في ذكرى المبعث النبوي الشريف، نجد كلّ معاني الارتباط الحيّ والفاعل بين الأرض والسّماء، وبين الإنسان المخلوق الواعي والملتزم، وبين الله تعالى الخالق، وليست الذّكرى مجرد حدث عابر في الزمن، بل إنّها أسست للأحداث التاريخية البشرية فيما بعد، على مستوى تغيير النفوس والعقول، وتربية الأجيال على ما في الرّسالة من قيمٍ ومفاهيم ترتقي بالإنسانيّة جمعاء. ونحن نعيش في جوّ الذكرى، نستشعر المسؤولية في مدى تمثّلنا للإسلام الّذي ننتمي إليه، هل نتمثل أخلاقياته أخلاقاً تقرّب بيننا؟ وهل نتمثّل معارفه لننتج أفكاراً تفتح أبواب العلم لنا؟ وهل نتمثّل روح شريعته في إقامة العدل والحقّ في ميادين ساحاتنا؟
لقد كان المبعث النبويّ الشّريف حدثاً بكلّ معنى الكلمة، أراده الله رحمةً وخيراً للعالمين، وأراده إطاراً جامعاً لحركة الأنبياء والرّسل والرسالات، في تنبيه الإنسان إلى دوره ومسؤوليّاته تجاه نفسه وربّه ومجتمعه.
وكان المبعث النبوي مناسبةً مفتوحةً للدعوة إلى العودة الأصيلة إلى روح التوحيد، بأن نوحّد الله عبر التزام الحق والصدق والحرية والعزة والعدالة والتكافل والتعاون على البرّ، فلقد شكّل المبعث النبوي فرصةً حقيقيةً ومكتملة العناصر لمواجهة محاولات الكثيرين من المتعصّبين والجهلة لتشويه الرّسالات وحضورها وغاياتها.
وننقل في هذه المناسبة ما قاله الشّيخ محمد أمين زين الدّين(قده) من وحي المناسبة:
"... وارتقى الإنسان وتطوّر، وارتقت معه أساليب الهداية، وتطوّرت معه رسالات السّماء، تشقّ له الطريق وتؤهّله للغاية، للغاية الكبرى الّتي من أجلها خُلق، ومن أجلها أعدّ الكون وأعِدّت الحياة .وتناقلته الهدايات والرّسالات حتى وقفت به على الأبواب .
نعم، وقفت الإنسانيّة على الأبواب، فقد أعدّ الفرد، وأعدّ المجتمع، وأعدّ التاريخ أعدّ الفرد حتى في أدقّ ذرّاته، وأبطن غرائزه، وأمكن أشواقه، وأعدّ المجتمع بالتّمهيد للصّلة العامة المقدّسة، التي تنطمس فيها الحدود وتنسق السدود .
وأعدّ التاريخ بالحروب الطويلة الدامية التي أتعبت الإنسان وسحقت كبرياءه وطامنت غروره.
وتطلّع الفرد، وتطلّع المجتمع، وتطلّع التاريخ للنقلة الحاسمة، والشريعة الخاتمة .
وبُعث محمّد(صلّى الله عليه وآله)، ليحقّق الأمنية لكلّ أولئك، للفرد، وللمجتمع، والتأريخ
وبُعث محمّد (صلّى الله عليه وآله)، ليحقّق الغاية الكبرى التي أرادها الله من إحداث الكون وإيجاد الحياة وإنشاء الإنسان .
وبعث محمّد (صلّى الله عليه وآله)، ليكون أعظم رسول بأعظم رسالة، وأكبر داعٍ إلى أكبر دعوة .
وبعث محمَّد (صلى الله عليه وآله) ليَصل الأرض بالسّماء، وليتوَّج إماماً للأنبياء .
وبعث الإنسان الأعلى لتتفيّأ الإنسانيّة ظلاله، وتترسّم مثاله .
وأنزل القرآن دستوراً للدّولة، وقانوناً للحكم، ونظاماً للاجتماع، ومنهجاً للاقتصاد، وقاعدة للتربية، وسَنناً للأخلاق، وشريعة للعمل، وحدّاً للحقوق، ولساناً للهداية، وبرهاناً للدعوة .
ونظرت الفطرة فلم تشكّ، وفكّر العقل فلم يمتر، وشهد البرهان فلم يرتب، وأبصر العلم فلم يتردّد، وآمنت الفطرة، وآمن العقل، وآمن البرهان، وآمن العلم .
ووقفت الأهواء فلم تُبصر، وتبلّدت الغباوات فلم تهتد .
ورفع محمد (صلّى الله عليه وآله ) قَبسَاً بعد قبس من أشعَّة القرآن، لِيُنير هذي النّفوس التي طُبعت عليها الأهواء، ويحيي هذي الأذهان التي أماتها الغباء .
وكافح بالحجّة، وكافح بالموعظة، وكافح بالنّصيحة، وكافح بالخلق الكريم والقلب الرّحيم .
وطمعت بعض هذه النفوس في غير مَطمع، وجهدت أن توصِد الأبواب في وجه الدّعوة، وأن تقطع السّبل، ولم يجد معها البرهان شيئاً، ولم تنفع الذّكرى فتيلاً.
واضطرّ محمّد (صلّى الله عليه وآله) أن يحتكم مع هذه الفئة إلى القوّة، لِفتح الأبواب وتخلّي السبيل، فناضل بالسّيف، وناضل بالعزيمة، وهي أمضى حدّاً من السّيف، وناضل بمدد الله ونصره، وهي القوّة التي تمدّ السّيف والعزيمة والجند بالمضاء والصّرامة .
ولم يزايل البرهنة في مواقفه تلك، ولم يترك النصيحة، ولم يفارق الخلق الكريم والقلب الرّحيم، وظهر أمر الله وهم كارهون، وعلت كلمة الله وهم راغمون .
ودار الزّمان، ودارت القرون..
وتراكمت الأهواء، وتكدَّس الغباء..
واتخذت الأهواء في دورتها هذه صبغة الحضارة، وألبِس الغباء لباس المدنيّة .
ودعوة محمّد (صلّى الله عليه وآله) لا تزال هي دعوته، وبيّناته هي بيّناته .
هي تلك الّتي آمنت بها الفطرة، وآمن بها العقل، وآمن البرهان، وآمن العلم .
ووقفت الأهواء فلم تُبصر، وتبلّد الغباء فلم يَهتد .
ومُدّت الأيدي لتوصد الأبواب والسّبل في وجه الدعوة، لتصدّ الأذهان عن إدراكها، بل ولتوقر الآذان عن سماعها، ولتكمّ الأفواه عن الجهر بها .
فهل لنا أن نرفع القبس الّذي رفعه محمّد (صلى الله عليه وآله)، لنضيء للسّادرين طرقهم وننقذ هالكهم؟ .
وهل هي أمنية أو تساؤل، أو هي فريضة محتومة سريعة لا مجال فيها للأماني، ولا وقت معها للإبطاء؟!.[كتاب "من أشعّة القرآن"، القسم الثّالث، للشيخ محمد أمين زين الدين(قده)].
ومن وحي المناسبة كدعوة حقّ للإنسانيّة جمعاء، وما يتّصل بها، يقول سماحة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض):
"وقد أراد الله تعالى من خلال ما أراده لنا أن نستوحيه من دور الرّسول(ص)، أن نتوفّر على دراسة كلّ ما قاله النبي(ص)، وكلّ ما بيّنه وعرّف النّاس أسرار حقائقه، لأنّ قضيّة رسول الله لم تكن قضيّة مرحلة معيّنة، بل كانت قضيّة النّاس كافّةً والعالم كافّةً، وهكذا أطلق رسول الله دعوته الإنسانيّة العالميّة: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً}[الأعراف: 158]، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً}[سبأ: 28].
وقد أراد الله تعالى للرّسالة الإسلاميّة أن تشمل العالم، ليكون العالم كلّه إسلاميّاً. وعلى ضوء هذا، فإنَّ على المسلمين في كلّ زمان ومكان، مسؤوليّة الدّعوة إلى الإسلام، ومواجهة كلّ من يحاول أن يشوّه صورته أو يبعد النّاس عنه، حتى يعيش العالم للإسلام وبالإسلام، في عقائده وشرائعه ومفاهيمه وكلّ قيمه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[التّوبة: 33]. وعندما ندرس شخصيَّة رسول الله(ص) في القرآن الكريم، نرى الشّخصيّة الرساليّة التي تعيش مع الفقراء، والتي تتحدَّث مع الناس بكلّ رحمة ورقّة: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران: 159].
وقد أراد الله تعالى أن يثقِّف رسوله، فأسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الّذي هو مسجد الرسالات الذي عاش الرّسل في أجوائه، قال تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[الإسراء: 1]، لنعلّمه من خلال الآيات الّتي تظهر له من خلال الإسراء، فيزداد بذلك علماً ومعرفةً.
لا بدّ لنا من أن نعيش الإسلام كلّه عندما نعيش في ذكرى المبعث والإسراء والمعراج، لا أن نتذكّر رسول الله بالاحتفالات التي نقيمها فحسب، ولكن أن نتذكَّره بالإسلام الّذي أحياه، وأن نتذكَّر مسؤوليّتنا عن الإسلام، لنعمل من أجل أن يكون الإسلام دين العالم كلّه الذي لا بدّ من أن يأخذ النّاس به، لأنّ الله أرادنا أن نعمل على هذا الأساس: {ادْعُ إلى سَبيلِ ربِّكَ بالحكْمَةِ والموْعِظَةِ الحسَنَة}[النّحل: 125]. أن نكون المبلّغين، كلٌّ بحسب معرفته وظروفه وإمكاناته. ولذلك، فإنَّ الّذين يهاجرون ويغتربون في آفاق الأرض، لا بدَّ لهم من أن يستفيدوا من هذه البلاد التي هاجروا إليها، في سبيل تعريف النّاس بالإسلام على حقيقته، لأنَّ المسألة الآن هي أنّ هناك حرباً على الإسلام من كلّ الكافرين والمستكبرين، وعلينا أن نحمي الإسلام بكلّ ما عندنا من طاقة ومعرفة، وعلينا أن نعيش حالة طوارئ إسلاميّة، ولا سيَّما في هذه المرحلة التي نواجه فيها الواقع المستكبر الذي يسعى للفتنة بين المسلمين ليقاتلوا بعضهم بعضاً، من خلال العملاء الذين فرضهم على العالم الإسلامي.
لا بدّ لنا من أن نعيش رسول الله؛ أن نعيشه في عقولنا وقلوبنا وكلّ حركتنا في الحياة، وأن نعيشه في كلّ حكم شرعيّ نأخذ به، وعلينا أن نحلّل ما حلّل، وأن نحرّم ما حرّم، لأنّ حلاله حلال إلى اليوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة. {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}[الأحزاب: 56].[ أرشيف السيِّد، خطب الجمعة، أرشيف العام 2009].
واليوم، يمرّ المسلمون بأحلك الظّروف وأشدّ التحدّيات الفكريّة والعقيديّة والسياسيّة والأمنيّة والاجتماعية الّتي تحاصر الواقع الإسلامي برمّته، والأرض تهتزّ من تحت أقدام المسلمين، فيما الضّرروة تستدعي العودة إلى تمثّل روح الإسلام ورسالة المبعث الشّريف، في تنقية القلوب، وتحاور العقول، وتكاتف الأيدي المخلصة لإنقاذ الواقع مما يتخبّط فيه من مشاكل باتت تخنق كلّ فرصة للحريّة والنهوض والتّنمية الحقيقيّة، نحتاج اليوم إلى مسلمين حقيقيّين يتمثّلون روح المبعث في طهارته ونقاوته وعالميّته الداعية إلى تأسيس إنسانيّة منفتحة ومنتجة وأصيلة...
إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي الموقع، وإنّما عن وجهة نظر صاحبها.