كتابات
21/02/2018

عوامل تمزّق المسلمين

عوامل تمزّق المسلمين

في دراستنا الحاليّة لواقع المسلمين، نلاحظ أنَّ العلاقة التي تشدّ المسلمين إلى بعضهم البعض، ليست بالمستوى الذي تتمثّل فيه الرابطة الوثيقة في وجودهم كأُمّة، فلا نجد أمامنا إلاَّ بعضاً من المشاعر العاطفية المغلّفة بضباب كثيف من الأفكار المضطربة المتنوّعة، التي قد نلمحها في بعض الهزّات السياسية والإنسانية في حياة بعض الشعوب الإسلامية، ثمّ لا شيء بعد ذلك، إلاَّ بعض الاحتجاجات الطارئة والانفعالات الهادرة، التي سرعان ما تتلاشى صرخاتها في الهواء. ويتساءل الباحث، وهو يرصد هذه الظاهرة القلقة في حياة المسلمين، عن العوامل المؤثّرة في ذلك.

قد يفضّل البعض أن يُرجع ذلك إلى ضعف روح الإسلام في نفوس المسلمين، الأمر الذي جعلهم يبتعدون عن الشّعور العميق بالأسس الفكرية والروحية والشعورية التي توحّدهم وتخلق في داخلهم الإحساس بعمق الوحدة المصيرية التي تشدّهم إلى الواقع. ثمّ يضيف هذا البعض إلى ذلك، أنَّ الحلّ الوحيد يكون بالعمل على إعادة الإسلام إلى وعي المسلمين فكراً وعاطفة وسلوكاً، وإعادة المسلمين إلى الإسلام.

وإنّنا إذ نتوقَّف عند هذا الخطّ في عرض المشكلة ومعالجتها، قد نوافق على طبيعة الفكرة، ولكنّنا لا ننسجم مع الطريقة السهلة المبسَّطة لأسلوب الطرح والعلاج، إذ إنَّ مواجهة المشاكل بهذه الطريقة، تبعدنا عن الدراسة الواعية للجذور العميقة التي ترتبط بها المشاكل، وتبعدنا ـــ في الوقت نفسه ـــ عن فهم الواقع الموضوعي في نطاق الظروف الطبيعية المحيطة.

ولعلّ الكثيرين منّا لايزالون يعالجون القضايا المعقّدة بهذا اللّون من التبسيط والسهولة، حتّى يُخَيَّل للآخرين أنَّ البعد عن الشعور العميق بوحدة المسلمين، لا تمثّل مشكلة في حساب الواقع، وإنَّما تمثّل شبح مشكلة، ما يبعدنا عن الشعور بالخطر، وبالتالي عن التعامل مع الواقع من موقع وعي الخطورة.

حواجز تعمّق الفواصل بين المسلمين

إنَّنا نحاول هنا الإشارة إلى بعض العوامل والمؤثّرات الطبيعيّة التي أسهمت في تمزّق المسلمين، وخلقت في داخلهم الحواجز النفسية والفكرية التي تعمّق الفواصل بينهم، ذلك أنَّ المسلمين قد ورثوا من التاريخ الكثير من الخلافات المذهبية المتمحورة حول عناوين وقضايا عدّة، لعلّ أبرزها ما له صلة بشؤون الخلافة والإمامة، وبشؤون الفقه والشريعة، وبقضايا الفلسفة والكلام، وبجوانب الحكم والسياسة العامّة. وقد كان لهذه الخلافات التاريخيّة دور كبير في إثارة الحقد والبغضاء والعداوة، وفي تفجير الحروب، وفي إهراق الدّماء البريئة الطاهرة. وربّما كان البعض من هؤلاء الذين يعيشون هذه الخلافات، ممّن يدفعه الإخلاص للفكرة الخطأ إلى القتال باسم القداسة والتديُّن، لغفلته عن طبيعة الخطأ في فكرته، وربّما كان البعض منهم يقاتل باسم المنافع والمغانم بعيداً عن أيّ ارتباط بالحقّ أو بالإسلام، ولكنّه يستغلّهما من أجل مآربه، كما روي عن الإمام عليّ(ع) ـــ وهو يشير إلى الموقف من الخوارج في جانب، وإلى الموقف من معاوية في جانبٍ آخر ـــ أنَّه قال: "لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس مَنْ طلب الحقّ فأخطأه، كَمَنْ طلب الباطل فأدركه".

وفي كلتا الحالتين، كانت الخلافات تتّجه إلى العنف الجسدي والفكري والكلامي انطلاقاً من المواقف المخلصة للخطأ ظنّاً أنَّه الحقّ، أو من المواقف المشدودة للأطماع والنزوات الشخصية السائرة في اتّجاه الباطل.

وقد أدّى الفهم الخاطئ للحديث النبويّ دوره الكبير عندما تمّ توظيفه في إضفاء صيغة القداسة على ما يختلفون فيه، فقد شَعَرَ الحاكمون وأتباعهم والنافذون من الشخصيات الذين يرعون هذا الخلاف، أنَّ قدسيّة الخلاف تفرض وجود شرعيّة دينيّة لما يختلفون حوله من أشخاص، وما يفيضون فيه من قضايا، لذا كان لا بدَّ من وضع الأحاديث على لسان محمّد(ص) في مختلف هذه الأمور، ما أوجد في نفوس السّاذجين والبسطاء من المسلمين بعداً جديداً للقضية، يجعل الاندفاع في هذا السبيل ـــ الذي يسَّروا طريقه ـــ شأناً دينياً مقدَّساً، ويجعل من التضحية في هذا الاتّجاه هدفاً شرعياً عظيماً، ولا بدَّ لهذا كلّه من أن يثير الحماس في نفوس هؤلاء وأولئك، حتّى يدفعهم إلى السّير في الخطوات والمواقف الحادّة التي تغري بالقتل والقتال.

وسارت الحياة الإسلامية شوطاً بعيداً في هذا المجال، وساعدت على خلق الحواجز وتعميق الفواصل بين المسلمين، بالمستوى الذي تبتعد بهم عن الشعور بالوحدة الفكرية والعملية في المجالات العامّة. وتطوَّر الأمر إلى أبعد من ذلك، فكانت فتاوى التكفير، التي يكفّرون بها بعضهم بعضاً بمختلف التحليلات والتأويلات القريبة والبعيدة، حيث يتحوَّل المسلم إلى كافر نتيجة فكرة فرعية، أو فكرة خلافية لا تمسّ الجذور في العمق. ومن هنا، كان من الطبيعي أن تتوتَّر المشاعر الدينيّة في مثل هذا الجوّ المشحون، في الاتّجاه المضادّ للعلاقات الطبيعيّة التي يجب أنْ تشمل المسلمين في واقعهم الاجتماعي والسياسي والنفسي.

ومازالت هذه الأجواء التاريخيّة تفرض نفسها على الساحة، وتترسَّخ بفعل ذلك التراث الضخم من الكتب الإسلامية في قضايا الكلام والفلسفة والشريعة والتاريخ، ما جعل للقضية عمقاً ثقافياً وفكرياً يتوارث المسلمون أفكاره كما يتوارثون مشاعره وأحاسيسه، في أجواء متنوّعة قد تفرض عليهم اللّقاء والتعاون، ولكنّه يبقى في حدود المجاملة والتقيّة والمداراة التي لا تنفتح فيها النفوس على الحقيقة بتجرّد وموضوعيّة وحياديّة، بل يظلّ للحقيقة المزعومة في نفوس أصحابها، المعنى الجامد الذي لا يمكن أن يتحوَّل إلى أيِّ شيء يثير الحركة في اتّجاه اللّقاء، لأنَّ القضية المفروضة من خلال ذلك كلّه، هي أنَّ الصفة الطارئة تحوّلت إلى ما يشبه الصفات الذاتية التي لا تنفصل عن الشخص مهما اختلفت الظروف والأفكار.

وبهذا، أصبح للمجموعات التي تمثّل هذا الفريق أو ذاك مصالح مستقلّة، تختلف عن مصالح الفريق الآخر، تماماً كما هي الدول المستقلّة، وربّما ينتج الموقف لكلّ منهما تحالفات مع أعداء الإسلام للاستعانة بهم على الجانب الآخر.

اليد الاستعمارية والهوس الطائفي

ومن هذا كلّه، نشأت الطائفية السياسية التي تحاول أن تنظر إلى الشخصية الطائفية كإطار يحدِّد للأفراد صفتهم السياسية، وكان أن دخل الاستعمار الكافر مع كلّ جنود الكفر الفكريين، ليعبث بالمسلمين في حياتهم السياسية والاجتماعية، من خلال الإيحاء لهم بالحماية الطائفية لكلّ فريق منهم، أو بتغليب جانب على آخر، في حالات الإثارة التي يصنعها بأساليبه الشيطانية الخفيّة، وذلك بإبراز عناصر الإثارة والتفرقة والخلاف في الساحة، ما يؤدّي إلى التقاتل والتنازع في المجالات الثقافية والاجتماعية والعسكرية... ثمّ يتدخَّل بينهم بصفة الفريق الحياديّ الذي يحمل لواء الصلح والسِّلم وإنهاء النزاع ضمن شروط وأوضاع جديدة لا تخلو من ثغرات وسلبيات تخدم مصالحه الاستعمارية في العاجل والآجل.

ولو درسنا أغلب الحالات الطائفية السلبية، وفتَّشنا عن جذورها، لرأينا اليد الاستعمارية الخفيّة تختفي وراء كثير من أساليب الإثارة والتفجير، التي يُستغلُّ فيها الهَوَس الطائفي، والبدائية السياسية، والتخلُّف الفكري، من أجل توليد المزيد من المشاكل والخلافات التي تزيد القضية عمقاً.. ولاتزال اللّعبة تفرض نفسها على الساحة، واللاعبون يتحرّكون فيها بكلّ حريّة، وتبقى أدوات اللّعبة المتوفّرة فيها تكفل لحركة اللّعب بمصائر الإسلام والمسلمين كلّ الشروط الموضوعية للنموّ والازدهار، وتستمرّ المخطّطات الاستعمارية تعمل في الإسلام والمسلمين تمزيقاً على جميع المستويات باسم الطائفية والطائفيّين من الزعماء الذين يعيشون على حساب الإسلام، ولكن من دون إسلام.

وكانت العصبيّات والقبليّات والعنصرية التي ألغاها الإسلام من حسابه في أفكار المسلمين ومشاعرهم، تأخذ حجمها الطبيعي في حياة المسلمين، بمختلف عناصر الإثارة في العهود الإسلامية الأولى، كما هو شأن المشاكل التي تحرّكت في اتّجاهات مضادّة بين فريق يحتقر الموالي الذين دخلوا الإسلام، باسم التفوّق العنصريّ للعرب والعروبة، وبين فريق يحتقر العرب أو يحاول التقليل من شأنهم على أساس التفكير الشعوبيّ...

الهوس القومي كمعوّق للوحدة

وكانت الدول الأوروبية تخاف الروح الإسلامية، لأنّها تعرف أنَّ هذه الروح تشكِّل مانعاً لها من تنفيذ مخطّطاتها الاستعمارية، لأنَّها تمثّل القوّة الروحية التي تدفع الإنسان المسلم إلى مواجهة الكفر، أيّاً كان نوعه، بكلّ قوّة وإصرار، حتّى في أشدّ الحالات صعوبة وضراوة، فكان أنْ أطلقت في الساحة الفكرية والسياسية ألواناً من الشخصيات المصطنعة التي سعت إلى ربط الإنسان المسلم تارةً بتاريخه السابق على الإسلام، كالفرعونية والآشورية والفينيقيّة والساسانية والطورانية وغيرها، وتارةً أخرى "بالقومية" ذات العصب العربي والفارسي والهندي والتركي، وغيرها من العناصر التي يختلف الناس حولها، فتحوّل الإسلام بفعل هذا المخطَّط الاستعماري إلى عنصر طارئ على الشخصية، فلم تعد له أصالته في عمق الإنسان المسلم وفي تاريخه، حتّى إنّنا أصبحنا نقرأ الكتب والأبحاث التي تتحدّث عن الفتح الإسلامي في بعض البلدان الإسلامية كانتكاسة قومية في نطاق حالات القهر والغزو الخارجي الذي تتعرَّض له الأُمّة، وبدأت القضية تفرض نفسها من خلال استغلال الواقع السيّئ الذي يشوِّه الحكم الإسلامي في نفوس أتباعه، ليأخذ صورة الحكم التركي بدلاً من صورة الحكم الإسلامي، وتحوّل المستعمرون في وعي بعض الأُمم ـــ ولا سيّما العرب ـــ إلى منقذين ومحرّرين على أساس الوعود التي قطعوها على أنفسهم للعرب بتحريرهم من السلطة العثمانية، ليحقّقوا لهم الحكم الواحد في الدولة العربية الواحدة. وقد استغلّ الاستعمار الكافر ذلك التفكير الساذج لدى أبناء الأُمّة، فدخل إلى بلاد المسلمين تحت عنوان الفاتح المحرّر وفي زهو الفاتحين المقبولين في البداية، إلاَّ أنَّ المسلمين المخلصين لإسلامهم، وكما تؤكّد أخبار تلك الفترة، وقفوا أمام هذه المخطّطات، وواجهوا الاستعمار البريطاني بكلّ قوّة بقيادة علماء المسلمين، كما يحدّثنا التاريخ عن ثورة العشرين في العراق...

العصبيّة الإقليميّة

وما لبثت أن دخلت مفاهيم جديدة، كــ "القومية" و"الإقليمية" الحياة العقائدية والسياسية، فأصبح لكلّ منها إطار عقيدي يرتكز إلى فلسفة ماديّة أو روحيّة، وتحوّل هذا الإطار إلى تنظيم حزبيّ يفرض نفسه على الساحة، وتنوّعت الأحزاب الوطنية والقومية في صيغ متشابهة مرّة ومتباينة أخرى، وعادت العصبيّات لتفرض نفسها من خلال هذه الشخصيات الجديدة، وبدأ الحديث عن الإخلاص للأرض بعيداً عن المبدأ والرسالة، وعن التضحية في سبيل القومية بعيداً عن الإسلام. وسرعان ما تمخّضت في وعي اللاعبين على الساحة صورة أدوات اللّعبة، فكانت الاتّهامات التي تنطلق وتوجّه إلى هذه الفئة لأنّها اتّصلت بهذا الأجنبي ـــ مع التأكيد على صفة الأجنبي بما تحمله من معان نفسية وفكرية ـــ مع أنَّه مسلم، وتُوجّه إلى تلك الفئة لأنّها تعاونت مع القومية الأخرى في إطار الإسلام بعيداً عن قضايا الوطن بمفهومه الغربي، أو عن قضايا القومية بمفهومها المحدود، وهكذا تمّ انفصال المسلمين عن الشعور بالشخصية الإسلامية بما تمثّله من معان وأوضاع وتحرّكات وعلاقات، وتحوّلوا إلى جماعات متنوّعة، كما قال الشاعر الحماسيّ القديم:

وتفرَّقوا شيعاً فكلُّ قبيلةٍ            فيها أمير المؤمنينَ وَمِنْبَرُ

وقد أسهم ذلك في تضخيم الشخصيّات التي تبحث عن طموح سياسي من خلال هذه الأوضاع المرتبكة ـــ في نطاق ما تسمح به لعبة الأُمم ـــ وعادت لنا القضيّة في ثوب جديد من ألوان الحكم وأساليبه وشخصيّاته، بعيداً عن كلّ كفاءة أو إخلاص، إلّا كفاءة التنفيذ الدقيق لما يريده الآخرون، كلّ الآخرين.

*العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله(رض)، من كتاب "أحاديث في قضايا الاختلاف والوحدة"، ص 26-32.

في دراستنا الحاليّة لواقع المسلمين، نلاحظ أنَّ العلاقة التي تشدّ المسلمين إلى بعضهم البعض، ليست بالمستوى الذي تتمثّل فيه الرابطة الوثيقة في وجودهم كأُمّة، فلا نجد أمامنا إلاَّ بعضاً من المشاعر العاطفية المغلّفة بضباب كثيف من الأفكار المضطربة المتنوّعة، التي قد نلمحها في بعض الهزّات السياسية والإنسانية في حياة بعض الشعوب الإسلامية، ثمّ لا شيء بعد ذلك، إلاَّ بعض الاحتجاجات الطارئة والانفعالات الهادرة، التي سرعان ما تتلاشى صرخاتها في الهواء. ويتساءل الباحث، وهو يرصد هذه الظاهرة القلقة في حياة المسلمين، عن العوامل المؤثّرة في ذلك.

قد يفضّل البعض أن يُرجع ذلك إلى ضعف روح الإسلام في نفوس المسلمين، الأمر الذي جعلهم يبتعدون عن الشّعور العميق بالأسس الفكرية والروحية والشعورية التي توحّدهم وتخلق في داخلهم الإحساس بعمق الوحدة المصيرية التي تشدّهم إلى الواقع. ثمّ يضيف هذا البعض إلى ذلك، أنَّ الحلّ الوحيد يكون بالعمل على إعادة الإسلام إلى وعي المسلمين فكراً وعاطفة وسلوكاً، وإعادة المسلمين إلى الإسلام.

وإنّنا إذ نتوقَّف عند هذا الخطّ في عرض المشكلة ومعالجتها، قد نوافق على طبيعة الفكرة، ولكنّنا لا ننسجم مع الطريقة السهلة المبسَّطة لأسلوب الطرح والعلاج، إذ إنَّ مواجهة المشاكل بهذه الطريقة، تبعدنا عن الدراسة الواعية للجذور العميقة التي ترتبط بها المشاكل، وتبعدنا ـــ في الوقت نفسه ـــ عن فهم الواقع الموضوعي في نطاق الظروف الطبيعية المحيطة.

ولعلّ الكثيرين منّا لايزالون يعالجون القضايا المعقّدة بهذا اللّون من التبسيط والسهولة، حتّى يُخَيَّل للآخرين أنَّ البعد عن الشعور العميق بوحدة المسلمين، لا تمثّل مشكلة في حساب الواقع، وإنَّما تمثّل شبح مشكلة، ما يبعدنا عن الشعور بالخطر، وبالتالي عن التعامل مع الواقع من موقع وعي الخطورة.

حواجز تعمّق الفواصل بين المسلمين

إنَّنا نحاول هنا الإشارة إلى بعض العوامل والمؤثّرات الطبيعيّة التي أسهمت في تمزّق المسلمين، وخلقت في داخلهم الحواجز النفسية والفكرية التي تعمّق الفواصل بينهم، ذلك أنَّ المسلمين قد ورثوا من التاريخ الكثير من الخلافات المذهبية المتمحورة حول عناوين وقضايا عدّة، لعلّ أبرزها ما له صلة بشؤون الخلافة والإمامة، وبشؤون الفقه والشريعة، وبقضايا الفلسفة والكلام، وبجوانب الحكم والسياسة العامّة. وقد كان لهذه الخلافات التاريخيّة دور كبير في إثارة الحقد والبغضاء والعداوة، وفي تفجير الحروب، وفي إهراق الدّماء البريئة الطاهرة. وربّما كان البعض من هؤلاء الذين يعيشون هذه الخلافات، ممّن يدفعه الإخلاص للفكرة الخطأ إلى القتال باسم القداسة والتديُّن، لغفلته عن طبيعة الخطأ في فكرته، وربّما كان البعض منهم يقاتل باسم المنافع والمغانم بعيداً عن أيّ ارتباط بالحقّ أو بالإسلام، ولكنّه يستغلّهما من أجل مآربه، كما روي عن الإمام عليّ(ع) ـــ وهو يشير إلى الموقف من الخوارج في جانب، وإلى الموقف من معاوية في جانبٍ آخر ـــ أنَّه قال: "لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس مَنْ طلب الحقّ فأخطأه، كَمَنْ طلب الباطل فأدركه".

وفي كلتا الحالتين، كانت الخلافات تتّجه إلى العنف الجسدي والفكري والكلامي انطلاقاً من المواقف المخلصة للخطأ ظنّاً أنَّه الحقّ، أو من المواقف المشدودة للأطماع والنزوات الشخصية السائرة في اتّجاه الباطل.

وقد أدّى الفهم الخاطئ للحديث النبويّ دوره الكبير عندما تمّ توظيفه في إضفاء صيغة القداسة على ما يختلفون فيه، فقد شَعَرَ الحاكمون وأتباعهم والنافذون من الشخصيات الذين يرعون هذا الخلاف، أنَّ قدسيّة الخلاف تفرض وجود شرعيّة دينيّة لما يختلفون حوله من أشخاص، وما يفيضون فيه من قضايا، لذا كان لا بدَّ من وضع الأحاديث على لسان محمّد(ص) في مختلف هذه الأمور، ما أوجد في نفوس السّاذجين والبسطاء من المسلمين بعداً جديداً للقضية، يجعل الاندفاع في هذا السبيل ـــ الذي يسَّروا طريقه ـــ شأناً دينياً مقدَّساً، ويجعل من التضحية في هذا الاتّجاه هدفاً شرعياً عظيماً، ولا بدَّ لهذا كلّه من أن يثير الحماس في نفوس هؤلاء وأولئك، حتّى يدفعهم إلى السّير في الخطوات والمواقف الحادّة التي تغري بالقتل والقتال.

وسارت الحياة الإسلامية شوطاً بعيداً في هذا المجال، وساعدت على خلق الحواجز وتعميق الفواصل بين المسلمين، بالمستوى الذي تبتعد بهم عن الشعور بالوحدة الفكرية والعملية في المجالات العامّة. وتطوَّر الأمر إلى أبعد من ذلك، فكانت فتاوى التكفير، التي يكفّرون بها بعضهم بعضاً بمختلف التحليلات والتأويلات القريبة والبعيدة، حيث يتحوَّل المسلم إلى كافر نتيجة فكرة فرعية، أو فكرة خلافية لا تمسّ الجذور في العمق. ومن هنا، كان من الطبيعي أن تتوتَّر المشاعر الدينيّة في مثل هذا الجوّ المشحون، في الاتّجاه المضادّ للعلاقات الطبيعيّة التي يجب أنْ تشمل المسلمين في واقعهم الاجتماعي والسياسي والنفسي.

ومازالت هذه الأجواء التاريخيّة تفرض نفسها على الساحة، وتترسَّخ بفعل ذلك التراث الضخم من الكتب الإسلامية في قضايا الكلام والفلسفة والشريعة والتاريخ، ما جعل للقضية عمقاً ثقافياً وفكرياً يتوارث المسلمون أفكاره كما يتوارثون مشاعره وأحاسيسه، في أجواء متنوّعة قد تفرض عليهم اللّقاء والتعاون، ولكنّه يبقى في حدود المجاملة والتقيّة والمداراة التي لا تنفتح فيها النفوس على الحقيقة بتجرّد وموضوعيّة وحياديّة، بل يظلّ للحقيقة المزعومة في نفوس أصحابها، المعنى الجامد الذي لا يمكن أن يتحوَّل إلى أيِّ شيء يثير الحركة في اتّجاه اللّقاء، لأنَّ القضية المفروضة من خلال ذلك كلّه، هي أنَّ الصفة الطارئة تحوّلت إلى ما يشبه الصفات الذاتية التي لا تنفصل عن الشخص مهما اختلفت الظروف والأفكار.

وبهذا، أصبح للمجموعات التي تمثّل هذا الفريق أو ذاك مصالح مستقلّة، تختلف عن مصالح الفريق الآخر، تماماً كما هي الدول المستقلّة، وربّما ينتج الموقف لكلّ منهما تحالفات مع أعداء الإسلام للاستعانة بهم على الجانب الآخر.

اليد الاستعمارية والهوس الطائفي

ومن هذا كلّه، نشأت الطائفية السياسية التي تحاول أن تنظر إلى الشخصية الطائفية كإطار يحدِّد للأفراد صفتهم السياسية، وكان أن دخل الاستعمار الكافر مع كلّ جنود الكفر الفكريين، ليعبث بالمسلمين في حياتهم السياسية والاجتماعية، من خلال الإيحاء لهم بالحماية الطائفية لكلّ فريق منهم، أو بتغليب جانب على آخر، في حالات الإثارة التي يصنعها بأساليبه الشيطانية الخفيّة، وذلك بإبراز عناصر الإثارة والتفرقة والخلاف في الساحة، ما يؤدّي إلى التقاتل والتنازع في المجالات الثقافية والاجتماعية والعسكرية... ثمّ يتدخَّل بينهم بصفة الفريق الحياديّ الذي يحمل لواء الصلح والسِّلم وإنهاء النزاع ضمن شروط وأوضاع جديدة لا تخلو من ثغرات وسلبيات تخدم مصالحه الاستعمارية في العاجل والآجل.

ولو درسنا أغلب الحالات الطائفية السلبية، وفتَّشنا عن جذورها، لرأينا اليد الاستعمارية الخفيّة تختفي وراء كثير من أساليب الإثارة والتفجير، التي يُستغلُّ فيها الهَوَس الطائفي، والبدائية السياسية، والتخلُّف الفكري، من أجل توليد المزيد من المشاكل والخلافات التي تزيد القضية عمقاً.. ولاتزال اللّعبة تفرض نفسها على الساحة، واللاعبون يتحرّكون فيها بكلّ حريّة، وتبقى أدوات اللّعبة المتوفّرة فيها تكفل لحركة اللّعب بمصائر الإسلام والمسلمين كلّ الشروط الموضوعية للنموّ والازدهار، وتستمرّ المخطّطات الاستعمارية تعمل في الإسلام والمسلمين تمزيقاً على جميع المستويات باسم الطائفية والطائفيّين من الزعماء الذين يعيشون على حساب الإسلام، ولكن من دون إسلام.

وكانت العصبيّات والقبليّات والعنصرية التي ألغاها الإسلام من حسابه في أفكار المسلمين ومشاعرهم، تأخذ حجمها الطبيعي في حياة المسلمين، بمختلف عناصر الإثارة في العهود الإسلامية الأولى، كما هو شأن المشاكل التي تحرّكت في اتّجاهات مضادّة بين فريق يحتقر الموالي الذين دخلوا الإسلام، باسم التفوّق العنصريّ للعرب والعروبة، وبين فريق يحتقر العرب أو يحاول التقليل من شأنهم على أساس التفكير الشعوبيّ...

الهوس القومي كمعوّق للوحدة

وكانت الدول الأوروبية تخاف الروح الإسلامية، لأنّها تعرف أنَّ هذه الروح تشكِّل مانعاً لها من تنفيذ مخطّطاتها الاستعمارية، لأنَّها تمثّل القوّة الروحية التي تدفع الإنسان المسلم إلى مواجهة الكفر، أيّاً كان نوعه، بكلّ قوّة وإصرار، حتّى في أشدّ الحالات صعوبة وضراوة، فكان أنْ أطلقت في الساحة الفكرية والسياسية ألواناً من الشخصيات المصطنعة التي سعت إلى ربط الإنسان المسلم تارةً بتاريخه السابق على الإسلام، كالفرعونية والآشورية والفينيقيّة والساسانية والطورانية وغيرها، وتارةً أخرى "بالقومية" ذات العصب العربي والفارسي والهندي والتركي، وغيرها من العناصر التي يختلف الناس حولها، فتحوّل الإسلام بفعل هذا المخطَّط الاستعماري إلى عنصر طارئ على الشخصية، فلم تعد له أصالته في عمق الإنسان المسلم وفي تاريخه، حتّى إنّنا أصبحنا نقرأ الكتب والأبحاث التي تتحدّث عن الفتح الإسلامي في بعض البلدان الإسلامية كانتكاسة قومية في نطاق حالات القهر والغزو الخارجي الذي تتعرَّض له الأُمّة، وبدأت القضية تفرض نفسها من خلال استغلال الواقع السيّئ الذي يشوِّه الحكم الإسلامي في نفوس أتباعه، ليأخذ صورة الحكم التركي بدلاً من صورة الحكم الإسلامي، وتحوّل المستعمرون في وعي بعض الأُمم ـــ ولا سيّما العرب ـــ إلى منقذين ومحرّرين على أساس الوعود التي قطعوها على أنفسهم للعرب بتحريرهم من السلطة العثمانية، ليحقّقوا لهم الحكم الواحد في الدولة العربية الواحدة. وقد استغلّ الاستعمار الكافر ذلك التفكير الساذج لدى أبناء الأُمّة، فدخل إلى بلاد المسلمين تحت عنوان الفاتح المحرّر وفي زهو الفاتحين المقبولين في البداية، إلاَّ أنَّ المسلمين المخلصين لإسلامهم، وكما تؤكّد أخبار تلك الفترة، وقفوا أمام هذه المخطّطات، وواجهوا الاستعمار البريطاني بكلّ قوّة بقيادة علماء المسلمين، كما يحدّثنا التاريخ عن ثورة العشرين في العراق...

العصبيّة الإقليميّة

وما لبثت أن دخلت مفاهيم جديدة، كــ "القومية" و"الإقليمية" الحياة العقائدية والسياسية، فأصبح لكلّ منها إطار عقيدي يرتكز إلى فلسفة ماديّة أو روحيّة، وتحوّل هذا الإطار إلى تنظيم حزبيّ يفرض نفسه على الساحة، وتنوّعت الأحزاب الوطنية والقومية في صيغ متشابهة مرّة ومتباينة أخرى، وعادت العصبيّات لتفرض نفسها من خلال هذه الشخصيات الجديدة، وبدأ الحديث عن الإخلاص للأرض بعيداً عن المبدأ والرسالة، وعن التضحية في سبيل القومية بعيداً عن الإسلام. وسرعان ما تمخّضت في وعي اللاعبين على الساحة صورة أدوات اللّعبة، فكانت الاتّهامات التي تنطلق وتوجّه إلى هذه الفئة لأنّها اتّصلت بهذا الأجنبي ـــ مع التأكيد على صفة الأجنبي بما تحمله من معان نفسية وفكرية ـــ مع أنَّه مسلم، وتُوجّه إلى تلك الفئة لأنّها تعاونت مع القومية الأخرى في إطار الإسلام بعيداً عن قضايا الوطن بمفهومه الغربي، أو عن قضايا القومية بمفهومها المحدود، وهكذا تمّ انفصال المسلمين عن الشعور بالشخصية الإسلامية بما تمثّله من معان وأوضاع وتحرّكات وعلاقات، وتحوّلوا إلى جماعات متنوّعة، كما قال الشاعر الحماسيّ القديم:

وتفرَّقوا شيعاً فكلُّ قبيلةٍ            فيها أمير المؤمنينَ وَمِنْبَرُ

وقد أسهم ذلك في تضخيم الشخصيّات التي تبحث عن طموح سياسي من خلال هذه الأوضاع المرتبكة ـــ في نطاق ما تسمح به لعبة الأُمم ـــ وعادت لنا القضيّة في ثوب جديد من ألوان الحكم وأساليبه وشخصيّاته، بعيداً عن كلّ كفاءة أو إخلاص، إلّا كفاءة التنفيذ الدقيق لما يريده الآخرون، كلّ الآخرين.

*العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله(رض)، من كتاب "أحاديث في قضايا الاختلاف والوحدة"، ص 26-32.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية