.
ما تقدَّم يعطينا فكرة عن أنّ الحديث عن رئيس قويّ أو ضعيف هو حديث لا معنى له، لماذا، لأنَّ مسألة حلّ المشكلة اللبنانية، أو الإصلاح في لبنان، ليست خاضعة لشخصية الرئيس حتّى تكون قوّته أو ضعفه أساساً لتغيّر الواقع، لأنَّ الذي يفرض القوّة هو طبيعة المعادلات الدولية. معنى ذلك أنّه لا يمكن أن يحصل ـــ على أساس حركة الواقع السياسي اللبناني ـــ أيّ تغيير في البلد إلاّ من خلال المصالح المتوافقة على المستوى الدولي وربّما الإقليمي. إذاً فإنَّ الرئيس مهما كان قويّاً، سيظلّ منفّذاً للمخطّطات الدولية أو الإقليمية، سيكون منفّذاً ولن يكون مخطّطاً، فعناصر القوّة لن يستمدّها من شخصيته، إلاّ إذا أراد أن يكون متمرّداً على اللعبة، وليس من رؤساء لبنان مَنْ تمرَّد على اللعبة. إنّه يستمدّ القوّة من خلال الأوضاع الدولية أو الإقليمية التي تمنحه القوّة في الداخل. لهذا نستطيع أن نقول إنَّ لبنان بَلَغَ حدّاً من الارتهان للخارج، حتّى أصبح لا يملك شيئاً من أمره. وكلّ هذه اللّعبة التي تتحرّك لتوتير الجوّ تارّة وتبريده أخرى، إنّما هي لعبة استعراضية تماماً كما هو شدّ الحبال في إطار اللّعبة لا في إطار الحقيقة.
واشنطن تلبّي المصالح الإسرائيليّة
في هذا المجال، أميركا لا تريد حلاًّ للبنان من خلال انتخاب الرئيس، إلاّ إذا توافق مع المصلحة الإسرائيلية، بالمستوى الذي يحقّق لـــ "إسرائيل" أمنها أوّلاً، ولاسيّما أنّ بعض المحافل الدولية تتحدّث عن تحريك القرار 425 ليحقّق الترتيبات الأمنية لـــ "إسرائيل".
هذا الكلام يتمّ تداوله وقد لا يتمّ في وقتٍ قريب، إنّما الواضح أنّ السياسة الأميركية في لبنان تتحرّك تماماً في موازاة السياسة الإسرائيلية، ولعلَّ المناورات الأميركية ـــ الإسرائيلية الأخيرة في فلسطين وجَّهت رسالة إلى اللبنانيين، ليفهموا بوضوح أن لا سياسة أميركية بدون سياسة إسرائيلية، ومَن يقبل بالسياسة الأميركية فعليه أن يقبل بالسياسة الإسرائيلية، لأنَّ هناك حلفاً استراتيجياً بين سياسة أميركا وبين سياسة "إسرائيل". ولهذا فإنَّ الذين يوافقون على المخطّطات الأميركية في حركة السياسة اللبنانية، يوافقون سلفاً على المخطّطات السياسية الإسرائيلية، وهذا يؤدّي لأن يكون لإسرائيل الدور الكبير في المسألة اللبنانية. ولعلَّ الهجوم الأخير على مخيّمات صيدا مِن قِبل "إسرائيل" وجه رسالة في هذا الجوّ وربّما لدائرة أوسع من الدائرة اللبنانية.
لذلك لا بدّ لنا من أن نفهم حقيقة الأمور؛ فمسألة الإصلاح لن تتمّ بانتخاب رئيس مهما كان الرئيس قوياً، ومهما كان توافقياً أو تصادمياً، وإنّما المسألة تحتاج إلى تغيير الذهنية السياسية التي تجعل الواقع، واقع الإنسان في لبنان، مرتهناً للسياسة الأميركية على خطّ السياسة الإسرائيلية، وإن كان هناك لون إسرائيلي فاقع تارّة ولون إسرائيلي أقلّ فقاعة تارةً أخرى. إنّ علينا أن لا نستسلم للأحلام الكاذبة، خصوصاً عندما نطلّ على سياسة الوفاق الدولي التي يراد لها أن توحي إلينا بأنّ المسألة اللبنانية ستجد حلّها قريباً، إنّنا لا نستطيع أن نعيش بواقعية مثل هذه الكلمات، لأنَّ أميركا تعقّد كلّ المسائل إذا لم تكن تلبّي المصالح الإسرائيلية.
وعندما تعرفون أنّ هناك حلاَّ للأزمة اللبنانية على أساس الوفاق الدولي، فاعرفوا أنّ المصلحة الإسرائيلية قد استُجيب لها، لأنَّ أميركا لا توافق على أيّ حلّ في المنطقة العربية كلّها إلاّ إذا كان لمصلحة "إسرائيل".
إنَّنا نرى أنّ ما يدور الآن في الضفة الغربية وغزّة والأردن من أوضاع جديدة متغيّرة على مستوى الواقع الإداري والقانوني والمؤسّساتي، ليس مجرّد خطوة من أجل قوّة الانتفاضة، بل نعتقد أنّها حركة من أجل تطويق الانتفاضة وجعلها تسير في الاتجاه المرسوم، الذي وضعته منظّمة التحرير من أجل أن تكون الانتفاضة ورقة في ساحة المفاوضات، لا أن تكون ثورة في مواقع الحريّة والعدالة.
إضعاف الباطل على قدر الطاقة
في هذا المجال، علينا أن نثق بأنفسنا، وأن نتابع مواجهة الباطل. قد لا نستطيع بناء الكثير من الحقّ في ما هي الاستراتيجية، ولكنّنا نستطيع أن نسقط كثيراً من أوضاع الباطل. إنَّ هناك مسؤولية شرعية في أن نلاحق نقاط ضعف الباطل، لنثيرها أمام الناس حتّى يأخذ الناس القوّة. إنّنا ننقل حديثاً عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يقول فيه: "إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأكثروا من سبّهم والوقيعة فيهم وباهتوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام"(1). لا بدّ من أن نعمل، فإذا لم نستطع أن نقيم الحقّ فلنسقط بعض مواقع الباطل، ونظلّ في إسقاط مواقع الباطل على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، حتّى إذا ضعف الباطل استطعنا أن نقيم الحقّ على أنقاضه، ونحن قادرون على أن نسقط كثيراً من أوضاع الباطل. ولا بدّ لنا في هذا المجال من أن نضع أيدينا بيد كلّ مَن يريد أن يواجه شيئاً من الباطل، حتّى لو اختلفنا معه.
العُقد الذاتية تضعف المواجهة
إنّنا مع كلّ مَن يقاتِل "إسرائيل" إذا كان صادقاً في قتالها؛ ونحن نقف مع كلّ مَن يواجه الاستعمار، على أساس أنّ ذلك يضعف الاستعمار؛ ونحن مع الجمهورية الإسلامية ومع الثورة الإسلامية ومع الإمام الخميني (حفظه الله)، لأنّنا نعرف أنّهم لا يزالون في موضع إقامة الحقّ وإزهاق الباطل، وإنْ تنوّعت الأساليب. وانطلاقاً من ذلك فإنّنا ندعو كلّ الناس المؤمنين وكلّ الناس الملتزمين والمجاهدين إلى الوحدة على أساس كلمة الله وإلى التفاهم على أساس قضايا الحقّ، وإنّنا نقول لكلّ الناس من قيادات ومن فاعليات ومن غيرهم، ونقول لكلّ الذين تمنعهم عقدتهم الذاتية من العمل على تلاقي الناس بعضهم مع بعض وعلى وحدة الناس وعلى عودة الناس إلى أخوتهم، إنّنا نقول إنّ أيّة قيادة تتقوقع في داخل ذاتها، فتمنع الخير عن قاعدتها، وإنّ أيّة قيادة تريد أن تستأثر لنفسها بمواقعها بعيداً عن الساحة، سوف تفقد نفسها عاجلاً أو آجلاً، {... فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد : 17].
إنّنا نقول لكلّ أهلنا وإخواننا، ونحن نستقبل الحسين (عليه السلام) في عاشوراء ونستقبل أصحابه وأهل بيته (عليهم السلام)، إنّنا نقول للجميع: عودوا إلى الحسين، ليقف الجميع مع الحسين، عودوا إلى الحسين (عليه السلام) لينطلق الجميع باتّجاه الحسين، حسين الرسالة، حسين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حسين الإصلاح في أُمّة رسول الله، حسين العزّة، انطلقوا مع الحسين (عليه السلام) واكتشفوا قيادتكم في الحسين من خلال عمق خطّه. الذي يريد أن يمنعكم من التلاقي في ما بينكم، وأن يعقدكم، ويعقد علاقة بعضكم ببعض ويهوّل عليكم، ليجعلكم تعيشون الانفصال بعضكم عن بعض على أساس عقلية حزبية أو فرديّة، مَن يُرِدْ ذلك أسقطوه ليبقى الإسلام. أسقِطوا الجميع ولتبق الحريّة. أسقِطوا الجميع ولتبقَ الثورة الحسينية في خطّها الصحيح وفي اتّجاهها الصحيح. فالذي لا يريد للنّاس أن يتوحَّدوا، لا بدّ أن يسقطه الناس أيّاً كان وفي أيّ موقع، في الداخل وفي الخارج.
والحمد لله ربّ العالمين
الخوف والرجاء في المفهوم الإسلامي(*)
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن : 46]، {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى*فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40 ـــ 41]، ويقول في آيةٍ أخرى، {وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم : 14]، ويقول سبحانه وتعالى في آيةٍ أخرى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} [الأحزاب : 39]، هذه الآيات وغيرها من الآيات الكثيرة في القرآن، ركَّزت على مسألة الخوف من الله في عمق شخصية المؤمن؛ فلا بدّ للإنسان المؤمن في كلّ حياته الإيمانية الداخلية من أن يستشعر خوف الله في قلبه، بحيث يواجه حياته من موقع أنّه مسؤولٌ أمام الله في كلّ قضية صغيرة أو كبيرة، وأنَّ هناك حساباً على كلّ شيء، وأنَّ الله مطّلع على كلّ شيء مهما كان سريّاً.
الخوف من الله
وهكذا يعيش الإنسان في نفسه هذا القلق النفسي من خلال طبيعة عمله. هل يرضي عمله الله فيأمن عذاب الله غداً؟ أم عمله لا يرضي الله فيكون في موقع عذاب الله غداً؟ وعندما يؤكّد الله في القرآن على الخوف، فإنّه لا يريد الخوف الذي يجعلك تعيش في نفسك هذه الحالة الذاتية الانفعالية بعيداً عن مسألة العمل، إنَّ الله يريد منك أن تظلّ خائفاً منه، لتراقب نفسك كيف يكون عملك وكيف يكون التزامك بربّك، وكيف تؤكّد إيمانك بعملك وبكلّ أوضاعك العامّة والخاصّة. تخاف من الله فتنضبط، وتخاف من الله فتلتزم، وتخاف من الله فتترك كلّ حرام، وتخاف من الله فتفعل كلّ ما أوجبه الله عليك، وهذا ما أكّدته الآية الكريمة {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] أن تخاف الله ثمّ تقول لنفسك: يا نفس إنَّ الله حرَّم عليكِ أشياء، وأوجب عليكِ أشياء، وجعل لكِ في ما حرَّمه عليكِ وفي ما أوجبه عليكِ الجنّة في الطاعة. إذا أطعتِ يا نفس ما أمركِ الله به، وأطعتِ ما نهاكِ الله عنه فتركته، فإنَّ الله سيعطيك ثواب ذلك رضاه والجنّة؛ وإذا عصيتِ يا نفس ما حرَّمه الله عليكِ ففعلته وما أوجبه الله عليكِ فتركته، فإنَّ أمامك سخطه والنار. ليكن خوفك من ربّك منطلقاً من شعورك بعظمة الله، ومن خطورة سخطه، ومن خطورة عذابه في يوم القيامة وبذلك يكون خوفك من الله خوفاً عملياً، تستشعر فيه ضرورة أن تلتزم الخطّ الذي يقرّبك إلى الله ويصلك به، وأن تبتعد عن الخطّ الذي يبعدك عن الله، ويقرّبك من الشيطان. لا بدّ للإنسان أن يعيش ذلك في نفسه إذا كان يأمل في الجنّة، ولا بدّ أن يكون خوفك من الله سبحانه وتعالى في كلّ أعمالك وأقوالك وعلاقاتك، بحيث يكون هو المقياس في ما تقبله أو ترفضه، في ما يعرض عليك الناس من مسؤوليات ومواقف، وفي ما يعرضه الناس عليك من مواقع وعلاقات.
كلّ الناس، سواء كانوا أقرباءك أو كانوا أصدقاءك أو كانت لك مصلحة عندهم، إذا طلبوا منك شيئاً، قل لهم إنّني سأدرس المسألة على أساس أنّ ما طلبتموه منّي هل يرضي ربّي عنّي أو لا يرضي ربّي عنّي، لأنّي أخاف الله ربّ العالمين، ولأنّني أعرف مدى خطورة عقابه. لو "زعلتم" منّي أو رضيتم ليس ذلك مشكلة، لأنَّ رضاكم وسخطكم قد يؤذيني بعض الشيء، ولكنّه يزول كما تزولون وكما أزول أنا معكم، ولكنَّ رضى الله سبحانه وتعالى هو الرضى، وإنَّ سخطه هو السخط. وهذا ما عبَّر عنه أمير المؤمنين (عليه السلام) في دعاء كميل، عندما تحدّث عن سخط الله وعن غضبه على أساس المعاصي التي يقوم بها الإنسان في حياته "فإنَّ ذلك لا يكون إلاّ عن غضبك وانتقامك وسخطك وهذا ما لا تقوم له السماوات والأرض، يا سيّدي فكيفَ بي وأنا عبدُكَ الضعيف الذليل الحقير المسكين المستكين". ولذلك يريدنا الله دائماً أن نتذكَّر يوم القيامة، حتّى يتأكّد هذا الخوف عندنا، لأنَّ مشكلتنا هي أنّنا نستغرق في الدنيا وننسى الآخرة، وأنّنا نتذكَّر عذاب الناس ولا نتذكَّر عذاب الله، وأنّنا نعمل على أن نحصل على رضى الناس بسخط الله من أجل أن نحصل على بعض ما يعطوننا إيّاه، ولكنّنا عندما نتذكّر الآخرة نتذكّر دائماً أنّه ليس عندنا ضمان من الموت، مَنْ منّا يأمن على نفسه من أن يموت بعد لحظة؟ هل يملك أحد ضماناً؟ لو جاء أحد إليك وقال لك: اعصِ الله في ما أكلّفك به، بعد ساعة أو بعد يوم، قل له: ماذا إذا جاءني الأجل قبل هذه الساعة أو بعدها، كيف أواجه الله بما عملت.
إنَّ كثيراً منّا يستعجل المعصية ويسوِّف التوبة، ولكن مَن قال لك إنّك تدرك التوبة، فربّما تموت قبل أن تتوب، وربّما تنسى التوبة بعد ذلك. إنَّ الإيمان يفرض عليك أن تفكّر دائماً بالله، وأن تفكّر دائماً بخوف الله سبحانه وتعالى. وليس معنى أن تخاف من الله أن تيأس إذا كثرت ذنوبك، ليس معنى ذلك أن تسقط، بل معنى ذلك أن تعمل على أن تتوب إذا كنتَ قد عصيت، وتعمل على أن تصحِّح طريقك إذا كنتَ قد عصيت، حتّى يستقيم أمرك في طريق الله وحتّى تنفتح حياتك على الله. معنى أن تخاف الله، أن تظلّ تراقب نفسك وتحاسبها وتحاكمها وتغيّرها، حتّى تجعل نفسك على الصورة التي يحبّها الله سبحانه وتعالى.
التوازن بين الخوف والرّجاء
إنّ الله يريد أن يكون هناك في قلب الإنسان المؤمن نور خيفة ونور رجاء، أن تكون عندك خيفة من الله تمنعك من المعصية وتدفعك إلى الطاعة، كما لو كان الله يريد أن يعاقبك بكلّ عقابه، وأن يكون لك رجاء برحمة الله، كما لو كان الله يريد أن يكافئك. فقد ورد في وصيّة لقمان لابنه، وأكّدها أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيّته لولده الإمام الحسن (عليه السلام)، "خَفِ اللهَ خوفاً لو وافيته ببرّ الثقلين خفت أن يعذّبك، وارجُ الله رجاءً لو وافيته بذنوب الثقلين رجوت أن يغفر لك"(1) أن تتوازن لديك روحية الخوف من الله، لتمنعك من الانحراف وروحية الرجاء بالله، لتمنعك من اليأس ومن القنوط، تذكَّر دائماً أنّ الله شديد العقاب، وأنّ الله غفورٌ رحيم، هو "أشدّ المعاقبين في مَوْضِعِ النكال والنَقِمَة" وهو "أرحمُ الراحمين في موضع العفْوِ والرحمة" تذكَّر ذلك لتتوازن في حياتك، حتّى لا يسقطك الخوف باليأس، ولا يجعلك الرجاء تتحرّك لتمتد في المعصية كما يفعل بعض الناس.
إنَّ شخصية الناس تحمل نقطتين: النقطة الأولى تتعلّق بجانب التطرّف في الخوف فيقول إنسان ما: أنا ارتكبت معاصي كثيرة في حياتي فلا أرجو رحمة الله، كيف سأُلاقي وجه الله ولا توجد جريمة إلاّ ارتكبتها، عشتُ حياتي وقلبي أسود على الناس، بأيّ عين سأُلاقي الله سبحانه وتعالى، وبأيّ وجه سألاقيه، فيجب أن أستسلم لمصيري في معصية الله، لأنّني وقعت ولا يمكن أن أنهض من هذه الوقعة. هكذا يفكّر بعض الناس وهذا خطأ، لأنَّ هذا الفهم يقتضي أن ييأس الإنسان من رحمة الله. والله سبحانه وتعالى قال لهؤلاء الناس: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر : 53]. فإذا كنت قد أسرفت في المعاصي في حياتك، وتورّطت في كثيرٍ من الجرائم، فإنَّ عليك أن تعرف {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ...} [النساء : 48]، فلا تقنط من رحمة الله، ولا تيأس من رحمة الله لأنَّ "لله رحمة في يوم القيامة يتطاول لها عنق إبليس".
أمّا النقطة الثانية من التطرّف فتتعلّق بجانب الرجاء، فبعض الناس يأمل برحمة الله بالمستوى الذي لا يفكّر فيه في طاعة، ولا يعمل على أن يمنع نفسه عن معصية، عندما يشرب الخمر أو يلعب القمار، أو يزني ويسرق ويظلم، ويعين الظالمين، ويفعل كلّ المحرّمات، ويترك الصلاة، ويترك الصوم والحجّ والخمس والزكاة. وبعد ذلك يقول: الله سبحانه وتعالى كبير وعظيم، ليس من المعقول أن يحاسبني، ومَن أنا حتّى يحاسبني؟ فالله سبحانه أكبر وأعظم من أن يعذِّب أحداً، وعندما يفكّر في جنّة وفي نار، يقول "ليوم الله يهوِّن الله" فيدفعه ذلك إلى الامتداد في المعصية وإلى ترك الواجبات وتسويف التوبة.. هذا تطرُّف أيضاً.
أمّا الإنسان المتوازن فهو الذي عبَّر الله عنه سبحانه وتعالى أنّه يحذر الآخرة {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ...} [الزمر : 9]. وهو يتحرّك في خطّين لا ينفصل أحدهما عن الآخر؛ فهو في الوقت الذي يحذر فيه الآخرة ويخاف عقاب الله في الآخرة، يرجو رحمة الله في أنّه لو أذنب فإنَّ الله يعفو عن ذنبه، فهو يعمل على أنْ لا يذنب، ولكنّه إذا أذنب فهو يرجو رحمة الله في ذلك، فيتوازن في قلبه الخوف والرجاء، هذا ما ينبغي لنا أنْ نربّي أنفسنا عليه.
ضرورة تحصيل الطمأنينة
ومن خلال ذلك، لا بدّ لنا من أن نقرأ القرآن قراءة واعية في كلّ ما يتحدّث به الله سبحانه وتعالى عن أهوال يوم القيامة، فإذا قرأنا هذه الآية التي تقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ*يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 1 ـــ 2]. عندما تقرأ هذه الآيات فعليك أن تستحضر ذلك الموقف، وعليك أن تجعل نفسك هناك، عندما يكون الزلزال الروحي والنفسي. فكِّر أن تكون مطمئناً في مواقع الزلزال، لأنَّ هناك أُناساً في يوم القيامة يؤمنهم الله من الفزع الأكبر، وهم الذين اطمأنَّت نفوسهم بالإيمان بالله وبمحبّة الله، وبالعمل الصالح الذي يرضي الله. هؤلاء الناس الذين يخاطب الله كلّ واحدٍ منهم قبل أن يموت {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ*ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً*فَادْخُلِي فِي عِبَادِي*وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 ـــ 30].
فكِّر عندما يقول لكَ الله {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} قل لنفسك: يا نفس لو كنت الآن في ذلك الموقف، فهل أكون من المطمئنين برضوان الله، أم من الذين يعيشون الزلزال خوفاً من عذاب الله؟ فكِّر في نفسك الآن، حتى تعرف كيف تحصل على الطمأنينة هناك. فكِّر أن تخاف الآن حتّى لا تخاف غداً، لأنَّ أولياء الله الذين يخافون الله في الدنيا، ويدفعهم خوف الله في الدنيا إلى أن يطيعوا الله، وأن يلزموا دين الله أولئك {لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} كن الخائف من الله الآن تكن الآمن يوم القيامة، وكن الآمن من مكر الله الآن تكُنِ الخائف يوم القيامة، اختر الآن، لا تزال في ساحة العمل "اليوم عمل ولا حساب" خذ حريّتك، اعمل ما تريد، انطلق بكلّ جرائمك، بكلّ معاصيك، بكلّ شيء، خذ حريّتك، لا أحد يوقفك. لكنّ هناك خوفين لا بدّ من أن تختار بينهما؛ أن تخاف الآن من الله فتأمن يوم القيامة، وأن تحسّ بالأمن من مكر الله الآن فتخاف يوم القيامة، أيّ خوف يجب أن تقدّمه، {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس : 62]، ومَن هم أولياء الله {الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} [يونس : 63]، والتقوى هي الخوف. الذين يراقبون الله، ويخافونه ويحسبون حسابه في كلّ شيء، هؤلاء لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} لا (يزوربون) من هنا وهناك، هم أبداً على الخط. {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف: 13]، {... مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [المائدة: 69]، {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} أحسن في عمله وأحسن في نيّته، {فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة : 112]. إذاً عندما نعرف أنّ الذين آمنوا وكانوا يتّقون والذين قالوا ربّنا الله ثمّ استقاموا، والذين آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا صالحاً والذين أسلموا وجوههم لله، وهم محسنون، هؤلاء لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون. فكيف ندبِّر أمرنا في الدنيا؟
الأمان الحقيقي
إنّ الله يقول لك، إذا آمنت بالله واستقمت، إذا آمنت بالله واتّقيت، إذا أسلمت وجهك إلى الله وأحسنت، إذا آمنت بالله واليوم الآخر وعملت صالحاً، فلكَ الأمان يومَ لا أمانَ إلاّ لمن أعطاه الله الأمان. هل تتبع زيداً وعمراً، قولوا لكلّ مَن يريد أن يدفعهم إلى عمل أو إلى مشروع أو إلى انتماء أو إلى عصبية أو إلى ضرر لإنسان، قولوا له يا فلان نحن معك، شرط أن تسمح لنا بأمان من الله أنْ لا يعذّبنا يوم القيامة، إذا سرنا معك أعطنا الأمان. وليس هناك مَن يستطيع أن يعطي الأمان إلاّ من خلال ما رسمه الله من خطوط الأمان، مَن الذي يعطيكم الأمان؟ بعض الناس يفكّر بالعلماء المجتهدين الأتقياء، حتّى هؤلاء يحتاجون إلى الأمان من الله سبحانه وتعالى. الله سبحانه وتعالى يقول لرسوله {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر : 65]، إنّما أعطى الأمان لرسول الله، ولكلّ رسل الله، لأنّهم آمنوا بالله وأطاعوه، وجاهدوا في سبيله. لا يوجد فرق في هذا الطريق، الفرق أنّ درجات الإيمان عند الأنبياء أكثر من درجات الإيمان عندنا، درجات العمل عند الأنبياء أكثر من درجات عملنا وروحية الجهاد عند الأنبياء أعمق من روحيّتنا، لكن لا فرق بيننا وبين كلّ الأنبياء وكلّ الأئمّة سوى أنّ الله رضي عنهم لأنّهم {عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ*لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 26 ـــ 27] الخطّ نفسه الذي يرضى فيه الله عنّا، هو الذي يرضى فيه عن النبيّ، لا يوجد فرق، ولهذا الله كان يخاطب النبيّ في القرآن بما خاطب به بقيّة الناس كما يقول الله: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء : 48].
النبيّ وخطّ الاستقامة
الله يقول للنبيّ، أنتَ رسول الله وحبيب الله، لكن ما دمت تسير على خطّ التوحيد وما دمت مستقيماً وما دمتَ من الذين قالوا ربّنا الله ثمّ استقاموا، ولكن لو انحرفت عن خطّ التوحيد فإنَّ عملك سيحبط {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر : 65]، الله يخاطب ويتحدّث عن النبيّ {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} يعني لو أنّ النبيّ زاد حرفاً في القرآن لم ينزله الله عليه {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ*لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ*ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ*فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 44 ـــ 47]، والنبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قال في بعض خطبه في آخر حياته: "لا يتمنَّ متمنّ، ولا يدّع مدَّعٍ، ألاَ إنّه ليس بين الله وبين أحدٍ من عباده شيء يعطيه به خيراً أو يدفع به عنه شرّاً إلاّ العمل ولو عصيت لهويت"(1). يعني أنا نبيّكم لو أنّي عصيت الله سأهوي، إذ ليس هناك فرق بيني وبين أيّ إنسان. لهذا لا تتصوّر أنّ من الممكن أن تأمن على نفسك وأنتَ مذنب وخاطئ؛ فلا يقدر أحد أن يقوم لك بـــ "واسطة"، افتح قلبك واستشعر الندم في قلبك ممّا فعلت، وأكّد إرادتك، وافتح قلبك وقل يا ربّي إنّي تائبٌ يتُب الله عليك.
مسؤولية الإنسان أمام الله
يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): "لا يغرَّك الناس من نفسك، فإنَّ الأمر يصل إليك من دونهم"(2). قد يخدعك الناس عن نفسك، أنتَ اعمل كذا والباقي علينا، وعلى "ذمّتنا". هذا الذي يقول "على ذمّتي" مَن هو، هل هو نبيّ، هل هو وصيّ؟ لا. يقول الله لك يوم القيامة مَن فلان حتّى تجعل ذمّته ضماناً لك؟ لا أحد يقدر أن يحمل خطيئة أحد {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ*وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت: 12 ـــ 13].
لا أحد يستطيع أن يحمل خطايا أحد. كلّ إنسان يحمل خطاياه على ظهره، لا تصدّقوا أحداً. فكِّر في نفسك، بكلّ عملٍ تعمله؛ هل يقرّبك من الله أم يبعدك عنه؟ هل ينجّيك من سخط الله أم لا؟ لأنّك ستموت وحدك وسيغلق اللّحد عليك وحدك، وستقف يوم القيامة وحدك، {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم : 95]، {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ...} [الأنعام : 94]، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} [النحل : 111] ما معنى هذه الآية. أنا أُكرِّرها دائماً على نفسي وعليكم: أنتَ وحدك ستكون المحامي عن نفسك، لا يوجد محامي دفاع، ولا يوجد شهود دفاع {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا}، {اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء : 14]، هكذا فكِّر دائماً واستشعر الواقع الذي تعيش. إنَّ إمامنا الإمام زين العابدين (عليه السلام) في دعاء أبي حمزة الثمالي يقول "فما لي لا أبكي ولا أدري إلى ما يكون مصيري، وأرى نفسي تخادعني وأيّامي تخاتلني، وقد خَفَقَتْ فوق رأسي أجنحة الموت" يعني يمثّل الموت مثل الطائر الذي يكون فوق رأسك، وعندما يأتي تسمع حفيف أجنحته على رأسك، وبعد ذلك يقف على رأسك "وقد خَفَقتْ فوق رأسي أجنحة الموت فما لي لا أبكي، أبكي لخروج نفسي، أبكي لظلمة قبري، أبكي لضيق لحدي، أبكي لسؤال منكرٍ ونكيرٍ إيّاي، أبكي لخروجي من قبري عرياناً ذليلاً حامِلاً ثقلي على ظهري، أنظُرُ مرّةً عن يميني وأُخرى عن شمالي إذ الخلائق في شأنٍ غير شأني" {لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ*وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ*ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ*وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ*تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} [عبس: 37 ـــ 41].
هذا الجوّ يجب أن نستشعره دائماً في حياتنا العامّة والخاصّة، لأنّ ما يحكمنا هو عبوديّتنا لربّنا، وعلينا أن نكون مخلصين في هذه العبودية، بأن نفكِّر في كلّ أمورنا انطلاقاً من خوفنا من الله سبحانه وتعالى. فإنْ كنت طالباً يكون همّك أن تحمل شهادتك آخر السنة أمام رفاقك أو كنتَ تاجراً تعمل على أساس أن تكون الناجح في تجارتك. ولكن علينا أن نفكّر أن نكون الناجحين في امتحان الله في الدنيا، حتّى نأخذ شهادتنا في الآخرة {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ*إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ*فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ*فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ*قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ*كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ*وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ*وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ*يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ*مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ*هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ*خُذُوهُ فَغُلُّوهُ*ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ*ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ*إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ*وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ*فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ*وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ*لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ} [الحاقة: 19 ـــ 37].
المجاهدون لا يخافون الموت
المطلوب أن نعيش هذا الجوّ. وإنّما أكَّد الله علينا أن نعيش مثل هذا الجوّ، لأجل أن نضبط خطواتنا على الخطّ، لأنَّ الذي لا يخاف من عقاب الله ولا يرغب في نعيمه، سوف يذهب به الشياطين كلّ مذهب، وسوف تأخذ به الأهواء في كلّ طريق، وسوف ينسى نفسه عندما ينسى ربّه، فيكون خطراً على نفسه وخطراً على الحياة، لأنّه لا يرتكز على قاعدة حقيقيّة يمكن لها أن تثبت خطواته في الطريق المستقيم، ويمكن لها أن تثبت له مواقفه في المواقع الصحيحة.
إنَّ الخوف من الله يجعلنا ننضبط ويجعلنا نتوازن ويجعلنا نستقيم ويجعلنا نأخذ الثقة من الله سبحانه وتعالى. عندما تخاف الله وحده فإنّك لا تخاف من شيء، ولكنّك عندما تخاف من الناس فإنّك تخاف من كلّ شيء. الذي يخاف من الله حدَّد خطواته بخطوط واضحة جيّداً. نحن في الحياة عندما نخاف، إنّما نخاف من الموت في كلّ الأخطار التي نعيشها في حياتنا، والخوف من الموت خوف حقيقي يعيشه كلّ إنسان منّا، لكنّ هناك نقطة لا بدّ من أن نلاحظها وقد حلَّها الله لنا، أنتَ عندما تتحرّك في خطّ الجهاد {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة : 52]، عندما نخاف من الله تكون قويّاً أمام العدوّ، لأنّك عندما تواجه العدوّ فإنّك تقول له من خلال موقفك ماذا تنتظر منّا، إمّا أن نموت فتكون الشهادة، وإمّا أن نبقى فيكون النّصر، وكلاهما من الحسنيين اللّتين ننال بهما عند الله الدرجة العالية؟ وفي مجالات حياتك العامّة، إذا كنت قد رتَّبت شغلك مع الله، وكنتَ مؤمناً وصالحاً، وكانت عندك بعض الذنوب القليلة هنا وهناك، فإنَّ خوفك من الموت لا يكون إلاّ بلحاظ خوفك من ذنبك. اعقد في قلبك الانفتاح على الله والرجاء برحمة الله وتُبْ إلى الله من ذلك. وعند ذلك لو جاءك الموت فلن يأتيك بشرّ، لأنّه ينفتح بك على رحمة الله سبحانه وتعالى. ولهذا فإنَّ الإنسان المؤمن عندما يكون خائفاً من الله، فإنَّ خوفه من الله يجعله يراقب الله في كلّ أموره ويقتحم المواقف بكلّ إيمان بالله.
إذا مات المؤمن ففي خطّ الله، وإذا عاش فإنّه يبقى في طاعة الله، لذلك فالمؤمن لا يخاف الموت. عندما تعرف نفسك أنّك وليّ الله، فأنتَ لا تخاف الموت. ولهذا الله تحدّى اليهود بقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الجمعة : 6] لأنّكم تقولون إنّ الله يحبّكم، وأنتم أولياء الله وأحباؤه، وشعب الله المختار، فتمنّوا الموت. وفي آيةٍ أخرى يقول الله عنهم: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة : 96]، {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ*وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} من الجرائم والموبقات {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [الجمعة: 6 ـــ 7]، {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ*يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 8 ـــ 9]. إذاً، الإنسان المؤمن يملك ضماناً، ولهذا عندما يخاف من الله، فإنَّ خوفه من الله يتحرّك ليكون عنصر قوّة في داخل نفسه، فلا يهاب أحداً، لأنَّ منتهى الهيبة هو الموت، وأنتَ عندما تموت في موقف من مواقف الطاعة فذلك هو الفوز العظيم.
الخوف من الناس يزلزل الموقف
فيما الإنسان الذي يخاف من الناس لا يمتلك قاعدة أبداً، كبعض الناس الذين تتلَوَّن مواقفهم حسب الرياح، تأتي الريح شرقية يصبحون شرقيين، تأتي غريبة يصبحون غربيين، تأتي معتدلة فتراهم معتدلين، وهكذا يبقون حائرين. إنّه يخاف من هذا فيسير كما يريد، ويخاف من ذاك فيسير كما يريد. وهكذا تظلّ الرياح تأخذه من هنا وهناك. والإنسان عندما يكون في قبضة الرياح لا يعرف نفسه أين تتركه الرياح، لكنّ الذي يرتكز على قاعدة من الله يعرف نفسه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30]، خطّ البداية يحدِّد لك خطّ النهاية، إنّه خطّ الاستقامة. بينما الإنسان الذي إذا مالَت الريح مال معها، ولأنّه يخاف من هذه السلطة يسير معها، ثمّ ينطلق إلى السلطة التي تأتي بعدها خوفاً على نفسه، وهكذا، فالذي يخاف من الناس يخاف من كلّ أحد، وليس له شخصية.
إنَّ الله سبحانه وتعالى أراد منّا أن لا نخاف أحداً غيره {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب : 39] هذا هو الخطّ. عندما تريد أن تبلِّغ رسالات الله، فعليك أن تخاف الله، حتّى يدفعك خوفك من الله سبحانه وتعالى إلى أن تستقيم {فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [الشورى : 15]، {وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ} لو أنّ أيَّ إنسان أراد منك أن تهتزَّ، فإنَّ عليك أن تقول: "ربّي الله"، وتتركه.
إنّك تعيش الخوف من الله، لتعيش الثقة بنفسك. أن لا تأخذك في الله لومة لائم، يعني إذا وقفت أمام الله، وكان الموقف لله سبحانه وتعالى، فلو أنّ الناس كلّهم لاموك على أمر، فعليك أن لا تخاف، الآية تقول: {... يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ} [المائدة : 54] القرآن يتكلّم بلغة عربية واضحة، افهموها جيّداً، {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ} جهاد الكلمة، جهاد السيف، وجهاد السياسة {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ} نحن نتمسّك بخطّ الجهاد ولو تكلَّم علينا الناس، ولو وقفوا ضدّنا ليست عندنا مشكلة ما دام الله معنا.. هذه هي الفكرة. ليس المؤمن أن يكون قلبه هواء، وعندما تتحرّك الموجة يخذل أصحاب الحقّ. بعض الناس يخذلون الحقّ ويخذلون أصحابه، لأنّهم يخافون كلام الناس. وسيحاسب الله الساكتين عن الحقّ، كما يحاسب الله أعداء الحقّ، ولهذا "الساكت عن الحقّ شيطان أخرس". أيُّها المؤمن، كن مع الله، وخف الله، تكن قويّاً، وهذا ما أكّدته الآية الكريمة: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران : 173]، الناس كلّهم ضدّك وقد تجمَّعوا ليهزموا موقفكم ويسقطوا روحيّتكم ويعملوا على اضطهادكم وتصفيتكم. ولكن كلّ هذا التهويل زادهم إيماناً، لأنّهم شعروا بأنّهم لو لم يشكِّلوا خطراً على التيّار المنحرف، لَمَا تجمَّع هؤلاء، أنا أقول لكم شيئا، كمؤمنين، كلَّما سبَّكم الناس أكثر، كلّما اضطهدوكم أكثر، كلّما اشمأزَّت نفوسهم منكم أكثر، يجب أن تكون ثقتكم بأنفسهم أكبر، لأنّه لو لم تكونوا خطراً على الكفر والضلال والانحراف، لَمَا شعر الناس بأهميّتكم ليضربوكم وليحاصروكم.
إذا لم يشتمك أحد، وإذا لم يؤذك ويضطهدك أحد فَأَعِد النظر في وضعك. إنّك بقدر ما تكون خطراً على الكفر وعلى الظلم والطغيان، يكون ذلك دليلاً على أنّك تسير في الاتجاه الصحيح. فلهذا عندما قالوا لهم إنّ الناس كلّهم ضدّكم والناس كلّهم في خطّ الكفر، زادهم إيماناً. لذلك نحن نشعر بقيمة إيماننا، وقوّة إيماننا {فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ*إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران :174 ـــ 175]
إذا وقفتم بين خوف الله وبين خوف أولياء الشيطان فخافوا الله وتقدَّموا، ولا تخافوا أولياء الشيطان، ولا تأبهوا لكلّ تهاويلهم وأوضاعهم. والله يحدّثنا عن بعض الناس الذين يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله {... إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً} [النساء : 108]، الله يقول لرسول الله في بعض المواقف، عندما كان النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يتأثّر من كلام الناس خوفاً على الرسالة {... وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} [الأحزاب : 37]، يعطينا القوّة في متابعة خطّ السير في طاعة الله وفي خطّ الإسلام الحقّ المتحرّك على رضى الله.
الإسلام وتعدُّد الطوائف
قد يقول البعض لا نستطيع أن نطرح الإسلام في لبنان، باعتباره بلداً متعدّد الطوائف، تكلَّموا في أيّ شيءٍ آخر غير الإسلام، بدّلوا كلماتكم وأفكاركم بكلمات وأفكار أخرى، وألبسوا الإسلام ياقة أوروبية أو أميركية أو روسية أو أيّ شيء، حتّى يتقبله الناس. إنَّ بالمستطاع استخدام أيّ أفكار من أجل أن ترتّب أوضاعك في هذا المجتمع لكي يصفّق لك، باعتبار أنّك معتدل ولست متطرِّفاً، لكن ماذا نقول لله؟ وماذا نقول لرسول الله؟ لقد جعل رسول الله الإسلام أمانة الله في عنق كلّ مسلم، أرادنا أن ندعو إلى الإسلام كما دعا، وأن نجاهد أعداء الله كما جاهد، وأن نركِّز المجتمع على أساس الإسلام كما ركَّز. ماذا نقول غداً لرسول الله إذا وقفنا بين يديه، وقال لنا ماذا عملتم للإسلام؟ لقد خفتم أن يقول الناس عنكم إنّكم متطرّفون، لقد خفتم أن يقول الناس عنكم إنّكم متعصّبون، لقد خفتم أن يقول الناس عنكم إنّكم رجعيون متزمّتون؟ لقد قال عنّي الناس أكثر من ذلك، حتّى اتّهموني بعقلي، وقالوا إنّني مجنون ولم أتراجع فكيف تتراجعون؟ ماذا نقول لله غداً، والله يريدنا أن ننصر دينه؟ {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمّد : 7] ونصرة الله بنصرة دينه، بأن نجعل دينه حركة الحياة كلّها من حولنا. كيف نقول لله ذلك؟ هل نقول يا ربّنا خفنا أن يقول الناس عنّا كذا وكذا؟ فليقل الناس، ما قيمة ما يقول الناس؟!
مشروعنا على ضوء الإسلام
إنّنا لا نخاف الله، إذا لم نتحدّث باسم الإسلام، وإذا لم يطلق الإسلام في خطّ الفكر والسياسة والاجتماع. نحن عندما نطرح الإسلام فإنّنا نطرحه على أساس أنّه عنوان الحريّة للإنسان، وعنوان العدالة للإنسان، وعنوان التحدّي للظلم الذي يريد أن يضطهد إنسانية الإنسان. بعض الناس يقول ما مشروعكم أيُّها الإسلاميون؟ كيف تفكِّرون؟ قدِّموا مشروعاً. نحن نقدّم عمق حركية الإسلام في مرونته عندما يتحرّك في واقع الناس، على أساس أنّ الإسلام يملك عقلية المرحلة كما يملك عقلية الاستراتيجية، ويعرف كيف يركّز مواقعه هنا وهناك. ليس معنى ذلك أنّنا ساذجون، نقول إمّا أن يكون غداً إسلام وإمّا نقعد في بيوتنا. لا، نحن نتحرّك لنخفّف من الظلم ما أمكن، ونقوّي من الحريّة ما أمكن، ونواجه الألاعيب هنا وهناك ما أمكن.
إنَّ لبنان هو جزء من العالَم الإسلامي، وعندما نقول إنّنا نرفض أن يكون لبنان ممرّاً للاستعمار، أو مقرّاً للاستعمار، فإنّما نريد أن نؤكّد الحريّة الحقيقيّة للإنسان في لبنان. نحن عندما نقول إنّنا نرفض التدخّل الأميركي في لبنان، حتّى لا يكون لبنان مزرعة للسياسة الأميركية وللاقتصاد الأميركي وللمصالح الأميركية على حساب شعبه، فإنّما نريد أن نؤكّد حريّة الإنسان في لبنان. وهكذا عندما نقف ضدّ "إسرائيل"، ونقول لكلّ الناس إنّ عليهم أن يشعروا بخطورة "إسرائيل" سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وأنّ وجودها في المنطقة يشكّل الخطر على كلّ المنطقة في المستقبل وأنّ عليكم أن تنظروا المستقبل ولا تتجمَّدوا في الحاضر.
وقفة الاستحقاق الرئاسي
وإذا انتقلنا إلى ساحتنا فماذا نرى؟ نرى الجميع مشغولاً بما يسمّونه الاستحقاق الدستوري. يقولون للناس يجب أن ننتخب رئيساً للجمهورية، وتكرّ سبحة التعليقات: هذا الرئيس قوي أو ضعيف، مرشّح تصادمي أو مرشّح توافقي، وما إلى ذلك من الكلمات، والناس مشغولون بكلّ هذه (الهمروجة) الإعلامية والسياسية، حتّى إِنَّ الناس تركوا اقتصادهم، وتركوا شعاراتهم السياسية، وتركوا أخطار "إسرائيل"، وتركوا كلّ شيء وتوقَّفوا عند عنوان: مَن الرئيس؟
إنّنا نريد أن نثير هذه المسألة ونناقشها: نحن الآن، انطلاقاً من فكرنا الإسلامي، نرفض كلّ هذا الواقع القائم ولاسيّما الإصرار على مارونية الرئيس، ونحن لا نريد أن نتكلَّم بالتفاصيل بل سنتحدّث عن نقاط أخرى.
النقطة الأولى: مَن الذي ينتخب الرئيس؟ بالتأكيد ليس النواب فعلياً هم الذين سينتخبونه. لكن الآن الحديث في الساحة عن محادثات تتمّ في أميركا لهذه الغاية. المبعوث الأميركي يتحدّث عن شخصية الرئيس في باريس والفاتيكان وطبعاً دمشق، باعتبار ما للدور السوري من تأثير في هذا البلد، لكنّ هناك تداولاً على المستويات العليا التي لا يسمح فيها لأيّ لبناني بمن فيهم رئيس الجمهورية أن يكون له رأي في هذا الموضوع. إنَّ الذي ينتخب رئيس الجمهورية هو المواقع الإقليمية والدولية، وليس للبنانيين في ذلك شيء إلاّ أن يتسلَّموا الورقة التي تمثّل كلمة السرّ، ليوزّعوها على الحاضرين ليتشكَّل النصاب الانتخابي ومن ثمّ الإجماع.
ما تقدَّم يعطينا فكرة عن أنّ الحديث عن رئيس قويّ أو ضعيف هو حديث لا معنى له، لماذا، لأنَّ مسألة حلّ المشكلة اللبنانية، أو الإصلاح في لبنان، ليست خاضعة لشخصية الرئيس حتّى تكون قوّته أو ضعفه أساساً لتغيّر الواقع، لأنَّ الذي يفرض القوّة هو طبيعة المعادلات الدولية. معنى ذلك أنّه لا يمكن أن يحصل ـــ على أساس حركة الواقع السياسي اللبناني ـــ أيّ تغيير في البلد إلاّ من خلال المصالح المتوافقة على المستوى الدولي وربّما الإقليمي. إذاً فإنَّ الرئيس مهما كان قويّاً، سيظلّ منفّذاً للمخطّطات الدولية أو الإقليمية، سيكون منفّذاً ولن يكون مخطّطاً، فعناصر القوّة لن يستمدّها من شخصيته، إلاّ إذا أراد أن يكون متمرّداً على اللعبة، وليس من رؤساء لبنان مَنْ تمرَّد على اللعبة. إنّه يستمدّ القوّة من خلال الأوضاع الدولية أو الإقليمية التي تمنحه القوّة في الداخل. لهذا نستطيع أن نقول إنَّ لبنان بَلَغَ حدّاً من الارتهان للخارج، حتّى أصبح لا يملك شيئاً من أمره. وكلّ هذه اللّعبة التي تتحرّك لتوتير الجوّ تارّة وتبريده أخرى، إنّما هي لعبة استعراضية تماماً كما هو شدّ الحبال في إطار اللّعبة لا في إطار الحقيقة.
واشنطن تلبّي المصالح الإسرائيليّة
في هذا المجال، أميركا لا تريد حلاًّ للبنان من خلال انتخاب الرئيس، إلاّ إذا توافق مع المصلحة الإسرائيلية، بالمستوى الذي يحقّق لـــ "إسرائيل" أمنها أوّلاً، ولاسيّما أنّ بعض المحافل الدولية تتحدّث عن تحريك القرار 425 ليحقّق الترتيبات الأمنية لـــ "إسرائيل".
هذا الكلام يتمّ تداوله وقد لا يتمّ في وقتٍ قريب، إنّما الواضح أنّ السياسة الأميركية في لبنان تتحرّك تماماً في موازاة السياسة الإسرائيلية، ولعلَّ المناورات الأميركية ـــ الإسرائيلية الأخيرة في فلسطين وجَّهت رسالة إلى اللبنانيين، ليفهموا بوضوح أن لا سياسة أميركية بدون سياسة إسرائيلية، ومَن يقبل بالسياسة الأميركية فعليه أن يقبل بالسياسة الإسرائيلية، لأنَّ هناك حلفاً استراتيجياً بين سياسة أميركا وبين سياسة "إسرائيل". ولهذا فإنَّ الذين يوافقون على المخطّطات الأميركية في حركة السياسة اللبنانية، يوافقون سلفاً على المخطّطات السياسية الإسرائيلية، وهذا يؤدّي لأن يكون لإسرائيل الدور الكبير في المسألة اللبنانية. ولعلَّ الهجوم الأخير على مخيّمات صيدا مِن قِبل "إسرائيل" وجه رسالة في هذا الجوّ وربّما لدائرة أوسع من الدائرة اللبنانية.
لذلك لا بدّ لنا من أن نفهم حقيقة الأمور؛ فمسألة الإصلاح لن تتمّ بانتخاب رئيس مهما كان الرئيس قوياً، ومهما كان توافقياً أو تصادمياً، وإنّما المسألة تحتاج إلى تغيير الذهنية السياسية التي تجعل الواقع، واقع الإنسان في لبنان، مرتهناً للسياسة الأميركية على خطّ السياسة الإسرائيلية، وإن كان هناك لون إسرائيلي فاقع تارّة ولون إسرائيلي أقلّ فقاعة تارةً أخرى. إنّ علينا أن لا نستسلم للأحلام الكاذبة، خصوصاً عندما نطلّ على سياسة الوفاق الدولي التي يراد لها أن توحي إلينا بأنّ المسألة اللبنانية ستجد حلّها قريباً، إنّنا لا نستطيع أن نعيش بواقعية مثل هذه الكلمات، لأنَّ أميركا تعقّد كلّ المسائل إذا لم تكن تلبّي المصالح الإسرائيلية.
وعندما تعرفون أنّ هناك حلاَّ للأزمة اللبنانية على أساس الوفاق الدولي، فاعرفوا أنّ المصلحة الإسرائيلية قد استُجيب لها، لأنَّ أميركا لا توافق على أيّ حلّ في المنطقة العربية كلّها إلاّ إذا كان لمصلحة "إسرائيل".
إنَّنا نرى أنّ ما يدور الآن في الضفة الغربية وغزّة والأردن من أوضاع جديدة متغيّرة على مستوى الواقع الإداري والقانوني والمؤسّساتي، ليس مجرّد خطوة من أجل قوّة الانتفاضة، بل نعتقد أنّها حركة من أجل تطويق الانتفاضة وجعلها تسير في الاتجاه المرسوم، الذي وضعته منظّمة التحرير من أجل أن تكون الانتفاضة ورقة في ساحة المفاوضات، لا أن تكون ثورة في مواقع الحريّة والعدالة.
إضعاف الباطل على قدر الطاقة
في هذا المجال، علينا أن نثق بأنفسنا، وأن نتابع مواجهة الباطل. قد لا نستطيع بناء الكثير من الحقّ في ما هي الاستراتيجية، ولكنّنا نستطيع أن نسقط كثيراً من أوضاع الباطل. إنَّ هناك مسؤولية شرعية في أن نلاحق نقاط ضعف الباطل، لنثيرها أمام الناس حتّى يأخذ الناس القوّة. إنّنا ننقل حديثاً عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يقول فيه: "إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأكثروا من سبّهم والوقيعة فيهم وباهتوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام"(1). لا بدّ من أن نعمل، فإذا لم نستطع أن نقيم الحقّ فلنسقط بعض مواقع الباطل، ونظلّ في إسقاط مواقع الباطل على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، حتّى إذا ضعف الباطل استطعنا أن نقيم الحقّ على أنقاضه، ونحن قادرون على أن نسقط كثيراً من أوضاع الباطل. ولا بدّ لنا في هذا المجال من أن نضع أيدينا بيد كلّ مَن يريد أن يواجه شيئاً من الباطل، حتّى لو اختلفنا معه.
العُقد الذاتية تضعف المواجهة
إنّنا مع كلّ مَن يقاتِل "إسرائيل" إذا كان صادقاً في قتالها؛ ونحن نقف مع كلّ مَن يواجه الاستعمار، على أساس أنّ ذلك يضعف الاستعمار؛ ونحن مع الجمهورية الإسلامية ومع الثورة الإسلامية ومع الإمام الخميني (حفظه الله)، لأنّنا نعرف أنّهم لا يزالون في موضع إقامة الحقّ وإزهاق الباطل، وإنْ تنوّعت الأساليب. وانطلاقاً من ذلك فإنّنا ندعو كلّ الناس المؤمنين وكلّ الناس الملتزمين والمجاهدين إلى الوحدة على أساس كلمة الله وإلى التفاهم على أساس قضايا الحقّ، وإنّنا نقول لكلّ الناس من قيادات ومن فاعليات ومن غيرهم، ونقول لكلّ الذين تمنعهم عقدتهم الذاتية من العمل على تلاقي الناس بعضهم مع بعض وعلى وحدة الناس وعلى عودة الناس إلى أخوتهم، إنّنا نقول إنّ أيّة قيادة تتقوقع في داخل ذاتها، فتمنع الخير عن قاعدتها، وإنّ أيّة قيادة تريد أن تستأثر لنفسها بمواقعها بعيداً عن الساحة، سوف تفقد نفسها عاجلاً أو آجلاً، {... فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد : 17].
إنّنا نقول لكلّ أهلنا وإخواننا، ونحن نستقبل الحسين (عليه السلام) في عاشوراء ونستقبل أصحابه وأهل بيته (عليهم السلام)، إنّنا نقول للجميع: عودوا إلى الحسين، ليقف الجميع مع الحسين، عودوا إلى الحسين (عليه السلام) لينطلق الجميع باتّجاه الحسين، حسين الرسالة، حسين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حسين الإصلاح في أُمّة رسول الله، حسين العزّة، انطلقوا مع الحسين (عليه السلام) واكتشفوا قيادتكم في الحسين من خلال عمق خطّه. الذي يريد أن يمنعكم من التلاقي في ما بينكم، وأن يعقدكم، ويعقد علاقة بعضكم ببعض ويهوّل عليكم، ليجعلكم تعيشون الانفصال بعضكم عن بعض على أساس عقلية حزبية أو فرديّة، مَن يُرِدْ ذلك أسقطوه ليبقى الإسلام. أسقِطوا الجميع ولتبق الحريّة. أسقِطوا الجميع ولتبقَ الثورة الحسينية في خطّها الصحيح وفي اتّجاهها الصحيح. فالذي لا يريد للنّاس أن يتوحَّدوا، لا بدّ أن يسقطه الناس أيّاً كان وفي أيّ موقع، في الداخل وفي الخارج.
والحمد لله ربّ العالمين