الحداثــة:
الحداثة هي الّتي تتحرّك في المنهج الفكري، أو الأسلوب التعبيري، أو الأداء الحركي الواقعي الذي ينطلق على أساس التجديد؛ تجديد المفردات والأساليب، بحيث لا يستغرقك الماضي، ولا يترك تأثيراته على حركتك الفكرية والعملية من خلال كثير من قيمه وأوضاعه وأساليبه البالية.
ليس من الضّرورة أن تكون الحداثة حالة غربية، لأنّ من الممكن جداً أن نعيش الحداثة في واقعنا الإسلامي بتجديد ما لدينا من أساليب أو أفكار أو مناهج.
الدّيمقـراطيـة:
عندما نريد أن ندرس الديمقراطية من خلال قاعدتها الفكرية، فإننا نجد أنها تختلف اختلافاً كبيراً عن الإسلام، لأنّ المفهوم الذي تختزنه الديمقراطية في مضمونها الفكريّ، هو أن شرعية أي قرار ينطلق من تصويت الأكثرية عليه، وليست هناك أية شرعية لأيّ عنوان في هذا الدائرة.
في ضوء هذا، يستمد الإسلام شرعيته في حركة الواقع، من خلال اختيار الناس له، لا من خلال كونه وحياً إلهيّاً يحمل في ذاتيته معنى الشرعيّة، بل أعلى أنواع الشرعية، وانطلاقاً من هذا، فلو أنّ الناس رفضوا الإسلام، لفَقَدَ شرعيّته في حركة الواقع وفي الوعي السياسي العام.
إنّ المسألة قد لا تكون لها انعكاسات عملية بالمعنى السياسي، لأنّ البعض قد يقول: ما همّك إذا استطعت أن تحكم إسلامياً باسم الديمقراطية، بين أن يفكّر بعض الناس بأن شرعيتك منطلقة من اختيار الأكثرية، أو أن شرعتيك منطلقة من الله سبحانه وتعالى؟ ولكن على الرغم من أنّ حركة الواقع تفرض الإسلام، إلّا أنّنا نلاحظ أنه عندما يختار الإسلاميون عنوان الديمقراطية لحركتهم السياسية، فإن معنى ذلك أنهم يلتزمون كلّ مضامينها وإيحاءاتها، الأمر الذي ينعكس سلباً على خطوط الثقافة الإسلاميّة في وعي الأمَّة، كما ينعكس على التزامات الإسلاميين بالنّتائج السلبية أو الإيجابية للنهج الديمقراطي في مواجهتهم للنّادي السياسي الذي يتحركون فيه.
لذلك، فإننا نتصور أنّ المسألة تحمل سلبية في الجانب الفكري والإيحائي، ثم تتطور بعد ذلك لتستطيع أن تطرح إمكانيّة تغيير هذا الحكم أو ذاك. لكنّنا إذا أردنا أن ننطلق من واقع الديمقراطية بعيداً من العنوان الفكري أو العنوان السياسي الّذي يكون واجهة لحركتنا السياسية، فإنَّ من الممكن عندما نعيش في مجتمع ديمقراطي، أن نستفيد من هذا المجتمع، وأن ننطلق لنشارك في العمل على الدخول إلى كلّ مواقعه من خلال الفرصة العامّة التي يفرضها اختيار الأكثرية، عندما نؤمن بأننا نملك الأكثرية، أو حتى عندما لا نملك الأكثرية، فإن التحرك في هذه الدائرة للحصول على أكثر قدر ممكن من الأصوات، يمنحنا حضوراً سياسياً في الواقع السياسي العام، الأمر الذي يؤدي إلى إيجابيات كبيرة.
إذاً، نحن نستطيع أن نستفيد من الديمقراطية في المجتمع المتنوّع من دون أن نتبنّاها كخط فكري. وفي هذا الجانب، لا بد لنا من أن نحرك خطابنا السياسي عندما ننجح أو عندما نخسر، بأسلوب ومنهجيّة لا تجعل حركتنا السياسية ـ في وعي الناس الآخرين ـ حركة الاتجاه الذي يمنع الآخرين حرياتهم، كما لاحظنا في تجربة بعض البلدان الإسلامية التي استطاعت أن تحصل على قدر كبير من الاختيار الشعبي.
إننا لاحظنا أنَّ الخطاب السياسي الذي تحرك في هذه الدائرة، أوجد إرباكاً في الجوّ السياسي والإعلامي لمصلحة خصوم الإسلام، ما جعلهم يهاجمون نتائج التجربة الشعبيّة من خلال طبيعة مفردات الخطاب السياسي الذي لم يكن مدروساً، سواء على مستوى خطوطه، أو على مستوى توقيته.
هذا العرض الذي تحدَّثنا عنه يتصل بالديمقراطية بشكل عام، ولكننا قد نستطيع أن نلاحظ في هذا المجال، أننا عندما نعيش في مجتمع إسلامي، هل يمكن أن نتبنى الديمقراطيّة؟ من الطبيعي أننا لن نستطيع أن نضعها في الوعي السياسي كمنهج فكريّ إذا أردنا أن نتحرك سياسياً في إطارها الشكلي، ولكننا نستطيع أن نحصّنها بأن نطلق مسألة خيار الشعب، بعد أن نضع الحدود للممارسة الديمقراطية من حيث الشروط التي لا بدّ من أن يتميز بها المرشَّح، بما ينسجم مع الخطوط الإسلاميّة، أو طبيعة الظروف الموضوعيّة للمسألة الإسلامية وشروطها الشرعيّة.
وبذلك، نستطيع أن نجمع بين أصالة الخطّ الإسلامي لنكفل له عدم الانحراف في اتجاه آخر، ونكفل مشاركة الأمّة في القرارات التي تتحرك في حياة مجتمعاتها أو أفرادها، من أجل إعطاء المسألة بعداً تلتزم فيه الأمَّة بخطوطها الشرعيّة في التزامها بالأشخاص والتزامها بالنظام، بحيث يمكن أن يحقّق للدولة الإسلاميّة العمق السياسي الذي يطلّ على العالم، بالطريقة التي تقول إنَّ الإسلام لا يلغي الأمَّة عندما يتحرك في كلّ إدارته لشؤونها التفصيلية، ولكنّه يجمع بين الإسلام الذي هو خيار الأمَّة، باعتباره دينها، وبين رأي الأمَّة في التفاصيل.. إننا بذلك يمكن أن نحصل على مشاركة الأمَّة في كلّ القرارات السياسية التي لم يجعل الإسلام لها خطوطاً تشريعيّة تعبدية حاسمة في ما شرّعه الله، سبحانه وتعالى، أو في ما بيَّنه رسوله(ص) وبذلك يمكن أن نجمع بين الأمرين.
ولعلّنا في هذا المسألة، نستوحي تشريع البيعة، إننا نلاحظ أنَّ النبي(ص) الذي أرسله الله سبحانه وتعالى رسولاً للناس، لتكون شرعيته من خلال إرسال الله له لا من خلال الناس، إننا نلاحظ أن البيعة التي تحدّث عنها القرآن في بيعة النساء والرجال للنبي(ص)، تعطي معنى الحاجة إلى أن يلتزم الناس العقيدة على مستوى الإيمان، من خلال أنَّ الرسول(ص) هو رسول الله، وأن يلتزموا السّير في الواقع العملي لحركة العقيدة والشريعة في تفاصيلها في الالتزام بوليّ الأمر، وبالخطوط التفصيلية للإسلام، على أساس أن يكون خيارهم من خلال إيمانهم والتزامهم.
ربما كانت البيعة إضاءةً لضرورة التزام الأمَّة بالقيادة والتّعبير عن رأيها فيها، حتى تلك التي تمثّل قيادة معيّنة من الله سبحانه وتعالى، ولن يكون رأي الأمّة في القيادة هو الذي يعطيها شرعيتها، ولكن ليعمّق التزامها به، وواقعية الحركية في هذا الاتجاه.
إننا يمكن أن نستوحي نهجاً يشبه النّهج الدّيمقراطي في النتائج، وهو أن يكون للأمّة عملية الاختيار في سياستها بالتعاون مع وليّ الأمر، الذي قد يأخذ شرعيّته من نظرية ولاية الفقيه أو من الشورى أو من أي شيء آخر.
هذا عندما نتحدّث عن الديمقراطية كخطّ سياسي، فإذا أردنا أن نتحدث عن الديمقراطية من خلال إيحاءاتها الأخلاقية، عندما يُقال فلان إنسان ديمقراطيّ، أو هذه طريقة ديمقراطية أو روحية ديمقراطية، لتكون نفياً للدّيكتاتورية وللاستبداد، فإنَّ الإسلام ديمقراطي بكلّ ما للكملة من المعنى الإيحائي والسلوكي للدّيمقراطية، بعيداً عما هو المنهج الفكريّ الذي أشرنا إليه.
*من كتاب "خطاب الإسلاميين والمستقبل"، ص 30-33.