يركّز الدين على بناء وعي الإنسان لنفسه في تاريخ الوجود منذ بداية خلقه، فليس الإنسان شيئاً ضائعاً حائراً في ضبابيّة وجوده، بل هو وجود يملك تاريخاً ممتدّاً في الماضي، فهو جزء من مسيرة إنسانيّة كبرى تؤثّر فيه، وتصنع له ذاكرة تاريخيّة تحدِّد له إرثه الإنسانيّ منها.
الدّين والدّور الشّموليّ
وفي ضوء هذا، فإنَّ الدِّين يحدِّد للإنسان وظائفه الفكريّة والعمليّة، بحيث يستشعر بأنّه جزء من النّظام الكونيّ، في وجوده الّذي يقف بحساب ويتحرّك بحساب، وفي وعيه لنفسه ولغيره وللحياة من حوله، وفي الترابط الوجوديّ بالإنسان الآخر في القضايا التي تتوقّف عليها المسؤوليّات الاجتماعيّة.
وبذلك، لا يبدو الاجتماع الإنساني في هذا الخطّ شيئاً حائراً ضائعاً في فكر التّجريد، بل يتحوّل إلى كائنٍ حيّ متفاعل مترابط مفتوح على مسؤوليّة الإنسان في وظيفته الاجتماعية في صنع التاريخ، وفي إدارة الحياة في عمليّة انفتاح وتكامل والتزام.
ومن خلال هذا العرض، نخرج بنتيجة عمليّة، وهي شموليّة الدّور الديني الفاعل في الاجتماع الإنساني لجميع نواحي الحياة، في السياسة والاقتصاد والاجتماع، من ناحية علاقة هذه العناوين بالقيم الرّوحيّة والأخلاقيّة، والمعايير الإنسانيّة والوظائف الاجتماعيّة، باعتبار أنَّ الإيمان بالله في وعي الإنسان لمسؤوليّته أمامه، يمتدّ في حياة الإنسان عبر علاقته بنفسه وبالآخرين في مختلف القضايا الحيويّة.
وهذا ما نلاحظه في بعض الأدعية المأثورة الّتي يطلب المؤمن فيها من ربِّه أن يقيه معصية ظلمه للآخر، بالقوّة ذاتها التي يطلب فيها أن يقيه من ظلم الآخر له: "اللّهمّ فكما كرّهت لي أن أُظْلَم، فقِني من أن أظلِم"، ما يوحي بأنَّ الإحساس الدّيني، ينفتح على الآخر في كلّ القضايا الحيويّة المتّصلة بسلوكه معه، من موقع خوفه من الله ومحبّته له ومسؤوليّته أمامه.
فليست المسألة في ابتعاده عن الانحراف مسألة مصلحة شخصيّة أو حالة طارئة، بل هي مسألة ضمير ديني يتغذّى من القيم التي تجعل من سلامة علاقته بالآخر وسيلةً من وسائل سلامة مصيره عند الله، لتكون في مستوى الأهميّة الكبرى في حركة وجوده.
ويبقى للحريّة الفرديّة والاجتماعيّة في المسألة الدينيّة دورها الفاعل في الاجتماع الإنساني، من خلال المبدأ الديني الإنساني الّذي يؤكّد أن لا سلطة لإنسان على إنسان إلّا من خلال الحقوق التي قرّرها الله للإنسان في علاقته بالإنسان الآخر، أو من خلال التزامات الإنسان بتعهّداته، مما يلزم به نفسه مع الله أو الإنسان الآخر.
هل يمنع الدِّين من التَّغيير؟!
في المقابل، ثمة من يعتبر أنّ الدين بفعل ثباته، يتحوّل إلى عنصر يحافظ على الأوضاع القائمة، بما يؤمِّن مصالح أصحاب الامتيازات، ويمنع قوى الاحتجاج من أن تتطوَّر وتصبح من قوى التَّغيير الاجتماعيّ، فلا يملك المحرومون عندها حرية الحركيَّة وفاعليَّة الاحتجاج اللَّتين تتطوَّران وتنضجان عمليّة الوعي الحركي الّذي يطلق الطّاقات ويدفع إلى التّغيير.
ولكنَّ هذا الأمر ليس دقيقاً، لأنَّ الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر فريضة تندرج في إطار الوظيفة الدينيَّة للمؤمن، والتي تمثّل التزاماً دينيّاً للفرد والمجتمع، بحيث يعتبر إهماله معصية دينيّة كما هي المعصية الأخرى في إهمال الواجبات العباديَّة.
إنَّ المضمون الدّيني يقف بقوَّة ليوجِّه المؤمن إلى أن يعيش في هاجس الملاحقة لكلِّ تفاصيل الواقع ومفرداته، بحيث يعيش حالة القلق الإيجابي تجاه القضايا الكبرى أو القضايا الجزئيّة، ليرصد الضّعف هنا والقوّة هناك، والانحراف في هذا الجانب والاستقامة في ذلك، ما يجعل من هذا الإنسان الفرد والمجتمع إنساناً يزرع وينمّي بذرة الاحتجاج وحركيّة الثورة، ويعمل على إنضاج قوى التّغيير وتطويرها، من خلال المسؤوليّة الدينيّة، حتى تساهم في تبديل النظام الاجتماعي نحو الأفضل.
إنَّ الدين قد يكون ثابتاً في خطوطه العقيدية والشرعيّة، ولكنّه متحرّك في فاعليته الاجتماعية، على مستوى واقع التطبيق العملي، في موضوع الاستقامة والانحراف، فهو يدعو إلى التغيير الداخلي للوصول إلى التّغيير الخارجي، بحيث يدفع الإنسان إلى ثورة على ذاته لتغيير محتواه النفسي الدّاخلي، الذي يتمثّل في فكره وخطّه العملي، ويدعو إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حركة الواقع الخارجي، كما في قوله تعالى: {ولتكُن منكُم أمةٌ يدعون إلى الخيْر ويأمرونَ بالمعروف وينهوْنَ عن المنكر وأولئك هم المفلحون}[آل عمران: 104].
وقد جاء في آية أخرى أنّ هاتين النقطتين تمثّلان أساس القيمة في الأمَّة: {كُنتُم خيرَ أمَّةٍ أُخرِجَت للناس تأمرون بالمعروف وتنهَوْنَ عن المنكر وتؤمنون بالله}[آل عمران: 110].
وفي سياق ذلك، لا يمكن أن تصدّق المقولة الماركسية حول الدّين بأنه أفيون الشعوب، أو أنه مجموعة من المنظومات القيميّة التي تمنع الصراع البنّاء، وتحدّ من التّجديد والثورة، لأننا نرى أن الدين يمثل عنصراً حركياً فاعلاً في الثّورة على الظلم في الداخل، وعلى الاستكبار في الخارج، فمواجهة الظلم والاستكبار قضيّة عميقة الصِّلة بالالتزام الديني، حتى إنَّ القيمة الدينية ترى في الحياد بين العدل والظلم، وبين المستكبرين والمستضعفين، قيمة سلبيّة.[العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض)/ كتاب "الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل"، ص 6-9].