بتاريخ 15/4/2009، أجرى مدير مدرسة الإنجيلية الوطنية (فرع النبطية)، وعدد من الأساتذة والطلّاب، حواراً مع سماحة العلّامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض) حول جملة من القضايا العامّة، وقد استهلّ سماحته الحوار بمقدّمة تحدّث فيها عن القيم الإسلامية المسيحية المشتركة، وعن الالتقاء على محبة الله، مشيراً إلى أنّ مشكلة الأديان هي في حركة بعض المتدينين. قال سماحته:
قيم مشتركة
"كنّا دائماً نقول إنَّ هناك بين المسلمين والمسيحيِّين دائرتين: دائرة اللاّهوت، وهذا ما لا يفهمه أكثر المسيحيّين وأكثر المسلمين، ودائرة القِيَم الأخلاقيَّة والروحيّة، وهذه تمثِّل الحياة الاجتماعية التعايشيَّة بين الناس بشكل عام. ولذلك، نرى أنَّ القِيَم الإسلاميّة والمسيحيّة هي قِيَم مشتركة، بمعنى أنّه ليس لدينا صدقٌ إسلاميٌّ يختلف عن صدقٍ مسيحيّ، أو أمانة إسلاميّة تختلف عن أمانة مسيحيّة... إلى آخر القائمة في الجوانب القيميَّة الأخلاقيّة.
القيم الإسلاميّة والمسيحيّة هي قيم مشتركة، بمعنى أنه ليس لدينا صدق إسلامي يختلف عن صدق مسيحي ، ولذلك علينا أن نركّز في تعاليمنا الدينيّة على محبّة الله؛ لأنّ المسلمين والمسيحيّين، وإن اختلفوا في بعض خصوصيّات التّوحيد؛ فالمسيحيُّ يقول: بسم الآب والابن والروح القدس إلهاً واحداً، والمسلم يقول: {قُلْ هوَ اللهُ أحَد* اللهُ الصَّمَد* لمْ يَلِد ولمْ يُولَد * ولمْ يَكُنْ لهُ كفواً أحَد}، والمسيحيّون يقولون بأنّ اللهَ تجسَّدَ في السيِّدِ المسيح، ويقولون: ربّنا يسوع المسيح، ويتبنّون نظريّة الفداء، أمّا المسلمون، فيعتبرون السيد المسيح نبياً من الأنبياء... ولكن على الرّغم من كلّ ذلك، فإنّهم جميعاً يلتقون على محبّة الله سبحانه.
ونحن يمكننا أن نفهِّم الطلاب الخطوطَ العامَّة التي يتديَّنون بها بشكلٍ مشترك، ونفهِّمهم القِيَم الأخلاقيّة والروحيّة التي هي قيم مشتركة، والتي تمثِّل أسس العيش المشترك. حتّى إنّني أقول أكثر من هذا، بأنَّ الكلمة السَّواء التي ركَّز عليها القرآن في قوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}[آل عمران: 64]، أنّ هذه الكلمة هي القضايا الإنسانية التي يمكن أن نلتقي عليها ونتّفق حولها.
العصبيَّة هي المشكلة
المشكلة ليست في أسس الأديان أو في خطوطها، وإنما هي في العصبيَّة، لأنها تغلق على الإنسان عقله وفكره، وتمنعه من الانفتاح على الفكر الآخر.
إنَّ مشكلة الأديان ـ في حركة المتديّنين ـ ليست في أسس الأديان أو في خطوطها، وإنّما في العصبيَّة؛ لأنَّها تغلق على الإنسان عقله وفكره، وتمنعه من الانفتاح على الفكر الآخر، وتجعله يعيش في زنزانة دائرته الخاصَّة. ويعرِّف أحد أئمّة أهل البيت(ع)، وهو الإمام عليّ بن الحسين(ع) العصبيّة فيقول: "إنَّ العصبيّة التي يأثم عليها صاحبُها، أن يرى الرَّجل شِرارَ قومه خيراً من خيارِ قومٍ آخرين، وليس من العصبيَّة أن يحبّ الرّجل قومه، ولكن من العصبيَّة أن يُعينَ قومَه على الظّلم". أنت عربيّ تحبُّ العَرَب، وأنتَ لبنانيّ تحبّ اللبنانيّين، لكن عندما تصل المحبّة إلى مستوى المبادئ، فالانتماء يتأخّر لتتقدَّم المبادئ.
نحن في لبنان استبعدنا التربية القائمة على الجانب القيمي والرّوحي والأخلاقيّ. إنَّ مشكلتنا في لبنان، وخصوصاً في المسار السياسي، أنّنا نعلِّم النّاس كيف يحقد بعضهم على بعض، وكيف يتعصّب بعضهم ضدّ بعض، مع أنّ المسيحيَّة تقول: "إنَّ الله محبّة"، والمسلمون يقولون: "لا يؤمن أحدكم حتّى يحبَّ لأخيه ما يُحبّ لنفسه ويكرَه له ما يكره لها"، وقد قالها الإمام عليّ(ع): "النّاس صنفان؛ إمَّا أخ لك في الدِّين، أو نظير لك في الخلق"، ولكنَّ الناس من الطرفين اعتادوا على أن يتركوا كلّ هذه التعاليم في المساجد والكنائس. ونحن من خلال هذه العصبية، خرّبنا لبنان الإشعاع الفكريّ، ولبنان الانفتاح والحريَّة، واستبعدنا التربية القائمة على الجانب القيَمي والرّوحي والأخلاقي.
التّربية على القيم
أنا أرى أنَّ من الواجب أن تتكامل جميع المدارس بعضها مع بعض، في تأكيد الجانب القيميّ الرّسالي، وحتّى في حال وجود تنافس، وخصوصاً عندما تحاول أيّ مدرسة تطوير مناهجها ونُظُمها وعطاءاتها أكثر من الأخرى؛ لأنَّ التنافس شيء، والصِّراع شيءٌ آخر، ونحن نرفض الصِّراع، وخصوصاً أنّنا مسؤولون عن تربية جيل، ولا يجوز أن نربِّيه على الصِّراع. نعَم، علينا أن نربِّيه على التنافس من أجل التطوُّر، وقد ورد في القرآن الكريم: {وقلْ ربِّ زِدْني علماً} [طه:114]؛ لأنّ الإنسان عندما يصل إلى درجةٍ منَ العِلمِ، فعليه ألا يقف عندها، بل عليه أن يسعى ليصل إلى الدّرجات الأعلى".
ونستعرض بعض الأسئلة التي وجِّهت إلى سماحته، وما أفاده في هذا الإطار:
التّعويل على الشّباب اللّبناني!
س: هل يعوَّل على الشّباب اللّبناني في بناء الوطن؟
ج: الشّباب اللّبنانيّ شبابٌ حيّ، وعندما تصدر النّتائج السنويّة على صعيد الامتحانات، نجدُ أنّ هناك تقدُّماً علميّاً عند الكثير من الشباب. ونحن نقول لهؤلاء الشّباب، أن لا يعيشوا العصبيّة الطائفيّة أو العصبيّة الحزبيّة، وأن لا يستعبدوا أنفسهم لأيّ زعيم، حتّى لرجلِ الدين، فرجالُ الدِّين بشرٌ مثل بقيّة البشر، ونحن لسنا عبيداً لهم؛ هم مثقَّفون ثقافةً دينيّةً، فإذا كانوا أُمَناء على هذه الثقافة في سلوكيَّاتهم وعملهم، نتّبعهم كما نتَّبعُ أهل الخِبرة والأمناء. ولذا، أنا أدعو إلى نقد رجال الدِّين. المهمّ أن تحافظوا على حريّة فكركم، وأن تعوِّدوا أنفسكم على التفكير في كلِّ شيءٍ، ولا يجوز أن نقولَ للآخر: فكِّر لنا، إنّما نقول له: فكِّر معنا لنفكِّر معك، ولا يجوز أن ننحني بإرادتنا وفكرنا للآخرين، بل علينا أن نفكِّر لنتعلَّم؛ وربَّما يكون تفكيرُنا محدوداً، فنتعلم مِمَّن يملكون الفكر، وعندما يُقدّمون فكرهم نفكِّر فيه ونناقشه، وعندما يتعلَّم الشباب أن يُفكِّروا بحريّة، يمكنهم صنعُ لبنان المستقلّ.
هل يصبح لبنان وطناً؟!
س: نَصَّ اتفاق الطّائف على إلغاء الطائفيّة السياسيّة ليقوم كيانُ لبنان، فهل تعتقدون أنه، وفي ظلِّ هذه التعدُّديّةِ الطائفيّة، سيصبح لبنان وطناً؟
ج: إنّ لبنانَ وطنٌ، واتّفاق الطّائف لم يكنْ حلاًّ لإنشاءِ وطن، وإنّما كانَ لإنهاء الحرب الأهليَّة، وهو اتّفاقٌ انطلق من خلال وضعٍ دوليّ وإقليميّ، وبقرارٍ أميركيٍّ، وعقالٍ عربيٍّ، وطربوشٍ لبنانيّ.
أمّا بالنِّسبة إلى إلغاءِ الطّائفيّةِ السياسيّةِ، فهذا موجودٌ في القانون اللّبنانيّ، لكنّ المجلسَ النيابيَّ يُبعِدهُ؛ لأنّ الجميع لا يرضى به.
أنسنة الوطن
س: كيف يمكن أن نبني وطناً يُفكِّرُ ويُنتِجُ ويُقاوِمُ؟ وما الكلمة التي توجِّهونها إلى مدارس لبنان وطلاّبه في هذا الظّرف العصيب؟
ج: أنا أقول إنّ علينا أنْ نُؤَنسِنَ الوطن؛ أن نجعلَ الوطن إنساناً، فقيمةُ الوطن في إنسانه، وقيمةُ الإنسان في وطنه، هي بمقدار ما يُحقِّق للنّاس الذين يعيشون فيه الحياة الكريمة، وهنا أستشهدُ بقولٍ للإمام عليٍّ(ع): "ليسَ بلدٌ أولى بكَ من بلدٍ، خيرُ البلادِ ما حملك". فقيمةُ الوطنِ أن يحمي الإنسان، وحريّة الوطنِ هي حرّية الإنسان، وغنى الوطن هو غنى الإنسان.
على جيل الشباب، وخصوصاً المتعلّم، أن يتحمّل مسؤوليّة بناء المستقبل، ويتعلّم كيف يستطيع أن يملأ الحاضر بالعناصر التي تؤكّد المستقبل. لذلك نقول، إنَّ مشكلةَ الطائفيّة السياسيّة هي أنّ أغلب السياسيّين اللبنانيّين لا يريدون إلغاءَ الطائفيّة، والمسيحيّون يعتبرونَ أنّ المسلمينَ أكثر عدداً، فإذا أُلغيت الطائفيّة، سيُصبحُ الحُكم في أيدي المسلمين على أساس الديمقراطيّة العدديَّة، والغريب هو منطق البعض، إذ يتحدّثون عن ديمقراطيّة توافقيّة يجب أن تحكم لبنان، وفي الوقت نفسه، يتكلّمون عن أكثريّة وأقليّة؛ فهم يتكلّمون شيئاً ويقرّرون شيئاً آخر. ونحنُ نقولُ إنَّ على جيل الشّباب، وخصوصاً الجيل المتعلّم، أن يتحمّل مسؤوليّة بناء المستقبل، أن لا ينظر إلى الماضي، بل أن يتعلّم كيف يستطيع أن يملأ الحاضر بالعناصر التي تؤكِّد المستقبل.
ما مدى صحّة نظريّة داروين؟!
س: سماحة السيّد، هل هناك نظريّات دَحضت نظرية داروين التي مفادها أنَّ الإنسان أصلُه قردٌ ثمَّ تطوَّرَ ليصبحَ إنساناً سويّاً؟
ج: هناك ضعفٌ في نظريّة داروين؛ لأنّه اعتمد على بعض الحفريّات المحدودة، ولم يرَ العالم كلّه، إضافةً إلى أنّ ما اكتُشف في الغرب من حفريّات بعد داروين، يثبت أنّه كان هناك إنسان. ولذلك ليست المسألة مسألة الردّ عليه، لأنَّ أساس نظريّته محلّ مناقشة، لكنّنا نتساءل: إذا كان الإنسان أصله قردٌ، فلماذا وقف التطوُّر على ذاك الزّمان؟! بمعنى أنّه إذا كانت نظريّة النّشوء والارتقاء تقول إنَّ الإنسان كان قرداً ثم تطوّر، فلماذا وقفَ التطوّر، والتطوّر قانونٌ طبيعيٌّ؟ لذلك نقول إنَّ هذه النظريّة ليس لها أساسٌ علميٌّ، وإن كانت هناك حسابات منطلقة من بعض التجارب المحدودة عند داروين.