إنَّ مسألة التقليد هي من المسائل الفطرية التي يعيشها كلّ النّاس الّذين يجهلون مسؤولياتهم المباشرة وغير المباشرة في الحياة، فإنَّهم يبحثون فطريّاً وتلقائياً عمّن يملك المعرفة بهذه الأمور المتصلة بحركة المسؤوليّة في الحياة، ممن يمكن أن يكون حجّة لهم في ذلك عندما تطلب منهم الحجّة، أو يكون عذراً لهم في ذلك عندما يلتمسون العذر.
ومن الطبيعي، فإنَّ الإنسان المسلم الذي لا يملك معرفة واسعة في أحكام إسلامه، ليس بدعاً من النَّاس. فإنَّ الإسلام الذي هو عقيدة المسلم في انتمائه الإسلامي، يمثِّل مسؤولية المسلم أمام الله في حياته العملية في إطار هذا الإسلام، على أساس أنَّ الله سيسأله عن طاعة أوامره ونواهيه في هذا الجانب أو ذاك، فلا بُدَّ له من أن يقدّم جواباً أمام الله في ذلك كلّه، إمّا بتقديـم الحجّة على ما قام به، أو بتقديـم العذر في ذلك على الأقلّ. ولذلك رأينا أنَّ النَّاس كانوا يلجأون إلى علمائهم في هذه القضيّة، انطلاقاً من الخطّ الذي تربّوا عليه أو انطلقوا فيه، عندما كانوا يلجأون إلى النبيّ(ص) في حياته، باعتباره أنَّه صاحب الرسالة والأعلم في شؤونها، وهذا ما نتمثّله في القرآن الكريـم في كلّ آية وردت فيها كلمة (يسألونك)، فإنَّ هذه الآيات توحي بأنَّ المسلمين كانوا يسألون النبيّ(ص) بشكلٍ تلقائيّ وفطريّ فيما أشكل عليهم أمره، أو فيما يريدون معرفته.
وهكذا، رأينا أنَّ القرآن الكريـم يؤكِّد هذه المسألة الفطريّة في احتجاجه على النَّاس الذين كانوا يتمرّدون من دون حجّـة {فاسألوا أهل الذّكر إن كنتم لا تعلمون...}(النحل: 43) و(الأنبياء:7)، وأنَّ القرآن الكريـم عندما أطلق ضرورة أن تبقى هناك فئة من النَّاس خارج نطاق الجهاد: {ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون}(التّوبة: 122)، فإنَّ هذا التوجيه لا بُدَّ من أن ينعكس إيجاباً على حياة النَّاس الذين أراد الله منهم أن يحذروا عندما يبلغهم المتفقّهون في أمور دينهم بما يوجب الطّمأنينة في أذهانهم.
وهكذا رأينا كيف أنَّ المسلمين كانوا يسألون الصّحابة الذين يملكون بعض المعرفة في وعيهم للفقه، وترتيباً، امتدّت المسألة إلى حياة الأئمة (سلام الله عليهم)، الذين كانوا يجلسون لتقبل أسئلة السائلين عن كلّ الأمور، سواء كانت عقائدية أو شرعية. ولعلّ أغلب التراث الّذي وصلنا من أئمة أهل البيت(ع) في بيان الأحكام الشرعيّة، كان يتمثّل بطريقة السّؤال والجواب أكثر مما يتمثّل بطريقة تركيز القاعدة الفقهيّة والبيانات والمقالات التفصيليّة.
وفي هذا، عاش الشّيعة الإمامية مع أصحاب الأئمّة(ع) الذين كانوا يتقبّلون أسئلة الشيعة في المسائل الشرعيّة، ما أوجد خميرةً ممتازةً لمسألة التقليد.
وسار الشيعة الإمامية على هذا الخطّ بعد (الغيبة الكبرى)، فقد رجعوا إلى علمائهم في هذا المجال، وربَّما كانت المسألة منطلقةً من هذا الخطّ التأريخيّ من جهة، ومنطلقةً من كلام الإمام الحجّة (عج): "وأمّا الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا، فإنَّهم حجّتي عليكم"، أو من خلال الحديث الذي يناقش البعض في حجيّته، وإن كان مقبولاً لديهم: "من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه".
وهكذا رأينا أنَّ الشيعة كانوا يرجعون إلى علمائهم، ولكن ليس من الواضح جدّاً وجود مرجعيّة عليا بالمعنى الذي يتمثّل في هذه الأيّام من رجوع مجموع الشيعة إلى شخص واحد أو إلى عدّة أشخاص بطريقة شاملة، لأنَّ الظروف التي كان يعيشها النَّاس في ذلك العصر، كانت لا تسمح بهذا التواصل الشامل في ارتباط الشيعة بشخصيّة واحدة، ما يجعل من غير الواقعي أو العملي أن يرجع الشيعة إلى كلّ العلماء في كلّ أمورهم.
لذلك، فقد كان الشيعة يرجعون إلى علمائهم الموجودين في مناطقهم، وربَّما كان بعض العلماء يأخذ شهرة كبيرة في هذا المجال، كـ (الشيخ المفيد)، مثلاً و (السيِّد المرتضى) في زمنه، فكانوا يسألون من قبل الشيعة في مناطق نائية. فنحن نقرأ مثلاً في كتب الشيخ المفيد (المسائل الطرابلسية)، أو في كتب السيِّد المرتضى، ولكن هذا لا يعني أنَّ هناك مرجعيّة عليا بالمعنى الشامل أو بالمعنى المستمرّ في الزمن.
لذلك، رأينا أنَّ مسألة التقليد بقيت متصلةً بأماكن تواجد العلماء، بحيثُ كان الشّيعة في إيران يرجعون إلى علماء إيران، وهكذا شيعة لبنان وشيعة العراق، وقد يحدث أن تبرز شخصيّة فوق العادة، فيلجأ النَّاس إليها، ولكن من دون أن يتقيّدوا بها دائماً، بل يرجعون إلى غيرها في الحالات الطارئة أو ما أشبه ذلك. لذلك، فنحن قد نستطيع أن نتحدّث في هذا السرد التاريخي عن عدم وجود مرجعيّة عليا للشيعة، ولكنَّ التقليد كان موجوداً، لأنَّه أمرٌ طبيعيّ فطري في حياة الإنسان من خلال رجوع الجاهِل إلى العَالِم.
*من كتاب "فقه الحياة"، ص 9-11.
إنَّ مسألة التقليد هي من المسائل الفطرية التي يعيشها كلّ النّاس الّذين يجهلون مسؤولياتهم المباشرة وغير المباشرة في الحياة، فإنَّهم يبحثون فطريّاً وتلقائياً عمّن يملك المعرفة بهذه الأمور المتصلة بحركة المسؤوليّة في الحياة، ممن يمكن أن يكون حجّة لهم في ذلك عندما تطلب منهم الحجّة، أو يكون عذراً لهم في ذلك عندما يلتمسون العذر.
ومن الطبيعي، فإنَّ الإنسان المسلم الذي لا يملك معرفة واسعة في أحكام إسلامه، ليس بدعاً من النَّاس. فإنَّ الإسلام الذي هو عقيدة المسلم في انتمائه الإسلامي، يمثِّل مسؤولية المسلم أمام الله في حياته العملية في إطار هذا الإسلام، على أساس أنَّ الله سيسأله عن طاعة أوامره ونواهيه في هذا الجانب أو ذاك، فلا بُدَّ له من أن يقدّم جواباً أمام الله في ذلك كلّه، إمّا بتقديـم الحجّة على ما قام به، أو بتقديـم العذر في ذلك على الأقلّ. ولذلك رأينا أنَّ النَّاس كانوا يلجأون إلى علمائهم في هذه القضيّة، انطلاقاً من الخطّ الذي تربّوا عليه أو انطلقوا فيه، عندما كانوا يلجأون إلى النبيّ(ص) في حياته، باعتباره أنَّه صاحب الرسالة والأعلم في شؤونها، وهذا ما نتمثّله في القرآن الكريـم في كلّ آية وردت فيها كلمة (يسألونك)، فإنَّ هذه الآيات توحي بأنَّ المسلمين كانوا يسألون النبيّ(ص) بشكلٍ تلقائيّ وفطريّ فيما أشكل عليهم أمره، أو فيما يريدون معرفته.
وهكذا، رأينا أنَّ القرآن الكريـم يؤكِّد هذه المسألة الفطريّة في احتجاجه على النَّاس الذين كانوا يتمرّدون من دون حجّـة {فاسألوا أهل الذّكر إن كنتم لا تعلمون...}(النحل: 43) و(الأنبياء:7)، وأنَّ القرآن الكريـم عندما أطلق ضرورة أن تبقى هناك فئة من النَّاس خارج نطاق الجهاد: {ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون}(التّوبة: 122)، فإنَّ هذا التوجيه لا بُدَّ من أن ينعكس إيجاباً على حياة النَّاس الذين أراد الله منهم أن يحذروا عندما يبلغهم المتفقّهون في أمور دينهم بما يوجب الطّمأنينة في أذهانهم.
وهكذا رأينا كيف أنَّ المسلمين كانوا يسألون الصّحابة الذين يملكون بعض المعرفة في وعيهم للفقه، وترتيباً، امتدّت المسألة إلى حياة الأئمة (سلام الله عليهم)، الذين كانوا يجلسون لتقبل أسئلة السائلين عن كلّ الأمور، سواء كانت عقائدية أو شرعية. ولعلّ أغلب التراث الّذي وصلنا من أئمة أهل البيت(ع) في بيان الأحكام الشرعيّة، كان يتمثّل بطريقة السّؤال والجواب أكثر مما يتمثّل بطريقة تركيز القاعدة الفقهيّة والبيانات والمقالات التفصيليّة.
وفي هذا، عاش الشّيعة الإمامية مع أصحاب الأئمّة(ع) الذين كانوا يتقبّلون أسئلة الشيعة في المسائل الشرعيّة، ما أوجد خميرةً ممتازةً لمسألة التقليد.
وسار الشيعة الإمامية على هذا الخطّ بعد (الغيبة الكبرى)، فقد رجعوا إلى علمائهم في هذا المجال، وربَّما كانت المسألة منطلقةً من هذا الخطّ التأريخيّ من جهة، ومنطلقةً من كلام الإمام الحجّة (عج): "وأمّا الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا، فإنَّهم حجّتي عليكم"، أو من خلال الحديث الذي يناقش البعض في حجيّته، وإن كان مقبولاً لديهم: "من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه".
وهكذا رأينا أنَّ الشيعة كانوا يرجعون إلى علمائهم، ولكن ليس من الواضح جدّاً وجود مرجعيّة عليا بالمعنى الذي يتمثّل في هذه الأيّام من رجوع مجموع الشيعة إلى شخص واحد أو إلى عدّة أشخاص بطريقة شاملة، لأنَّ الظروف التي كان يعيشها النَّاس في ذلك العصر، كانت لا تسمح بهذا التواصل الشامل في ارتباط الشيعة بشخصيّة واحدة، ما يجعل من غير الواقعي أو العملي أن يرجع الشيعة إلى كلّ العلماء في كلّ أمورهم.
لذلك، فقد كان الشيعة يرجعون إلى علمائهم الموجودين في مناطقهم، وربَّما كان بعض العلماء يأخذ شهرة كبيرة في هذا المجال، كـ (الشيخ المفيد)، مثلاً و (السيِّد المرتضى) في زمنه، فكانوا يسألون من قبل الشيعة في مناطق نائية. فنحن نقرأ مثلاً في كتب الشيخ المفيد (المسائل الطرابلسية)، أو في كتب السيِّد المرتضى، ولكن هذا لا يعني أنَّ هناك مرجعيّة عليا بالمعنى الشامل أو بالمعنى المستمرّ في الزمن.
لذلك، رأينا أنَّ مسألة التقليد بقيت متصلةً بأماكن تواجد العلماء، بحيثُ كان الشّيعة في إيران يرجعون إلى علماء إيران، وهكذا شيعة لبنان وشيعة العراق، وقد يحدث أن تبرز شخصيّة فوق العادة، فيلجأ النَّاس إليها، ولكن من دون أن يتقيّدوا بها دائماً، بل يرجعون إلى غيرها في الحالات الطارئة أو ما أشبه ذلك. لذلك، فنحن قد نستطيع أن نتحدّث في هذا السرد التاريخي عن عدم وجود مرجعيّة عليا للشيعة، ولكنَّ التقليد كان موجوداً، لأنَّه أمرٌ طبيعيّ فطري في حياة الإنسان من خلال رجوع الجاهِل إلى العَالِم.
*من كتاب "فقه الحياة"، ص 9-11.