كتابات
16/07/2018

عن ذهنيّة الاستهتار بالحياة

عن ذهنيّة الاستهتار بالحياة

هذا الدين العظيم الذي يقدّس الحياة، ويعتبر العدوان عليها أشد جريمة، كيف سادت في بعض أوساط أبنائه ثقافة الاستهتار بالحياة؟! وكيف أصبح ستاراً وغطاءً لأفظع جرائم العدوان على الحياة؟!

لقد تناقلت الصحافة السعودية أنّ شاباً إندونيسياً (روسلي سادي 26 عاماً)، قدم إلى الحج العام 1423هـ، ولتوّه قد تزوّج، ألقى بنفسه من الطابق التاسع من فندق بشارع أم القرى في مكة، تاركاً رسالة تفيد بأنّه سمع عن فضل من مات في مكّة وأنه يدخل الجنة، فقرّر ألا تفوته هذه السعادة، فودّع زوجته قائلاً: «إلى اللّقاء في الجنة»، وقفز أمامها لتتحول جثته إلى أشلاء!!.

وفي حادثة أخرى: ضبطت شرطة الحرم المكي الشّريف حاجّاً أوروبياً إثر اعتدائه على حاج يمني الجنسية بسكّين غرسها في ظهره، زاعماً أنّ الحاج اليمني هو المسيح الدجّال! ذاكراً أنه قبل قدومه إلى مكة المكرمة، رأى في المنام أنه سيتمكن من رؤية المسيح الدجال في مشاعر الحج، واصفاً شكله بأنه ذو لحية طويلة، وكريم عين، وهي المواصفات نفسها التي تنطبق على الحاج اليمني الضحية لذا راقبه أثناء الطواف وهجم عليه صارخاً: «إنّه المسيح الدجّال.. إنه المسيح الدجال». يذكر أنّ هذا الحاج المعتدي أوروبي في العشرينات من العمر، ويدرس في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة!.

كما ذكرت الأنباء أن الشرطة الألمانية اعتقلت مهاجراً تركياً يبلغ من العمر 59 عاماً، أقدم على قتل تركيين آخرين بالرصاص بعد صلاة الفجر في مسجد في بلدة غلزنكيرشن غرب ألمانيا، واعترف القاتل بجريمته، مدعياً أن القتيلين كانا تفوّها بألفاظ تضمنت إهانة لشرفه، ومساساً بشرف زوجته.

وقد عرف عن القاتل شدّة تدينه ومواظبته على الصلاة، وقيامه بالحجّ إلى مكة المكرمة. أليس مخجلاً صدور مثل هذه الممارسات من أشخاص يعيشون أجواء دينيّة؟ ألا يشير ذلك إلى خلل في الثقافة التي ينهلون منها؟ صحيح أنها حالات فردية، لكنها مع تكرارها، جرس إنذار يجب أن يدفعنا إلى الدّراسة والفحص عن الخلفيّات والأسباب.

وفي هذا السياق، تأتي جرائم العدوان والقتل تحت عنوان الدّفاع عن الشرف أو جرائم الشرف، وذلك بأن يقوم الأب أو الأخ أو الزوج بقتل المرأة عند الشكّ في سلوكها الأخلاقي، وتكثر هذه الحوادث في الأردن، لأن القانون يتساهل في عقوبتها، وقد أزهقت أرواح كثير من الفتيات لمجرّد الظنون والشكوك، وبأيدي أقربائهنّ، وضمن صور ومشاهد مأساوية فظيعة!!

وقد تأتي الوفود لتهنئة القاتل ومساندته، ويلقى تعاطفاً واسعاً. ويقتل في الأردن ما لا يقلّ عن 25 امرأة سنوياً بهذا الشّكل.

وقالت منظمة العفو الدولية في تقرير لها العام 1999م عن باكستان: إن عدّة مئات من النساء يتعرّضن للقتل باسم الشرف في باكستان كلّ سنة، ونادراً ما يحال القتلة إلى ساحة العدالة. ففي يوم 6 يناير: كانون الثّاني 1999م، أضرمت النار في فتاة تدعى (غزالة)، وورد أن أخاها هو الذي أشعل النار فيها حتى ماتت حرقاً، في مدينة جوهر آباد بمقاطعة البنجاب، لأن أسرتها كانت تشتبه في أنها أقامت علاقة غير مشروعة مع أحد الجيران، وورد أن جسدها العاري المحترق ظلّ ملقى على قارعة الطريق لمدّة ساعتين، بسبب عزوف الجميع عن التدخل في الموضوع.

وتأتي الآن العمليات الانتحارية والإرهابية التي تستهدف الأبرياء من رجال ونساء وأطفال، تحت عنوان الجهاد ومحاربة الكفار والموالين لهم، كأفظع نتاج لثقافة الاستهتار بالحياة، وباسم الدّين، مع الأسف الشديد.

في مقابل إفراط الإعلام الغربي في اثارة الغرائز وتأجيج الشهوات، وتجاهله للقيم الروحية، والمبادئ الإنسانية غالباً، فإن الخطاب الإسلامي يعاني التفريط غالباً في التذكير بقيمة الحياة، وأهمية حمايتها، ودعوة الإنسان للاستمتاع بخيراتها ومباهجها.

حتى ساد تصوّر في بعض الأوساط الدينية، وكأن الإسلام دين من أجل الآخرة فقط، وبرنامج للحياة الأخرى، أما الدنيا فلا قيمة لها، ولا أهمية للحياة فيها.

يبدو للبعض أنّ هناك تعارضاً ظاهراً بين طائفتين من النصوص الدينية: إحداهما تؤكّد قيمة الحياة وأهميتها، وضرورة استثمارها والاستفادة منها، والأخرى توجه نظر الإنسان إلى الدار الآخرة، باعتبارها المقر النهائي والحياة الخالدة، وتنصح بالزّهد في الدنيا والابتعاد عن شهواتها.

وينبغي النظر إلى هاتين الطائفتين من النصوص بموضوعيّة وتوازن، ولا يصحّ الاهتمام بإحداهما وإهمال الأخرى.

إنّ النصوص الدينية التي تتحدث عن أفضلية الآخرة وضرورة التوجّه إليها، وتدعو إلى الزهد في الدنيا، إنما تريد كبح جماح الشّهوات والغرائز الهائجة عند الإنسان، والتي تسف به إن استجاب لها دون حدود إلى المستوى الحيواني الهابط، إنها تريد تذكير الإنسان بالجانب الأهم في شخصيته؛ جانب العقل والضمير والوجدان، ليمارس حياته ملتزماً بالقيم والمبادئ.

أمّا النصوص التي تتحدّث عن قيمة الحياة وأهميتها، فهي واضحة صريحة، إنّ القرآن الكريم يقدم الدعوة الإسلامية باعتبارها دعوة الحياة، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ...﴾.

والمؤمن الواعي -كما يصفه القرآن الكريم- يطلب من الله تعالى النجاح في الدّنيا أولاً، ثم النجاح في الآخرة، يقول تعالى: ﴿... رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً...﴾.

ولتذكير المؤمن بالحفاظ على دوره وحصّته من الاستمتاع بخيرات الحياة، يتوجه إليه الأمر الإلهي: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا...﴾.

إنّ واجب الإنسان شرعاً، أن يحرص على أيّ لحظة يعيشها في هذه الحياة الدنيا، فلا يفرّط فيها، لأن الحياة الدنيا مزرعة للآخرة، وهذا حكم شرعي يجمع عليه فقهاء الإسلام، فلا يجوز للإنسان أن ينهي حياته، ولو حدّد له الأطباء ساعة معينة سيفارق فيها الحياة، إنّ الله تعالى يقول: ﴿...وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ...﴾.

وفي كتب الأحاديث الدينية، باب حول كراهة تمني الموت. جاء في صحيح البخاري، حديث رقم 5671 عن أنس بن مالك (رضي الله عنه)، قال النبيّ: "لا يتمنّينّ أحدكم الموت من ضرٍّ أصاب".

نعم، هناك حديث عن قيمة الشهادة في سبيل الله تعالى، ولكنها تعني الموت من أجل توفير حياة أفضل للبشر، أي للانتصار لقيم الحقّ والعدل، ضمن معركة شرعيّة، وبقيادة شرعية، تلتزم الحدود والضّوابط.

أما أن يستهتر الإنسان بحياته أو حياة الآخرين، فهوّ تهور وتهلكة وإجرام، وليس من الجهاد والشّهادة في شيء.

*مقال منشور في صحيفة اليوم، بتاريخ 26 /5 /2004م.

هذا الدين العظيم الذي يقدّس الحياة، ويعتبر العدوان عليها أشد جريمة، كيف سادت في بعض أوساط أبنائه ثقافة الاستهتار بالحياة؟! وكيف أصبح ستاراً وغطاءً لأفظع جرائم العدوان على الحياة؟!

لقد تناقلت الصحافة السعودية أنّ شاباً إندونيسياً (روسلي سادي 26 عاماً)، قدم إلى الحج العام 1423هـ، ولتوّه قد تزوّج، ألقى بنفسه من الطابق التاسع من فندق بشارع أم القرى في مكة، تاركاً رسالة تفيد بأنّه سمع عن فضل من مات في مكّة وأنه يدخل الجنة، فقرّر ألا تفوته هذه السعادة، فودّع زوجته قائلاً: «إلى اللّقاء في الجنة»، وقفز أمامها لتتحول جثته إلى أشلاء!!.

وفي حادثة أخرى: ضبطت شرطة الحرم المكي الشّريف حاجّاً أوروبياً إثر اعتدائه على حاج يمني الجنسية بسكّين غرسها في ظهره، زاعماً أنّ الحاج اليمني هو المسيح الدجّال! ذاكراً أنه قبل قدومه إلى مكة المكرمة، رأى في المنام أنه سيتمكن من رؤية المسيح الدجال في مشاعر الحج، واصفاً شكله بأنه ذو لحية طويلة، وكريم عين، وهي المواصفات نفسها التي تنطبق على الحاج اليمني الضحية لذا راقبه أثناء الطواف وهجم عليه صارخاً: «إنّه المسيح الدجّال.. إنه المسيح الدجال». يذكر أنّ هذا الحاج المعتدي أوروبي في العشرينات من العمر، ويدرس في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة!.

كما ذكرت الأنباء أن الشرطة الألمانية اعتقلت مهاجراً تركياً يبلغ من العمر 59 عاماً، أقدم على قتل تركيين آخرين بالرصاص بعد صلاة الفجر في مسجد في بلدة غلزنكيرشن غرب ألمانيا، واعترف القاتل بجريمته، مدعياً أن القتيلين كانا تفوّها بألفاظ تضمنت إهانة لشرفه، ومساساً بشرف زوجته.

وقد عرف عن القاتل شدّة تدينه ومواظبته على الصلاة، وقيامه بالحجّ إلى مكة المكرمة. أليس مخجلاً صدور مثل هذه الممارسات من أشخاص يعيشون أجواء دينيّة؟ ألا يشير ذلك إلى خلل في الثقافة التي ينهلون منها؟ صحيح أنها حالات فردية، لكنها مع تكرارها، جرس إنذار يجب أن يدفعنا إلى الدّراسة والفحص عن الخلفيّات والأسباب.

وفي هذا السياق، تأتي جرائم العدوان والقتل تحت عنوان الدّفاع عن الشرف أو جرائم الشرف، وذلك بأن يقوم الأب أو الأخ أو الزوج بقتل المرأة عند الشكّ في سلوكها الأخلاقي، وتكثر هذه الحوادث في الأردن، لأن القانون يتساهل في عقوبتها، وقد أزهقت أرواح كثير من الفتيات لمجرّد الظنون والشكوك، وبأيدي أقربائهنّ، وضمن صور ومشاهد مأساوية فظيعة!!

وقد تأتي الوفود لتهنئة القاتل ومساندته، ويلقى تعاطفاً واسعاً. ويقتل في الأردن ما لا يقلّ عن 25 امرأة سنوياً بهذا الشّكل.

وقالت منظمة العفو الدولية في تقرير لها العام 1999م عن باكستان: إن عدّة مئات من النساء يتعرّضن للقتل باسم الشرف في باكستان كلّ سنة، ونادراً ما يحال القتلة إلى ساحة العدالة. ففي يوم 6 يناير: كانون الثّاني 1999م، أضرمت النار في فتاة تدعى (غزالة)، وورد أن أخاها هو الذي أشعل النار فيها حتى ماتت حرقاً، في مدينة جوهر آباد بمقاطعة البنجاب، لأن أسرتها كانت تشتبه في أنها أقامت علاقة غير مشروعة مع أحد الجيران، وورد أن جسدها العاري المحترق ظلّ ملقى على قارعة الطريق لمدّة ساعتين، بسبب عزوف الجميع عن التدخل في الموضوع.

وتأتي الآن العمليات الانتحارية والإرهابية التي تستهدف الأبرياء من رجال ونساء وأطفال، تحت عنوان الجهاد ومحاربة الكفار والموالين لهم، كأفظع نتاج لثقافة الاستهتار بالحياة، وباسم الدّين، مع الأسف الشديد.

في مقابل إفراط الإعلام الغربي في اثارة الغرائز وتأجيج الشهوات، وتجاهله للقيم الروحية، والمبادئ الإنسانية غالباً، فإن الخطاب الإسلامي يعاني التفريط غالباً في التذكير بقيمة الحياة، وأهمية حمايتها، ودعوة الإنسان للاستمتاع بخيراتها ومباهجها.

حتى ساد تصوّر في بعض الأوساط الدينية، وكأن الإسلام دين من أجل الآخرة فقط، وبرنامج للحياة الأخرى، أما الدنيا فلا قيمة لها، ولا أهمية للحياة فيها.

يبدو للبعض أنّ هناك تعارضاً ظاهراً بين طائفتين من النصوص الدينية: إحداهما تؤكّد قيمة الحياة وأهميتها، وضرورة استثمارها والاستفادة منها، والأخرى توجه نظر الإنسان إلى الدار الآخرة، باعتبارها المقر النهائي والحياة الخالدة، وتنصح بالزّهد في الدنيا والابتعاد عن شهواتها.

وينبغي النظر إلى هاتين الطائفتين من النصوص بموضوعيّة وتوازن، ولا يصحّ الاهتمام بإحداهما وإهمال الأخرى.

إنّ النصوص الدينية التي تتحدث عن أفضلية الآخرة وضرورة التوجّه إليها، وتدعو إلى الزهد في الدنيا، إنما تريد كبح جماح الشّهوات والغرائز الهائجة عند الإنسان، والتي تسف به إن استجاب لها دون حدود إلى المستوى الحيواني الهابط، إنها تريد تذكير الإنسان بالجانب الأهم في شخصيته؛ جانب العقل والضمير والوجدان، ليمارس حياته ملتزماً بالقيم والمبادئ.

أمّا النصوص التي تتحدّث عن قيمة الحياة وأهميتها، فهي واضحة صريحة، إنّ القرآن الكريم يقدم الدعوة الإسلامية باعتبارها دعوة الحياة، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ...﴾.

والمؤمن الواعي -كما يصفه القرآن الكريم- يطلب من الله تعالى النجاح في الدّنيا أولاً، ثم النجاح في الآخرة، يقول تعالى: ﴿... رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً...﴾.

ولتذكير المؤمن بالحفاظ على دوره وحصّته من الاستمتاع بخيرات الحياة، يتوجه إليه الأمر الإلهي: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا...﴾.

إنّ واجب الإنسان شرعاً، أن يحرص على أيّ لحظة يعيشها في هذه الحياة الدنيا، فلا يفرّط فيها، لأن الحياة الدنيا مزرعة للآخرة، وهذا حكم شرعي يجمع عليه فقهاء الإسلام، فلا يجوز للإنسان أن ينهي حياته، ولو حدّد له الأطباء ساعة معينة سيفارق فيها الحياة، إنّ الله تعالى يقول: ﴿...وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ...﴾.

وفي كتب الأحاديث الدينية، باب حول كراهة تمني الموت. جاء في صحيح البخاري، حديث رقم 5671 عن أنس بن مالك (رضي الله عنه)، قال النبيّ: "لا يتمنّينّ أحدكم الموت من ضرٍّ أصاب".

نعم، هناك حديث عن قيمة الشهادة في سبيل الله تعالى، ولكنها تعني الموت من أجل توفير حياة أفضل للبشر، أي للانتصار لقيم الحقّ والعدل، ضمن معركة شرعيّة، وبقيادة شرعية، تلتزم الحدود والضّوابط.

أما أن يستهتر الإنسان بحياته أو حياة الآخرين، فهوّ تهور وتهلكة وإجرام، وليس من الجهاد والشّهادة في شيء.

*مقال منشور في صحيفة اليوم، بتاريخ 26 /5 /2004م.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية