كتابات
03/08/2018

الخطاب الإسلامي ينطلق من قلب الواقع

الخطاب الإسلامي ينطلق من قلب الواقع

يختلف الخطاب الإسلاميّ تبعاً لاختلاف المستوى الّذي يمثّله الناس الذين يتوجه إليهم الخطاب، باعتبار أنّ لكلّ مقام مقالاً، والشخص جزء من المقام، لأنّ عليك أن تخاطب الاهتمامات الفكرية في مستواها الثقافي عمقاً وسعةً وامتداداً. ولهذا، فإن المفروض في خطاب النخبة أن يكون في المستوى الذي تحترمه عقول هؤلاء، بالطريقة التي يجتذب فيها اهتماماتهم الفكرية، كما ينفتح على اهتماماتهم العملية في الحياة.

أمّا الجماهير، فإنّ علينا أن ندرس طبيعتها الفكرية والعملية من خلال الظروف الداخلية والخارجية المحيطة بها، لأنّ الجماهير تختلف في مستوياتها الثقافية أو خلفياتها الفكرية أو تطلعاتها السياسية. لذلك، لا بدّ لنا من أن نؤكد النقاط الحساسة التي تفتح لنا كإسلاميين عقول الجماهير وقلوبها، وتتصل بقضاياها الحية التي تجتذب مشاعرها وأحاسيسها واهتماماتها.

أما مسألة العقلانية والعاطفية، أو التفصيل والإجمال، أو التحليل والبساطة، وما إلى ذلك من خصوصيات قد يختلف الناس فيها من خلال طبيعة التكوين الثقافي أو النفسي أو الواقعي للإنسان، فإننا لا نستطيع أن نطلق قاعدة واحدة لهذه الفئة أو تلك، لأنّ مسألة الانجذاب للإثارات العاطفية، قد تحصل لدى النخبة كما تحصل لدى الجماهير. وهكذا بالنسبة إلى العقلنة، فقد تحتاج الجماهير في بعض الحالات إلى هدوء في الخطاب، وإلى عمق في التحليل، ولا سيّما عندما لا تكون المسألة إثارة في ساحات الصراع، لأن هناك فريقاً آخر يحاول أن يُقنع الجماهير بطريقة أخرى في الاتجاه المضادّ للاتجاه الإسلامي. لذلك، فإن من الطبيعي أن تدرس الأسلوب الذي تنفذ من خلاله إلى عقول الجماهير في العمق، حتى تغلق الطريق على الفريق الآخر الذي يحاول أن يستخدم كثيراً من المفردات المتصلة بالواقع الجماهيري.

ولعلّنا نستوحي هذه المسألة من الأسلوب القرآني في بعض المواقع التي واجهت النبي محمّداً(ص) في الحملة التي استهدفته في عقله، عندما كانت الجماهير المسعورة تصرخ وراءه بأنه مجنون.

إننا نلاحظ أن التعليم الإلهي للنبيّ(ص) في تحريك الخطاب المضادّ، لم يوجه النبي(ص) إلى عنصر الإثارة العاطفية، بل إلى إثارة الهدوء العقلي من خلال هدوء الواقع الذي يعيشون فيه بعيداً من كل الضجيج الانفعالي.. وهذا ما تعبّر عنه الآية الكريمة في قوله تعالى: {قلْ إنما أعظِكُم بواحدةٍ أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكّروا ما بصاحبكُم من جنّة إن هو إلا نذير بين يدي عذابٍ شديد}.

إننا نلاحظ أنَّ الخطاب الإسلامي الذي يوجَّه إلى الجماهير، عمل على أن يُطلق المنهج الجديد الذي يعتمد على العقلانية، من خلال الانفصال عن الجوّ الجماهيري الضّاغط الذي يفقد فيه الإنسان عقله بفعل الأجواء الحماسيّة والانفعاليّة، وهذا ما يعبّر عنه بعض علماء النفس بالعقل الجمعي، الذي قد ينكره بعضهم، ولكنه لا يستطيع أن ينكر الجوّ الجمعيّ الذي قد يُغلق على العقل الفردي، إذا صحّ التّعبير، باب التركيز والانفتاح على الحقائق من موقع هادئ.

إنّ النبيّ(ص)، فيما علّمه الله، أراد أن يتحدّث مع الجماهير باللغة العقلانية، ليقودهم إلى الموقف العقلاني في هذا المنهج الفكري. ولذلك، ليس من الضروري دائماً أن تكون الملامح الحية للخطاب الإسلامي للجماهير منطلقةً من الجوّ العاطفي أو الانفعالي، أو التحرّك على السطح من دون النفاذ إلى العمق في القضايا المطروحة في الساحة، لأنّ الجماهير عندما تستهلك في بعض مراحلها الخطاب الحماسيّ، الذي تكتشف، في المواقع المتقدمة التي يتكرر فيها هذا الخطاب، أنه لم يؤدّ إلى نتيجة، فإنها تدخل في حالة الشكّ في جدية الخطاب، أو في جدية القضايا التي يمكن أن يثيرها الخطاب، ما يفرض التعامل مع الجماهير على أساس إدخالها في الجوّ العقلاني، بالأسلوب الذي يمكن أن تحتمله الأوضاع النفسية أو الفكرية أو الواقعية للجماهير.

كما أننا قد نحتاج مع النخبة إلى إثارة بعض القضايا العاطفيّة، لأن النخبة، التي قد تعيش في مستوى ثقافي معيّن، أو أبراج عاجية فكرية معيّنة، قد تبتعد عن إنسانيّتها، فهناك حالات كثيرة يتحرّك فيها رجال النخبة، كما يتحرك بقيّة الناس في نقاط ضعفهم وفي عاطفيتهم وفي سذاجتهم، وما إلى ذلك من الحالات التي قد يعيشها الإنسان بشكل طبيعيّ إذا عاش حياته الطبيعية مع الناس الآخرين.

ومن هنا، رأينا أن البلاغة ركّزت على الخطّ العريض في هذه المسألة، عندما ركزت على مطابقة الكلام بمقتضى الحال، من دون أن تحدّد مقتضى الحال في مفردات معيّنة أو مع شخصيات معيّنة، بل حاولت أن تُطلق المسألة لدى المتكلّم، ليدرس الساحة من خلال تعقيداتها وبساطتها والأحوال الطارئة عليها والخلفيات التي تدفعها. ومن هنا، رأينا أن علماء البلاغة يتحدَّثون عن الإيجاز والإطناب والمساواة، وعن الطريقة المتنوعة التي تُدار بها مسائل التعبير. ولعلنا نستطيع أن نستوحي ذلك من كلمة "الحكمة"، التي تمثّل الخط المتوازن في دراسة كلّ الظروف المحيطة بالموقف أو بالخطاب أو بالحركة، لتكون الكلمة المناسبة في الموقع المناسب، والحركة المناسبة في الظرف المناسب.

ونقول باختصار، ليست المسألة هي أنّ للنخبة خطاباً محدداً لا يقترب من خطاب الجماهير، فربما تعيش النخبة عقليّة الجماهير في بعض أوضاعها، وربما تعيش الجماهير عقليّة النخبة في بعض مواقعها. لذلك، لا بدّ للخطاب الإسلاميّ من أن يبقى في دراسة ميدانية لا تحدّق في المستوى الثقافي للإنسان الذي يخاطبه فحسب، ولكنّها تحدّق في كلّ مفردات الواقع التي قد تحوّل المثقَّف بدويّاً في مشاعره وأحاسيسه، وقد تحوِّل البدويّ مثقَّفاً في بعض منطلقاته في الحياة.

*من كتاب "خطاب الإسلاميّين والمستقبل".

يختلف الخطاب الإسلاميّ تبعاً لاختلاف المستوى الّذي يمثّله الناس الذين يتوجه إليهم الخطاب، باعتبار أنّ لكلّ مقام مقالاً، والشخص جزء من المقام، لأنّ عليك أن تخاطب الاهتمامات الفكرية في مستواها الثقافي عمقاً وسعةً وامتداداً. ولهذا، فإن المفروض في خطاب النخبة أن يكون في المستوى الذي تحترمه عقول هؤلاء، بالطريقة التي يجتذب فيها اهتماماتهم الفكرية، كما ينفتح على اهتماماتهم العملية في الحياة.

أمّا الجماهير، فإنّ علينا أن ندرس طبيعتها الفكرية والعملية من خلال الظروف الداخلية والخارجية المحيطة بها، لأنّ الجماهير تختلف في مستوياتها الثقافية أو خلفياتها الفكرية أو تطلعاتها السياسية. لذلك، لا بدّ لنا من أن نؤكد النقاط الحساسة التي تفتح لنا كإسلاميين عقول الجماهير وقلوبها، وتتصل بقضاياها الحية التي تجتذب مشاعرها وأحاسيسها واهتماماتها.

أما مسألة العقلانية والعاطفية، أو التفصيل والإجمال، أو التحليل والبساطة، وما إلى ذلك من خصوصيات قد يختلف الناس فيها من خلال طبيعة التكوين الثقافي أو النفسي أو الواقعي للإنسان، فإننا لا نستطيع أن نطلق قاعدة واحدة لهذه الفئة أو تلك، لأنّ مسألة الانجذاب للإثارات العاطفية، قد تحصل لدى النخبة كما تحصل لدى الجماهير. وهكذا بالنسبة إلى العقلنة، فقد تحتاج الجماهير في بعض الحالات إلى هدوء في الخطاب، وإلى عمق في التحليل، ولا سيّما عندما لا تكون المسألة إثارة في ساحات الصراع، لأن هناك فريقاً آخر يحاول أن يُقنع الجماهير بطريقة أخرى في الاتجاه المضادّ للاتجاه الإسلامي. لذلك، فإن من الطبيعي أن تدرس الأسلوب الذي تنفذ من خلاله إلى عقول الجماهير في العمق، حتى تغلق الطريق على الفريق الآخر الذي يحاول أن يستخدم كثيراً من المفردات المتصلة بالواقع الجماهيري.

ولعلّنا نستوحي هذه المسألة من الأسلوب القرآني في بعض المواقع التي واجهت النبي محمّداً(ص) في الحملة التي استهدفته في عقله، عندما كانت الجماهير المسعورة تصرخ وراءه بأنه مجنون.

إننا نلاحظ أن التعليم الإلهي للنبيّ(ص) في تحريك الخطاب المضادّ، لم يوجه النبي(ص) إلى عنصر الإثارة العاطفية، بل إلى إثارة الهدوء العقلي من خلال هدوء الواقع الذي يعيشون فيه بعيداً من كل الضجيج الانفعالي.. وهذا ما تعبّر عنه الآية الكريمة في قوله تعالى: {قلْ إنما أعظِكُم بواحدةٍ أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكّروا ما بصاحبكُم من جنّة إن هو إلا نذير بين يدي عذابٍ شديد}.

إننا نلاحظ أنَّ الخطاب الإسلامي الذي يوجَّه إلى الجماهير، عمل على أن يُطلق المنهج الجديد الذي يعتمد على العقلانية، من خلال الانفصال عن الجوّ الجماهيري الضّاغط الذي يفقد فيه الإنسان عقله بفعل الأجواء الحماسيّة والانفعاليّة، وهذا ما يعبّر عنه بعض علماء النفس بالعقل الجمعي، الذي قد ينكره بعضهم، ولكنه لا يستطيع أن ينكر الجوّ الجمعيّ الذي قد يُغلق على العقل الفردي، إذا صحّ التّعبير، باب التركيز والانفتاح على الحقائق من موقع هادئ.

إنّ النبيّ(ص)، فيما علّمه الله، أراد أن يتحدّث مع الجماهير باللغة العقلانية، ليقودهم إلى الموقف العقلاني في هذا المنهج الفكري. ولذلك، ليس من الضروري دائماً أن تكون الملامح الحية للخطاب الإسلامي للجماهير منطلقةً من الجوّ العاطفي أو الانفعالي، أو التحرّك على السطح من دون النفاذ إلى العمق في القضايا المطروحة في الساحة، لأنّ الجماهير عندما تستهلك في بعض مراحلها الخطاب الحماسيّ، الذي تكتشف، في المواقع المتقدمة التي يتكرر فيها هذا الخطاب، أنه لم يؤدّ إلى نتيجة، فإنها تدخل في حالة الشكّ في جدية الخطاب، أو في جدية القضايا التي يمكن أن يثيرها الخطاب، ما يفرض التعامل مع الجماهير على أساس إدخالها في الجوّ العقلاني، بالأسلوب الذي يمكن أن تحتمله الأوضاع النفسية أو الفكرية أو الواقعية للجماهير.

كما أننا قد نحتاج مع النخبة إلى إثارة بعض القضايا العاطفيّة، لأن النخبة، التي قد تعيش في مستوى ثقافي معيّن، أو أبراج عاجية فكرية معيّنة، قد تبتعد عن إنسانيّتها، فهناك حالات كثيرة يتحرّك فيها رجال النخبة، كما يتحرك بقيّة الناس في نقاط ضعفهم وفي عاطفيتهم وفي سذاجتهم، وما إلى ذلك من الحالات التي قد يعيشها الإنسان بشكل طبيعيّ إذا عاش حياته الطبيعية مع الناس الآخرين.

ومن هنا، رأينا أن البلاغة ركّزت على الخطّ العريض في هذه المسألة، عندما ركزت على مطابقة الكلام بمقتضى الحال، من دون أن تحدّد مقتضى الحال في مفردات معيّنة أو مع شخصيات معيّنة، بل حاولت أن تُطلق المسألة لدى المتكلّم، ليدرس الساحة من خلال تعقيداتها وبساطتها والأحوال الطارئة عليها والخلفيات التي تدفعها. ومن هنا، رأينا أن علماء البلاغة يتحدَّثون عن الإيجاز والإطناب والمساواة، وعن الطريقة المتنوعة التي تُدار بها مسائل التعبير. ولعلنا نستطيع أن نستوحي ذلك من كلمة "الحكمة"، التي تمثّل الخط المتوازن في دراسة كلّ الظروف المحيطة بالموقف أو بالخطاب أو بالحركة، لتكون الكلمة المناسبة في الموقع المناسب، والحركة المناسبة في الظرف المناسب.

ونقول باختصار، ليست المسألة هي أنّ للنخبة خطاباً محدداً لا يقترب من خطاب الجماهير، فربما تعيش النخبة عقليّة الجماهير في بعض أوضاعها، وربما تعيش الجماهير عقليّة النخبة في بعض مواقعها. لذلك، لا بدّ للخطاب الإسلاميّ من أن يبقى في دراسة ميدانية لا تحدّق في المستوى الثقافي للإنسان الذي يخاطبه فحسب، ولكنّها تحدّق في كلّ مفردات الواقع التي قد تحوّل المثقَّف بدويّاً في مشاعره وأحاسيسه، وقد تحوِّل البدويّ مثقَّفاً في بعض منطلقاته في الحياة.

*من كتاب "خطاب الإسلاميّين والمستقبل".

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية