خلفيّات سكن المقابر في القاهرة

خلفيّات سكن المقابر في القاهرة

تمثّل التجمّعات العشوائيَّة المحيطة بالمدن الكبرى، إحدى الظَّاهرات الاجتماعيَّة الَّتي تترافق مع التطوّر الرأسمالي بشكل عام، وبالتّالي، فهي ليست مقتصرة على مدن الشّرق الأوسط، وإنما تعدّ مظهراً يمكن رؤيته في كلّ مدن العالم حاليّاً، وإن اختلفت حدّته ما بين مدينة ومدينة، بل إنها تتواجد في العواصم العالميّة والاقتصاديّة الكبرى، كالعاصمة الفرنسيّة باريس.

وتعدّ هذه العشوائيّات الظهير والداعم بالنسبة إلى الرأسمالية الصناعية، في الضغط على العاملين في مؤسّساتها الكبرى، لتمرير سياساتها المتعسّفة ضدهم، سواء في زيادة ساعات العمل عن الحدود القانونيّة، أو خفض الأجور، وفي الحالتين، زيادة فائض أرباحها على حساب حقوق العمال.

ويشير مؤلّفا كتاب "فخّ العولمة" بمرارة إلى تجربة شركة كاتربيلر الأميركيّة، التي سعت إلى مواجهة إضراب عمّالها واحتجاجهم على قرارها المتعسّف، بخفض أجورهم، عبر الاستعانة بعمال من هذه العشوائيّات، ومن بلدان أكثر فقراً، كبنغلادش، يحصلون على أجور أقلّ كثيراً مما يحصل عليها العامل الأميركي العادي[1]، كما أنَّ أبناء هذه المناطق هم أيضاً الأكثر قدرةً على القيام بالأعمال التي تأنف هذه الرأسماليات من التورّط فيها بشكلٍ مباشر، كالبلطجة، وتجارة المخدّرات، والدّعارة.

ومع كون المجتمعات العشوائيَّة نتيجة مباشرة وضروريّة للسَّيطرة الرأسماليّة على الواقع، فإنّها كذلك قد تمثّل في لحظات التدهور الاقتصادي خطورة كبيرة عليها، بسبب ما قد تقوم به من انفجارات اجتماعيَّة غير موجّهة ولا مسيطر عليها، فمنذ سنوات، والعاصمة الفرنسيّة باريس تعاني الصّدامات بين سكان هذه العشوائيات الَّتي تقطنها نسبة كبيرة من المهاجرين الجزائريّين والأفارقة، والشّرطة الفرنسيّة، بعد قيام الأخيرة بقتل شابّين من أصول جزائرية في العام 2005.

في مصر الَّتي شهدت أولى المحاولات الإنسانيَّة لبناء البيوت، وفي القاهرة الكبرى، (تضمّ محافظات القاهرة، الجيزة، والقليوبية)، تنتشر حول مدنها وداخلها المناطق العشوائيّة، التي ازدادت بكثافة منذ السبعينات، على أثر سياسات الانفتاح الاقتصادي التي بدأها الرئيس الراحل أنور السادات. وفي تعداد أخير، أعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامّة والإحصاء، أنَّ سكان المقابر الذين يعتبرون أدنى درجات العشوائيات، بلغ عددهم مليون ونصف المليون مواطن ينتشرون في مقابر: البساتين، الإمام الشافعي، التونسي، باب الوزير، الغفير، الإمام الليثي (الليث بن سعد)، جبانات عين شمس، جبانات مدينة نصر ومصر الجديدة. وبحسب هذه الأرقام، فقد تحوّل سكان المقابر في القاهرة إلى كتلة اجتماعية خاصة تعيش من أعمال تقوم على الاستفادة من الموت، مثل أعمال الدفن، وتصنيع الرخام الّذي يوضع على شواهد المقابر، أو قراءة القرآن على الموتى في المواسم الدينية ويوم الجمعة، مقابل أجر مادّيّ.

لكن هذا ليس كلّ شيء، فمعظم المنتمين إلى هذه العشوائيّات بشكل عام، هم من كان الرأسماليّون يعتمدون عليهم في القيام بأعمال البلطجة القذرة، وبخاصّة في فترات الانتخابات النيابية، أو المحلية، أو حتى انتخابات الأندية الرياضيّة، كما تعمل بينهم كذلك تيارات أخرى تستغلّ معاناتهم لخدمة أغراضها العدوانيّة تجاه الآخر، ويستخدم بعضهم في الممارسات غير المشروعة، كتجارة المخدّرات وغيرها.

ربما يشعر المتابع لهذه الظاهرة الاجتماعيّة بالاستغراب من أنّ بعض سكان هذه المقابر هم من حملة المؤهّلات العليا والمتوسّطة، والَّذين أجبرتهم الضغوط الحياتية على العمل في دفن الموتى، والسّكن بدون أيّ خدمات، كالمياه النظيفة أو الصّرف الصحّي، بل وبدون خدمات اجتماعيّة أو طبيّة على الإطلاق، وهو ما يجعلهم دائماً على استعداد لقبول الانخراط في الأعمال غير الشّريفة.

لقد حرصت الرأسمالية الطفيلية التي تبنّاها السادات، ومن بعده حسني مبارك، على إبقاء هذه المناطق العشوائيّة، وعدم القيام بأيّ مشروعات من شأنها تطوير أوضاعها ومنح سكّانها حياة كريمة، كي تمثّل الظّهير نفسه للجانب غير المرئيّ من مشروعاتها، على غرار ما فعلته شركة كتربيلر الأميركيّة، بل إنّ حجم سكاّن المقابر، كما يبدو من أرقام الجهاز المركزي، أصبح أكثر ضخامةً من توقّعات الباحثين عن حلول لها، خوفاً من انفجارها تحت ضغط تدنّي الوضع الاقتصادي في مصر في السّنوات الأخيرة[2].

لقد فسّر بعض الباحثين والمهتمين تواجد هذه الظاهرة، بكونها نتيجة لارتفاع تكاليف السكن، وضعف دخل الفرد، والبطالة، وهو كالمعتاد، محاولة لتسطيح المشكلة، وإبعاد النظر عن السبب الحقيقي المتمثّل في سياسات قامت بها الدولة خلال أكثر من 40 عاماً مضت، لرفع يدها تدريجيّاً عن الشأن الحياتي للمصريّين، وتحويل كلّ شيء إلى سلعة يمكن وضعها تحت العرض والطّلب للشركات المتنافسة، وهو ما أضعف تماماً دور الدّولة لدى المواطن العادي، وسمح للرأسمالية بالتوحش في التعامل معه، إلى درجة إجبار هذا الإنسان المصري الذي سبق العالم في التوصّل إلى السكن والاستقرار والتمركز، كي يختبئ كل ليلة بين الأموات، ويعيش على هامش الحياة.

إنَّ الدولة المصرية التي يتم إعادة بناء مؤسّساتها المترهّلة حالياً، أصبحت مطالبة بالعودة إلى دورها التاريخي والمركزي في حياة المصريين، ومحاولة وضع الخطط للقضاء على هذه العشوائيات، وتطوير أوضاع سكانها، عبر منحهم حقوقهم المشروعة في الحياة الكريمة، في حال كان الهدف هو عودة الاستقرار والهيبة إلى هذه المؤسسات مرة أخرى، وفي ظلّ حالة التدهور، والموت التدريجي للرأسمالية في العالم حالياً...


[1] هانس بيترمارتن، هارالد شومان، فخّ العولمة، ترجمة: عدنان عباس علي. سلسة عالم المعرفة، عدد 295، الكويت، 2003، ص 196 - 199.

[2] بعض التقديرات غير الرسمية ترفع عدد سكان المقابر الفعليين في القاهرة إلى 4 ملايين نسمة.

إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه

تمثّل التجمّعات العشوائيَّة المحيطة بالمدن الكبرى، إحدى الظَّاهرات الاجتماعيَّة الَّتي تترافق مع التطوّر الرأسمالي بشكل عام، وبالتّالي، فهي ليست مقتصرة على مدن الشّرق الأوسط، وإنما تعدّ مظهراً يمكن رؤيته في كلّ مدن العالم حاليّاً، وإن اختلفت حدّته ما بين مدينة ومدينة، بل إنها تتواجد في العواصم العالميّة والاقتصاديّة الكبرى، كالعاصمة الفرنسيّة باريس.

وتعدّ هذه العشوائيّات الظهير والداعم بالنسبة إلى الرأسمالية الصناعية، في الضغط على العاملين في مؤسّساتها الكبرى، لتمرير سياساتها المتعسّفة ضدهم، سواء في زيادة ساعات العمل عن الحدود القانونيّة، أو خفض الأجور، وفي الحالتين، زيادة فائض أرباحها على حساب حقوق العمال.

ويشير مؤلّفا كتاب "فخّ العولمة" بمرارة إلى تجربة شركة كاتربيلر الأميركيّة، التي سعت إلى مواجهة إضراب عمّالها واحتجاجهم على قرارها المتعسّف، بخفض أجورهم، عبر الاستعانة بعمال من هذه العشوائيّات، ومن بلدان أكثر فقراً، كبنغلادش، يحصلون على أجور أقلّ كثيراً مما يحصل عليها العامل الأميركي العادي[1]، كما أنَّ أبناء هذه المناطق هم أيضاً الأكثر قدرةً على القيام بالأعمال التي تأنف هذه الرأسماليات من التورّط فيها بشكلٍ مباشر، كالبلطجة، وتجارة المخدّرات، والدّعارة.

ومع كون المجتمعات العشوائيَّة نتيجة مباشرة وضروريّة للسَّيطرة الرأسماليّة على الواقع، فإنّها كذلك قد تمثّل في لحظات التدهور الاقتصادي خطورة كبيرة عليها، بسبب ما قد تقوم به من انفجارات اجتماعيَّة غير موجّهة ولا مسيطر عليها، فمنذ سنوات، والعاصمة الفرنسيّة باريس تعاني الصّدامات بين سكان هذه العشوائيات الَّتي تقطنها نسبة كبيرة من المهاجرين الجزائريّين والأفارقة، والشّرطة الفرنسيّة، بعد قيام الأخيرة بقتل شابّين من أصول جزائرية في العام 2005.

في مصر الَّتي شهدت أولى المحاولات الإنسانيَّة لبناء البيوت، وفي القاهرة الكبرى، (تضمّ محافظات القاهرة، الجيزة، والقليوبية)، تنتشر حول مدنها وداخلها المناطق العشوائيّة، التي ازدادت بكثافة منذ السبعينات، على أثر سياسات الانفتاح الاقتصادي التي بدأها الرئيس الراحل أنور السادات. وفي تعداد أخير، أعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامّة والإحصاء، أنَّ سكان المقابر الذين يعتبرون أدنى درجات العشوائيات، بلغ عددهم مليون ونصف المليون مواطن ينتشرون في مقابر: البساتين، الإمام الشافعي، التونسي، باب الوزير، الغفير، الإمام الليثي (الليث بن سعد)، جبانات عين شمس، جبانات مدينة نصر ومصر الجديدة. وبحسب هذه الأرقام، فقد تحوّل سكان المقابر في القاهرة إلى كتلة اجتماعية خاصة تعيش من أعمال تقوم على الاستفادة من الموت، مثل أعمال الدفن، وتصنيع الرخام الّذي يوضع على شواهد المقابر، أو قراءة القرآن على الموتى في المواسم الدينية ويوم الجمعة، مقابل أجر مادّيّ.

لكن هذا ليس كلّ شيء، فمعظم المنتمين إلى هذه العشوائيّات بشكل عام، هم من كان الرأسماليّون يعتمدون عليهم في القيام بأعمال البلطجة القذرة، وبخاصّة في فترات الانتخابات النيابية، أو المحلية، أو حتى انتخابات الأندية الرياضيّة، كما تعمل بينهم كذلك تيارات أخرى تستغلّ معاناتهم لخدمة أغراضها العدوانيّة تجاه الآخر، ويستخدم بعضهم في الممارسات غير المشروعة، كتجارة المخدّرات وغيرها.

ربما يشعر المتابع لهذه الظاهرة الاجتماعيّة بالاستغراب من أنّ بعض سكان هذه المقابر هم من حملة المؤهّلات العليا والمتوسّطة، والَّذين أجبرتهم الضغوط الحياتية على العمل في دفن الموتى، والسّكن بدون أيّ خدمات، كالمياه النظيفة أو الصّرف الصحّي، بل وبدون خدمات اجتماعيّة أو طبيّة على الإطلاق، وهو ما يجعلهم دائماً على استعداد لقبول الانخراط في الأعمال غير الشّريفة.

لقد حرصت الرأسمالية الطفيلية التي تبنّاها السادات، ومن بعده حسني مبارك، على إبقاء هذه المناطق العشوائيّة، وعدم القيام بأيّ مشروعات من شأنها تطوير أوضاعها ومنح سكّانها حياة كريمة، كي تمثّل الظّهير نفسه للجانب غير المرئيّ من مشروعاتها، على غرار ما فعلته شركة كتربيلر الأميركيّة، بل إنّ حجم سكاّن المقابر، كما يبدو من أرقام الجهاز المركزي، أصبح أكثر ضخامةً من توقّعات الباحثين عن حلول لها، خوفاً من انفجارها تحت ضغط تدنّي الوضع الاقتصادي في مصر في السّنوات الأخيرة[2].

لقد فسّر بعض الباحثين والمهتمين تواجد هذه الظاهرة، بكونها نتيجة لارتفاع تكاليف السكن، وضعف دخل الفرد، والبطالة، وهو كالمعتاد، محاولة لتسطيح المشكلة، وإبعاد النظر عن السبب الحقيقي المتمثّل في سياسات قامت بها الدولة خلال أكثر من 40 عاماً مضت، لرفع يدها تدريجيّاً عن الشأن الحياتي للمصريّين، وتحويل كلّ شيء إلى سلعة يمكن وضعها تحت العرض والطّلب للشركات المتنافسة، وهو ما أضعف تماماً دور الدّولة لدى المواطن العادي، وسمح للرأسمالية بالتوحش في التعامل معه، إلى درجة إجبار هذا الإنسان المصري الذي سبق العالم في التوصّل إلى السكن والاستقرار والتمركز، كي يختبئ كل ليلة بين الأموات، ويعيش على هامش الحياة.

إنَّ الدولة المصرية التي يتم إعادة بناء مؤسّساتها المترهّلة حالياً، أصبحت مطالبة بالعودة إلى دورها التاريخي والمركزي في حياة المصريين، ومحاولة وضع الخطط للقضاء على هذه العشوائيات، وتطوير أوضاع سكانها، عبر منحهم حقوقهم المشروعة في الحياة الكريمة، في حال كان الهدف هو عودة الاستقرار والهيبة إلى هذه المؤسسات مرة أخرى، وفي ظلّ حالة التدهور، والموت التدريجي للرأسمالية في العالم حالياً...


[1] هانس بيترمارتن، هارالد شومان، فخّ العولمة، ترجمة: عدنان عباس علي. سلسة عالم المعرفة، عدد 295، الكويت، 2003، ص 196 - 199.

[2] بعض التقديرات غير الرسمية ترفع عدد سكان المقابر الفعليين في القاهرة إلى 4 ملايين نسمة.

إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية