لطالما كانت المناسبات الإسلامية محطة أساسية تلهب مشاعر الشعراء وقريحة الأدباء، وتمدّهم بكثير من العاطفة الجياشة الصادقة، فينطلقون في رحابها يبثّون نجواهم، ويسرحون بمخيّلتهم على عذوبة الألفاظ، يلامسون الآفاق الرحبة والمعاني السامية التي تؤصّل كلّ قيمة ومعنى يسمو بالإنسان في الدنيا الفانية.
ومن هذه الشخصيات المعصومة التي تركّز تاريخ الأمّة وتمدّه بكلّ قوّة وعنفوان، السيدة فاطمة الزهراء(ع)، سيّدة نساء العالمين، حبيبة رسول الله(ص).
يفتتح الشّاعر السيّد محمّد حسين فضل الله(رض) قصيدته "يا فتاة الإسلام" من ديوانه "يا ظلال الإسلام"، بنداء هذه الروح الشفّافة للسيدة الزهراء(ع)، التي تتجلّى فيها كلّ إشراقة الروح، وطهر النفس، وصفاء القلب، حيث تنساب الابتهالات على شفتيها في أروع ما يكون الدّعاء والابتهال، بما يحرّك في النفوس كلّ شعور جميل ورقيق. قال الشّاعر والأديب العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض):
يَا لِرُوحِ الزَّهْراءِ يَخْشَعُ فِي أعماقِهَا النُّورُ فِي ابتهالِ الدُّعاءِ
فِي سُمُوِّ السُّجُودِ لله فِي إشراقَةِ الرُّوحِ بِالدُّموعِ الوضاءِ
أيُّ سِرٍّ فِي القَلْبِ إذْ تَنْبُضُ الْخَفْقَةُ فِيهِ بِأُمْنِيَاتِ السَّمَاءِ
كُلُّ أَحلامِهِ النَّجَاوَى النَّديَّاتُ مَعَ الله فِي ربيعِ الرَّجَاءِ
* * *
ويضيف شاعرنا هنا داعياً الله تعالى أن يهب لعباده نعمة الإيمان، فيبعث في النفوس كل إحساس بالمسؤوليّة والأمانة. هنا يقوم الشاعر بوظيفته الدعوية والإصلاحية، ويترجم رسالية الشعر في محاولته لتصحيح الخلل في الواقع.. هنا الشاعر له دور المصلح والإنسان الذي يتحسّس آمال المجتمع وآلامه:
وَالتَّسابيحُ تَستغيثُ وَتَلْتاع وَتَهْفُو وَتَلتقي بالنِّداءِ
رَبِّ يَا بَاعِثَ الْحَيَاةِ شُعَاعاً في الصَّحارَى، في اللَّيلةِ الظَّلْمَاءِ
هَبْ نعيمَ الإِيْمانِ، فِي يَقظةِ الطُّهرِ لِلاهِينَ عَنْ غَدِ الأُمَنَاءِ
إِنَّهُمْ غَافِلُونَ عَنْ مَوعَدِ النُّورِ إذَا اهتَزَّ فَجْرُهُ بِالضِّيَاءِ
* * *
رَبِّ هَبْ لِلّذِينَ تَكْدَحُ دُنْيَاهُمْ وَتَشْقى فِي قَبضةِ الضَّراءِ
رَاحَةَ الرُّوحِ وَالْحَيَاةِ، الّتِي تَمْلأُ بِالعزمِ أعْيُنَ الضُّعَفَاءِ
أعطِ قَومِي حِسَّ الْمَحبَّةِ فِي جَوٍّ حَمِيمٍ عَلَى صَعيدِ الإِخاءِ
وَاحتَضِنْ لَوْعَةَ اليَتَامَى بِنُعْمَاكَ بِلُطْفٍ مُنَضَّرِ الآلاءِ
* * *
وفي حوار هادئ وسلس، يبيّن الشاعر صورة السيدة الزهراء(ع) في أبهى حلّتها، حيث ينعكس ضياءً ونوراً وسمواً على العالمين، واهتماماً بقضاياهم، ويترجم مزيداً من هدى الإسلام الذي يمثّل كلّ عزّة وفخر وكرامة:
وَيَطُوفُ الدُّعَاءُ فِي هَمَسَاتِ الرُّوحِ يَنْسَابُ مِنْ هُدَى الزَّهْرَاءِ
وَإذا بِالطُّفولَةِ الغَضَّةِ البِكْرِ تُنَاجِي فِي هَمْسَةِ الأنْدَاءِ
قَال أمّاهُ.. أنتِ تَذوينَ.. فِي عَسفِ اللَّيَالِي وَفِي جُنونِ الشِّتَاءِ
وَالدُّعَاءُ الْحَزينُ لَهْفَةُ قَلبٍ صَعَّدتْها حَرارةُ الأرْزَاءِ
* * *
أَنتِ أنتِ الطُّهرُ الّذي يَرشُفُ الفجرُ نَداهُ في رَوعَةٍ وَنَقَاءِ
دَعوةُ الرُّوحِ مِنكِ تَسمو إلى الله فَتهمي مَسَاكِبُ الأشذاءِ
وَيَعيشُ الرِّضْوانُ واللُّطفُ والرَّحْمَةُ فيها من خَالِقِ النَّعماءِ
دَعوةً تَخْرُقُ الْحَواجِزِ مَهْمَا امتدَّ في دَربِها الفَضَاءُ النَّائِي
* * *
وَتَطُوفُ الطُّفُولَةُ الطُّهرُ بالحبِّ سُؤالاً كَلَفْتَةِ الأحْلامِ
لِمَ هَذا الْحِرمَانُ، فَالْكَلِماتُ البِيْضُ تَلْتَاعُ فِي ابْتِهَال السَّلامِ
كُلُّ هَذا الدُّعاءِ للنَّاسِ.. أُمَّاهُ وَدُنْياكِ مَرْتَعُ الآلامِ
إنَّنا يا بُنيَّ ـ لِلجَارِ ثُمَّ الدَّارِ.. إنَّا على هُدى الإِسْلامِ
* * *
نحنُ نحيَا للمُتعبينَ الّذينَ استْنزفَتْ جُهْدَهُم صُروفُ الزّمانِ
هؤلاء الّذينَ يَحْيونَ بالآلامِ، إنْ عاشَ غيرُهُمْ لِلأماني
إِنَّنَا للمُعَذَّبينَ.. لِمَنْ عَاشُوا اللّيالي في غُمْرَةِ الأحزانِ
كُلُّ تاريخِنَا.. رسالةُ حُبٍّ وَجهادٍ لكلِّ قلبٍ عانِ
قصيدة يتمثّل فيها الشاعر كلّ المشاعر المخلصة والمتسامية التي ترتفع لتحلّق في فضاءات الطّهر التي يحتاجها الواقع كلّ آن، ليتخفّف من معاناته وانغماساته في وحول الدّنيا.