كتابات
22/04/2014

القرآن واستلهام القواعد الفقهيّة

القرآن واستلهام القواعد الفقهيّة

إنّ من الممكن جدّاً إيجاد قواعد قرآنيّة جديدة، انطلاقاً من محاولة تحريك فهم جديد للنّصّ. ولكنّ المسألة هي أنّ القرآن الكريم لم يتحدّث كثيراً عن التفاصيل، ما يعني أنَّ المشكلة التي تواجهنا، هي أنَّ القرآن تحدّث عن تفاصيل محدودة، وأنَّ القاعدة إن وجدت، فهي لا تتدخّل كثيراً في التّفاصيل، ولذلك، يمثّل إلغاء السنّة الشّريفة، وإبعادها عن حركة الاجتهاد، بحجّة التّشكيك فيها، مسخاً للتصور الإسلامي التفصيلي.

ومن جهة أخرى، فإنّ تأخّر التدوين [تدوين السنّة الشّريفة]، قد لا يمثّل مشكلة عصيبة جداً، لأنّ الثقاة الذين رووا عن النبيّ(ص)، حفظوا ذلك في صدورهم، وتناقلوه بينهم، وحفظه الحفّاظ عنهم، كما أن المسلمين الشيعة لا يعانون هذه المشكلة، لأنهم يعتبرون الأئمة من آل بيت رسول الله(ص)، الامتداد الطبيعي للنبي(ص)، وأنهم معصومون من الخطأ، وأنهم المصدر الرئيس بعده لتبليغ الأحكام، فهم يُحدِّثون عنه، حيث يبلغ كل واحد منهم الحديث بواسطة أبيه فجدّه، إلى أن تنتهي السلسلة إلى رسول الله(ص)، ولذلك، فإنّ هذه الإشكالية لا تنعكس سلباً على المصادر الشيعيّة، وبخاصّة أنَّ الأئمة(ع) رعوا عملية الكتابة والتدوين، من عليّ(ع) إلى آخر إمام منهم.

وقد نفهم من هذا، أنّ رفض الأئمّة(ع) للقياس، قد يكون منطلقاً بسبب امتلاكهم لأحاديث السنّة الشّريفة الواردة عنهم بشكل واسع جداً، بحيث لم يحتاجوا بعد ذلك إلى القياس، لأنّ باب العلم مع وجود هذه الروايات، مفتوح من جميع الجهات، سواء أكان من خلال القواعد العامّة أم من خلال النصوص الخاصّة، لأنّ العمل بالقياس عند من يعتبره حجّة، إنما نشأ من حاجته إلى معرفة الأحكام، مع قلّة الأحاديث الصّحيحة عنده الواردة من طريقه، وهو طريق قد يكون صحيحاً مع انسداد باب العلم بالأحكام، أو باب الحجج الخاصّة، ولكنّه مع توافر الأحاديث الصّحيحة عنهم(ع)، لا يكون ثمة مبرّر على الإطلاق للّجوء إلى طريق ظني من هذا القبيل.

ومع ذلك، فإنني أقول: إنَّ ثمة فرقاً بين القرآن والسنّة، إذ انطلق القرآن في حركة الدعوة والتشريع، ليؤصّل القواعد في دائرتها الواسعة. أمّا السنّة، فقد وردت في غالبيتها لتحاكي تطبيقات هنا وهناك، ولتجيب عن الأسئلة هنا أو هناك، الأمر الَّذي يجعل الحديث متحرّكاً في دائرة خاصّة، وهي آفاق السؤال، وكلّ القرائن والإيحاءات المحيطة به، وهو ما قد يُعرِّض الفقيه أثناء بحثه للوقوع في متاهات كثيرة من الاحتمالات التي تحول دون الوصول إلى قناعات يقينية في معظم الموضوعات.

أما القرآن الكريم، فهو بخلاف ذلك، لأنه يتّسم بسمةٍ أساسيّة، وهي التأصيل والتقعيد. فمثلاً، عندما نقرأ قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}[1]، فإننا نواجه قاعدةً ترسم حدوداً للتعامل، في عملية نقل المال وتملّكه والتصرّف فيه، وهي قاعدة تمتلك من المرونة ما يجعلها متحرّكة وفاعلة ومنفتحة على المستقبل، كما هي منفتحة على الحاضر والماضي.

وكذلك، عندما نقرأ قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}[2]، فإننا نواجه قاعدة عامّة مفادها أن كل ما كان ضرره أكثر من نفعه فهو حرام. وكذلك قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}[3]، فإنها ترسم قاعدة عامة تحدّد علاقة الرجل بالمرأة، بحيث لا يملك الرجل أن يجمّد حياة المرأة، إذ خيَّره الله تعالى بين الإمساك، أي إبقاء العلاقة الزوجيّة بالمعروف، والتسريح بالإحسان، أي طلاقها وفضّ هذه العلاقة. ونحن نعرف أنّ المعروف مفهوم متحرّك لا يمكن أن يتجمّد في زمن ما، بل هو مفهوم متحرّك يمكن أن ينفتح على المستقبل كما الحاضر والماضي.

إذاً، يمكننا من خلال الرّجوع إلى القرآن الكريم، أن نحصل على جملة قواعد فقهيّة عامّة، قد تغطّي مساحات واسعة من حياة المسلمين. وفي هذا الصّدد، أودّ أن أشير إلى أنّني لا أنكر أنّ في السنّة بعض التجارب المماثلة للطريقة القرآنية، التي تحدّثت عن الخطوط العامّة والعريضة لصياغة حياة الإنسان، وضبط علاقاته وحياته بشكل عام، ولكنّها تبقى دون المستوى الّذي نجده في القرآن الكريم.

لذلك، فأنا أعتقد أنَّ استنطاق القرآن الكريم كفيل بتزويدنا بعدد كبير من القواعد الفقهيّة، ولعلّ أوضح ما يمكن أن نتمثّله في هذا المجال، ما ذكره القرآن الكريم حين تناول علاقة الرجل بالمرأة، فقد أدان في نصوصه حالات الإضرار بالمرأة، والإمساك بها للاعتداء عليها، وقد نستنتج من النّصوص ما يمكن أن نسمّيه قواعد عامّة، سواء عن طريق الآيات التي وردت فيها كلمة الضّرر أو غيرها، مثل قوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة}[4].

وفي الواقع، فإنّنا نستطيع، من خلال هذه النصوص المتناثرة في أكثر من موضوع، أن نستخلص قاعدة نفي الضّرر بشكل أساس، بدون حاجة إلى السنّة، كما يمكننا استيحاء ذلك من خلال الأساليب الحديثة في فهم الفكر، وذلك من قبيل مقاربة عدّة نصوص في موضوع واحد، لنصل من خلال ذلك إلى استيحاء القاعدة العامّة.

ولكنّ المشكلة، أنّ الأسلوب الاجتهادي السّائد لدى الكثير من الفقهاء، يتعاطى بأسلوب ضيّق جدّاً، إذ إنهم ينظرون إلى كلّ نصّ في مورد خاصّ، بحيث تبدو لكلّ نصّ شخصيّة خاصّة تختلف عن شخصيّة النصّ الآخر الوارد في مورد آخر، مع أنّنا نجد أنّ أيّ إنسان مُلمّ باللّغة العربيّة، وبالصّيغ التعبيريّة، فإنه يستطيع أن يأخذ من مجموع الموارد قاعدة عامّة، لأنّ الموارد المختلفة قد لا تنفي التقاءها بالخطّ العامّ الذي تشترك فيه النصوص التي وردت في مثل هذه الموارد، بل تؤكّده.

[كتاب: الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل].


[1] [البقرة: 188].

[2] [البقرة: 219].

[3] [البقرة: 229].

[4] [البقرة: 195].


إنّ من الممكن جدّاً إيجاد قواعد قرآنيّة جديدة، انطلاقاً من محاولة تحريك فهم جديد للنّصّ. ولكنّ المسألة هي أنّ القرآن الكريم لم يتحدّث كثيراً عن التفاصيل، ما يعني أنَّ المشكلة التي تواجهنا، هي أنَّ القرآن تحدّث عن تفاصيل محدودة، وأنَّ القاعدة إن وجدت، فهي لا تتدخّل كثيراً في التّفاصيل، ولذلك، يمثّل إلغاء السنّة الشّريفة، وإبعادها عن حركة الاجتهاد، بحجّة التّشكيك فيها، مسخاً للتصور الإسلامي التفصيلي.

ومن جهة أخرى، فإنّ تأخّر التدوين [تدوين السنّة الشّريفة]، قد لا يمثّل مشكلة عصيبة جداً، لأنّ الثقاة الذين رووا عن النبيّ(ص)، حفظوا ذلك في صدورهم، وتناقلوه بينهم، وحفظه الحفّاظ عنهم، كما أن المسلمين الشيعة لا يعانون هذه المشكلة، لأنهم يعتبرون الأئمة من آل بيت رسول الله(ص)، الامتداد الطبيعي للنبي(ص)، وأنهم معصومون من الخطأ، وأنهم المصدر الرئيس بعده لتبليغ الأحكام، فهم يُحدِّثون عنه، حيث يبلغ كل واحد منهم الحديث بواسطة أبيه فجدّه، إلى أن تنتهي السلسلة إلى رسول الله(ص)، ولذلك، فإنّ هذه الإشكالية لا تنعكس سلباً على المصادر الشيعيّة، وبخاصّة أنَّ الأئمة(ع) رعوا عملية الكتابة والتدوين، من عليّ(ع) إلى آخر إمام منهم.

وقد نفهم من هذا، أنّ رفض الأئمّة(ع) للقياس، قد يكون منطلقاً بسبب امتلاكهم لأحاديث السنّة الشّريفة الواردة عنهم بشكل واسع جداً، بحيث لم يحتاجوا بعد ذلك إلى القياس، لأنّ باب العلم مع وجود هذه الروايات، مفتوح من جميع الجهات، سواء أكان من خلال القواعد العامّة أم من خلال النصوص الخاصّة، لأنّ العمل بالقياس عند من يعتبره حجّة، إنما نشأ من حاجته إلى معرفة الأحكام، مع قلّة الأحاديث الصّحيحة عنده الواردة من طريقه، وهو طريق قد يكون صحيحاً مع انسداد باب العلم بالأحكام، أو باب الحجج الخاصّة، ولكنّه مع توافر الأحاديث الصّحيحة عنهم(ع)، لا يكون ثمة مبرّر على الإطلاق للّجوء إلى طريق ظني من هذا القبيل.

ومع ذلك، فإنني أقول: إنَّ ثمة فرقاً بين القرآن والسنّة، إذ انطلق القرآن في حركة الدعوة والتشريع، ليؤصّل القواعد في دائرتها الواسعة. أمّا السنّة، فقد وردت في غالبيتها لتحاكي تطبيقات هنا وهناك، ولتجيب عن الأسئلة هنا أو هناك، الأمر الَّذي يجعل الحديث متحرّكاً في دائرة خاصّة، وهي آفاق السؤال، وكلّ القرائن والإيحاءات المحيطة به، وهو ما قد يُعرِّض الفقيه أثناء بحثه للوقوع في متاهات كثيرة من الاحتمالات التي تحول دون الوصول إلى قناعات يقينية في معظم الموضوعات.

أما القرآن الكريم، فهو بخلاف ذلك، لأنه يتّسم بسمةٍ أساسيّة، وهي التأصيل والتقعيد. فمثلاً، عندما نقرأ قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}[1]، فإننا نواجه قاعدةً ترسم حدوداً للتعامل، في عملية نقل المال وتملّكه والتصرّف فيه، وهي قاعدة تمتلك من المرونة ما يجعلها متحرّكة وفاعلة ومنفتحة على المستقبل، كما هي منفتحة على الحاضر والماضي.

وكذلك، عندما نقرأ قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}[2]، فإننا نواجه قاعدة عامّة مفادها أن كل ما كان ضرره أكثر من نفعه فهو حرام. وكذلك قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}[3]، فإنها ترسم قاعدة عامة تحدّد علاقة الرجل بالمرأة، بحيث لا يملك الرجل أن يجمّد حياة المرأة، إذ خيَّره الله تعالى بين الإمساك، أي إبقاء العلاقة الزوجيّة بالمعروف، والتسريح بالإحسان، أي طلاقها وفضّ هذه العلاقة. ونحن نعرف أنّ المعروف مفهوم متحرّك لا يمكن أن يتجمّد في زمن ما، بل هو مفهوم متحرّك يمكن أن ينفتح على المستقبل كما الحاضر والماضي.

إذاً، يمكننا من خلال الرّجوع إلى القرآن الكريم، أن نحصل على جملة قواعد فقهيّة عامّة، قد تغطّي مساحات واسعة من حياة المسلمين. وفي هذا الصّدد، أودّ أن أشير إلى أنّني لا أنكر أنّ في السنّة بعض التجارب المماثلة للطريقة القرآنية، التي تحدّثت عن الخطوط العامّة والعريضة لصياغة حياة الإنسان، وضبط علاقاته وحياته بشكل عام، ولكنّها تبقى دون المستوى الّذي نجده في القرآن الكريم.

لذلك، فأنا أعتقد أنَّ استنطاق القرآن الكريم كفيل بتزويدنا بعدد كبير من القواعد الفقهيّة، ولعلّ أوضح ما يمكن أن نتمثّله في هذا المجال، ما ذكره القرآن الكريم حين تناول علاقة الرجل بالمرأة، فقد أدان في نصوصه حالات الإضرار بالمرأة، والإمساك بها للاعتداء عليها، وقد نستنتج من النّصوص ما يمكن أن نسمّيه قواعد عامّة، سواء عن طريق الآيات التي وردت فيها كلمة الضّرر أو غيرها، مثل قوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة}[4].

وفي الواقع، فإنّنا نستطيع، من خلال هذه النصوص المتناثرة في أكثر من موضوع، أن نستخلص قاعدة نفي الضّرر بشكل أساس، بدون حاجة إلى السنّة، كما يمكننا استيحاء ذلك من خلال الأساليب الحديثة في فهم الفكر، وذلك من قبيل مقاربة عدّة نصوص في موضوع واحد، لنصل من خلال ذلك إلى استيحاء القاعدة العامّة.

ولكنّ المشكلة، أنّ الأسلوب الاجتهادي السّائد لدى الكثير من الفقهاء، يتعاطى بأسلوب ضيّق جدّاً، إذ إنهم ينظرون إلى كلّ نصّ في مورد خاصّ، بحيث تبدو لكلّ نصّ شخصيّة خاصّة تختلف عن شخصيّة النصّ الآخر الوارد في مورد آخر، مع أنّنا نجد أنّ أيّ إنسان مُلمّ باللّغة العربيّة، وبالصّيغ التعبيريّة، فإنه يستطيع أن يأخذ من مجموع الموارد قاعدة عامّة، لأنّ الموارد المختلفة قد لا تنفي التقاءها بالخطّ العامّ الذي تشترك فيه النصوص التي وردت في مثل هذه الموارد، بل تؤكّده.

[كتاب: الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل].


[1] [البقرة: 188].

[2] [البقرة: 219].

[3] [البقرة: 229].

[4] [البقرة: 195].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية