ومادمنا في مجال البحث عن الاتجاه الديني في دراسة التاريخ، ومحاولة تركيزه على
أسس متينة ثابتةٍ، فقد نجد أن من الخير لنا، أن نعرض لبعض الأخطاء الني وقع فيها
بعض الكتّاب المعاصرين، في تفسيرهم للطريقة التي يعلّل بها الاتجاه الديني حوادث
التاريخ.
يتحدّث الأستاذ قسطنطين زريق في كتابه: «نحن والتاريخ»، ص 29 _ 30، عن المميزات
التي تميّز التيار التقليدي _ في ما يعبِّر _ فيعتبر أن إحدى هذه الميزات هي: أن
تعليل نشوء الأحداث وتطورها هو، بحسب هذه النظرة، تعليل إلهي، فدوافع التاريخ ليست،
أو على الأقلّ، ليس أهمها وأبلغها فعلاً، في يد الإنسان، بل تحكمها المشيئة الإلهية
والقوانين السماوية. وحياة السعادة الدائمة أو الشقاء الدائم في العالم الآخر. فمن
العبث إذاً أن نحاول تعليل الأحداث الإنسانية بإعادتها إلى الجنس أو المحيط أو أيّ
عامل من العوامل الطبيعية أو البشرية الأخرى. إنّ محور التاريخ ليس في هذا العالم،
بل في العالم الأعلى.
ثم يتحدّث في صفحة (31) عن المنطلق الذي انطلق منه في وصفه لهذا الاتجاه: ويلاحظ
القارئ أننا في وصفنا لهذا المجرى التقليدي، لم نجد غنىً عن توجيه النظر رأساً إلى
المفاهيم الدينية الإسلامية والمسيحية. فهذه المفاهيم هي، عند الذين لايزالون ضمن
هذا المجرى، الدليل الأمين إلى حقائق الحياة الأساسية، وإلى معنى الأحداث المتعاقبة
في الزمن، وإلى العلة الفاعلة في هذه الأحداث.
وهكذا، نجد أن هذا الوصف _ في زعمه _ يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمفاهيم الإسلامية،
لأنه ينبع منها ويتأثر بها.
وهنا، تصبح الدراسة التاريخية لدى أصحاب هذا الاتجاه عبثاً لا طائل منه، وتكراراً
مملاً لتفسير واحد، وتعليلاً مكرَّراً لكلِّ حادثةٍ من الحوادث، أو حركةٍ من
الحركات. فكلّها جارية على سنَّة القضاء والقدر ومشيئة الله وإرادته، ولا رادَّ
لقضاء الله، ولا مبدّل لإرادته.. وهكذا تلتقي الحوادث التاريخية بهذا التعليل.
وهكذا يتمثّل إغفال النظام الطبيعي الجاري في هذه الحياة، والسنّة الكونية الحياتية،
وإبعاده عن تعليل حوادث الكون وتفسيرها.
تصحيح النظرة
إننا لا ننكر أنَّ هناك مفهوماً دينياً يسمى بالقضاء والقدر، ولا ننكر أيضاً أن
العقيدة الدينية ترتكز على أساس تبعية الحياة، بجميع حوادثها وحركاتها، لمشيئة الله
وإرادته.
نحن لا ننكر ذلك، ولا يسعنا مناقشته، كما لا يسعنا الوقوف عند هذا المفهوم في
محاولة بحث وتحقيق، لأن بحثنا لا يسير في هذا الاتجاه، ولا يقف في هذا الموقف.
فلسنا في معرض بحث تاريخي يحاول أن يرسم النظرة الدينية والتفسير الديني للتاريخ،
ومدى ارتباطها بالمفاهيم العامّة للدين، فمن المفيد _ إذاً _ أن نكشف عن حقيقة هذا
الارتباط وواقع هذه العلاقة.
فما الذي يحاوله المفهوم الديني للحياة؟
هل يحاول تجاهل العلاقات الطبيعية بين الحوادث ومؤثّراتها، وإنكار قانون السببية
والعلية العامّة، في اعتبار الحياة مرتبطةً بالله، فلا صلة للأحداث الإنسانية بأيِّ
عامل طبيعي من العوامل الطبيعية والبشرية، ولا علاقة لها بها، وإنما هي مرتبطة
بإرادة الله مباشرة ومنطلقة منها، فهي السبب الأول والأخير لوجودها في الواقع
الخارجي؟
هل يحاول المفهوم الديني ذلك، فنستطيع أن نربط _ على أساس ذلك _ بينه وبين النتيجة
التي خرج بها الأستاذ زريق؟
يبدو لنا أن الجواب لن يكون إيجابياً على هذا التساؤل، كما نحسب أن هذا المفهوم
الخاطئ الذي عرضناه له، ينطلق من جذور بعيدة تمتدّ من (الفلسفة المادية) التي
اعتبرت مسألة الاعتقاد بالله نابعة من حاجة الإنسان إلى إيجاد سبب معقول للحوادث
الطبيعية وظواهرها، ومبرّر يبرر وجودها، وبهذا اعتبرت إنكار الدين للتفسيرات
الطبيعية التي تحاول ربط الأشياء بمؤثراتها الكونية أمراً مفروغاً منه، فالظواهر
الكونية والأحداث البشرية، كلها تستند إلى إرادة الله ومشيئته، من دون أن يكون لها
أي سبب مادي معقول.
وهكذا، نشأت التهمة التي اتُهم بها الدّين من وقوفه أمام العلم ومصادمته له، لأن
العلم يربط بين كلّ حادثة وأسبابها الطبيعية، بينما لا يعترف الدّين _ بحسب مفهومهم
_ بهذه الأسباب، ولا بعلاقتها بالأحداث.
قلنا إنّ الجواب لن يكون إيجابياً على ذلك التساؤل، لأنّ المسألة الدينية لا ترتكز
على الاستغناء عن الأسباب الطبيعية، ولا تنكر قانون العلّية العامّة، وإنما ترتكز
على اعتبار الله سبباً أعمق، تنتهي إليه سلسلة العلل والأسباب، فلا يعتبر المادّة
هي السبب الأخير، بل يعتقد أن هناك سبباً أعلى وأعمق منها هو الله، الذي أودع فيها
خواصها وآثارها العامّة.
وهكذا، نرى أن هذا المفهوم لا يستند إلى افتراض تعلّق الإرادة الإلهية بالأشياء
مباشرةً، فتغيّر وتبدّل ما شاءت تغييره أو أرادت تبديله من دون سبب خارجي، لنخلص
منها إلى الفكرة الخاطئة التي خرج بها الماديون في تفسيرهم لفكرة الدين.
بل نستطيع أن نجزم بأن المفهوم الديني للحياة، يؤكّد قانون العلية العامّة الذي
يربط بين كلّ حادث وسببه، وبين كلّ معلول وعلّته، فالحوادث والأحداث الحياتية _
بأجمعها _ خاضعة للنظام الكوني والسّنة الطبيعية التي أودعها الله في هذا الكون.
ويذهب بعض الباحثين الإسلاميين إلى أبعد من ذلك، فيعتبر أن قانون العلّية لم يتخلّف
في أيّ حادثة من الحوادث الحياتية، في ما نسميه بالمعجزات أو الخوارق للعادة التي
جاء بها الأنبياء كدليل على صحة نبوّتهم ورسالتهم، فيحاول إرجاعها إلى أسباب طبيعية
لم نطّلع عليها، كما لم نطّلع على تفسير الكثير من الحقائق الكونيّة والظواهر
الطبيعية.
ولكي نعطي القارئ صورة جليّة عن الفهم الديني الذي عرضناه، نود أن ننقل حديثاً
للعلامة السيد الطّباطبائي تحت عنوان: «تصديق القرآن لقانون العلّية العامة». فيقول:
"إن القرآن يثبت للحوادث الطبيعية أسباباً، ويصدق قانون العلّية العامة، كما يثبته
ضرورة العقل وعلية الأبحاث العلمية والأنظار الاستدلالية. إن الإنسان مفطور على أن
يعتقد لكلِّ حادثٍ مادي علة موجبة من غير تردد وارتباك. وكذلك العلوم الطبيعية
وسائر الأبحاث العلمية، تعلّل الحوادث والأمور المربوطة بما تجده من أمور أخرى
صالحة للتعليل، ولا نعني بالعلة إلّا أن يكون هناك أمر واحد أو مجموعة أمور إذا
تحقَّقت في الطبيعة مثلاً، تحقّق عندها أمر آخر نسميه المعلول بحكم التجارب، كدلالة
التجربة على أنّه كلّما تحقّق احتراق، لزم أن يتحقق هناك قبله علة موجبة، من نار أو
حركة أو اصطكاك أو نحو ذلك. ومن هناك، كانت الكلية وعدم التخلّف من أحكام العلّية
والمعلولية ولوازمها.
وتصديق هذا المعنى ظاهر من القرآن فيما جرى عليه وتكلّم فيه من موت وحياةٍ ورزقٍ
وحوادث أخرى علوية وسماوية، أو سفلية أرضية على أظهر وجه، وإن كان يسندها جميعاً
إلى الله سبحانه لغرض التوحيد.
فالقرآن يحكم بصحَّة قانون العلّية العامة، بمعنى أن سبباً من الأسباب إذا تحقق، مع
ما يلزمه ويكتنف به من شرائط التّأثير من غير مانع، لزمه وجود مسبّبه مترتباً عليه
بإذن الله سبحانه، وإذا وجد المسبّب، كشف ذلك عن تحقيق سببه لا محالة».
وهكذا، نَجِدُ أنَّ بإمكاننا تعليل الحوادث التاريخية، بإعادتها إلى الجنس أو
البيئة أو المحيط أو أيّ عامل من العوامل الطبيعية أو البشرية الأخرى، من دون أن
يكون ذلك عبثاً _ كما يقول زريق _ نظراً إلى أن الحادثة التاريخية _ كبقية الحوادث
الجارية في الحياة _ مرتبطة بجذورها البعيدة، وبظروفها الزمنيّة وبمجتمعها الإنساني،
وطبيعة تكوينه وطبيعة نظم الحياة التي يسير عليها، والعقائد التي يعتقنها والرّواسب
التي ترسّبت في ذهنيته من ماضيه القريب والبعيد، من دون فرقٍ في ذلك بين كلّ
الحوادث التاريخية، حتّى الحوادث التي رافقت نشوء الإسلام ونموه، فإنها لم تجر إلا
على وفق السّنن العادية للكون، وبذلك، اضطُهد واستُشهدِ من استُشهدِ، وأخفقت الدعوة
في بعض مراحلها، ونجحت في البعض الآخر، كلّ ذلك لأن الله أراد للحياة، التي خلقها
وأودعها نظامه العظيم، أن تجري وفق هذا النظام، ولا تتخلّف عنه في كلِّ مرحلةٍ من
مراحلها وحادثةٍ من حوادثها.
*من كتاب "في رحاب أهل البيت(ع)"، ص 14-17.