يتعرَّض الإنسان في هذه الحياة للكثير من التَّجارب والابتلاءات الّتي من المفترض أن تزيده نضجاً ووعياً وحكمةً في التَّعاطي مع مختلف شؤونه الخاصَّة والعامَّة، وفي تعامله مع محيطه الاجتماعي، بالشَّكل الَّذي يوازن فيه بين حركته ومواقفه وسلوكيَّاته، وبما يبرز أصالة شخصيَّته وانتمائه إلى الإسلام الحقيقيّ الّذي يدعوه لأن يكون الإنسان المتعمِّق بحقائق الأمور، والّذي ينسج علاقاته مع الآخرين على أساس البصيرة والوعي والدقّة، لا أن يكون انفعاليّاً وسطحيّاً، يتحرّك وفق موازين غير ناضجة أو غير واضحة.
فالتَّجربة الّتي يمرُّ بها الإنسان، مهما كان حجمها ونوعها، لا بدَّ وأن تزيده صلابة وقوّة، وأن تعزّز إرادته، وتفتح آفاقه ومداركه على اكتساب الخبرة في كيفيَّة إدارة شؤونه، وبما يقوّي حرّيته وإرادته أمام كلّ الإغراءات والأطماع والمصالح الضيّقة.. ولا يكفي أن تأخذ انطباعاً جيّداً وتؤسِّس عليه نظرتك وعلاقتك بإنسانٍ أو بفكرة معيّنة، وتمنح كلّ الثقة لهذا الإنسان أو لهذه الفكرة، بل لا بدّ من أن تجرِّب أوّلاً، وتنفذ إلى العمق لتتعرّف، هل هو من أهل الثّقة وجدير بالاتّباع، أو أنَّ هذه الفكرة جديرة بالنّظر والأخذ بها؟!
فالتَّجربة وحدها الكفيلة بتوضيح حقيقة الشَّخص أو الفكرة، وعبرها يمكننا التعرّف إلى مقدار الكذب والزّيف، أو الصّدق ونقاط القوّة والثّبات لدى هذا الإنسان أو أفكاره، فالواقع ينبئنا بأنَّ كثيرين كانت لديهم الكلمات الطيِّبة المعسولة الّتي أغروا بها من حولهم، وبعد أن وصلوا إلى مواقع القرار والتّأثير والسلطة، سقطوا أمام التجربة، وبيّنوا حقيقة أنفسهم، وسلكوا طريق الرّغبات والشّهوات، وأفسدوا الواقع بتجربتهم، ولم يكونوا المخلصين والصّادقين في شعاراتهم وطروحاتهم، بل استثمروا تعاطف النّاس البسطاء، واستغلوا ما هم فيه لتلبية نزواتهم.
وهنا نتعلّم الدَّرس، بأنَّ حسن الظّاهر لا يكفي لبناء الثّقة، بل علينا أن نكون الواعين لمجمل علاقاتنا، وأن نكون متنبّهين حتّى لا نُخدَع ونقع في المحظور.
وفي معرض حديثه عمَّا تقدَّم، يلفت السيّد فضل الله(رض) إلى أهميّة التّجربة وما يتعلّق بذلك، بقوله: "وقد قصَّ الله علينا في كتابه عن نموذجين من النّاس ربّما كان ظاهرهم يوحي بالثّقة، ولكنّهم عندما اصطدموا بالتّجربة، سقطوا في الامتحان:
النَّموذج الأوَّل: {
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ}، أي عبادة لا عمق لها في العقل، ولا عمق لها في النّفس، بل عبادة تنطلق من سطح إحساس الإنسان بالله، لا من موقع الانفتاح على المشاعر أو في الإطلال على الفكرة {
فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} اصطدم بالتَّجربة في كلمة الحقّ الّتي يقولها في الأجواء الّتي تدعو إلى أن يقول الباطل.. فإن أصابته فتنة، ومصطلح الفتنة في القرآن هو الامتحان والصَّبر على التَّجربة التي تهزُّ أعماقك لتظهر ما في داخلها عندما تتحدَّى شهواتك ولذّاتك وأطماعك وعلاقتك وعواطفك، {
انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}[الحجّ: 11].
النَّموذج الثّاني: ما جاء في قول الله تعالى: {
وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً}[الأحزاب: 22]".
ويتابع سماحته عن التَّجربة: "إذاً العبادة ليست وحدها دليل الثّقة، بل إنَّ التَّجربة في القضايا الحادَّة الّتي يمكن أن يظهر فيها الإنسان الصَّادق من الإنسان الكاذب، هي الّتي تعطي الدَّليل، {
ألم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}[العنكبوت: 1]، أي لا يُختبَرون ولا يُجرَّبون، {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا} من خلال مظهرهم، ذلك أنَّ الله هو العالم بكلِّ شيء {
وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}[العنكبوت: 2].
ينبغي أن لا نعطي الثّقة إلا من خلال ملاحقة التّجربة في حياة الإنسان، التجربة الحيَّة، التّجربة الحادّة، التّجربة الّتي يمكن أن يختبر فيها الإنسان بالمال أو بالجاه أو بالشّهوات، لأنّ لكلّ إنسان منّا مفتاح شخصيّته، وقد قال المتنبي:
إذا اشتبكت دموعٌ في خدودٍ تبيّن مَن بكى ممّن تباكى
وهكذا يتبيّن المزيّف من المخلص، عندما يعتصر المزيف دمعه في عينيه، فلا تخرج إلا بشكل متكلّف، أمّا الإنسان المخلص، فإنّك تشعر بأنّ دموعه عندما تنحدر من آلامه أو آهاته، فإنها تنفجر وتنفتح، لتعرف منه الصّدق في كلّ كلمة وفي كلّ دمعة وفي كلّ موقف {
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ}[التّوبة: 119]".
[كتاب: النّدوة، ج1، ص:33-35].
من المهمّ أن نربّي أنفسنا على الإفادة من التّجربة، وأن نكون الأقوياء الّذين تكسبهم التجارب كلّ الثّبات وكلّ القوّة، وكلّ وضوح الرّؤية، كي نُحسن التّعامل مع هذه التّجارب بما يصلحنا وبما ينفعنا، فنكون الواعين الّذين يعيشون عمق الأمور والمسائل، ولا تطفو مواقفهم ونظراتهم على السّطح، فالمؤمن هو الّذي لا تسقطه الصّدمات، ولا تسقطه التجارب، بل يزداد مناعةً ويزداد صلابةً، ويزداد حريّةً وإرادةً أمام كلّ المغريات والمصالح والنّزوات والأهواء.
فلنربِّ أنفسنا على اقتحام التّجارب، بما ينضج شخصيّتنا الإيمانيّة الرساليّة التي لا تسقط أمام الضّغوطات، بل تسعى على الدّوام إلى أن تكون صاحبة الأفق الواسع الّتي تنفذ إلى بواطن الأمور، تحلِّل وتدقِّق وتربط بين الأشياء على قواعد ثابتة وواضحة وراسخة ومنسجمة مع الموازين الشرعيّة الّتي أرادها الله تعالى للنّاس لتتحرّك في الحياة بالشّكل المتوازن والسليم، وليتحرّك النّاس وفق خُطى واثقة ومتّزنة.