كتابات
28/01/2018

الجدل الَّذي يرفضه الإسلام

الجدل الَّذي يرفضه الإسلام

قد نجد في القرآن الكريم ملامح الخطّ الذي يتجه إلى رفض الجدل، على أساس كونه فنّاً قائماً بذاته، يتحوّل محترفه إلى شخص جدلي، لا همّ له في المجال الفكري إلا أن يتغلّب على خصمه، أو أن يلفّ ويدور لإشغال الفراغ بمجادلات تُضيّع الوقت وتبتعد عن الهدف... لأن ذلك يساهم في تشويه الكيان الفكري للإنسان، بما يثيره في طريقة تفكيره من الابتعاد عن القضايا البديهية في الحياة، ليبقى مشدوداً إلى الافتراضات البعيدة، التي تغذّي الجدل وتحجب عن الإنسان رؤية الواقع.

وقد صوّر القرآن الكريم لنا ذلك كله في أكثر من آية، في نطاق حديثه عن الكافرين الذين انطلقوا بالجدل، في طريق إضاعة الفكرة وإنكار الحق... ما يجعلهم ينكرون الحق وهم يرونه، ويهربون من الواقع وهم يعيشون فيه. فقد حدّثنا عن المشركين في مكّة، عندما استمعوا إلى الآيات القرآنية التي تتحدّث عن عيسى بن مريم(ع) ، كيف كان ردُّ فعلهم على ذلك، وكيف واجهوه، وذلك في قوله تعالى:

{وَلَمَّا ضُرِبَ ابنُ مَريمَ مَثَلاً إِذَا قَومُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ* وَقَالوا ءَأَلهَتُنَا خَير أَم هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَومٌ خَصِمُونَ* إِن هُوَ إِلاَّ عَبدُ أَنعمْنَا عَلَيهِ وَجَعَلنَاهُ مَثَلاً لِبَني إِسرائيلَ}(الزخرف:57-59).

فقد حدّثهم النبي محمد(ص) عن عيسى بن مريم، وما أفاضه الله عليه من نعمه وكرامته، في الإطار الإسلامي الذي وضعه فيه، وهو أنه عبد الله ورسوله، ولكنهم أعرضوا عن هذه الحقيقة؛ واتجهوا بالحديث عنه من خلال الفكرة المنحرفة ـ التي يعتقدها النصارى ـ المتمثلة بالاعتقاد بألوهيته؛ فأثاروا التساؤل عن المفاضلة بينه وبين ما يعبدون، على أساس أن الفكرتين تتجهان ـ معاً ـ إلى خلاف ما يدعو إليه النبي محمد(ص) من عبادة الله الواحد الأحد، فكيف يتبنّاه، ويرفض ما يعتقدونه؟

ويُعلّق القرآن الكريم على ذلك، بأن هؤلاء لم يسلكوا الطريق الصحيح في الحوار، الذي يرتكز على مناقشة الفكرة من خلال ما يثيره صاحبها، لا من خلال ما يثيره الآخرون ممن يختلف معهم في طبيعة الفكرة، لأن ذلك لا يلزمه من قريب أو من بعيد؛ بل حاولوا أن يسلكوا طريق الجدل المحض، الذي يدفع الإنسان إلى الهروب من الموقف الحقّ إلى موقف آخر، يثير الضباب فيه حول الحق، بالأساليب المختلفة من المغالطة وأمثالها، ليهاجموه من خلال ذلك. ولو كانوا يريدون الحقيقة ـ فيما يجادلون به ـ لكان عليهم أن ينفتحوا على الصورة الصحيحة في إطارها الصحيح، ولوصلوا إلى حقيقة الإيمان التي قرّرها القرآن في حقيقة عيسى(ع) {إِن هُوَ إِلاَّ عَبدُ أَنعمْنَا عَلَيهِ وَجَعَلنَاهُ مَثَلاً لِبَني إِسرائيلَ}(الزخرف: 59).

ولا يقتصر الرّفض لهذا الاتجاه في الجدل على أساليب الكافرين، بل يتمثّل في بعض الأساليب التي كان يلجأ إليها بعض المؤمنين بالنبي وبرسالته، ممن لم ينفتحوا على المسؤوليّة العمليّة إزاء قضايا الإيمان ومعارك الحقّ، فيحاولون التخلّص من مسؤوليتهم بالأساليب الجدلية، التي تستند إلى الهروب من مواجهة الحقيقة وجهاً لوجه، وذلك في قوله تعالى ـ في حديثه عن المسلمين الذين كانوا يرفضون الخروج للحرب مع النبيّ(ص)، باحثين عن المبررات والأعذار التي تُسوّغ لهم ذلك: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيتِكَ بِالحَقْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ المُؤمِنِينَ لَكَارِهُونَ* يُجَادِلُونَكَ في الحَقِ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى المَوتِ وَهُم يَنظُرُونْ}(الأنفال: 5-6).

ويمتدّ القرآن الكريم في أكثر من آية، ليتحدّث عن كثير من المجادلين في الله وفي القرآن وفي الرّسالة، وينتقد مواقفهم المنحرفة، لأنهم يوجِّهون الجدل في اتجاه الباطل وإنكار الحقّ الواضح، من دون بيّنة ولا برهان؛ وإنما هو الكلام الذي يلفّ ويدور دون أساس أو غاية. ويصوّر لنا في بعض آياته، أنّ ذلك من صنع الشياطين، الذين يوحون إلى أوليائهم بذلك، كما جاء في الآية الكريمة في قوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَولِيَائِهِم لِيُجَادِلُوكُم وَإِن أَطَعتُمُوهُمْ إِنَّكُم لَمُشرِكُونَ}(الأنعام: 121}.

ثم نواجه ـ في هذا الإطار ـ الآيات القرآنية التي تصوّر لنا الاتجاهات الجدليّة التي قد تنتهي إلى توظيف الجدل في خدمة الخيانة والخائنين، وذلك في حديثه عن قصّة أولئك النفر من المسلمين الذين أرادوا إلصاق تهمة السّرقة ببعض اليهود، ليرفعوها عن أنفسهم، ظنّاً منهم أنَّ يهوديته سوف تكون أساساً صالحاً للحكم عليه، بغضّ النّظر عن قضية الحقّ والباطل، ولذلك انطلق الجدل ـ آنذاك ـ في هذا السبيل الذي يراد منه تبرئة المجرم وتجريم البريء، وذلك هو قوله تعالى: {وَلاَ تُجَادِل عَنِ الذينَ يَختانُونَ أَنفُسَهُم إِنَّ الله لا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً* يَستَخفُونَ مِنَ النَّاس وَلاَ يَستَخفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُم إِذ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ القولِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً* هَا أَنتُمْ هَؤلاءِ جادلتُم عَنْهُم فِي الحَيوةِ الدُّنيا فَمَن يُجَادِلُ الله عَنهُمْ يَوْمَ القِيامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيهِم وَكِيلاً}(النّساء: 107-109).

وفي ضوء هذه الآيات الكريمة، نعرف موقف الإسلام من مهنة المحاماة، الّتي قد تنطلق في الدّفاع عن الجريمة من قِبَل المحامي، لأجل الكسب المادّيّ؛ فنلاحظ حرمة ذلك، إلّا إذا كانت تستهدف الدّفاع عن صاحب الحقّ، أو تخليص البريء من الظّلم، والحكم عليه بغير الحقّ.

[العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض)/ من كتاب "الحوار في القرآن"، ص 40- 43].

قد نجد في القرآن الكريم ملامح الخطّ الذي يتجه إلى رفض الجدل، على أساس كونه فنّاً قائماً بذاته، يتحوّل محترفه إلى شخص جدلي، لا همّ له في المجال الفكري إلا أن يتغلّب على خصمه، أو أن يلفّ ويدور لإشغال الفراغ بمجادلات تُضيّع الوقت وتبتعد عن الهدف... لأن ذلك يساهم في تشويه الكيان الفكري للإنسان، بما يثيره في طريقة تفكيره من الابتعاد عن القضايا البديهية في الحياة، ليبقى مشدوداً إلى الافتراضات البعيدة، التي تغذّي الجدل وتحجب عن الإنسان رؤية الواقع.

وقد صوّر القرآن الكريم لنا ذلك كله في أكثر من آية، في نطاق حديثه عن الكافرين الذين انطلقوا بالجدل، في طريق إضاعة الفكرة وإنكار الحق... ما يجعلهم ينكرون الحق وهم يرونه، ويهربون من الواقع وهم يعيشون فيه. فقد حدّثنا عن المشركين في مكّة، عندما استمعوا إلى الآيات القرآنية التي تتحدّث عن عيسى بن مريم(ع) ، كيف كان ردُّ فعلهم على ذلك، وكيف واجهوه، وذلك في قوله تعالى:

{وَلَمَّا ضُرِبَ ابنُ مَريمَ مَثَلاً إِذَا قَومُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ* وَقَالوا ءَأَلهَتُنَا خَير أَم هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَومٌ خَصِمُونَ* إِن هُوَ إِلاَّ عَبدُ أَنعمْنَا عَلَيهِ وَجَعَلنَاهُ مَثَلاً لِبَني إِسرائيلَ}(الزخرف:57-59).

فقد حدّثهم النبي محمد(ص) عن عيسى بن مريم، وما أفاضه الله عليه من نعمه وكرامته، في الإطار الإسلامي الذي وضعه فيه، وهو أنه عبد الله ورسوله، ولكنهم أعرضوا عن هذه الحقيقة؛ واتجهوا بالحديث عنه من خلال الفكرة المنحرفة ـ التي يعتقدها النصارى ـ المتمثلة بالاعتقاد بألوهيته؛ فأثاروا التساؤل عن المفاضلة بينه وبين ما يعبدون، على أساس أن الفكرتين تتجهان ـ معاً ـ إلى خلاف ما يدعو إليه النبي محمد(ص) من عبادة الله الواحد الأحد، فكيف يتبنّاه، ويرفض ما يعتقدونه؟

ويُعلّق القرآن الكريم على ذلك، بأن هؤلاء لم يسلكوا الطريق الصحيح في الحوار، الذي يرتكز على مناقشة الفكرة من خلال ما يثيره صاحبها، لا من خلال ما يثيره الآخرون ممن يختلف معهم في طبيعة الفكرة، لأن ذلك لا يلزمه من قريب أو من بعيد؛ بل حاولوا أن يسلكوا طريق الجدل المحض، الذي يدفع الإنسان إلى الهروب من الموقف الحقّ إلى موقف آخر، يثير الضباب فيه حول الحق، بالأساليب المختلفة من المغالطة وأمثالها، ليهاجموه من خلال ذلك. ولو كانوا يريدون الحقيقة ـ فيما يجادلون به ـ لكان عليهم أن ينفتحوا على الصورة الصحيحة في إطارها الصحيح، ولوصلوا إلى حقيقة الإيمان التي قرّرها القرآن في حقيقة عيسى(ع) {إِن هُوَ إِلاَّ عَبدُ أَنعمْنَا عَلَيهِ وَجَعَلنَاهُ مَثَلاً لِبَني إِسرائيلَ}(الزخرف: 59).

ولا يقتصر الرّفض لهذا الاتجاه في الجدل على أساليب الكافرين، بل يتمثّل في بعض الأساليب التي كان يلجأ إليها بعض المؤمنين بالنبي وبرسالته، ممن لم ينفتحوا على المسؤوليّة العمليّة إزاء قضايا الإيمان ومعارك الحقّ، فيحاولون التخلّص من مسؤوليتهم بالأساليب الجدلية، التي تستند إلى الهروب من مواجهة الحقيقة وجهاً لوجه، وذلك في قوله تعالى ـ في حديثه عن المسلمين الذين كانوا يرفضون الخروج للحرب مع النبيّ(ص)، باحثين عن المبررات والأعذار التي تُسوّغ لهم ذلك: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيتِكَ بِالحَقْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ المُؤمِنِينَ لَكَارِهُونَ* يُجَادِلُونَكَ في الحَقِ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى المَوتِ وَهُم يَنظُرُونْ}(الأنفال: 5-6).

ويمتدّ القرآن الكريم في أكثر من آية، ليتحدّث عن كثير من المجادلين في الله وفي القرآن وفي الرّسالة، وينتقد مواقفهم المنحرفة، لأنهم يوجِّهون الجدل في اتجاه الباطل وإنكار الحقّ الواضح، من دون بيّنة ولا برهان؛ وإنما هو الكلام الذي يلفّ ويدور دون أساس أو غاية. ويصوّر لنا في بعض آياته، أنّ ذلك من صنع الشياطين، الذين يوحون إلى أوليائهم بذلك، كما جاء في الآية الكريمة في قوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَولِيَائِهِم لِيُجَادِلُوكُم وَإِن أَطَعتُمُوهُمْ إِنَّكُم لَمُشرِكُونَ}(الأنعام: 121}.

ثم نواجه ـ في هذا الإطار ـ الآيات القرآنية التي تصوّر لنا الاتجاهات الجدليّة التي قد تنتهي إلى توظيف الجدل في خدمة الخيانة والخائنين، وذلك في حديثه عن قصّة أولئك النفر من المسلمين الذين أرادوا إلصاق تهمة السّرقة ببعض اليهود، ليرفعوها عن أنفسهم، ظنّاً منهم أنَّ يهوديته سوف تكون أساساً صالحاً للحكم عليه، بغضّ النّظر عن قضية الحقّ والباطل، ولذلك انطلق الجدل ـ آنذاك ـ في هذا السبيل الذي يراد منه تبرئة المجرم وتجريم البريء، وذلك هو قوله تعالى: {وَلاَ تُجَادِل عَنِ الذينَ يَختانُونَ أَنفُسَهُم إِنَّ الله لا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً* يَستَخفُونَ مِنَ النَّاس وَلاَ يَستَخفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُم إِذ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ القولِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً* هَا أَنتُمْ هَؤلاءِ جادلتُم عَنْهُم فِي الحَيوةِ الدُّنيا فَمَن يُجَادِلُ الله عَنهُمْ يَوْمَ القِيامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيهِم وَكِيلاً}(النّساء: 107-109).

وفي ضوء هذه الآيات الكريمة، نعرف موقف الإسلام من مهنة المحاماة، الّتي قد تنطلق في الدّفاع عن الجريمة من قِبَل المحامي، لأجل الكسب المادّيّ؛ فنلاحظ حرمة ذلك، إلّا إذا كانت تستهدف الدّفاع عن صاحب الحقّ، أو تخليص البريء من الظّلم، والحكم عليه بغير الحقّ.

[العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض)/ من كتاب "الحوار في القرآن"، ص 40- 43].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية