إنَّ المشكلة الّتي تواجه التعدّدية بين القيادة والمرجعيّة، هي أنَّ مسألة المرجعيّة التي تتحرّك في واقعها الحاليّ في دائرة الفتاوى، قد تختلف في خطوطها الفتوائيّة عن نظرة القيادة إلى ما فيه مصلحة الأمَّة. وبذاك، يحصل التجاذب بين الفتوى المرجعيَّة وحركة القيادة حول ما فيه مصلحة الأمّة، كما أنّ طبيعة الموقعين القياديّين اللّذين يطلّ أحدهما على الآخر، قد يوجد الكثير من الضّغط المضادّ والحركة المضادّة، ما يوجب إرباك الواقع الإسلاميّ.
لذلك، فالأصل أن تتوحَّد المرجعيّة والقيادة في شخص واحد، ولكن إذا كنّا في موقع لا تملك المرجعيّة في الفتيا الإمكانات التي تستطيع من خلالها أن تتحرَّك في خطِّ الواقع، فإنَّ من الطبيعي أن يكون موقع القيادة مختلفاً عن موقع المرجعيَّة، ولا بدّ من وجود حالة تنسيقيّة بين القيادة والمرجعيّة، حتى لا ترتبك الأمور، وحتى لا تتعقّد المواقف.
في عالم المرجعيّة، سواء بمفهومها التقليديّ الّذي يدور حول الفتيا، أو بمفهومها المستقبلي الّذي هو الطّموح الّذي يدور حول القيادة، لا نستطيع أن نفكِّر في مرجعيّتين، ولكن فيما يتّصل بنظريّة ولاية الفقيه، التي تنطلق من فكرة أنّ الفقيه هو نائب الإمام، قد يُقال إنّ من الممكن جداً أن يكون للإمام أكثر من نائب في غيبته، كما كان له أكثر من نائب في حضوره. ولكنّ هذه المسألة تخضع للمصلحة الإسلاميّة العليا، فقد تفرض المسألة أن لا يكون هناك إلّا وليّ واحد لكلّ العالم الإسلاميّ الشيعيّ، تماماً كما هي مسألة المرجعيَّة، وقد تكون هناك مصلحة في التعدّدية. وإذا كانت هناك مصلحة في التعدّدية، فإنَّ من الطبيعيّ أن يكون هناك نوع من التّنسيق، الّذي يجعل لكلّ موقع دائرة خاصّة يتحرَّك فيها، من أجل إدارة الأمور الذاتيّة للمنطقة التي يتولى أمرها، ودائرة عامَّة، وهي الدائرة الشموليّة لكلّ مواقع الولاية، ما يقلّل من خطر الإقليميّة، أو يزيل هذا الخطر.
لذلك، عندما نريد أن نفكّر في العناوين الكبرى لهذه المسألة من الناحية الفكريّة، لا بدَّ من أن نفكّر في الضَّمانات التي يمكن أن تحفظ حركتها في الدائرة الواقعيّة.
أنا لا أجد أيّة سلبيّة من ناحية حركة الصّراع في هذا المجال، بل إنَّ حركة الصّراع كانت إيجابيَّة بشكل بارز، لأنها استطاعت أن تكسر الجمود الّذي سيطر على هذه النظريّة الفقهيّة، بسبب المسار التّاريخيّ الّذي جعلها خاضعةً للحصار الّذي عاشه المجتهدون في كلّ مواقعهم التّاريخيّة، بحيث سيطر هذا التوجه على الذهنيّة الاجتهاديّة، التي جعلت المجتهد لا يفكّر في دولة إسلاميّة، ولا في الإمكانات الواقعيّة لمجتمع يمكن أن يتولى الفقيه أمره، ولذلك، لم تتوفّر للمجتهدين الآفاق الواسعة الّتي تضع الموضوع الواقعي في الواجهة، بحيث يفرض على المجتهد أن يفكّر في أحكامه فيما لو حدث، أو في أحكامه لكي يحدث، الأمر الّذي جعل مسألة الولاية عندهم محصورة في الدّوائر الصغيرة التي تواجههم وجهاً لوجه، كقضايا القاصرين، وأموال الغائب، والأوقاف، وما إلى ذلك من الأمور.
إنّ الحركة الفقهيّة المتداخلة مع الحركة السياسيّة، استطاعت أن تقدم النظرية والواقع دفعة واحدة، بحيث لم تنطلق النظريّة في دائرتها الفكرية التجريدية، بل قدَّمت نفسها من خلال واقعٍ يتيح للمجتهد أن يحكم، وأن يحرك الأمور في دائرة ولايته على خطّ المنهج الإسلاميّ، ما جعل الواقع يفرض نفسه حتى على الذين ينكرون ولاية الفقيه، ليتحدّثوا عن أحكام الناس الذين يعيشون في دائرة منطقة الولاية، وكيف يتعاملون معها: هل إنّ التعامل مع الفقيه الذي يحكم الموقع الإسلامي المعين، يشبه التعامل مع الحاكم الجائر الذي كان يحكم هذا البلد أو ذاك البلد، أو أن الأمر يختلف في ذلك؟
لقد فتحت مجالاً للبحث حتّى بالنّسبة إلى الذين لا يرون ولاية الفقيه. أمّا مسألة السلبيات الصغيرة التي تحركت في هذا المجال، فهي السلبيّات الطّبيعية التي تحكم كلّ حركة جديدة، سواء كانت على مستوى القضايا الفقهيّة، أو الفكريّة، أو السياسيّة، أو غير ذلك من الأمور التي تتّصل بحياة الناس، وبالصّدمة التي تحقّقها لكلِّ المألوف الذي كان الناس يألفونه، من الوسائل العاطفية والانفعالية التي يحاول هذا الفريق أن يوجِّهها إلى الفريق الآخر، الأمر الذي أبعد الكثير من حالات الجدل الكلاميّ، أو ما إلى ذلك، عن دائرة الخطوط الفكريّة الفقهيّة التي تواجه المسألة بعقلانيّة وموضوعيّة.
لعلَّ هذه هي الوسائل السلبيّة التي فرضت نفسها على واقع حركة الصّراع في الحوزة أو في خارج الحوزة، وهي ليست بدعاً من الوسائل، بل إننا نراها في كلّ قضيّة جديدة تخالف المألوف، عندما يتبنّاها بعض ويرفضها بعض آخر، فإنَّ الأدوات التي تتحرّك عادةً في البداية، هي الأدوات الانفعاليّة العاطفيّة، لا الأدوات العلميّة الموضوعيّة...
إنّ الفقيه يلاحق الحدث بعد أن يحدث، ولكنَّنا نلاحظ أنّ فقهاءنا قد طرحوا مسائل كثيرة لم تحدث حتى الآن، باعتبار الإيحاءات الّتي تنطلق فيها حركة الاختراعات والاكتشافات، ما يفرض إمكانات موضوعات جديدة، فنحن نجد أنَّ كثيراً من الفقهاء تحدَّثوا عن أحكام وجود الإنسان على القمر، وعن أحكام وجود الإنسان في المرّيخ، وعن أحكام الإنسان خارج نطاق الجاذبيّة وما إلى ذلك، ما يوحي بأنَّ فقهاءنا لا يعدمون الخيال العلميّ الّذي يطرح موضوعات لم تحدث، على أساس إمكانات حدوثها.
أمّا قضيّة أن يصنعوا الحدث، فهذه مسألة لا تتّصل بالجانب الفقهيّ، ولكنّها تتّصل بالجانب القياديّ السياسيّ.
*حوار مع العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض): (المرجعيّة الشيعيّة في فكر المرجع فضل الله)، حاوره: أبو سليم الحسني، [مجلّة البلاد اللّبنانيّة، العدد: 17، تاريخ: 1994].