هنا تساؤل يعرض لكلّ إنسان، وهو: هل الأنبياء كلهم شرقيون، ولا غربي واحد منهم؟
وإذا كانوا كلهم من الشرق، فهل فيهم من الصين واليابان والهند، وما إليها من بلاد
الشرق الأقصى؟ ثم على فرض أن جميع الأنبياء شرقيون، فكيف تجمع بين هذا، وبين المبدأ
القائل: إن الله لا يترك الناس سدى، وإن حكمته ورحمته تقتضي أن يرسل إليهم جميعاً
رسلاً «مبشرين ومنذرين»، يذكرونهم ويبصرونهم، لئلا يكون لهم على الله حجة؟ وهل يقبل
هذا المبدأ التخصيص بشعب دون شعب، وبجنس دون جنس؟
الجواب: إنّ هذا المبدأ الذي يقول: إن الله لا يترك الناس سدى، وإنه لا بدّ أن يلقي
الحجة عليهم قبل الحساب والعقاب، هو مبدأ عام لا يقبل التخصيص بأرض شرقية ولا غربية،
ولا بجنس أبيض أو أصفر أو أسود.. ولكن الحجة لا تنحصر بوجود النبي بذاته في كل بلد،
وفي كل جيل، بل تكون به، أو بكتاب منزل، أو بشريعة إلهية يقوم عليها نواب عن النبي،
حتى إذا توفاه الله، بقيت الحجة من بعده قائمة بين الناس، قال أمير المؤمنين (عليه
السلام) في الخطبة الأولى من نهج البلاغة: «لم يخل سبحانه خلقه من نبي مرسل، أو
كتاب منزل، أو حجة لازمة، أو محجة قائمة». والحجة النائب عن النبي، والمحجة الشريعة
التي أتى بها من عند الله، فكل واحد من هذه الأربعة، منفرداً أو منضمّاً إلى نظيره،
تقوم به الحجة لله على الناس.
وبهذا، نجد تفسير الآية 36 من سورة النحل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ
رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا الله وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}. والآية 24 من سورة فاطر:
{وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ}[فاطر: 24]. والآية 41 من النساء:
{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى
هَؤُلَاءِ شَهِيدً}.
فالمراد بالرسول في الآية الأولى، وبالنذير في الثانية، وبالشهيد في الثالثة، واحد
من الأربعة: الرسول بشخصه أو نائبه، أو الكتاب المنزل، أو الشريعة القائمة، ومعلوم
أن الثلاثة الأخيرة تنتهي إلى النبي، ولهذا صحّ إسناد الشهادة وما إليها إلى النبي.
وهنا سؤال يفرض نفسه، وهو: لماذا لم تذكر العقل مع ما ذكرت من الحجج، مع أن الله
يحتج به كما يحتج بالنبي؟
الجواب: إن العقل حجة ما في ذلك ريب، ولكنه حجة مستقلة في معرفة وجود الله، أما
فيما عداها، كمعرفة اليوم الآخر، وحلال الله وحرامه، فإنه يحتاج إلى موقظ ومنبه
يرشده إليها، ويرسم له المنهج الصحيح لإدراكها، فوظيفة العقل في هذا الميدان الذي
نحن بصدده، هي أن يفهم ما يتلقاه عن الرسول من موجبات الإيمان، ودلائل الهدى إلى
خير الدنيا والآخرة، ومتى فهم عن الرسول، أقرّ وأذعن من غير تردّد.
وبعد هذا التمهيد الذي لا بدّ منه لمعرفة موضوعنا، نعود إلى السؤال: هل كلّ
الأنبياء شرقيون؟ ونجيب: كلا، وإذا لم تصل إلينا أخبار المرسلين لأمم الغرب، وبعض
أمم الشّرق، فليس معنى هذا أن الله لم يرسل إليهم أحداً منهم.
وأيضاً، ليس من الضروري لإلقاء الحجة على أهل الغرب، أن يكون الرسول منهم وفيهم، بل
قد يكون شرقياً، ومع ذلك، تعمّ رسالته الشرق والغرب، ويكون التبليغ بواسطة خلفائه
والمندوبين عنه أو عنهم، كما هو الشّأن في محمد (صلى الله عليه وآله)، الذي خاطبه
الله بقوله: {وما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً ونَذِيراً ولكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[سبأ: 28 ]. وبقوله: {وما أَرْسَلْناكَ إِلَّا
رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ}[الأنبياء: 107 ]. وقد أشارت بعض الكتب الدينية الموغلة في
القدم، إلى أن رسالة محمد (صلى الله عليه وآله) عامّة، وأنها رحمة للعالمين، وفوق
ذلك، ذكرت اسم أبي لهب بالحرف، ونصبه العداء لرسول الله (صلى الله عليه وآله). قال
عبد الحق فديارتي في كتاب "محمد في الأسفار الدينية العالمية":
«إن اسم الرسول العربي مكتوب بلفظه العربي أحمد في «السامافيدا» من كتب البراهمة.
وقد ورد في الفقرة السادسة والفقرة الثّامنة من الجزء الثاني، ونصها أن أحمد تلقى
الشريعة من ربه، وهي مملوءة بالحكمة.. وأن وصف الكعبة ثابت في كتاب «الآثار فافيدا»،
وأنه قد جاء في كتاب «زندافستا» الذي اشتهر باسم الكتاب المقدَّس في المجوسية، جاء
الإخبار عن نبيّ يوصف بأنه رحمة للعالمين، يدعو إلى إله واحد، لم يكن له كفؤاً أحد،
ويتصدّى له عدوّ يسمَّى "أبو لهب"».
ومحال أن يصدر هذا الإخبار عن غير الخالق.. إنه وحي من الله إلى نبي من أنبيائه، ما
في ذلك ريب.. وإلا فمن الذي يتنبأ ويصدق في نبوته أنه بعد آلاف السنين أو مئاتها،
يوجد رجل يسمى أحمد، ويدعو إلى عبادة الواحد الأحد، ويتصدّى له عدوّ اسمه أبو لهب؟...
إنّ في هذا الإخبار دلالة واضحة صادقة على أمرين: الأوّل صدق محمد في نبوته، وعموم
رسالته. الثاني أن الله سبحانه قد أرسل في القديم البعيد أنبياء لم نسمع بهم ولا
بقصصهم. ثم ما يدرينا أن الذين نقرأ أو نسمع عنهم باسم الحكماء كانوا من الأنبياء،
وأن تعاليمهم كلها أو جلّها قد درست أو حرِّفت؟.
وبعد، فإن بعثة الأنبياء للشرق والغرب موضوع هام، ويتسع لكتاب مستقل، أما هذه
المناسبة، وهي تفسير قوله تعالى: {ورُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ}، فإنها لا
تتسع لأكثر مما ذكرنا، وربما تجاوزنا، ونرجو الله سبحانه أن يتيح لهذا الموضوع
العلمي النّافع من يتمتع بالعلم والصّبر على البحث والتنقيب.
{وَكَلَّمَ الله مُوسَى تَكْلِيمً} [النساء: 164]. لم يذكر الله سبحانه موسى مع من
ذكر من الأنبياء في الآية، وأفرد له هذه الجملة، لأنّه تعالى قد خصّه بالتكليم من
دونهم، مع العلم أن الجميع قد تلقوا كلامه جلّ وعلا، ولكن لتلقي لهذا الكلام صوراً
ذكرها جلت كلمته في الآية 51 من الشورى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ
الله إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولً}[الشورى:
51].. إذاً، تكلم موسى كان من وراء حجاب.. ولكن لا يعلم أحد طبيعة هذا الحجاب، وكيف
تمّ، وقد سكت الله عن ذلك، فنسكت نحن عمّا سكت الله عنه. وعلى أية حال، فإن تخصيص
موسى بالتكليم، لا ينقص من مكانة سائر الأنبياء، ولا يدلّ على أنه أفضل وأكمل، كلا،
فإن إرسال الروح الأمين إلى خاتم النبيّين، هو أعلى المراتب وأكملها.
{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ
بَعْدَ الرُّسُلِ}[النساء: 165].
إن قاعدة لا عقاب بلا بيان كما يعبّر الفقهاء، أو لا عقوبة بلا نصّ كما يقول أهل
الشرائع الوضعية، إن هذه واضحة بذاتها لا تحتاج إلى دليل، بل هي دليل على غيرها..
وحيث إن الله سبحانه لم يترك الإنسان سدى، بل أمره ونهاه، ولا بدّ من إبلاغه الأمر
والنهي، حتى تقوم عليه الحجّة لو خالف، وإلا كانت الحجة له فيما لا يعرف إلا بالوحي،
وحيث إن الرسل وسطاء بين الله وخلقه في تبليغ أحكامه ووعده ووعيده، لذلك أرسل الله
مبشرين ومنذرين، لئلا يدع مجالاً لاعتذارات وتعللات: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ
بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا
فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134]. وتكلّمنا عن
قاعدة قبح العقاب بلا بيان في ج 1...
{لَكِنِ الله يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ
وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِالله شَهِيدً}[النساء: 166]. الشهادة
تكون بالأقوال، وتكون بالأفعال، كشهادة الكون بوجود المكون وقدرته، وشهادة البذل
بكرم الباذل وجوده، وشهادة الإقدام بشجاعة المقدم وبأسه، وهذه الشهادة أدلّ وأقوى
من شهادة الأقوال التي يتطرّق إليها الشكّ والرّيب.
ومن الشهادة بالأفعال، شهادة الله لمحمد (صلى الله عليه وآله)، حيث زوده بالدلائل
والمعجزات على صدقه، ومنها القرآن الكريم الذي أنزله الله عليه بعلمه. ومعنى (بعلمه)،
أن القرآن من علم الله، لا من علم المخلوقين الذي هو عرضة للأخطاء والأهواء، أما
شهادة الملائكة، فإنها تبع لشهادة الله التي تغني عن كلّ شهادة، ولذا قال تعالى: {وكَفى
بِالله شَهِيد}.
وبعد، فما من أحد إلا ويودّ لو صدّقه الناس فيما يقول، ولكن العاقل لا يهتم إطلاقاً
إن كذّب وردّت عليه أقواله، مادام على يقين من صدقه.
وهذا ما تهدف إليه الآية، فكأنّ الله سبحانه يقول لنبيّه: لا يهمّك تكذيب من كذّب
بنبوّتك، وإعراض من أعرض عن دعوتك، مادمت عندي صادقاً مصدّقاً.. فهذه الآية تهدف
إلى ما تهدف إليه الآية 8 من فاطر: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ
إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}.
*من كتاب "تفسير الكاشف".