كتابات
20/02/2018

إعجاز القرآن

إعجاز القرآن

 معنى الإعجاز

قد ذكر للإعجاز في اللّغة عدّة معان: الفوت. وجدان العجز. إحداثه كالتّعجيز. فيقال: أعجزه الأمر الفلاني، أي فاته، ويقال: أعجزت زيداً أي وجدته عاجزاً، أو جعلته عاجزاً.

وهو في الاصطلاح، أن يأتي المدَّعي لمنصبٍ من المناصب الإلهيَّة بما يخرق نواميس الطبيعة ويعجز عنه غيره شاهداً على صدق دعواه.

وإنما يكون المعجز شاهداً على صدق ذلك المدَّعي، إذا أمكن أن يكون صادقاً في تلك الدَّعوى. وأمَّا إذا امتنع صدقه في دعواه بحكم العقل، أو بحكم النّقل الثَّابت عن نبيّ، أو إمام معلوم العصمة، فلا يكون ذلك شاهداً على الصِّدق، ولا يسمَّى معجزاً في الاصطلاح، وإن عجز البشر عن أمثاله:

مثال الأوَّل: ما إذا ادَّعى أحد أنّه إله، فإنَّ هذه الدّعوى يستحيل أن تكون صادقة بحكم العقل، للبراهين الصّحيحة الدالّة على استحالة ذلك.

ومثال الثّاني: ما إذا ادَّعى أحد النبوَّة بعد نبيّ الإسلام، فإنَّ هذه الدّعوى كاذبة قطعاً، بحكم النّقل المقطوع بثبوته الوارد عن نبيِّ الإسلام، وعن خلفائه المعصومين، بأن نبوَّته خاتمة النبوَّات، وإذا كانت الدَّعوى باطلة قطعاً، فماذا يفيد الشاهد إذا أقامه المدّعي؟ ولا يجب على الله جلّ شأنه أن يبطل ذلك بعد حكم العقل باستحالة دعواه، أو شهادة النّقل ببطلانها.

وقد يدّعي أحد منصباً إلهياً ثم يأتي بشيء يعجز عنه غيره من البشر، ويكون ذلك الشّيء شاهداً على كذب ذلك المدَّعي، كما يروى أنّ مسيلمة تفل في بئر قليلة الماء ليكثر ماؤها، فغار جميع ما فيها من الماء، وأنّه أمرّ يده على رؤوس صبيان بني حنيفة وحنكهم، فأصاب القرع كلّ صبيّ مسح رأسه، ولثغ كلّ صبي حنكه. فإذا أتى المدَّعي بمثل هذا الشّاهد، لا يجب على الله أن يبطله، فإن في هذا كفاية لإبطال دعواه، ولا يسمى ذلك معجزاً في الاصطلاح.

وليس من الإعجاز المصطلح عليه ما يظهره الساحر والمشعوذ، أو العالم ببعض العلوم النظرية الدّقيقة، وإن أتى بشيء عنه غيره، ولا يجب على الله إبطاله إذا علم استناده في عمله إلى أمر طبيعيّ من سحر، أو شعبذة، أو نحو ذلك، وإن ادَّعى ذلك الشخص منصباً إلهيّاً، وقد أتى بذلك الفعل شاهداً على صدقه، فإنَّ العلوم النظرية الدّقيقة لها قواعد معلومة عند أهلها، وتلك القواعد لا بدّ من أن توصل إلى نتائجها، وإن احتاجت إلى دقّة في التّطبيق. وعلى هذا القياس، تخرج غرائب علم الطبّ المنوطة بطبايع الأشياء، وإن كانت خفيّة على عامّة الناس، وبل وإن كانت خفيّة على الأطباء أنفسهم.

وليس من القبيح أن يختصّ الله أحداً من خلقه بمعرفة شيء من تلك الأشياء، وإن كانت دقيقة وبعيدة عن متناول أيدي عامّة النّاس، ولكنّ القبيح أن يغري الجاهل بجهله، وأن يجري المعجز على يد الكاذب، فيضلّ النّاس عن طريق الهدى.

لا بدَّ للنبيّ من إقامة المعجز

تكليف عامّة البشر واجب على الله سبحانه، وهذا الحكم قطعيّ قد ثبت بالبراهين الصحيحة، والأدلّة العقلية الواضحة، فإنهم محتاجون إلى التّكليف في طريق تكاملهم، وحصولهم على السّعادة الكبرى، والتجارة الرابحة. فإذا لم يكلفهم الله سبحانه، فإمّا أن يكون ذلك لعدم علمه بحاجتهم إلى التّكليف، وهذا جهل يتنزّه عنه الحقّ تعالى، وإمّا لأنّ الله أراد حجبهم عن الوصول إلى كمالاتهم، وهذا بخل يستحيل على الجواد المطلق، وإمّا لأنّه أراد تكليفهم فلم يمكنه ذلك، وهو عجز يمتنع على القادر المطلق. وإذاً، فلا بدّ من تكليف البشر، ومن الضّروريّ أن التكليف يحتاج إلى مبلغ من نوع البشر يوقفهم على خفيّ التكليف وجليه: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ}.

ومن الضروريّ أيضاً أنّ السفارة الإلهية من المناصب العظيمة التي يكثر لها المدَّعون، ويرغب في الحصول عليها الراغبون، ونتيجه هذا، أن يشتبه الصّادق بالكاذب، ويختلط المضلّ بالهادي. وإذاً، فلا بدّ لمدّعي السّفارة أن يقيم شاهداً واضحاً يدلّ على صدقه في الدّعوى، وأمانته في التبليغ، ولا يكون هذا الشّاهد من الأفعال العادية التي يمكن غيره أن يأتي بنظيرها، فينحصر الطريق بما يخرق النواميس الطبيعيّة.

وإنما يكون الإعجاز دليلاً على صدق المدَّعي، لأنّ المعجز فيه خرق للنّواميس الطبيعية، فلا يمكن أن يقع من أحد إلّا بعناية من الله تعالى، وإقدار منه، فلو كان مدَّعي النبوّة كاذباً في دعواه، كان إقداره على المعجز من قبل الله تعالى إغراءً بالجهل وإشادة بالباطل، وذلك محال على الحكيم تعالى. فإذا ظهرت المعجزة على يده، كانت دالّةً على صدقه، وكاشفةً عن رضا الحقّ سبحانه بنبوّته.

وما ذكرناه قاعدة مطّردة يجري عليها العقلاء من الناس فيما بشبه هذه الأمور، ولا يشكّون فيها أبداً، فإذا ادّعى أحد من الناس سفارة عن ملك من الملوك في أمور تختصّ برعيته، كان من الواجب عليه أوّلاً أن يقيم على دعواه دليلاً يعضدها، حين تشكّ الرعيّة في صدقه، ولا بدّ من أن يكون ذلك الدّليل في غاية الوضوح، فإذا قال لهم ذلك السّفير: الشّاهد على صدقي أنّ الملك غداً سيحيّيني بتحيته الخاصّة التي يحيي بها سفراءه الآخرين. فإذا علم الملك ما جرى بين السفير وبين الرعيّة، ثم حيّاه في الوقت المعين بتلك التحية، كان فعل الملك هذا تصديقاً للمدعي في السفارة، ولا يرتاب العقلاء في ذلك، لأن الملك القادر المحافظ على مصالح رعيّته، يقبح عليه أن يصدق هذا المدّعي إذا كان كاذباً، لانه يريد إفساد الرعيّة.

وإذا كان هذا الفعل قبيحاً من سائر العقلاء، كان محالاً على الحكيم المطلق، وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى بقوله في كتابه الكريم: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ}.

والمراد من الآية الكريمة، أنّ محمّداً الذي أثبتنا نبوَّته، وأظهرنا المعجزة لتصديقه، لا يمكن أن يتقوَّل علينا بعض الأقاويل، ولو صنع ذلك، لأخذنا منه باليمين، ولقطعنا منه الوتين، فإن سكوتنا عن هذه الأقاويل إمضاء منّا لها، وإدخال للباطل في شريعة الهدى، فيجب علينا حفظ الشّريعة في مرحلة البقاء، كما وجب علينا في مرحلة الحدوث.

ولكنّ دلالة المعجز على صدق مدّعي النبوّة متوقفة على القول بأن العقل يحكم بالحسن والقبح. أمّا الأشاعرة الذين ينكرون هذا القول، ويمنعون حكم العقل بذلك، فلا بدّ لهم من سدّ باب التصديق بالنبوّة. وهذا أحد مفاسد هذا القول، وإنما لزم من قولهم هذا سدّ باب التّصديق بالنبوَّة، لأن المعجز إنما يكون دليلاً على صدق النبوَّة إذا قبح في العقل أن يظهر المعجز على يد الكاذب، وإذا لم يحكم العقل بذلك، لم يستطع أحد أن يميِّز بين الصّادق والكاذب.

 وقد أجاب الفضل بن روزبهان عن هذا الإشكال، بأنَّ فعل القبيح وإن كان ممكناً على الله تعالى، ولكنَّ عادة الله قد جرت على تخصيص المعجزة بالصَّادق، فلا تظهر معجزة على يد الكاذب، ولا يلزم سدّ باب التَّصديق بالنبوَّة على قول الأشعريّين. وهذا الجواب بيِّن الضَّعف، متفكِّك العرى.

أوّلًا: إنّ عادة الله التي يخبر عنها ابن روزبهان، ليست من الأمور التي تدرَك بالحسّ، ويقع عليها السّمع والبصر، فينحصر طريق العلم بها بالعقل، وإذا امتنع على العقل أن يحكم بالحسن والقبح ـ كما يراه الأشعري ـ لم يمكن لأحد أن يعلم باستقرار هذه العادة لله تعالى.

ثانياً: إنّ إثبات هذه العادة يتوقّف على تصديق الأنبياء السابقين الذين جاؤوا بالمعجزات، حتى نعلم أنّ عادة الله قد استقرّت على تخصيص المعجزة بالصّادق. أمّا المنكرون لتلك النبوّات، أو المشكّكون فيها، فلا طريق لهم إلى إثبات هذه العادة الّتي يدّعيها ابن روزبهان، فلا تقوم عليهم الحجّة بالمعجزة.

ثالثاً: إذا تساوى الفعل والترك في نظر العقل، ولم يحكم في ذلك بقبح ولا حسن، فأيّ مانع يمنع الله أن يغيّر عادته، وهو القادر المطلق الّذي لا يسأل عمّا يفعل، فيظهر المعجزة على يد الكاذب؟!

رابعاً: إنّ العادة من الأمور الحادثة التي تحصل من تكرر العمل، وهو يحتاج إلى مضي زمان. وعلى هذا، فما هي الحجّة على ثبوت النبوّة الأولى الثابتة قبل أن تستقرّ هذه العادة؟ وسنتعرّض لأقوال الأشعريّين فيما يأتي، ونوضح وجوه فسادها...

*المرجع الإمام السيّد أبو القاسم الخوئي(قده)/ من كتاب "البيان في تفسير القرآن"، ص 31-40.

 معنى الإعجاز

قد ذكر للإعجاز في اللّغة عدّة معان: الفوت. وجدان العجز. إحداثه كالتّعجيز. فيقال: أعجزه الأمر الفلاني، أي فاته، ويقال: أعجزت زيداً أي وجدته عاجزاً، أو جعلته عاجزاً.

وهو في الاصطلاح، أن يأتي المدَّعي لمنصبٍ من المناصب الإلهيَّة بما يخرق نواميس الطبيعة ويعجز عنه غيره شاهداً على صدق دعواه.

وإنما يكون المعجز شاهداً على صدق ذلك المدَّعي، إذا أمكن أن يكون صادقاً في تلك الدَّعوى. وأمَّا إذا امتنع صدقه في دعواه بحكم العقل، أو بحكم النّقل الثَّابت عن نبيّ، أو إمام معلوم العصمة، فلا يكون ذلك شاهداً على الصِّدق، ولا يسمَّى معجزاً في الاصطلاح، وإن عجز البشر عن أمثاله:

مثال الأوَّل: ما إذا ادَّعى أحد أنّه إله، فإنَّ هذه الدّعوى يستحيل أن تكون صادقة بحكم العقل، للبراهين الصّحيحة الدالّة على استحالة ذلك.

ومثال الثّاني: ما إذا ادَّعى أحد النبوَّة بعد نبيّ الإسلام، فإنَّ هذه الدّعوى كاذبة قطعاً، بحكم النّقل المقطوع بثبوته الوارد عن نبيِّ الإسلام، وعن خلفائه المعصومين، بأن نبوَّته خاتمة النبوَّات، وإذا كانت الدَّعوى باطلة قطعاً، فماذا يفيد الشاهد إذا أقامه المدّعي؟ ولا يجب على الله جلّ شأنه أن يبطل ذلك بعد حكم العقل باستحالة دعواه، أو شهادة النّقل ببطلانها.

وقد يدّعي أحد منصباً إلهياً ثم يأتي بشيء يعجز عنه غيره من البشر، ويكون ذلك الشّيء شاهداً على كذب ذلك المدَّعي، كما يروى أنّ مسيلمة تفل في بئر قليلة الماء ليكثر ماؤها، فغار جميع ما فيها من الماء، وأنّه أمرّ يده على رؤوس صبيان بني حنيفة وحنكهم، فأصاب القرع كلّ صبيّ مسح رأسه، ولثغ كلّ صبي حنكه. فإذا أتى المدَّعي بمثل هذا الشّاهد، لا يجب على الله أن يبطله، فإن في هذا كفاية لإبطال دعواه، ولا يسمى ذلك معجزاً في الاصطلاح.

وليس من الإعجاز المصطلح عليه ما يظهره الساحر والمشعوذ، أو العالم ببعض العلوم النظرية الدّقيقة، وإن أتى بشيء عنه غيره، ولا يجب على الله إبطاله إذا علم استناده في عمله إلى أمر طبيعيّ من سحر، أو شعبذة، أو نحو ذلك، وإن ادَّعى ذلك الشخص منصباً إلهيّاً، وقد أتى بذلك الفعل شاهداً على صدقه، فإنَّ العلوم النظرية الدّقيقة لها قواعد معلومة عند أهلها، وتلك القواعد لا بدّ من أن توصل إلى نتائجها، وإن احتاجت إلى دقّة في التّطبيق. وعلى هذا القياس، تخرج غرائب علم الطبّ المنوطة بطبايع الأشياء، وإن كانت خفيّة على عامّة الناس، وبل وإن كانت خفيّة على الأطباء أنفسهم.

وليس من القبيح أن يختصّ الله أحداً من خلقه بمعرفة شيء من تلك الأشياء، وإن كانت دقيقة وبعيدة عن متناول أيدي عامّة النّاس، ولكنّ القبيح أن يغري الجاهل بجهله، وأن يجري المعجز على يد الكاذب، فيضلّ النّاس عن طريق الهدى.

لا بدَّ للنبيّ من إقامة المعجز

تكليف عامّة البشر واجب على الله سبحانه، وهذا الحكم قطعيّ قد ثبت بالبراهين الصحيحة، والأدلّة العقلية الواضحة، فإنهم محتاجون إلى التّكليف في طريق تكاملهم، وحصولهم على السّعادة الكبرى، والتجارة الرابحة. فإذا لم يكلفهم الله سبحانه، فإمّا أن يكون ذلك لعدم علمه بحاجتهم إلى التّكليف، وهذا جهل يتنزّه عنه الحقّ تعالى، وإمّا لأنّ الله أراد حجبهم عن الوصول إلى كمالاتهم، وهذا بخل يستحيل على الجواد المطلق، وإمّا لأنّه أراد تكليفهم فلم يمكنه ذلك، وهو عجز يمتنع على القادر المطلق. وإذاً، فلا بدّ من تكليف البشر، ومن الضّروريّ أن التكليف يحتاج إلى مبلغ من نوع البشر يوقفهم على خفيّ التكليف وجليه: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ}.

ومن الضروريّ أيضاً أنّ السفارة الإلهية من المناصب العظيمة التي يكثر لها المدَّعون، ويرغب في الحصول عليها الراغبون، ونتيجه هذا، أن يشتبه الصّادق بالكاذب، ويختلط المضلّ بالهادي. وإذاً، فلا بدّ لمدّعي السّفارة أن يقيم شاهداً واضحاً يدلّ على صدقه في الدّعوى، وأمانته في التبليغ، ولا يكون هذا الشّاهد من الأفعال العادية التي يمكن غيره أن يأتي بنظيرها، فينحصر الطريق بما يخرق النواميس الطبيعيّة.

وإنما يكون الإعجاز دليلاً على صدق المدَّعي، لأنّ المعجز فيه خرق للنّواميس الطبيعية، فلا يمكن أن يقع من أحد إلّا بعناية من الله تعالى، وإقدار منه، فلو كان مدَّعي النبوّة كاذباً في دعواه، كان إقداره على المعجز من قبل الله تعالى إغراءً بالجهل وإشادة بالباطل، وذلك محال على الحكيم تعالى. فإذا ظهرت المعجزة على يده، كانت دالّةً على صدقه، وكاشفةً عن رضا الحقّ سبحانه بنبوّته.

وما ذكرناه قاعدة مطّردة يجري عليها العقلاء من الناس فيما بشبه هذه الأمور، ولا يشكّون فيها أبداً، فإذا ادّعى أحد من الناس سفارة عن ملك من الملوك في أمور تختصّ برعيته، كان من الواجب عليه أوّلاً أن يقيم على دعواه دليلاً يعضدها، حين تشكّ الرعيّة في صدقه، ولا بدّ من أن يكون ذلك الدّليل في غاية الوضوح، فإذا قال لهم ذلك السّفير: الشّاهد على صدقي أنّ الملك غداً سيحيّيني بتحيته الخاصّة التي يحيي بها سفراءه الآخرين. فإذا علم الملك ما جرى بين السفير وبين الرعيّة، ثم حيّاه في الوقت المعين بتلك التحية، كان فعل الملك هذا تصديقاً للمدعي في السفارة، ولا يرتاب العقلاء في ذلك، لأن الملك القادر المحافظ على مصالح رعيّته، يقبح عليه أن يصدق هذا المدّعي إذا كان كاذباً، لانه يريد إفساد الرعيّة.

وإذا كان هذا الفعل قبيحاً من سائر العقلاء، كان محالاً على الحكيم المطلق، وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى بقوله في كتابه الكريم: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ}.

والمراد من الآية الكريمة، أنّ محمّداً الذي أثبتنا نبوَّته، وأظهرنا المعجزة لتصديقه، لا يمكن أن يتقوَّل علينا بعض الأقاويل، ولو صنع ذلك، لأخذنا منه باليمين، ولقطعنا منه الوتين، فإن سكوتنا عن هذه الأقاويل إمضاء منّا لها، وإدخال للباطل في شريعة الهدى، فيجب علينا حفظ الشّريعة في مرحلة البقاء، كما وجب علينا في مرحلة الحدوث.

ولكنّ دلالة المعجز على صدق مدّعي النبوّة متوقفة على القول بأن العقل يحكم بالحسن والقبح. أمّا الأشاعرة الذين ينكرون هذا القول، ويمنعون حكم العقل بذلك، فلا بدّ لهم من سدّ باب التصديق بالنبوّة. وهذا أحد مفاسد هذا القول، وإنما لزم من قولهم هذا سدّ باب التّصديق بالنبوَّة، لأن المعجز إنما يكون دليلاً على صدق النبوَّة إذا قبح في العقل أن يظهر المعجز على يد الكاذب، وإذا لم يحكم العقل بذلك، لم يستطع أحد أن يميِّز بين الصّادق والكاذب.

 وقد أجاب الفضل بن روزبهان عن هذا الإشكال، بأنَّ فعل القبيح وإن كان ممكناً على الله تعالى، ولكنَّ عادة الله قد جرت على تخصيص المعجزة بالصَّادق، فلا تظهر معجزة على يد الكاذب، ولا يلزم سدّ باب التَّصديق بالنبوَّة على قول الأشعريّين. وهذا الجواب بيِّن الضَّعف، متفكِّك العرى.

أوّلًا: إنّ عادة الله التي يخبر عنها ابن روزبهان، ليست من الأمور التي تدرَك بالحسّ، ويقع عليها السّمع والبصر، فينحصر طريق العلم بها بالعقل، وإذا امتنع على العقل أن يحكم بالحسن والقبح ـ كما يراه الأشعري ـ لم يمكن لأحد أن يعلم باستقرار هذه العادة لله تعالى.

ثانياً: إنّ إثبات هذه العادة يتوقّف على تصديق الأنبياء السابقين الذين جاؤوا بالمعجزات، حتى نعلم أنّ عادة الله قد استقرّت على تخصيص المعجزة بالصّادق. أمّا المنكرون لتلك النبوّات، أو المشكّكون فيها، فلا طريق لهم إلى إثبات هذه العادة الّتي يدّعيها ابن روزبهان، فلا تقوم عليهم الحجّة بالمعجزة.

ثالثاً: إذا تساوى الفعل والترك في نظر العقل، ولم يحكم في ذلك بقبح ولا حسن، فأيّ مانع يمنع الله أن يغيّر عادته، وهو القادر المطلق الّذي لا يسأل عمّا يفعل، فيظهر المعجزة على يد الكاذب؟!

رابعاً: إنّ العادة من الأمور الحادثة التي تحصل من تكرر العمل، وهو يحتاج إلى مضي زمان. وعلى هذا، فما هي الحجّة على ثبوت النبوّة الأولى الثابتة قبل أن تستقرّ هذه العادة؟ وسنتعرّض لأقوال الأشعريّين فيما يأتي، ونوضح وجوه فسادها...

*المرجع الإمام السيّد أبو القاسم الخوئي(قده)/ من كتاب "البيان في تفسير القرآن"، ص 31-40.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية