للإعلام دوره الكبير المميَّز في ساحة الصِّراع، من خلال ما يقدِّمه من صورةٍ مشرقة للموقع وللفكرة وللشَّخص، أو تسليط الأضواء على الصّورة المظلمة، وإثارته لنقاط الضَّعف في الرّوح العامَّة للأمَّة، أو لتشجيع نقاط القوَّة في داخلها، أو تحريكه لمشاعر الرّأي العام في الدَّاخل والخارج تجاه القضيَّة السّياسيَّة أو الاجتماعيَّة أو الأمنيَّة أو الاقتصاديَّة في الخطّ السّلبيّ أو الإيجابيّ، ممّا قد يشارك في عمليَّة الهزيمة أو النَّصر في ساحة المعركة قبل الدّخول فيها.
الإعلام ودوره في الصِّراع
ولذلك، كان لا بُدَّ للحركة الإسلاميَّة الَّتي تخوض الصِّراع المتعدِّد المواقع مع الكفر والاستكبار العالميَّين، من أن تدرس موقعها من حركة الإعلام في هذه السَّاحة، الّتي قد يتحوَّل فيها الصِّراع تبعاً لطبيعة الأجواء والوسائل والأفكار والأوضاع، إلى حربٍ مجنونةٍ بكلِّ ما تعنيه الكلمة من معنى، وعلى ضوئها، تتحدَّد نتائج المعركة سلباً أو إيجاباً في كلِّ القضايا المثارة في داخلها ومِنْ حَوْلها، ما قد يفرض علينا دراسة الآفاق الَّتي يمكن لنا الانفتاح فيها على الواقع، والوسائل الَّتي يمكن أن نحرّكها أمام الهدف، والأفكار الَّتي قد تثير الموقف الملائم. وقد يكون من الضَّروريّ تحريك الموقف المضادّ، من خلال العناصر الذَّاتيَّة المحيطة بالموقع أو بالحركة أو بالشَّخص، من أجل احتواء السَّاحة واستيعابها لمصلحة الإسلام في قضاياه العامَّة وفي مواقفه المتحرّكة. كما علينا أن نعمل من أجل اكتشاف القيمة الأخلاقيَّة في طبيعة الآفاق والوسائل والأفكار، لأنَّ أخلاقيَّة الصِّراع قد تكون أساسيّةً في عمق الالتزام الإسلاميّ وفي حركته، لكي لا يفقد الإسلام نفسه في الظّروف الطَّارئة، ويبتعد عن خطوطه الشَّرعيَّة الّتي تمثِّل الحدود الأخلاقيَّة الفاصلة بين ما يمثِّله الإسلام من خطوط وأحكام، وما يمثِّله الكفر من ذلك، وهذا ما يفرض على المسلمين في مواقع القيادة أو في مواقع القاعدة، أن يواجهوه بالملاحظة الدَّقيقة والممارسة الواعية المنضبطة، لئلا ينعكس ذلك سلباً على الصّورة العامَّة للإسلام والمسلمين، فيفسح المجال للتصوّر السّلبي الّذي نقدِّمه للآخرين عنه، فيجدوا أنَّ الإسلام لا يستطيع أن يحافظ على حدوده الشرعيَّة في ساحة الصِّراع، لاضطراره إلى الخروج عنها بفعل الضّغوط الواقعيَّة أمام التحدّيات، ما يعني، بالنّسبة إليهم، أنَّ القيمة الأخلاقيَّة المطلقة ليست واقعيَّة، بل تبقى ككلِّ القيم الدِّينيَّة في آفاق المثاليَّة الخياليَّة، يحتاج معها المرء إلى إنكار بعض الحقائق السلبيَّة التي قد يكتشفها الآخرون في السَّاحة أو إخفائها، أو إثارة بعض الضّباب الّذي قد يخفي بعض ملامحها المثيرة.
وقد يفرض عليك الموقف أن تبادر الآخرين بطريقةٍ تثير فيها بعض القضايا الّتي لا واقعيّة لها في ساحاتهم، أو أن تبرز بعض الإيجابيَّات غير الحقيقيّة في ساحتك.
وعليه، هل ننطلق بمواقعنا هذه من تأثير الظّروف الضَّاغطة على شرعيّة الموقف، أو نبقيه في دائرته اللاأخلاقيّة لانحرافه عن خطِّ الصِّدق في الكلمة، أو في الإيجاب، أو في الإثارة؟ وبالتّالي، هل يعتبر مثل هذا السّلوك أخلاقيّاً؟!
وفي المحصِّلة، قد يحتاج الإعلام إلى عمليَّة رصدٍ للواقع في طبيعة حركته، وفي ملامح صورته، وفي نوعيَّة إيحاءاته، لأنَّ الإعلام يتغذَّى من الواقع ويغذِّيه، لأنَّ هناك واقعاً لا تملك الدِّفاع عنه في المنطق العام، بقطع النَّظر عمَّا إذا كان يملك شرعيَّةً إسلاميَّةً في ذاته، أو أنَّه لا يملك مثل هذه الشَّرعيَّة، لأنَّ المقاييس العامَّة المتحرّكة في ذهنيَّة الرّأي العام، بفعل التيَّارات الفكريَّة والسّياسيَّة المؤثِّرة في تكوين الشَّخصيَّة الفكريّة للجماهير في السَّاحتين المحليّة والدوليّة، قد تختلف عن المقاييس الشَّرعيَّة الإسلاميَّة العامَّة. وبذلك، قد تشكِّل بعض مفردات الواقع الأمنيّ والسّياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ فرصة كبيرة أمام الإعلام المضادّ لينفذ إلى صلب الواقع الإسلاميّ، بحيث لا يتمكَّن الإعلام الإسلاميّ من الدّفاع عنها في ساحة القيم الأخلاقيَّة الإنسانيَّة، ما قد يجعل القضيَّة في دائرة الدّراسات العميقة، للتعرّف إلى أهميَّة النّتائج الإيجابيّة الّتي تحقِّقها هذه المفردات، بالمقارنة مع النَّتائج السَّلبيَّة التي يحقِّقها الإعلام المضادّ، وذلك لا يكون إلاَّ من خلال مخطَّطٍ إعلاميّ يستوعب المشكلة الطّارئة ويتلافى السّلبيَّات، وإجراء دراسة مقارنة بين أن نغيّر هذه المفردات في الواقع، أو نبقى عليها، لما لتحركها من أهميَّة كبيرة في السّاحة، لإيجاد نوعٍ من التّوازن بين ما هي الكلمة في تصوير الواقع أو في تحسين صورته، وما هو الواقع في إيحاءاته المتنوّعة، وفي مؤثّراته السّلبيَّة أو الإيجابيَّة.
الثّقافة الإعداديَّة
وإذا كانت قضيَّة الإعلام هي امتلاك الوسيلة الفضلى للوصول إلى عقل النَّاس ووعيهم وروحهم، من أجل استحالة مواقفهم، من خلال التَّأثير في قناعاتهم، فقد يكون من الضَّروريّ أن نملك وسائل المعرفة الّتي نستطيع من خلالها النَّفاذ إلى كلّ مواقعهم. وهذا الأمر لا يتحقَّق إلا بالانفتاح على السَّاحة كلِّها، من دون تعقيدٍ في حركة العلاقات، ومن دون انغلاقٍ عن المواقع، كما يفرض علينا أن نتسلَّح بحركة وعيٍ شاملٍ لكلّ الأساليب العقلانيّة والعاطفيّة الّتي تثير الجماهير ومشاعرها، لنستطيع النَّفاذ إلى خلفيَّاتها الروحيَّة والاجتماعيَّة والشعوريَّة، لنحتوي بشكلٍ إيجابيٍّ كلَّ عناصره[1]، ممّا يحقِّق الهدف، ولا يسيء إلى الفكرة.
ولا بُدَّ لنا في هذا الخطِّ من تأكيد الثَّقافة الإعلاميَّة الّتي يملك فيها الإعلاميّون الأدوات التَّعبيريَّة، والأساليب الفنيَّة، والعناصر الشعوريَّة، والمعرفة الواقعيَّة لكلِّ جوانب الواقع في عمقه وظروفه وامتداداته، سواء في ذلك الإعلام الصَّحافي أو الإذاعيّ أو التّلفزيونيّ أو المنبريّ، لأنَّ فقدان هذه الثَّقافة قد يسيء إلى الفكرة أو القضيَّة أو الموقف، من حيث يريد الشَّخص أو الجهة الإشارة إليها، كما نلاحظه في البعض، ممّن يديرون المسألة الإعلاميَّة من مواقع الحماس السَّاذج، والفكرة الغائمة، والأسلوب الغيبيّ، والذّهنيَّة الجاهلة، والكلمات القلقة، والتصوّر البعيد عن الواقع، ما يجعل الجمهور منفعلاً بطريقةٍ مجنونة، ومتحرّكاً بطريقةٍ ساذجةٍ في ارتباطه بالهدف، بعيداً عن وعي الوسيلة.
إنَّنا نؤكِّد مسألة الوعي الثّقافيّ والسياسيّ والفنيّ في هذه المسألة، لأنَّنا نخوض المعركة في ساحةٍ ممتدَّة واسعة يمتلك فيها الآخرون القوَّة الكبيرة في هذه المواقع على أكثر من صعيد.
الحجة العلمية
وإذا أردنا أن نقترب من الجانب الفكريّ للإعلام، فإنَّنا قد نجد في خطّ الدّعوة والتبليغ، مسؤوليّة إعلاميّة لكلّ مسلم يملك المعرفة والوسيلة والقوّة والظّروف الملائمة في التحرّك في كلّ مجال إنسانيّ، من أجل انفتاح النّاس على الإسلام في عقيدته ومفاهيمه وشريعته ومنهجه في الحياة، بحيث يعتبر الابتعاد عنه خطيئةً دينيَّة، تماماً كما هي الواجبات الدّينيّة الأخرى العينيَّة والكفائيَّة، انطلاقاً من قوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[2].
وهي من الآيات الَّتي تتدخَّل في تفاصيل الأسلوب الَّذي يجب أن تتحرَّك فيه الدَّعوة، بالكلمة الّتي هي أحسن، والجدال بالّتي هي أحسن، والدَّفع بالّتي هي أحسن، بالأسلوب الَّذي يطوّر الدَّعوة في الإطار الفكريّ والتعبيريّ، حتى يستطيع أن يحوِّل الأعداء إلى أصدقاء.
وهكذا تتنوَّع التَّجارب الرِّساليَّة في القرآن الكريم وأساليب الدَّعوة، حيث تنوَّعت المواقع والأساليب في حركة الأنبياء، من خلال طبيعة المضمون الفكريّ والعقائديّ في حركة الحياة، وطبيعة التّحدّيات الّتي كانت تواجههم، ما جعل حركة كلٍّ منهم ترقى إلى المستوى الّذي يصل فيه إلى اعتماد أساليب متحركة وفنيَّة في أكثر من مرحلة تاريخيَّة.
وقد يحتاج الإعلام الفكري إلى تطوير المستوى الثّقافيّ للفكر الإسلامي، دون إغفال لمستوى البحث العلميّ وطريقة العرض وأسلوب المواجهة للتّحدّيات الفكريّة المضادة ومواكبة التطوّرات في حركة مفردات التّجديد في قضايا الإنسان والحياة، ليستطيع المفكّرون الإسلاميّون أن يحدّدوا موقف الإسلام منها، وتوجيه التفكير إلى احتواء كلّ خطوات التجديد الفكري، وإبقاء الإسلام في الواجهة الثقافيّة على جميع المستويات وكلّ الأصعدة.
إنَّ الضّعف الثّقافيّ والجهل الإعلاميّ، يساهمان في إضعاف الموقف الإسلاميّ من ناحية فكريَّة وإعلاميَّة
وقد يكون من الطّبيعيّ أن يكون المفكّرون الإسلاميّون الَّذين يتعاطون الشَّأن الإعلاميّ، في الموقع المتقدِّم من الفهم العميق للإسلام عقيدةً ومفهوماً وشريعةً ومنهجاً للحياة، وأن يمتلكوا معرفةً واسعةً للأجواء المحيطة بالواقع، ممّا يدفع إلى تحريك مفردات الإسلام في حركة الذهنيَّة المعاصرة بالأسلوب الأفضل، بحيث لا يشعر النَّاس بغربة الإسلام عن الذهنيّة الثقافيَّة، إذا كانوا غريبين عن حركة الواقع. إنَّنا نعتقد أنَّ الضّعف الثقافيّ والجهل الإعلاميّ، يساهمان مساهمةً فعّالة في إضعاف الموقف الإسلاميّ من ناحية فكريَّة وإعلاميَّة، عندما يبادر الآخرون من أعداء الإسلام والمسلمين إلى الاستفادة من هذا الضّعف في إظهار الموقف الإسلامي، بالمستوى الّذي لا يستطيع أن يثبت مفاهيمه أمام التحدّيات المضادّة من جانب، والإيحاء من جانبٍ آخر بقوَّة المفاهيم الأخرى، من خلال عناصرها الذّاتيّة الفكريَّة الّتي يحترمها التّفكير الإنسانيّ في ساحة الصِّراع.
وانطلاقاً أيضاً من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}[3]، ومن قول النبيّ محمَّد(ص): "إذا ظهرت البدع في أمّتي، فليظهر العالـم علمه، فمن لـم يفعل، فعليه لعنة الله"[4].
وعلى ضوء ذلك، رأينا الإمام جعفر الصَّادق(ع) ينهي بعض تلاميذه وأصحابه عن الدّخول في ساحة الصِّراع الفكريّ، انطلاقاً من ضعفهم الثّقافي الّذي قد ينعكس سلباً على الإسلام أمام الآخرين.
كما قد نلاحظ من باب الاستيحاء، كيف أنَّ نبيَّ الله موسى(ع)، طلب من ربِّه أن يجعل هارون مساعداً له في النبوّة، لأنَّه أفصح منه لساناً، مخافة أن يضيق صدر موسى، ولا ينطلق لسانه، ما قد يفقد الموقف قوّته في مجال حركة الدّعوة في مواجهة منطق الآخرين.
فإذا كانت النبوَّة تتفادى مواقع الضَّعف، فكيف يجب أن نفكِّر بالمستوى العاديّ الَّذي يتحرّك فيه الوعّاظ والمرشدون والمبلّغون والدّعاة ليتحدَّثوا إلى الجماهير أو إلى الفئات الأخرى التي تختلف مع الإسلام في الفكر، وتدخل معه في صراع، وهذا ما يوجب علينا أن نعمل لإبعاد هؤلاء عن مسؤوليّة العمل الإسلاميّ الفكريّ والتّبليغيّ، والإبقاء على ممارسة دورهم في نطاق ضيِّق، بحسب إمكاناتهم الفكريّة والإعلاميّة.
خطوط السياسة الإعلاميّة
تلك هي بعض التأمّلات الإعلاميَّة في الإعلام الإسلاميّ من النّاحية الداخليَّة التي تستغرق في المضمون، وتتناول الشَّكل والشَّخص المحرّك لها، فضلاً عن الجوّ العام، وقد نشعر بالحاجة إلى أن نضع ذلك كلَّه في نطاق التَّخطيط المدروس الشَّامل للسّياسة الإعلاميّة الّتي تلاحق كلَّ الأفكار والأحداث والمواقع والأجواء والأوضاع التي تترك تأثيراتها الذاتيَّة في طبيعة الوضع الإعلاميّ الإسلاميّ، كما تلاحق كلَّ الأوضاع المضادّة في كلّ عناصرها، وفي كلّ خططها وامتدادتها في السّاحة على مستوى الزّمان والمكان، ليكون الصّراع بين خطّة وخطّة، كما هو في الواقع بين موقعٍ وموقع، أو بين مفردات فكريّة وسياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة، ومثيلاتها في الموقع الآخر، لأنَّ فقدان التَّخطيط قد يدفع الموقف إلى كثيرٍ من الفوضى والقلق والارتباك، ما يحوِّل السّاحة إلى لونٍ من ألوان العبث الفكريّ والإعلاميّ، بدلاً من الجدّيّة والتَّوازن في هذا المجال أو ذاك.
فإذا وقفنا أمام إعلام الاستكبار الفكريّ والسياسيّ، فإنَّنا نجد أنَّه يعمل وفق مخطّطٍ مدروسٍ لالتقاط كلِّ نقاط الضَّعف الواقعيّ في السَّاحة الإسلاميّة، ليستفيد منها في تحريك الدّعاية السّلبيَّة ضدَّ الإسلام والمسلمين، كما أنَّه يعمل على جمع العناصر الّتي من شأنها تشويه صورة الإسلام، ليجعلها نموذجاً للتخلّف والجهل والهمجيّة والفوضويّة والتّقاتل والعدوان على الآخرين، وتصوير أنَّ النَّاس قد آمنت بالإسلام من خلال السَّيف، لأنَّ ذلك من شأنه أن يقدِّم عن المسلمين صورةً تتمثّل فيها كلّ ملامح البشاعة الأخلاقيَّة والفكريَّة والنفسيَّة والاجتماعيَّة ونحو ذلك، وقد نلاحظ ذلك في كثيرٍ من دراسات مشوَّهة، لـم يعتمدوا فيها الأمانة والدّقّة والاستيعاب، بل حاولوا اختيار مواقع الضَّعف في بعض المصادر المختارة، وأثاروا حولها التّحليلات الخاصَّة لبعض النّوازع الذاتيّة، ما جعل الإسلام ديناً متخلّفاً في أفكار النّاس، ولا سيّما العالـم الغربي.
وقد كانت الدّوافع الباعثة إلى ذلك متنوّعة، بين خلفيّات التبشير المسيحيّ في صراع المسيحيَّة مع الإسلام، وخلفيّات الاستعمار في محاولته للسيطرة على بلاد المسلمين، من خلال إبعادهم عن أصالتهم الإسلاميَّة، بتشويه صورة الإسلام في نفوسهم، وإضعاف موقفه الحركيّ في حياتهم، ولإيجاد الحواجز بين الإسلام والشّعوب الأخرى، لكي لا يشكِّل الإسلام قوّةً جديدة في حركة الحريّة والثّورة.
الإعلام الغربيّ المضادّ
وهكذا، رأينا الإعلام الكافر يتحرَّك في خطَّة مدروسة بعيدة المدى، لإفساح المجال للفكر الغربيّ بجميع مدارسه الماديَّة والدينيَّة ومناهجه الثقافيّة، من أجل صياغة الشّخصيَّة الداخليّة للإنسان المسلم على الطّريقة الغربيّة، لينطبع تفكيره بهذا الطَّابع، وتختزن شخصيَّته مفردات الفكر الغربيّ في الجوانب الفلسفيَّة والأخلاقيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديّة، ويترسَّخ في وجدانه الشّرعيّ والتّشريع القانونيّ الغربيّ القائم على الأسس الفلسفيّة للشّريعة، بعيداً عن الشَّريعة الإسلاميّة.
وأصبح الفكر الغربيّ في قيمه ومفاهيمه أساساً لتقييم الفكر الإسلاميّ، فما كان موافقاً له كان منسجماً مع الفكر الحضاريّ، وما كان مخالفاً له كان تفكيراً بدائيّاً! وامتدَّ ذلك ليشمل العادات والتَّقاليد الاجتماعيَّة، حيث أخذ الإعلام يعمل على استغلال السِّينما والمسرح والقصَّة، لترويج العادات والتَّقاليد الغربيَّة المستمدَّة من الحضارة الماديَّة، وانتقاد العادات والتّقاليد الشرقيَّة أو العربيَّة الإسلاميَّة، لتأكيد العقدة حولها، وتثوير الأحاسيس ضدَّها، بإثارة جانب المأساة في نتائجها الواقعيَّة، بعيداً عن جانب الفرح في النَّتائج الإيجابيَّة الممتدَّة في عمق الواقع الإنسانيّ.
وهكذا، رأينا إنساننا يتحوَّل إلى إنسانٍ ضائعٍ لا قدرة له على اختيار صورته الحقيقيَّة من خلال تراثه وعقيدته وتاريخه، ولـم يحسن في الوقت نفسه اختيار الصّورة الجديدة الَّتي يريد أن يتمثَّل بها، لأنَّه عاش الجانب السَّطحيَّ من طبيعة المسألة، ولـم ينفذ إلى الأعماق في داخلها، ولـم يلتفت إلى أنَّ وجود السّلبيّات في موقعٍ لا يعني سلبيّة الموقع، لأنَّ وجود الإيجابيّات بنسبة كبيرة قد يؤكِّد إيجابيّته، [ولكن لا يعني ذلك أن لا سلبيَّة فيه]، وذلك عندما نلتقي بالحقيقة الواقعيَّة الّتي تنفي وجود خيرٍ لا شرَّ فيه، أو وجود شرٍّ لا خير فيه، لأنَّ كلَّ شيءٍ في الكون يشتمل على خيرٍ وشرّ، ولكنَّ طبيعة التّقييم تختلف في الأشياء، تبعاً لاختلاف نسبة الخير والشّرّ فيها، فما زاد فيه الخير كان خيراً، وما زاد فيه الشرّ كان شرّاً.
نحن لا نعيش العقدة ضدّ الغرب، بل نأخذ منه ما لا يتنافى مع الخطِّ الفكريّ الّذي نؤمن به
وقد تكون إثارتنا لهذا الجانب من الإعلام الفكريّ الغربيّ المضادّ، منطلقةً من تأثيره في تغيير الشَّخصيَّة الفكريّة لدى الإنسان المسلم، حتى تحوَّل إلى إنسانٍ غربيّ، وعاش الخصائص الفكريَّة والرّوحيَّة في دائرة التّغريب، بحيث إنَّ الموقف قد يفرض عليك في الحوار معه، أن تتحدَّث عن الإسلام من منطلق المنطق الغربيّ في منهج التَّحليل، وفي أسلوب العرض، وفي أجواء الحوار، لأنَّ شخصيَّته انطبعت بالطّابع الغربيّ من جميع الجوانب.
ولذلك، فإنَّ الخطورة الّتي انعكست على الشَّخصيَّة الإسلاميَّة، تفرض علينا المزيد من التَّخطيط في ساحة الصِّراع لمواجهة حركة الشّخصيَّة الغربيَّة الماديَّة في داخل مجتمعنا الإسلاميّ، بحركة الشّخصيَّة الإسلاميّة الروحيَّة في حركة الإنسان في الواقع، لأنَّ من أوَّل الشّروط الضّروريَّة لبناء مجتمعٍ إسلاميٍّ سليم قائم على الشَّريعة الإسلاميَّة، أن تكون الشّخصيَّة الإسلاميَّة هي الصّورة الإنسانيَّة البارزة في داخل هذا المجتمع.
رفض التَّغريب لا الحضارة الغربيَّة
ولا بُدَّ لنا في هذا المجال، من أن نفرِّق في إعلامنا الإسلاميّ الّذي يواجه الإعلام الغربيّ، بين الرَّفض الحاسم للتَّغريب فيما هي الملامح الكاملة الشَّاملة للشخصيَّة في خلفيَّاتها الفلسفيَّة والفكريَّة، ورفض الحضارة الغربيَّة بكلِّ مظاهرها وأفكارها ونتائجها، فإنَّنا لا نعيش العقدة ضدَّ الغرب، بل نعمل على أن نأخذ منه ما قد نحتاج إليه من علمٍ وثقافةٍ وأوضاع، ممّا لا يتنافى مع الخطِّ الفكريِّ الّذي نؤمن به ونسير عليه، ومع الوضع السّلوكيّ الّذي تفرضه خطوطنا الأخلاقيَّة الشّرعيَّة، وذلك لأنَّنا نؤمن بأنَّ الله قد جعل النَّاس شعوباً وقبائل ليتعارفوا، فيما تمثِّله كلمة التَّعارف من التّبادل الثقافيّ والاجتماعيّ والأخلاقيّ، وفيما تتميَّز به جماعة وشعب عن شعب، ممّا قد يترك تأثيراته الإيجابيَّة في إغناء التّجربة الإنسانيَّة في الحياة، حيث لا مجال للتّعقيدات الذاتيَّة أمام التنوّع الإنسانيّ.
مجلّة المنطلق الفكريّة، العدد 37، التاريخ: 8 محرَّم 1408هـ/ 1 تشرين الثّاني 1987م.
[1] عناصر التّأثير.
[2] [آل عمران: 104].
[3] [البقرة: 159].
[4] بحار الأنوار، ج 105، ص15.