كتابات
21/12/2016

هكذا احتفلَ القرآنُ بالسيّد المسيح(ع)

هكذا احتفلَ القرآنُ بالسيّد المسيح(ع)

بعد أيّام، تحلّ ذكرى ميلاد السيّد المسيح(ع)، فيما يعيش العالم هذه الذّكرى بعيداً من أجواء السيّد المسيح، لأنّ الأسلوب الذي يحتفل به الكثيرون من الناس، هو أسلوب أقرب إلى الوثنيّة منه إلى الرسالية والإيمان. ونحن نعرف أنّ الغرب قد أدخل الكثير من الأشكال الوثنيّة في تقاليد الواقع المسيحي، وهذا ما نلاحظه في أكثر من شكلٍ وأكثر من أسلوب، ونحن كمسلمين لا نفرّق بين أحد من رسل الله، ونعيش آفاق السيّد المسيح(ع) كما نعيش آفاق الأنبياء الآخرين، من خلال ما نعيشه من آفاق رسول الله(ص)، الذي جمع في شخصه كلّ خصائص الأنبياء، وفي رسالته كلّ عناصر الرسالات، وجمع في حركته كلّ الأساليب التي انطلق بها رسل الله، إنْ من خلال العناوين الكبرى الّتي أطلقها في الواقع وفي الحركة، وإن من خلال النّداءات التي نادى بها الإنسان في إنسانيّته، والمؤمن في إيمانه.

ونريد بهذه المناسبة أن نتابع السيّد المسيح(ع) من خلال القرآن الكريم، فهذه هي الصّورة الصّحيحة التي تنطلق من موقع العصمة، لأنّ القرآن هو الكتاب المعصوم الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه.

فكيف ولد السيّد المسيح؟ وما هي جذوره؟ وكيف انطلق؟ وما هي عناوينه؟ وما هي الصّفات التي تحدّث القرآن عنها، حتى يكون تصوّرنا عن السيّد المسيح(ع) تصوّراً قرآنيّاً، بعيداً ممّا حرّفه المحرّفون، أو وضعه الوضّاعون.

قصّة المسيح في القرآن 

في البداية، يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الله اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَالله سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[1]، فلقد بدأت القضيّة من جدّة عيسى(ع)؛ كيف كانت روحيّتها؟ وكيف كانت تطلّعاتها للجنين الرّاقد في أحشائها؟ وكيف كانت تفكّر؟ فهي من قوم عاشت الرّسالة في حياتهم من خلال اصطفاء الله لهم. ولذلك، لم تفكّر مادّياً، بل كانت تفكّر روحيّاً: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً}، خادماً للهيكل "بيت العبادة"، لأنني أريد يا ربّ ـــ كما عشتُ خدمتك في حياتي، وعاش أبي خدمة رسالتك، أن يكون ولدي خادماً لك في بيت العبادة، يخدم المؤمنين والعابدين {فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَالله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ}، فلم يستجب الله دعاءها، لا لأنّها بعيدة منه، ولكن لأنَّ هناك قضاءً إلهيّاً وحكمة إلهيّة في هذا الجنين الرّاقد في أعماقها، الّذي أعدّه الله ليكون مظهراً لقدرته.    

{وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى}. ولربّما كان المقصود بهذه المسألة ـــ من خلال سياق النّصّ، ليس تفضيل الذّكر على الأنثى من حيث الجنس، وإنّما من حيث الخدمة، إذ ليس الذّكر الّذي طلبته امرأة عمران الّذي يصلح لأن يكون خادماً لبيت العبادة، كالأنثى التي حرّم عليها أن تخدم في الهيكل، فلم تكن المسألة في مورد إعطاء حكم لتفضيل الذكر على الأنثى، إذ لا نجد في القرآن أثراً لذلك بالمعنى الذي يفضّل فيه إنسان في خصوصية إنسانيّته على إنسان آخر في خصائصه الإنسانيّة، فلربّما كان هذا تقريراً لقولها أو تقريراً للواقع أنّ أمنياتها لم تتحقّق، لأنّ الأنثى لا تصلح لذلك {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ}.      

المنبت الحسن

وتقبّلت قضاء الله وقدره واختيار الله لها، وبدأت تتحدَّث عن تطلّعاتها في هذه الأنثى {وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}[2]، فقد تتعرّض للكثير من حبائل الشّيطان وخطواته ووساوسه، وأنا أُريد ـــ يا ربّ ـــ أن تكون هذه الأنثى وذرّيتها بعيدين من الشّيطان وقريبين إليك، لأنّي يا ربّ أريد أن تكون كلّ سلسلة حياتي فيما أنتجت، كسلسلة حياتي فيما أسلفت في خدمتك، إن لم تكن في بيت العبادة، فلتكن خدمة في ساحة الحياة

{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً}، وهذا هو الإيحاء الإلهيّ الّذي يريدنا المولى أن نفكّر فيه، وأن نضع أولادنا في المنبت الحسن، لأنَّ مسألة الأرض التي تضع فيها ولدك، والبيئة الّتي يتحرّك فيها ولدك، والعلم الذي تعطيه ولدك، هو ما يمثّله النموّ الروحي الطبيعيّ لولدك. {وَالله أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً}[3]، فمن النّبات نبات حسن، ومنه نبات سيّئ، والإنسان لا بدَّ من أن يفكّر في إنبات ولده نباتاً حسناً، فلا يضعه في بيئة تضلّه، ولا في مدرسة تنحرف به عن الخطّ، ولا في برنامج يبتعد به عن الله. {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا}، هذا العبد الصّالح الذي هو من الأنبياء، من خلال ما تدلُّ عليه بعض الآيات القرآنيّة، هذا الذي حُرِمَ الولد، فكفلها كفالة الأب لابنته، وكانت مفاجأته وهو يرى هذه الإنسانة تنمو نموّاً روحيّاً لا مكانَ للشّيطان فيه، ولا مكان للشّهوات فيه.

{كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً} ناضجاً، طازجاً، ساخناً، كما لو كان ابن ساعته، وفوجئ زكريّا بأنّه لم يقدّم إليها طعاماً من بيته، فتساءل: {قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله}.

{إنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[4]، بالطريقة المألوفة وبالطّريقة غير المألوفة، ولمّا تقبّلها الله بقبولٍ حسنٍ وبشكلٍ مباشر، ميّزها من الأخريات من بنات جنسها، وكانت هذه هي المناسبة الّتي جعلت زكريّا يعيش قلق الحاجة إلى الولد.

{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ}[5]، بأن يعطيه ذريّة ليمتدّ فيها امتداداً يجعلهم كمثل هذه الإنسانة. ولكنّنا نريد أن نتابع مريم، لنعرف كيف أعدَّ الله عيسى بإعداد أمّه، كما أعدّ أمّه بإعداد جدّته، {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ الله اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ}[6]، وهذا الاصطفاء هو الاختيار، فلقد اختارها من بين نساء العالمين لتكون مظهراً لقدرته، وأمّاً لعيسى من دون أب. هذا هو معنى الاصطفاء فيما توحي به الكلمة (وطهّرك)، فكانت الطاهرة من كلّ دنس، والطّاهرة في عقلها وفي قلبها وجسدها.

{يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ}، أي تابعي عبادتك بالقنوت، {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ}[7]. ويحدّث الله نبيّه عن هذا بأنّه لم يسبق أنْ تحدّث به أحد للنبيّ(ص) ولقومه لأنّه من غيب الله، {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ}، أي يجرون القرعة بينهم {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}، لأنها كانت طفلة جميلة ذكيّة مهذّبة، فكلّهم كان يريد أن يحتضنها ليرعاها، لأنّها فقدت أمّها وأباها {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}[8] في أيّهم يحتضن هذه الطفلة المحبّبة.

البشارة بعيسى المسيح

ثم انطلقت الملائكة بحديثٍ آخر {إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ}، وبدأت الآيات تتحدَّث عن موقع هذا الإنسان، فهو وجيه في الدّنيا، من جهة أنّه يتحرّك في رسالة الله بالدّرجة التي يفتح فيها الدنيا على رسالة الله، ليكون وجيهاً في الآخرة، حيث يعطيه الله سبحانه وتعالى في الآخرة الدّرجات العليا {وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}[9]، الذين قرّبهم إليه من جهة إخلاصهم وجهادهم وروحانيتهم. وبذلك تنطلق المعجزة في بدايات طفولته {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً}، يكلّم الناس برسالة الله، {وَمِنَ الصَّالِحِينَ}[10].

وفوجئت مريم(ع) {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ}، لأنَّ قضيّة الولد تنطلق من الوضع الطبيعيّ الّذي قدّرته في ولادة النّاس {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ}، لا بطريقة شرعيّة ولا غير شرعيّة ممّا أنا بعيدة منه {قَالَ كَذَلِكِ الله يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ}[11]، فلقد قضى الله أمراً في آدم وفي أولاده، فإنّ العجائبيّة والمعجزة في خلق الإنسان بالطريقة الطبيعيّة هي في خلقه من طين، لأنَّ الّذي نفخ في الطّين من روحه، هو الّذي نفخ في النّطفة من روحه، ولأنّ قدرته هناك كقدرته هنا، وكقدرته في هذا النّوع الثّالث من المخلوقات.

أجواء الولادة

ثمّ نتابع هذه الآيات، لنطلّ على الولادة كيف حدثت وكيف هي أجواؤها، لأنّنا نريد الاحتفال بالسيّد المسيح في أجواء الولادة بالطريقة القرآنيّة، وهذا ما ينبغي للمسلمين إذا أرادوا أن يشاركوا المسيحيّين الاحتفال بميلاد السيّد المسيح، حيث عليهم أن يقرأوا "سورة مريم"، ليزدادوا وعياً في قدرة الله ولطفه ورحمته ورسالة السيّد المسيح، حتى لا تختلط عليهم الكلمات التي تنحرف بالعقيدة عن السيّد المسيح.

فكيف عاشت مريم(ع) أجواء الولادة؟ {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً}[12]، لقد انعزلت لتتعبَّد إلى الله، ولتتأمّل وتخلو بنفسها بعيداً من كلّ هذا اللّغو الذي يدور حولها في مجتمعها، لأنّ الإنسان عندما يعيش اللّغو الاجتماعي، فإنّه يشغله عن روحانيّته وتأمّلاته وصفاء فكره {فاتخذت من دونهم حجاباً} يعزلها عنهم حتى في الشّكل، فربّما جلست في الخيمة، أو وضعت أيّ حجاب آخر {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً}[13]. وكلمة "روح الله" يقال إنّها "جبرائيل"، ويقال إنّه خلق عظيم من الملائكة، ولا يهمّنا أن نحدِّد ذلك، ولكنّنا نفهم أنّه ملكٌ مزوَّد بميزة تختلف عن بقيّة الملائكة، حتى إنّ الله تحدّث عنه أنّه روحه، وهذه منزلة كبيرة.

وتصوَّروا هذه الشابَّة الطّاهرة العفيفة الّتي تعيش العفّة في معنى الإيمان والطّهر والصّفاء والنقاء.. تصوّرها وقد هجم عليها شابّ لا عهد لها به، قد تمثّل لها بشراً سويّاً، فلربّما جاء ليعتدي عليها {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ} أستجير بالله منك، فليس عندي من يحميني منك أنا الضّعيفة في جسدها، القويّة بالله {إِن كُنتَ تَقِيّاً}[14] إن كنتَ تخاف الله وتراقبه في كلّ ما تتحرّك به.

ولم يتركها في كلّ هذا القلق والخوف، وهنا كانت المفاجأة الكبرى {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ}، فلست بشراً {لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً}[15]، وأضحت المفاجأة أكبر {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} بالطريقة الشرعيّة، {وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً}[16] بالطريقة غير الشرعيّة، {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ}، فالمفاجآت إنما تكون في حديث الإنسان، وفيما يفعله الإنسان بالإنسان، ولكن عندما تكون القضيّة قدرة الله، فليس هناك مفاجآت، إنّه على كلّ شيء قدير {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[17].

{قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ}. ثمّ أراد أن يبيّن لها نوعيّة هذا الغلام، وأنّه مميّز {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً}[18].

{فَحَمَلَتْهُ}، وشعرت بالحمل {فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً}، ابتعدت عن أهلها، لأنّ المسألة محرجة، ولا تستطيع أن تواجه بها أهلها. وهنا، يدور جدل حول الوقت الّذي حملت به؛ هل هو تسع ساعات، أو يوم أو أكثر أو أقلّ. ولا نريد الدّخول في نقاش حول ذلك، لكنّ طبيعة الأمور تفرض أن يكون الحمل سريعاً، فلو كان طبيعيّاً، فإنّ أهلها سوف يفتقدونها. {فَأَجَاءهَا}، الفاء هنا تدلّ على الترتيب القريب، بعكس "ثمّ" الّتي تدلّ على الترتيب البعيد، {فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ} في مدى قريب جدّاً {إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ}، وكانت مستندةً إلى الجذع، فلو أردنا أن نصنع شجرة ميلاد، فينبغي أن تكون نخلة، لأنّها تعبّر عن الميلاد بحسب القرآن، لا الشّجرة المتعارفة.

وأدركها الضّعف البشريّ حيث مخاض وولادة، ولا نقول ضعف الأنثى، لأنّ الله اعتبر الضّعف خصوصيّة الإنسان {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً}[19]، ولم يقل (خلقت المرأة ضعيفة)، فلقد أدركها ضعف الإنسان الذي يواجه موقفاً صعباً لا يملك الخلاص منه ولا الابتعاد عنه. {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً}[20]، {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا}، لأنّها كانت على مرتفع، {أَلَّا تَحْزَنِي}، بل عليك أن تعيشي الفرح بدل الحزن، لأنّ تلك هي كرامة الله ولطفه ورعايته، وإنّ الذي رعاكِ في البداية سوف يرعاك في النّهاية، فلن يجعلك تقفين وحدكِ أمام هذه التّجربة {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً}[21] ينبوع ماء. {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً* فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً}، فإذا صحَّ أنَّ الولادة في كانون الأوّل، فأيُّ رطب على النّخل، وحتى لو كان هناك رطبٌ على النّخل، فكيف يمكن لهذه الإنسانة الضّعيفة أن تهزّ النّخلة على ضخامتها ليتساقط الرّطب؟ ولذلك فإنّ في نبع الماء الّذي جرى ولم يكن من قبل، وفي هزّ النّخلة والرّطب الجنيّ، معجزة، فكيف تواجه الموقف الصّعب؟!

صوم الصّمت

واجهته في صوم الصّمت كما أوحى الله لها بذلك {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي} أي بالإشارة {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً}[22]، فـــ {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ}، وفوجئوا بمريم الطّاهرة العفيفة تحمل ولداً {قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً}[23]، أي عظيماً {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً}[24]. وهنا كانت المفاجأة، {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} أن كلّموه. وظنّوا أنها تسخر منهم، فاشتدّ غضبهم، {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً}[25]. ولم يتركها عيسى تقف في هذا المأزق حيرى {قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً}[26]، {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً}، وكلمة "مباركاً" مفسَّرة بكلمات أهل البيت(ع): "نفّاعاً للناس" {أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً}[27]، بأنْ أعيش عبادة الرّوح والعطاء {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً}[28] في ممارساتي وأفعالي {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً}[29]، {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ}، وهذه هي صورته وشخصيّته، فهو نبيّ وليس إلهاً، ولم يتجسَّد الإله فيه، فليكن تصوّركم للسيّد المسيح بهذه الصّورة {قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ}[30]، {مَا كَانَ للهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ}، لأنّ الوالد ينطلق من حاجة إلى الامتداد في الحياة من خلال الولد، والله سبحانه هو الغنيّ الّذي يبدع الخلق كلّه بكلمته، {إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ}[31]، {إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ}[32]. ويبقى لعيسى هذا الشّعور العميق بعبوديّته لله، الذي يريد للنّاس أن يتمثّلوه معه في معنى الربوبيّة الشّامل، وهذا هو الصراط المستقيم الذي ينتهي بالإنسان إلى النّهايات السّعيدة في الدّنيا والآخرة.

وهذا هو عنوان عيسى(ع)، وهو السلام الذي يعيش في معناه الرّوحي الذي ابتدأ من حين ولادته لينتهي عندما يبعث حيّاً، وهذا هو الّذي ينبغي للمؤمن أن يفكّر فيه، ليعيش السّلام في فكره وعاطفته وحركته، من خلال انفتاحه على الله وعلى النّاس من خلال الله.

شخصيّة السيِّد المسيح(ع)

هذه هي صورة الولادة في حركيّتها التفصيليّة، ثم نرجع إلى شخصيّة السيّد المسيح(ع)، لنرى كيف يحدّثنا القرآن عنه:

{وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ}[33]، باعتبار أنّ التوراة والإنجيل مصداق الكتاب والوسيلة للحصول على الحكمة {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ}، في البداية ـــ كما كان رسول الله(ص) رسولاً إلى "أمّ القرى" ومن حولها، لأنّ الرسول حتى لو كانت رسالته للعالم، فإنّه ينطلق من موقع محدَّد ليركّز فيه رسالته، ثم ينفتح بعد ذلك على الآفاق البعيدة.

{أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ}، تدلُّ على أنّي ليستُ مجرّد إنسان ينطلق من ذاته، ولكنّي أنطلق من رسالة الله ورعايته وعنايته، في الطّاقات التي وهبها لي، ممّا يمكّنني من القيام بما لا يقوم به البشر من خلال قدراتهم الذّاتيّة {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ الله وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ الله وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ} في بيوتكم، أي أنّ الله أعطاني علم غيب ما عندكم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ* وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ}، لأنَّ الإنسان الذي يعيش معنى الإيمان بالله، لا بدَّ له من أن ينفتح على آيات الله في مواقع قدرته ومظاهر كرامته لرسله، فيفكّر في آيات الله بالطّريقة التي تقوده إلى الإيمان برسوله الّذي جرت الآيات على يديه {وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}، وهذا يعني أنَّ الرّسالات قد تغيِّر بعض الأحكام الّتي جعلها الله محدودةً بزمنٍ معيَّن {وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ الله وَأَطِيعُونِ}[34]، لأنّكم لا تطيعونني كشخص، ولكن تطيعون الله بطاعتي. {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى الله}، ولم يقل: مَن أنصاري؟! لأنّه لا يعيش ذاته، ولكنّه يعيش رسالته وعبوديّته لربّه، وهذا ما ينبغي لكلِّ رساليّ ولكلّ مبلّغ أن يطلب من الناس أن يكونوا أنصاراً له، بل أن يكونوا أنصاراً لله ولرسالته، فهذا هو إيحاء هذه الكلمات.

أنصار الله

ورأينا أنّ الحواريين في إيمانهم وروحانيّتهم وإخلاصهم، لم يقولوا له إنّا أنصارُك، ولكن {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ الله آمنّا باللهوَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ* رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ* وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله وَالله خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[35]، وهكذا ننتقل في تصوّر هذه الخصائص إلى قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}[36]، فآدم وُجد من خلال قبضة من الطّين، ونفخة من روح الله {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ}[37]، ونفخ الله في مريم من روحه، وهذا كناية عن قدرة الله سبحانه. ثمّ يحدّثنا الله عن الشخصيّة البشرية للسيّد المسيح: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِالله وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا الله إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ}، فلا حاجة به إلى الولد، لأنَّ مثل هذه الحاجة تنبثق من الفراغ {وَكَفَى بِالله وَكِيلاً}[38].

ويقول تعالى: {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ}، أي أنها بلغت الدرجة العليا في الصّدق {كانا يأكلان الطَّعامَ} كما يأكل البشر، فكيف يكونان آلِهَيْن؟ {انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}[39]. ويحدّثنا عمّا يتحدّث به اليهود عن موت السيّد المسيح وصلبه {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً}[40] لأنّهم ينسبون إليها الزنا {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ الله وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ}[41]، {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ} فهم لا يتحدّثون عن قناعة يقينيّة {إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً* بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً}[42].

مشهد القيامة

ويحدّثنا الله أيضاً عن حوار بين عيسى(ع) والله: {وإذْ قالَ اللهُ يَا عيسى ابنَ مريمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ الله}، والله يعلم أنّه لم يقل ذلك، لكنّه أراد أن يقيم الحجّة على لسان السيّد المسيح {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ* مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}[43]، والأمر إليك {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[44]، وفي نهاية المطاف {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ}[45].

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا} والنّداء إلينا ـــ أيّها الأحبّة ـــ {كُونوا أَنصَارَ الله} في حركتكم الفكريّة والعمليّة، فلا تكونوا أنصار الشّيطان والمستكبرين والمنحرفين والظّالمين {كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى الله قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ الله فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ}[46]، وسيؤيّدنا الله على عدوّنا، فننتصر عليه إذا نصرنا الله وكنّا من أنصاره.. وبهذا ـــ أيّها الأحبّة ـــ نستقبل ميلاد السيّد المسيح، بالوعي والانفتاح على الله ورسالته ورسالة الإسلام كلّه.

فكر وثقافة: ج2، المحاضرة السابعة والعشرون، بتاريخ: 22/12/1996.


[1] سورة آل عمران، الآيتان: 33 ـ 34.

[2] سورة آل عمران، الآية: 35ـ 36.

[3] سورة نوح، الآية: 17.

[4] سورة آل عمران، الآية: 37.

[5] سورة آل عمران، الآية: 38.

[6] سورة آل عمران، الآية: 42.

[7] سورة آل عمران، الآية: 43.

[8] سورة آل عمران، الآية: 44.

[9] سورة آل عمران، الآية: 45.

[10] سورة آل عمران، الآية: 46.

[11] سورة آل عمران، الآية: 46.

[12] سورة مريم، الآية: 16.

[13] سورة مريم، الآية: 17.

[14] سورة مريم، الآية: 18.

[15] سورة مريم، الآية: 19.

[16] سورة مريم، الآية 20.

[17] سورة يس، الآية: 82.

[18] سورة مريم، الآية: 21.

[19] سورة النساء، الآية: 28.

[20] سورة مريم، الآية: 23.

[21] سورة مريم، الآية: 24.

[22] سورة مريم، الآية 25ـ 26.

[23] سورة مريم، الآية: 27.

[24] سورة مريم، الآية: 28.

[25] سورة مريم، الآية: 29.

[26] سورة مريم، الآية: 30.

[27] سورة مريم، الآية: 31.

[28] سورة مريم، الآية: 32.

[29] سورة مريم، الآية: 33.

[30] سورة مريم، الآية: 34.

[31]سورة مريم، الآية: 35.

[32] سورة مريم، الآية: 36.

[33] سورة آل عمران، الآية: 48.

[34] سورة آل عمران، الآية: 49-50.

[35] سورة آل عمران، الآية: 52- 54.

[36] سورة آل عمران، الآية: 59.

[37] سورة ص، الآية: 71ـ 72.

[38] سورة النساء، الآية: 171.

[39] سورة المائدة، الآية 75.

[40] سورة النساء، الآية: 156.

[41] سورة النساء، الآية: 157.

[42] سورة النساء، الآيتان: 157 ـ 158.

[43] سورة المائدة، الآية: 116 ـ 117.

[44] سورة المائدة، الآية: 118.

[45] سورة الصف، الآية: 6.

[46] سورة الصف، الآية: 14.

بعد أيّام، تحلّ ذكرى ميلاد السيّد المسيح(ع)، فيما يعيش العالم هذه الذّكرى بعيداً من أجواء السيّد المسيح، لأنّ الأسلوب الذي يحتفل به الكثيرون من الناس، هو أسلوب أقرب إلى الوثنيّة منه إلى الرسالية والإيمان. ونحن نعرف أنّ الغرب قد أدخل الكثير من الأشكال الوثنيّة في تقاليد الواقع المسيحي، وهذا ما نلاحظه في أكثر من شكلٍ وأكثر من أسلوب، ونحن كمسلمين لا نفرّق بين أحد من رسل الله، ونعيش آفاق السيّد المسيح(ع) كما نعيش آفاق الأنبياء الآخرين، من خلال ما نعيشه من آفاق رسول الله(ص)، الذي جمع في شخصه كلّ خصائص الأنبياء، وفي رسالته كلّ عناصر الرسالات، وجمع في حركته كلّ الأساليب التي انطلق بها رسل الله، إنْ من خلال العناوين الكبرى الّتي أطلقها في الواقع وفي الحركة، وإن من خلال النّداءات التي نادى بها الإنسان في إنسانيّته، والمؤمن في إيمانه.

ونريد بهذه المناسبة أن نتابع السيّد المسيح(ع) من خلال القرآن الكريم، فهذه هي الصّورة الصّحيحة التي تنطلق من موقع العصمة، لأنّ القرآن هو الكتاب المعصوم الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه.

فكيف ولد السيّد المسيح؟ وما هي جذوره؟ وكيف انطلق؟ وما هي عناوينه؟ وما هي الصّفات التي تحدّث القرآن عنها، حتى يكون تصوّرنا عن السيّد المسيح(ع) تصوّراً قرآنيّاً، بعيداً ممّا حرّفه المحرّفون، أو وضعه الوضّاعون.

قصّة المسيح في القرآن 

في البداية، يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الله اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَالله سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[1]، فلقد بدأت القضيّة من جدّة عيسى(ع)؛ كيف كانت روحيّتها؟ وكيف كانت تطلّعاتها للجنين الرّاقد في أحشائها؟ وكيف كانت تفكّر؟ فهي من قوم عاشت الرّسالة في حياتهم من خلال اصطفاء الله لهم. ولذلك، لم تفكّر مادّياً، بل كانت تفكّر روحيّاً: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً}، خادماً للهيكل "بيت العبادة"، لأنني أريد يا ربّ ـــ كما عشتُ خدمتك في حياتي، وعاش أبي خدمة رسالتك، أن يكون ولدي خادماً لك في بيت العبادة، يخدم المؤمنين والعابدين {فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَالله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ}، فلم يستجب الله دعاءها، لا لأنّها بعيدة منه، ولكن لأنَّ هناك قضاءً إلهيّاً وحكمة إلهيّة في هذا الجنين الرّاقد في أعماقها، الّذي أعدّه الله ليكون مظهراً لقدرته.    

{وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى}. ولربّما كان المقصود بهذه المسألة ـــ من خلال سياق النّصّ، ليس تفضيل الذّكر على الأنثى من حيث الجنس، وإنّما من حيث الخدمة، إذ ليس الذّكر الّذي طلبته امرأة عمران الّذي يصلح لأن يكون خادماً لبيت العبادة، كالأنثى التي حرّم عليها أن تخدم في الهيكل، فلم تكن المسألة في مورد إعطاء حكم لتفضيل الذكر على الأنثى، إذ لا نجد في القرآن أثراً لذلك بالمعنى الذي يفضّل فيه إنسان في خصوصية إنسانيّته على إنسان آخر في خصائصه الإنسانيّة، فلربّما كان هذا تقريراً لقولها أو تقريراً للواقع أنّ أمنياتها لم تتحقّق، لأنّ الأنثى لا تصلح لذلك {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ}.      

المنبت الحسن

وتقبّلت قضاء الله وقدره واختيار الله لها، وبدأت تتحدَّث عن تطلّعاتها في هذه الأنثى {وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}[2]، فقد تتعرّض للكثير من حبائل الشّيطان وخطواته ووساوسه، وأنا أُريد ـــ يا ربّ ـــ أن تكون هذه الأنثى وذرّيتها بعيدين من الشّيطان وقريبين إليك، لأنّي يا ربّ أريد أن تكون كلّ سلسلة حياتي فيما أنتجت، كسلسلة حياتي فيما أسلفت في خدمتك، إن لم تكن في بيت العبادة، فلتكن خدمة في ساحة الحياة

{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً}، وهذا هو الإيحاء الإلهيّ الّذي يريدنا المولى أن نفكّر فيه، وأن نضع أولادنا في المنبت الحسن، لأنَّ مسألة الأرض التي تضع فيها ولدك، والبيئة الّتي يتحرّك فيها ولدك، والعلم الذي تعطيه ولدك، هو ما يمثّله النموّ الروحي الطبيعيّ لولدك. {وَالله أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً}[3]، فمن النّبات نبات حسن، ومنه نبات سيّئ، والإنسان لا بدَّ من أن يفكّر في إنبات ولده نباتاً حسناً، فلا يضعه في بيئة تضلّه، ولا في مدرسة تنحرف به عن الخطّ، ولا في برنامج يبتعد به عن الله. {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا}، هذا العبد الصّالح الذي هو من الأنبياء، من خلال ما تدلُّ عليه بعض الآيات القرآنيّة، هذا الذي حُرِمَ الولد، فكفلها كفالة الأب لابنته، وكانت مفاجأته وهو يرى هذه الإنسانة تنمو نموّاً روحيّاً لا مكانَ للشّيطان فيه، ولا مكان للشّهوات فيه.

{كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً} ناضجاً، طازجاً، ساخناً، كما لو كان ابن ساعته، وفوجئ زكريّا بأنّه لم يقدّم إليها طعاماً من بيته، فتساءل: {قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله}.

{إنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[4]، بالطريقة المألوفة وبالطّريقة غير المألوفة، ولمّا تقبّلها الله بقبولٍ حسنٍ وبشكلٍ مباشر، ميّزها من الأخريات من بنات جنسها، وكانت هذه هي المناسبة الّتي جعلت زكريّا يعيش قلق الحاجة إلى الولد.

{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ}[5]، بأن يعطيه ذريّة ليمتدّ فيها امتداداً يجعلهم كمثل هذه الإنسانة. ولكنّنا نريد أن نتابع مريم، لنعرف كيف أعدَّ الله عيسى بإعداد أمّه، كما أعدّ أمّه بإعداد جدّته، {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ الله اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ}[6]، وهذا الاصطفاء هو الاختيار، فلقد اختارها من بين نساء العالمين لتكون مظهراً لقدرته، وأمّاً لعيسى من دون أب. هذا هو معنى الاصطفاء فيما توحي به الكلمة (وطهّرك)، فكانت الطاهرة من كلّ دنس، والطّاهرة في عقلها وفي قلبها وجسدها.

{يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ}، أي تابعي عبادتك بالقنوت، {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ}[7]. ويحدّث الله نبيّه عن هذا بأنّه لم يسبق أنْ تحدّث به أحد للنبيّ(ص) ولقومه لأنّه من غيب الله، {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ}، أي يجرون القرعة بينهم {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}، لأنها كانت طفلة جميلة ذكيّة مهذّبة، فكلّهم كان يريد أن يحتضنها ليرعاها، لأنّها فقدت أمّها وأباها {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}[8] في أيّهم يحتضن هذه الطفلة المحبّبة.

البشارة بعيسى المسيح

ثم انطلقت الملائكة بحديثٍ آخر {إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ}، وبدأت الآيات تتحدَّث عن موقع هذا الإنسان، فهو وجيه في الدّنيا، من جهة أنّه يتحرّك في رسالة الله بالدّرجة التي يفتح فيها الدنيا على رسالة الله، ليكون وجيهاً في الآخرة، حيث يعطيه الله سبحانه وتعالى في الآخرة الدّرجات العليا {وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}[9]، الذين قرّبهم إليه من جهة إخلاصهم وجهادهم وروحانيتهم. وبذلك تنطلق المعجزة في بدايات طفولته {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً}، يكلّم الناس برسالة الله، {وَمِنَ الصَّالِحِينَ}[10].

وفوجئت مريم(ع) {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ}، لأنَّ قضيّة الولد تنطلق من الوضع الطبيعيّ الّذي قدّرته في ولادة النّاس {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ}، لا بطريقة شرعيّة ولا غير شرعيّة ممّا أنا بعيدة منه {قَالَ كَذَلِكِ الله يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ}[11]، فلقد قضى الله أمراً في آدم وفي أولاده، فإنّ العجائبيّة والمعجزة في خلق الإنسان بالطريقة الطبيعيّة هي في خلقه من طين، لأنَّ الّذي نفخ في الطّين من روحه، هو الّذي نفخ في النّطفة من روحه، ولأنّ قدرته هناك كقدرته هنا، وكقدرته في هذا النّوع الثّالث من المخلوقات.

أجواء الولادة

ثمّ نتابع هذه الآيات، لنطلّ على الولادة كيف حدثت وكيف هي أجواؤها، لأنّنا نريد الاحتفال بالسيّد المسيح في أجواء الولادة بالطريقة القرآنيّة، وهذا ما ينبغي للمسلمين إذا أرادوا أن يشاركوا المسيحيّين الاحتفال بميلاد السيّد المسيح، حيث عليهم أن يقرأوا "سورة مريم"، ليزدادوا وعياً في قدرة الله ولطفه ورحمته ورسالة السيّد المسيح، حتى لا تختلط عليهم الكلمات التي تنحرف بالعقيدة عن السيّد المسيح.

فكيف عاشت مريم(ع) أجواء الولادة؟ {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً}[12]، لقد انعزلت لتتعبَّد إلى الله، ولتتأمّل وتخلو بنفسها بعيداً من كلّ هذا اللّغو الذي يدور حولها في مجتمعها، لأنّ الإنسان عندما يعيش اللّغو الاجتماعي، فإنّه يشغله عن روحانيّته وتأمّلاته وصفاء فكره {فاتخذت من دونهم حجاباً} يعزلها عنهم حتى في الشّكل، فربّما جلست في الخيمة، أو وضعت أيّ حجاب آخر {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً}[13]. وكلمة "روح الله" يقال إنّها "جبرائيل"، ويقال إنّه خلق عظيم من الملائكة، ولا يهمّنا أن نحدِّد ذلك، ولكنّنا نفهم أنّه ملكٌ مزوَّد بميزة تختلف عن بقيّة الملائكة، حتى إنّ الله تحدّث عنه أنّه روحه، وهذه منزلة كبيرة.

وتصوَّروا هذه الشابَّة الطّاهرة العفيفة الّتي تعيش العفّة في معنى الإيمان والطّهر والصّفاء والنقاء.. تصوّرها وقد هجم عليها شابّ لا عهد لها به، قد تمثّل لها بشراً سويّاً، فلربّما جاء ليعتدي عليها {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ} أستجير بالله منك، فليس عندي من يحميني منك أنا الضّعيفة في جسدها، القويّة بالله {إِن كُنتَ تَقِيّاً}[14] إن كنتَ تخاف الله وتراقبه في كلّ ما تتحرّك به.

ولم يتركها في كلّ هذا القلق والخوف، وهنا كانت المفاجأة الكبرى {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ}، فلست بشراً {لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً}[15]، وأضحت المفاجأة أكبر {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} بالطريقة الشرعيّة، {وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً}[16] بالطريقة غير الشرعيّة، {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ}، فالمفاجآت إنما تكون في حديث الإنسان، وفيما يفعله الإنسان بالإنسان، ولكن عندما تكون القضيّة قدرة الله، فليس هناك مفاجآت، إنّه على كلّ شيء قدير {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[17].

{قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ}. ثمّ أراد أن يبيّن لها نوعيّة هذا الغلام، وأنّه مميّز {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً}[18].

{فَحَمَلَتْهُ}، وشعرت بالحمل {فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً}، ابتعدت عن أهلها، لأنّ المسألة محرجة، ولا تستطيع أن تواجه بها أهلها. وهنا، يدور جدل حول الوقت الّذي حملت به؛ هل هو تسع ساعات، أو يوم أو أكثر أو أقلّ. ولا نريد الدّخول في نقاش حول ذلك، لكنّ طبيعة الأمور تفرض أن يكون الحمل سريعاً، فلو كان طبيعيّاً، فإنّ أهلها سوف يفتقدونها. {فَأَجَاءهَا}، الفاء هنا تدلّ على الترتيب القريب، بعكس "ثمّ" الّتي تدلّ على الترتيب البعيد، {فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ} في مدى قريب جدّاً {إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ}، وكانت مستندةً إلى الجذع، فلو أردنا أن نصنع شجرة ميلاد، فينبغي أن تكون نخلة، لأنّها تعبّر عن الميلاد بحسب القرآن، لا الشّجرة المتعارفة.

وأدركها الضّعف البشريّ حيث مخاض وولادة، ولا نقول ضعف الأنثى، لأنّ الله اعتبر الضّعف خصوصيّة الإنسان {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً}[19]، ولم يقل (خلقت المرأة ضعيفة)، فلقد أدركها ضعف الإنسان الذي يواجه موقفاً صعباً لا يملك الخلاص منه ولا الابتعاد عنه. {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً}[20]، {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا}، لأنّها كانت على مرتفع، {أَلَّا تَحْزَنِي}، بل عليك أن تعيشي الفرح بدل الحزن، لأنّ تلك هي كرامة الله ولطفه ورعايته، وإنّ الذي رعاكِ في البداية سوف يرعاك في النّهاية، فلن يجعلك تقفين وحدكِ أمام هذه التّجربة {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً}[21] ينبوع ماء. {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً* فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً}، فإذا صحَّ أنَّ الولادة في كانون الأوّل، فأيُّ رطب على النّخل، وحتى لو كان هناك رطبٌ على النّخل، فكيف يمكن لهذه الإنسانة الضّعيفة أن تهزّ النّخلة على ضخامتها ليتساقط الرّطب؟ ولذلك فإنّ في نبع الماء الّذي جرى ولم يكن من قبل، وفي هزّ النّخلة والرّطب الجنيّ، معجزة، فكيف تواجه الموقف الصّعب؟!

صوم الصّمت

واجهته في صوم الصّمت كما أوحى الله لها بذلك {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي} أي بالإشارة {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً}[22]، فـــ {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ}، وفوجئوا بمريم الطّاهرة العفيفة تحمل ولداً {قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً}[23]، أي عظيماً {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً}[24]. وهنا كانت المفاجأة، {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} أن كلّموه. وظنّوا أنها تسخر منهم، فاشتدّ غضبهم، {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً}[25]. ولم يتركها عيسى تقف في هذا المأزق حيرى {قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً}[26]، {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً}، وكلمة "مباركاً" مفسَّرة بكلمات أهل البيت(ع): "نفّاعاً للناس" {أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً}[27]، بأنْ أعيش عبادة الرّوح والعطاء {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً}[28] في ممارساتي وأفعالي {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً}[29]، {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ}، وهذه هي صورته وشخصيّته، فهو نبيّ وليس إلهاً، ولم يتجسَّد الإله فيه، فليكن تصوّركم للسيّد المسيح بهذه الصّورة {قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ}[30]، {مَا كَانَ للهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ}، لأنّ الوالد ينطلق من حاجة إلى الامتداد في الحياة من خلال الولد، والله سبحانه هو الغنيّ الّذي يبدع الخلق كلّه بكلمته، {إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ}[31]، {إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ}[32]. ويبقى لعيسى هذا الشّعور العميق بعبوديّته لله، الذي يريد للنّاس أن يتمثّلوه معه في معنى الربوبيّة الشّامل، وهذا هو الصراط المستقيم الذي ينتهي بالإنسان إلى النّهايات السّعيدة في الدّنيا والآخرة.

وهذا هو عنوان عيسى(ع)، وهو السلام الذي يعيش في معناه الرّوحي الذي ابتدأ من حين ولادته لينتهي عندما يبعث حيّاً، وهذا هو الّذي ينبغي للمؤمن أن يفكّر فيه، ليعيش السّلام في فكره وعاطفته وحركته، من خلال انفتاحه على الله وعلى النّاس من خلال الله.

شخصيّة السيِّد المسيح(ع)

هذه هي صورة الولادة في حركيّتها التفصيليّة، ثم نرجع إلى شخصيّة السيّد المسيح(ع)، لنرى كيف يحدّثنا القرآن عنه:

{وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ}[33]، باعتبار أنّ التوراة والإنجيل مصداق الكتاب والوسيلة للحصول على الحكمة {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ}، في البداية ـــ كما كان رسول الله(ص) رسولاً إلى "أمّ القرى" ومن حولها، لأنّ الرسول حتى لو كانت رسالته للعالم، فإنّه ينطلق من موقع محدَّد ليركّز فيه رسالته، ثم ينفتح بعد ذلك على الآفاق البعيدة.

{أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ}، تدلُّ على أنّي ليستُ مجرّد إنسان ينطلق من ذاته، ولكنّي أنطلق من رسالة الله ورعايته وعنايته، في الطّاقات التي وهبها لي، ممّا يمكّنني من القيام بما لا يقوم به البشر من خلال قدراتهم الذّاتيّة {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ الله وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ الله وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ} في بيوتكم، أي أنّ الله أعطاني علم غيب ما عندكم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ* وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ}، لأنَّ الإنسان الذي يعيش معنى الإيمان بالله، لا بدَّ له من أن ينفتح على آيات الله في مواقع قدرته ومظاهر كرامته لرسله، فيفكّر في آيات الله بالطّريقة التي تقوده إلى الإيمان برسوله الّذي جرت الآيات على يديه {وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}، وهذا يعني أنَّ الرّسالات قد تغيِّر بعض الأحكام الّتي جعلها الله محدودةً بزمنٍ معيَّن {وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ الله وَأَطِيعُونِ}[34]، لأنّكم لا تطيعونني كشخص، ولكن تطيعون الله بطاعتي. {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى الله}، ولم يقل: مَن أنصاري؟! لأنّه لا يعيش ذاته، ولكنّه يعيش رسالته وعبوديّته لربّه، وهذا ما ينبغي لكلِّ رساليّ ولكلّ مبلّغ أن يطلب من الناس أن يكونوا أنصاراً له، بل أن يكونوا أنصاراً لله ولرسالته، فهذا هو إيحاء هذه الكلمات.

أنصار الله

ورأينا أنّ الحواريين في إيمانهم وروحانيّتهم وإخلاصهم، لم يقولوا له إنّا أنصارُك، ولكن {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ الله آمنّا باللهوَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ* رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ* وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله وَالله خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[35]، وهكذا ننتقل في تصوّر هذه الخصائص إلى قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}[36]، فآدم وُجد من خلال قبضة من الطّين، ونفخة من روح الله {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ}[37]، ونفخ الله في مريم من روحه، وهذا كناية عن قدرة الله سبحانه. ثمّ يحدّثنا الله عن الشخصيّة البشرية للسيّد المسيح: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِالله وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا الله إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ}، فلا حاجة به إلى الولد، لأنَّ مثل هذه الحاجة تنبثق من الفراغ {وَكَفَى بِالله وَكِيلاً}[38].

ويقول تعالى: {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ}، أي أنها بلغت الدرجة العليا في الصّدق {كانا يأكلان الطَّعامَ} كما يأكل البشر، فكيف يكونان آلِهَيْن؟ {انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}[39]. ويحدّثنا عمّا يتحدّث به اليهود عن موت السيّد المسيح وصلبه {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً}[40] لأنّهم ينسبون إليها الزنا {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ الله وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ}[41]، {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ} فهم لا يتحدّثون عن قناعة يقينيّة {إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً* بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً}[42].

مشهد القيامة

ويحدّثنا الله أيضاً عن حوار بين عيسى(ع) والله: {وإذْ قالَ اللهُ يَا عيسى ابنَ مريمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ الله}، والله يعلم أنّه لم يقل ذلك، لكنّه أراد أن يقيم الحجّة على لسان السيّد المسيح {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ* مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}[43]، والأمر إليك {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[44]، وفي نهاية المطاف {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ}[45].

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا} والنّداء إلينا ـــ أيّها الأحبّة ـــ {كُونوا أَنصَارَ الله} في حركتكم الفكريّة والعمليّة، فلا تكونوا أنصار الشّيطان والمستكبرين والمنحرفين والظّالمين {كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى الله قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ الله فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ}[46]، وسيؤيّدنا الله على عدوّنا، فننتصر عليه إذا نصرنا الله وكنّا من أنصاره.. وبهذا ـــ أيّها الأحبّة ـــ نستقبل ميلاد السيّد المسيح، بالوعي والانفتاح على الله ورسالته ورسالة الإسلام كلّه.

فكر وثقافة: ج2، المحاضرة السابعة والعشرون، بتاريخ: 22/12/1996.


[1] سورة آل عمران، الآيتان: 33 ـ 34.

[2] سورة آل عمران، الآية: 35ـ 36.

[3] سورة نوح، الآية: 17.

[4] سورة آل عمران، الآية: 37.

[5] سورة آل عمران، الآية: 38.

[6] سورة آل عمران، الآية: 42.

[7] سورة آل عمران، الآية: 43.

[8] سورة آل عمران، الآية: 44.

[9] سورة آل عمران، الآية: 45.

[10] سورة آل عمران، الآية: 46.

[11] سورة آل عمران، الآية: 46.

[12] سورة مريم، الآية: 16.

[13] سورة مريم، الآية: 17.

[14] سورة مريم، الآية: 18.

[15] سورة مريم، الآية: 19.

[16] سورة مريم، الآية 20.

[17] سورة يس، الآية: 82.

[18] سورة مريم، الآية: 21.

[19] سورة النساء، الآية: 28.

[20] سورة مريم، الآية: 23.

[21] سورة مريم، الآية: 24.

[22] سورة مريم، الآية 25ـ 26.

[23] سورة مريم، الآية: 27.

[24] سورة مريم، الآية: 28.

[25] سورة مريم، الآية: 29.

[26] سورة مريم، الآية: 30.

[27] سورة مريم، الآية: 31.

[28] سورة مريم، الآية: 32.

[29] سورة مريم، الآية: 33.

[30] سورة مريم، الآية: 34.

[31]سورة مريم، الآية: 35.

[32] سورة مريم، الآية: 36.

[33] سورة آل عمران، الآية: 48.

[34] سورة آل عمران، الآية: 49-50.

[35] سورة آل عمران، الآية: 52- 54.

[36] سورة آل عمران، الآية: 59.

[37] سورة ص، الآية: 71ـ 72.

[38] سورة النساء، الآية: 171.

[39] سورة المائدة، الآية 75.

[40] سورة النساء، الآية: 156.

[41] سورة النساء، الآية: 157.

[42] سورة النساء، الآيتان: 157 ـ 158.

[43] سورة المائدة، الآية: 116 ـ 117.

[44] سورة المائدة، الآية: 118.

[45] سورة الصف، الآية: 6.

[46] سورة الصف، الآية: 14.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية