وقد نلتقي بالواقع الّذي تتحرَّك فيه الاتّهامات غير الدّقيقة، القائمة على الظنّ، أو على النظرات السطحية التي لا تنطلق من العمق في معرفة رأي الإنسان الآخر بطريقة علميّة، كما نلاحظه في الاتّهامات التي يوجّهها المسلمون إلى بعضهم البعض في الكفر والغلوّ والضّلال، من خلال كلمة لا تمثّل أساساً للتقويم، أو كتابٍ لم يحسنوا قراءته، أو حديثٍ لم يحسنوا الاستماع إليه ولم يدقِّقوا في طبيعته، أو موقفٍ لم يدرسوا خلفيّاته وظروفه، وما إلى ذلك، ما قد يكون للمسألة فيه وجه غير الوجه الّذي يسبق إلى الذّهن بادئ ذي بدء.
وهذا هو ما أشارت إليه الآية الكريمة في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا}[الإسراء: 36]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ...}[الحجرات: 12]، وقوله تعالى: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئ}[النّجم : 28].
وهذه هي المسألة المهمَّة التي قد تترك تأثيرها السلبي على الواقع الإسلامي المذهبي القائم على التخاطب من بعيد، والتراشق بالتُّهم غير المسؤولة وغير الدّقيقة، لأنَّ هذا الكتاب الشيعيّ قد لا يمثّل رأي الشيعة كلّهم، أو قد يفسِّرون كلامه بطريقة أخرى، أو لأنَّ هذا الكتاب السنّيّ قد لا يمثّل رأي السنّة كلّهم، أو قد يفسِّرونه بشكلٍ آخر، أو لأنَّ هذا الحديث الّذي يرويه هذا أو ذاك ليس موثوقاً في سنده، ما قد يجعل الاعتماد عليه اعتماداً على غير حجّة أو برهان.
وهذا هو ما نلاحظه في كتاب الكافي للكليني، الذي يرجع إليه علماء الشيعة في الأحاديث المرويّة عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، ولكنَّهم لا يضمنون صحّته كما يضمن علماء أهل السنّة صحيح البخاري أو صحيح مسلم، بل يعملون على دراسة كلّ حديث بمفرده، من خلال شروط صحّة الأحاديث عندهم، وهذا ما لاحظناه في شرح الكافي للمجلسي المسمّى بــ (مرآة العقول)، الذي دقَّق في أحاديث الكافي، فأشار في الكتاب ـــ الشّرح إلى ضعف هذا الحديث أو إرساله أو صحّته، كما أنَّ علماء الشيعة قاموا بدراسة بعض الأحاديث التي توحي في ظاهرها بتحريف القرآن، فلم يلتزموا بها، لأنَّ هناك إجماعاً بينهم على أنَّ كتاب الله هذا الموجود بين أيدي المسلمين، هو القرآن الذي نزل على رسول الله محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) من دون زيادة ولا نقصان، لأنَّ الله تكفّل بحفظه، فهو الكتاب الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ...}[فصّلت: 42]، ولذلك قاموا بتأويل بعض الأحاديث بطريقةٍ وبأخرى.
وإذا كان هناك بعض العلماء قد أوحوا بوجود التحريف كنتيجة لأخطاء اجتهاديّة، فإنَّ علماء الشيعة ردّوا عليهم بقسوة وأبطلوا دعواهم بقوَّة، قبل أن يردّ عليهم علماء السنّة.
وإذا كان البعض يتحدَّث عن "التقيّة" عند الشيعة التي تدفعهم إلى أنْ يتكلَّموا بغير ما يعتقدون، فإنَّ هذا الكلام ليس دقيقاً في طبيعته، لأنَّ للتقيَّة مواقع محدودة لا يختلف فيها الخطّ الشّرعيّ بين علماء المسلمين، ولأنَّ كتب الشيعة كلّها أصبحت مطروحة بكلّ ما فيها من غثّ وسمين، وبما يوافق خطّ التقيّة أو يخالفه، بحيث يستطيع القارئ المتتبِّع أن يعرف اختلاف الآراء في الأوساط العلميّة الشيعيّة بشكلٍ طبيعيّ جدّاً، ليتعرَّف أنَّ الرأي الشيعي الكلامي أو الفقهي ليس واحداً، بل هناك اجتهادات متنوّعة مختلفة في التفاصيل هنا وهناك، تماماً كما هي المسألة لدى أهل السنّة.
ولذلك كنّا نقول دائماً إنَّ الحلَّ الوحيد لهذا الجوِّ المشحون بالشكّ والاتّهامات المتبادلة غير المسؤولة، هو الحوار المباشر، والتخاطب عن قرب، وإثارة علامات الاستفهام في كلِّ شيء، وقيام الأحكام الموجَّهة إلى هذا الفريق أو ذاك على أساس الحجّة والبرهان.
الحلّ الوحيد للجوِّ المشحون بالشكّ والاتّهامات المتبادلة بين المسلمين، هو الحوار المباشر، والتّخاطب عن قرب
إنَّ القضيّة التي نريد إثارتها في هذا الحديث، هي أنَّ للإسلام منهجاً في الحوار وفي إدارة حركة الخلاف بين المسلمين في كلِّ قضاياها، وذلك بالتركيز على الحجَّة، والقول بالّتي هي أحسن، والدّفع بالّتي هي أحسن في مسألة الحوار العلمي، وإرجاع الأمر إلى الله ورسوله حين الاختلاف في الخطِّ الإسلامي إزاء قضايا العقيدة والشّريعة، وذلك امتثالاً لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيل}[النساء: 59].
إنّ هذه الآية تحدِّد المنهج الذي يجب أن يعتمده المسلمون في التعاطي مع كلّ ما يختلفون فيه، لينطلقوا إلى كلام الله في كتابه، وكلام الرّسول في سنّته، ليتحاوروا في القواعد المنهجيّة لفهم الكتاب والسنّة، وتوثيق حديث الرَّسول في سنده، لتكون المسألة ماذا قال الله، وماذا قال الرسول، وكيف يتحرَّك القول في مدلوله وفي إيحاءاته، لنصل ـــ من خلال ذلك ـــ إلى وحدة المنهج المؤدّي إلى تفاهمٍ حول الموقف.
وفي اعتقادي، أَنَّ المحور المنهجي المركزي للشخصيّة الإسلاميّة، يكمن في الإحساس العميق بالإسلام في الخطوط العامَّة للعقيدة والشَّريعة والحركة والمنهج والأهداف الكبرى للإنسان المسلم في الحياة، والالتقاء حول هذا المحور يشكِّل المدخل لكلّ التّفاصيل، والأساس لكلّ المواقف، وهذا ما يمكن أن يلتقي عليه المسلمون ليتخلَّصوا من حالة الاختناق المذهبي، والحقد الفئوي، والتعصّب الأعمى، ولينطلقوا في الهواء الطلق، والنّور المشرق، الكاشف عن الصّحو في عيونهم والفضاء الرّحب في عقولهم، وليعيشوا الأخوّة الإسلاميّة بعقلٍ هادئ، وواقعيّة متوازنة، وإيمان منفتح في رحاب الله وساحات الرّسالة بالشَّكل الذي أراده الله ورسوله.
*من كتاب"أحاديث في قضايا الاختلاف والوحدة"، ص 63-67.